تسنيم، جلد 2

29

سـورة البقرة

مقدّمة السورة

سَنام القرآن في نظر صفوة البشر

وُصِفت سورة البقرة المباركة في كلام الرسول الأكرم(ص) وأهل بيته(ع) بصفات محمودة تنبئ عمّا تتمتّع به هذه السورة من منزلة عظيمة.

ففي الحديث النبويّ الشريف عُبِّر عن هذه السورة تارة ﺑـ«سَنام القرآن»؛ أيّ قمّته العالية:«أنّ لكلّ شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة»[1]، وتارة ﺑ «سيّد القرآن»[2]، أو «فسطاط القرآن»؛ أي خيمة القرآن وسرادقه[3]. كما قال النبيّ الأكرم(ص): «اُعطيتُ الطوال


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111.

[2]. تفسير أبي الفتوح«روضُ الِجنان ورَوحُ الجَنان في تفسير القرآن» (فارسيّ)، ج1، ص93؛ وتفسير منهج الصادقين (فارسيّ)، ج1، ص121.

[3]. تفسير روضُ الِجنان ورَوحُ الجَنان، ج1، ص92.

تسنيم، جلد 2

30

مكان التوراة، واُعطيتُ المئين مكان الإنجيل، واُعطيتُ المثاني مكان الزبور، وفُضِّلتُ بالمفَصَّل سبع وستين سورة»[1]. وفي موضع آخر عندما «سُئل النبيّ(ص): أيّ سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة»[2].

على الرغم من أنّ بعض سور القرآن الأخرى، كالحمد، عُرِّفت بأنّها أفضل سورة، إلاّ أنّ هذا لا يتنافى مع أفضليّة سورة البقرة؛ وذلك لأنّ أفضليّة كلّ منهما يُنظَر إليها من زاوية، وأنّ الأفضليّة في مثل هذه الموارد هي أفضليّة نسبيّة، لا مطلقة ولا نفسيّة. فأفضليّة سورة الحمد، مثلاً، هي من باب انطوائها على عصارة معارف القرآن مع إيجازها واختصارها، ولهذا السبب فقد سمّيت ﺑ «أمّ الكتاب»[3]. وأفضليّة سورة البقرة هي من باب جامعيّتها؛ فهذه السورة الموسّعة جامعة لأصول المعارف، والأخلاق، والحقوق، والأحكام الفقهيّة الجمّة، وهي من هذه الجهة تعدّ فريدة من نوعها من بين سور القرآن. من هنا فقد أقام البعض، في صدر الإسلام، ثمانية أعوام من أجل تعلّمها[4].

كانت لسورة البقرة عند النبيّ الكريم(ص) عظمة فائقة بحيث أنّه أمّر على الجند أحدثهم سنّاً بسبب حفظه لها، فقد «روي أنّ النبيّ(ص) بعث بعثاً ثمّ تتبّعهم يستقرئهم. فجاء إنسان منهم فقال: ماذا معك من القرآن؟ حتّى أتى على أحدثهم سنّاً، فقال له: ماذا معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: اخرجوا


[1]. تفسير العياشيّ، ج1، ص25؛ والبرهان في تفسير القرآن، ج1، ص123.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111، وتفسير نور الثقلين، ج1، ص26.

[3]. تفسير تسنيم، ج1، ص 286.

[4]. روح المعاني، ج1، ص163؛ والجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص148.

تسنيم، جلد 2

31

وهذا عليكم أمير. قالوا: يا رسول الله(ص) هو أحدثنا سنّاً. قال: معه سورة البقرة»[1]. كما أنّ التأكيد الشديد من قبل أهل البيت(ع) على تلاوة هذه السورة يحكي عن عظمتها في نظر أصفياء الله هؤلاء.

تشتمل هذه السورة على آيات بارزة ونورانيّة مثل آية الكرسيّ التي يُعبَّر عنها ﺑ «ذروة القرآن»؛ أيّ قمّته الرفيعة، و «كنز العرش»: «إنّ لكلّ شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسيّ»[2]، و «اُعطيتُ آية الكرسيّ من كنز تحت العرش ولم يُؤتَها نبيّ كان قبلي»[3]، كما ورد تعبير «كنز العرش» بخصوص الآيات الأواخر من هذه السورة أيضاً: «أعطَيْتُ لك ولأمّتك كنزاً من كنوز عرشي؛ فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة»[4].

أسماء السورة وأوصافها

سمّيت سورة البقرة بأسماء ووصفت بصفات منها:

[1] البقرة: إنّ شهرة السورة بهذا الاسم نابعة من اشتمالها على قصّة بقرة بني إسرائيل التي وردت في الآيات 67 إلى 73 منها. هذا الاسم المشهور هو «عَلَم بالغلبة»، وقد ورد استعمال ذلك في أحاديث المعصومين(ع) من باب التماشي مع المصطلح المتعارف


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111.

[2]. تفسير العياشيّ، ج1، ص136؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص267.

[3]. الأمالي للطوسيّ، ص509؛ بحار الأنوار، ج89 ، ص264.

[4]. معاني الأخبار، ص51.

تسنيم، جلد 2

32

عند عامّة الناس، لا من باب التسمية؛ لأنّه أولاً: تسمية السور ليست أمراً توقيفيّاً، ولا دليل إطلاقاً على أنّ المعصومين(ع) هم من سمّوا هذه السورة بالبقرة، وثانياً: من المستبعد أن تسمّى مثل هذه السورة، التي تتضمّن المعارف العالية، والحِكَم العميقة، والأحكام الغزيرة، باسم حيوان، أو أن تسمّى سورة «الأنعام» التي تضمّ أربعين احتجاجاً توحيديّاً باسم رباعيّات الأرجل، أو سورة النمل المحتوية على المعارف العميقة، وقصص الكثير من الأنبياء(ع) باسم كهذا، وكذا سورة المائدة المباركة التي تستحقّ أن تسمّى «سورة الولاية» لاحتوائها على «آية الولاية»، إلاّ أنّها سمّيت بالمائدة لتبيينها قصّة مائدة بني إسرائيل.

لهذا السبب لم يستخدم بعض مفسّري الشيعة، وأهل السنّة أيضاً، اسم «سورة البقرة»، مفضّلين عنوان «السورة التي يذكر فيها البقرة»[1]. كما ذكرت هذه السورة في بعض الروايات أيضا باسم «السورة التي...» ونُهي فيها عن قول «سورة البقرة»[2]. يقول الآلوسيّ:

ويمكن أن يوفق بأنّه كان مكروهاً في بدء الإسلام لاستهزاء الكفّار، ثمّ بعد سطوع نوره نُسخ النهي عنه، فشاع من غير نكير، وورد في الحديث بياناً لجوازه[3].

[2] و [3] ذروة القرآن وسَنامه: الذروة والسنام بمعنى النقطة البارزة،


[1]. أمثال السيّد الرضي( في «حقائق التأويل في متشابه التنزيل،ص1»؛ والطبريّ في «جامع البيان، ج1، ص112».

[2]. الدرّ المنثور، ج1، ص46.

[3]. روح المعاني، ج1، ص163.

تسنيم، جلد 2

33

والممتازة، والظاهرة من الشيء. وقد ذكر النبيّ الأكرم(ص) هذه السورة بهذين الاسمين: «البقرة سنام القرآن وذروته»[1].

[4] فسطاط القرآن[2]: إنّ وصف سورة البقرة ﺑ «خيمة القرآن» هو بسبب اشتمالها على أصول اعتقاديّة، وفروع عمليّة جمّة. وقد أثنى النبيّ الكريم(ص) على هذه السورة مستخدماً هذا الوصف: «السورة التي يذكر فيها البقرة، فسطاط القرآن»[3].

[5] سيّد القرآن[4]: لما كان التوحيد يحتلّ المرتبة الأسمى من بين المعارف الإلهيّة، فقد استُخدم هذا الوصف للسورة من بـاب انطوائها على غُـرَر آيات التوحيد ﮐ «آية الكرسيّ». ومن ناحية أخرى، بما أنّ سيّد أيّ مجتمع يتحمّل مؤونة الناس ونفقاتهم، ومنصبه يحتّم عليه معونتهم ومساعدتهم[5]، ومن جهة ثالثة فإن سيّد كلّ قوم خادمهم[6]، وأنّ هذه السورة الطويلة تحمّلت أعباء نيل معاني الكثير من السور، ولها خدمة جليلة في إطار إدراك معطياتها، فإنّ بإمكانها احتلال منصب السيادة على سائر السور.

[6] الزهراء: ذُكرت سورتا البقرة وآل عمران في بعض


[1]. الدرّ المنثور، ج1، ص51.

[2]. راجع تفسير روض الجنان وروح الجنان، ج1، ص92؛ والجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص148.

[3]. الدر المنثور، ج1، ص51.

[4]. تفسير روض الجنان وروح الجنان، ج1، ص93.

[5]. شرح غرر الحكم، ج2، ص108.

[6]. كنز العمال، ج6، ص710: «سيّد القوم خادمهم».

تسنيم، جلد 2

34

الأحاديث باسم «الزهراوان»؛ أي السورتان الساطعتان المتلألئتان[1].

عدد الآيات

لسورة البـقرة، التي تعـدّ من «السور الطـوال»، بل هي الأطـول من بينهـنّ، 286 آيـة وفقاً ﻟ «العدد الكوفيّ»[2].

إنّ خصوصيّة هذا العدد «الكوفيّ» هي في كونه مرويّاً عن أمير المؤمنين(ص) وهو ـ من هذه الناحية ـ من أكثر الأعداد اعتباراً، وقد نظّمت المصاحف المتداولة على هذا الأساس.

هناك أقوال أخرى في عدد آيات هذه السورة وهي: 284، و285، و287 آية[3].

غُرَر الآيات

الآيات البارزة والممتازة لسورة البقرة هي آية الكرسيّ، والآيات الثلاث الأواخر منها، وكذا الآيات التي تبيّن المقام المنيع للخلافة الإلهيّة، وتعليم الأسماء، وحقائق الأشياء للإنسان الكامل؛ إذ أنّ السورة الوحيدة التي بُحثت فيها خلافة الإنسان الكامل، وتعليم الأسماء هي هذه السورة.


[1]. جوامع الجامع، ج1، ص169؛ وكنز العمال، ج1، 570.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111.

[3]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111؛ وتفسير روض الجنان وروح الجنان، ج1، ص91.

تسنيم، جلد 2

35

إنّ الأوصاف الخاصّة التي اُضفيت على آية الكرسيّ في روايات المعصومين(ع) تدلّ على المنزلة الرفيعة لهذه الآية في سورة البقرة، وإنّ تميّز وبروز آية الكرسيّ نابع من محتواها التوحيديّ الخاصّ.

من الأوصاف التي وُصفت بها هذه الآية:

[1] ذُروة القرآن: قال الإمام الصادق(ص): «إنّ لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسيّ»[1].

[2] سيّد سورة البقرة: قال رسول الله(ص) لأمير المؤمنين(ص): «... سيّد الكلام القرآن، وسيّد القرآن البقرة، وسيّد البقرة آية الكرسيّ»[2].

[3] كنز العرش: يقول رسول الله(ص): «اُعطيتُ آية الكرسيّ من كنز تحت العرش»[3].

[4] أفضل آيات البقرة: «سُئِل رسول اللهّ(ص): ... أيّ آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسيّ»[4]. و «[في وصيّة أبي ذرّ أنّه سأل النبيّ(ص)]: أيّ آية أنزلها الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسيّ»[5].

كما ورد التعبير ﺑ «كنز العرش» عن الآيات الأواخر من سورة البقرة أيضاً: «اَعطيتُ لك ولأمّتك كنزاً من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة»[6].


[1]. تفسير العياشيّ، ج1، ص136؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص267.

[2]. مجمع البيان، ج2، ص626؛ وتفسير روض الجنان وروح الجنان، ج1، ص93.

[3]. الأمالي للطوسيّ، ص509؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص264.

[4]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص26.

[5]. معاني الأخبار، ص333؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص262.

[6]. معاني الأخبار، ص51.

تسنيم، جلد 2

36

الخطوط العامّة لمعارف السورة[1]

علاوة على المعارف المتعلّقة بالمبدأ والمعاد، تضمّ سورة البقرة ـ التي تُصنّف على أنّها من أكثر سور القرآن جامعيّة ـ المباحث التالية:

1. النبوّة العامّة، وتحريف الكتب السماويّة السابقة، والتحدّي، والإعجاز، والعظمة الكامنة في القرآن الكريم.

2. تاريخ أنبياء الله العظام، أمثال إبراهيم وموسى(ع ).

3. خلافة الإنسان لله، وخضوع الملائكة أمام الإنسان الكامل.

4. أوصاف المتّقين، والمنافقين، والكفّار وعلى الأخصّ اليهود والعراقيل التي وضعوها في طريق الإسلام.

5. قيمة الشهيد والشهادة ومنزلتهما.


[1]. إنّ تحديد الخطوط العامّة لمعارف أيّ سورة، وفهم رسالتها وأهدافها يندرج في إطار سلوك الطرق التالية: أ . تحديد كون السورة مكّية أو مدنيّة ودراسة أجواء النزول. ب . دراسة صدر السورة وعجزها لأنّ عجز السورة يعدّ ـ من باب «ردّ العجز إلى الصدر» ـ بمثابة تبويب لمضامين السورة. ج . الانسجام والارتباط بين أبحاث السورة وآياتها. د . تكرار بعض المواضيع في مضامين السورة. ﻫ .دراسة الغرر من آيات السورة التي هي بمنزلة واسطة العقد منها كآية: ﴿شَهِدَ اللهُ ...﴾، (آل عمران/18)، وآية: ﴿قُلِ اللّهُمَّ مٰالِكَ المُلْكِ ...﴾،(آل عمران/26 ـ 27)، التي تتّسم ببروز خاصّ في سورة آل عمران ممّا يوحي بأنّ الخطّ العام لهذه السورة هو تبيين التوحيد الحقّ لاسيّما التوحيد في أفعال الله تعالى. و . دراسة شأن نزول بعض الآيات، وأجواء نزول السورة ككلّ. ز . توجيهات الأحاديث المعتبرة التي جاءت للتوعية والتنبيه إلى المسير الأصليّ لمعارف السورة.

تسنيم، جلد 2

37

6. الأحكام العباديّة كالصلاة (وتحويل القبلة)، والصوم (وشهر رمضان المبارك).

7. أحكام الأسرة كالرضاع، والطلاق، والوصيّة، والإرث.

8 . الأحكام الاقتصاديّة كالإنفاق، والتجارة، والدَّيْن، والربا، وتنظيم الوثائق الماليّة.

9. الأحكام الاجتماعيّة كالجهاد والدفاع، ونفي الإكراه في الدين، ...الخ.

10. الأحكام الجزائيّة كالقصاص.

11. أحكام الأطعمة والأشربة كتحريم اللحم المحرّم والخمر.

روى القرطبيّ عن ابن العربيّ قوله:

سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر[1].

هدف السورة

على الرغم من أنّ آيات السورة نزلت بالتدريج، وقد ضمّت مواضيع شتّى، لكنّ لمّا كانت كلّ سورة تمثّل فصلاً من فصول القرآن الكريم، ولها ـ بالتالي ـ هدف واحد ورسالة واحدة، فإنّ لهذه السورة أيضاً غرضاً واحداً وجامعاً.

إنّ الهدف الواحد الذي يمكن انتزاعه من مباحث السورة المتنوّعة هو أنّ مقتضى العبوديّة لله سبحانه وتعالى هو الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماويّة. وعلى هذا الأساس، فالسورة تذمّ


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص148.

تسنيم، جلد 2

38

الكفّار والمنافقين لعدم إيمانهم، وتلوم أهل الكتاب على ما ابتدعوا من بدع كان من جملتها التفرقة في دين الله، والتفريق بين الرسل، وهي تبيّن الأحكام التي يقتضي الإسلام الإيمان بها.

إنّ الانسجام والتناسق بين صدر السورة وعجزها خير شاهد على هذا المدّعى؛ ففي الآيات الاُوَل تستهلّ السورة بحثها بالحديث عن إيمان المتّقين بالغيب، والكتب السماويّة، وكفر الكفّار والمنافقين وإنكارهم لتلكم الحقائق. وفي الخاتمة أيضاً يأتي الحديث عن إيمان الرسول والمؤمنين بالوحي، والملائكة، ورسُل الله، وعدم التفريق بين المرسلين.

فضيلة تعلّمها وقراءتها

وردت في جوامع الكتب الروائيّة أحاديث في فضيلة تعلّم وقراءة هذه السورة نشير إلى بعض منها:

[1] قال النبيّ(ص) لاُبَيّ بن كعب: «من قرأها فصلوات الله عليه ورحمته واُعطِيَ من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة... يا اُبَيّ مُر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة فإنّ تعلُّمها بركة، وتركها حسرة»[1].

[2] عن أبي عبد الله الصادق(ص) أنّه قال: «من قرأ البقرة وآل عمران جاءتا يوم القيامة تُظِلاّنه على رأسه مثل الغمامتين...»[2].


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111.

[2]. ثواب الأعمال، ص236 (وردت فيه بلفظ «جاء» بدلاً من «جاءتا»)؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص265.

تسنيم، جلد 2

39

[3] عن النبيّ الأكرم(ص): «من قرأها في بيته نهاراً لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله شيطان ثلاث ليال»[1].

[4] جاء في بعض الأحاديث: «إنّ أصفَرَ البيوت من الخير بيتٌ لا تُقرَأ فيه سورة البقرة»[2].

[5] ورد في بعض الروايات الترغيب في قراءة آيات خاصّة منها كالآيات الأربع الاُوَل، وآية الكرسيّ، والآيات الثلاث الأواخر[3].

[6] يقول أمير المؤمنين(ص) في آية الكرسيّ والإدمان على قراءتها: «فما بِتُّ ليلة قطّ منذ سمعتها من رسول الله(ص) حتّى أقرأها»[4]. فاستمرّ جمع من تلامذة مدرسة الرسالة والإمامة بعد سماعهم الخبر على قراءتها[5]. كما ترك بعض الشعراء المسلمين الشعر بعد تعلّمهم سورة البقرة، أمثال لَبِيد بن ربيعة الذي كان من شعراء الجاهليّة اللامعين ، ثمّ أدرك الإسلام وحسُن إسلامه، وكفّ عن قول الشعر. وعندما طلب منه عمر في زمان خلافته أن يُنشِده شعراً، فقد قرأ سورة البقرة. فقال عمر:


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص111.

[2]. تفسير روض الجنان وروح الجنان، ج1، ص92.

[3]. قال رسول الله(: «من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة وآية الكرسيّ وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئاً يكرهه، ولا يقربه شيطان، ولا ينسى القرآن»؛ ثواب الأعمال، ص238؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص265.

[4]. الأمالي للطوسيّ، ص509؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص264.

[5]. الأمالي للطوسيّ، ص509؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص264.

تسنيم، جلد 2

40

إنّما سألتك عن شعرك! فقال: «ما كنت لأقول بيتاً من الشعر بعد إذ علّمني الله البقرة وآل عمران»[1].

تنويه:

1. وردت في جوامع الكتب الروائيّة أحاديث مستفيضة عن أثر قراءة سورة البقرة، وبالأخصّ آية الكرسيّ، في علاج الأمراض البدنيّة، ودفع الفقر، وتأمين المتطلّبات الدنيويّة[2]. إنّ تبيين مثل هذه الفوائد والآثار في روايات المعصومين(ع) إنّما هو للمؤمنين المتوسّطين، ولم يكن إطلاقاً من باب حصر الرسالة الأساسيّة للقرآن، ذلك أنّ رسالة الإسلام الأصيلة هي إخراج الناس من الظلمات العقائديّة، والأخلاقيّة، والعمليّة إلى نور الهداية، ومعالجة الأمراض الفكريّة والأخلاقيّة لدى المجتمعات البشريّة، وغرس الأفكار والممارسات الإلهيّة في نفوسهم: ﴿كِتٰابٌ أّنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمٰاتِ إِلىٰ ٱلنُّورِ﴾[3]، ﴿يٰا أَيُّهٰا ٱلنّاسُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفٰاءٌ لِمٰا فِي ٱلصُّدُورِ﴾[4].

من هذا المنطلق، يقول الإمام الصادق(ص)، بعد سرده لبعض الآثار المذكورة بخصوص آية الكرسيّ: وأنا أستعين بها من أجل الصعود إلى الله، ونيل الدرجات العالية؛«مَن قرأ آية الكرسيّ مرّة صرف الله عنه


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص149.

[2]. راجع بحار الأنوار، ج89 ، ص262 ـ 272.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 1.

[4]. سورة يونس، الآية 57.

تسنيم، جلد 2

41

ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة؛ أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وإنّي لأستعين بها على صعود الدرجة»[1]؛ ذلك أنّ معارف آية الكرسيّ هي المصداق البارز للعلم الإلهيّ الذي يشكّل تعلّمه، ومزج علمه الحصوليّ بالإيمان والعمل الصالح، وتحصيل المرتكز والأساس لعلمه الشهوديّ، عاملاً لتهيئة أسباب الصعود نحو الله، فضلاً عن دوره في رفع الدرجات: ﴿يَرْفَعِ ﭐللهُ ﭐلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَٱلَّذِينَ اُوتُواْ ﭐلعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[2]؛ لأنّ مضمونه هو «الكَلِم الطيّب»، وكلّ كلم طيّب فهو يصعد إلى الله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ ﭐلكَلِمُ ﭐلطَّيِّبُ وَﭐلعَمَلُ ﭐلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[3]. من هنا فإنّ معانيه صاعدة إلى الله. ولمّا لم يكن الكَلِم الطيّب هذا منفصلاً عن أرواح متكلّميه؛ أيّ المعتقدين، والمتخلّقين، والعاملين به، كان ـ قهراً ـ سبباً لصعود هؤلاء المتكلّمين، وإنّ أكمل الصاعدين من بين الناس هم أهل بيت العصمة والطهارة(ع).

2. ما ورد حول فضيلة قراءة السور والآيات لابدّ أن يطابق رسالة القرآن من جهة، وتوجيهات سنّة أهل البيت(ع) من جهة أخرى. فما يُستنبَط من القرآن هو أنّ الاستعاذة بالله من الشيطان هي من آداب التلاوة, وإنّ الشخص المدنَّس بالمعاصي له ميل نحو الشيطان وليس هو بفارّ منه، والقرآن الكريم يُلفت الانتباه في كثير من آياته إلى الجزاء الأليم


[1]. تفسير العياشيّ، ج1، ص136؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص267.

[2]. سورة المجادلة، الآية 11.

[3]. سورة فاطر، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

42

للفسق والإثم. بناءً على هذا، لا يمكن القول إنّ الفاسق إذا تلا القرآن (الذي يقبّح الذنب، ويوبّخ المذنب) فله أجر على تلاوته.

كما أنّ المُستشَفّ من سنّة المعصومين(ع) هو أنّه: «رُبّ تالي القرآن والقرآن يلعنه»[1]، و«ليس القرآن بالتلاوة، ولا العلم بالرواية، ولكنّ القرآن بالهداية، والعلم بالدراية»[2]، و«إقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرأه»[3]. إذن يتجلّى من هذا أنّ المطلوب في الأحاديث الواردة في فضيلة قراءة القرآن ليس صِرف التلاوة بل «حقّ التلاوة» المشار إليها في الآية 121 من سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ ﭐلكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ اُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَاُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلخَاسِرُونَ﴾؛ إذ لا فرق بين جميع الكتب السماويّة، ولا بين تلاوة أيّ منها في هذا الأصل الجامع.

تأسيساً على ما تقدّم، فإنّه لا فائدة من تلاوة القرآن من دون إيمان وعمل صالح؛ وصحيح أنّ عدالة القارئ ليست شرطاً لصحّة القراءة، بل هي شرط لكمالها، فهي شرط لمن هو على سراط الانتفاع من هذه المائدة الإلهيّة. بطبيعة الحال، إنّ درجات التلاوة الممدوحة تتناسب وتتفاوت بحسب درجات الإيمان، ومراتب عمل القارئ الصالح، وقد وردت نماذج من «حقّ التلاوة» في الآيات 107ـ109 من سورة الإسراء، والآية 58 من سورة مريم، والآية 16 من سورة الحديد، وغيرها.


[1]. جامع الأخبار، ص48؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص184.

[2]. كنز العمّال، ج1، ص550.

[3]. كنز العمّال، ج1، ص606.

تسنيم، جلد 2

43

أجواء النزول

إنّ التعرّف على «أجواء نزول» أيّ من سور القرآن الكريم يمهّد الطريق إلى تفسير آيات السورة، وتشخيص هدفها، وتبيين مدى ارتباط آياتها مع بعضها. كما أنّ معرفة «شأن النزول» المعتبر له أثر في كيفيّة تطبيق المفهوم الجامع على المصاديق، واندراج الجزئيّ تحت الكليّ الشامل. أضف إلى ذلك، أنّ البحث الدقيق في مفاهيم آيات السورة من شأنه أن يقودنا إلى حدس أجواء نزولها. لذا، فمثلما أنّ الاطّلاع على أجواء النزول ـ من الخارج ـ يُعدّ شاهداً جيداً لاستنباط مضامين السورة بشكل دقيق، فإنّ الاجتهاد الكامل ـ من الداخل ـ بدوره يشكّل عاملاً مساعداً لحدس أجواء نزولها.

الغرض من هذا هو أنّ التعرّف على أجواء نزول السورة، وكذا شأن نزول الآيات، يُعِين المفسّر على انتخاب الاحتمالات الأنسب في تفسير كلّ آية، وتبيين المباحث والمواضيع الجامعة والعامّة للسورة بشكل دقيق.

من هذا المنطلق، لابدّ، قبل البدء بتفسير سورة البقرة، من التعرّف على أجواء نزولها من خلال تبويب واستخلاص ما هو معتبر من شؤون نزول الآيات، ودراسة القضايا الثقافيّة، والعقائديّة، والتاريخيّة المهمّة ذات الصلة بالمرحلة الزمنيّة لنزول السورة.

كما هو الحال في سورة البقرة، فإنّ نزول العديد من سور القرآن مرتبط بالأحداث التي شهدها عهد رسالة النبيّ الأكرم(ص). إنّ تصوير مجموعة الظروف، والمناسبات، والأحداث، والخصوصيّات التي اتّسمت بها فترة نزول السورة هو بمثابة تحديد لمعالم الأجواء التي نزلت فيها.

تسنيم، جلد 2

44

زمان النزول ومكانه

سورة البقرة المباركة هي أطول سور القرآن، وأوّل السور المدنيّة حيث ابتدأ نزولها بعد هجرة النبيّ الأكرم(ص) إلى المدينة[1]. وعلى الرغم من أن زمان بدء نزول السورة ليس واضحاً تماماً، وأنّ البعض يقول: إنّ نزولها ابتدأ بعد ستّة أشهر من الهجرة النبويّة[2]، لكنّه من المستبعد عدم نزول آيات من هذه السورة في الأشهر الأوَل من الهجرة في خضمّ أحداث من قبيل بناء المسجد، والفصل في الخلافات القَبَليّة والقوميّة.

وفيما يخصّ خاتمة نزول السورة فيبدو لنا أنّ نزول القسم الأعظم من آياتها قد خُتِم في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بالتزامن مع وقعة بدر. من أجل ذلك، تمتدّ الحقبة الزمنيّة لنزول سورة البقرة طيلة ثمانية عشر شهراً هي الأشهر الأولى للهجرة (أيّ الفترة الواقعة ما بين شهر ربيع الأوّل من السنة الهجريّة الأولى حتّى شهر رمضان من السنة الثانية)، أو طيلة اثني عشر شهراً (من شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة إلى نفس الشهر من السنة الثانية لها). ونورِد في ما يلي الشواهد على هذا المدّعى:

1. إنّّ سورة «الأنفال»، التي هي ثانية السور المدنيّة[3]، نزلت بعد وقعة بدر بفترة قصيرة[4]، وسياق آياتها دليل قويّ على مدنيّتها، ونزولها بعد


[1]. الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص14؛ والبرهان في علوم القرآن، ج1، ص194؛ والميزان، ج1، ص52؛ و«قرآن در اسلام» (فارسيّ)، ص103 و108.

[2]. الميزان، ج19، ص300.

[3]. الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص14؛ والبرهان في علوم القرآن، ج1، ص194؛ و«قرآن در اسلام» (فارسيّ)، ص108؛ والميزان، ج13، ص229.

[4]. وقعت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك من العام الثاني للهجرة.

تسنيم، جلد 2

45

وقعة بدر؛ إذ أنّها تروي بعض أخبار الوقعة المذكورة، وتبيّن المسائل المتعلّقة بالجهاد، وغنائم الحرب، والأنفال[1].

يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) :

إنّ ارتباط الآيات في السورة، والتصريح بقصّة وقعة بدر فيها يكشف أنّ السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبُعَيدها حتّى أنّ ابن عباس ـ على ما نُقل عنه ـ كان يسمّيها «سورة بدر»[2].

إنّ نزول سورة الأنفال، وهي ثانية السور المدنيّة، علامة على انتهاء نزول القسم الأعظم من آيات سورة البقرة؛ وذلك لأنّ كلّ سورة من القرآن هي بمنزلة فصل من هذا الكتاب الإلهيّ، وقد حُدّد كلّ فصل بالآية الكريمة: ﴿بِسْمِ ﭐللهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾، وأنّ نزول ﴿بِسْمِ ﭐللهِ...﴾ هو قطعاً علامة على ابتداء سورة وفصل جديد من القرآن: «... وإنّما كان يُعرَف انقضاء السورة بنزول ﴿بِسْمِ ﭐللهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ ابتداءً للأخرى»[3]. بناءً على ذلك، فإنّ نزول الآية الكريمة ﴿بِسْمِ ﭐللهِ ...﴾ في فترة نزول الوحي كان يشير إلى انتهاء جميع آيات السورة السابقة، أو القسم الأعظم من آياتها، بحيث لو أنّ آية اُلحِقت بها فيما بعد ـ نظير الآية ﴿وَﭐتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَىٰ ﭐللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[4]، التي اُلحقت بسورة البقرة بأمر الرسول الأكرم(ص) ـ لم يناف ذلك انقضاء السورة.


[1]. الميزان، ج9، ص5.

[2]. الميزان، ج9، ص8 .

[3]. تفسير نور الثقلين، ج1، ص6.

[4]. سورة البقرة، الآية 281.

تسنيم، جلد 2

46

من أجل ذلك، فإنّ الجزء الأكبر من سورة البقرة نزل في الحقبة الزمنيّة الممتدّة ما بين بداية الهجرة النبويّة حتّى نشوب معركة بدر، على مدى اثني عشر أو ثمانية عشر شهراً، ونزل بعض يسير منها بعد هذه المعركة؛ مثل:

أ. الآيات من 196 إلى 203 التي نزلت أثناء حجّة الوداع، وشُرِّع فيها «حجّ التمتّع»[1].

ب. الآيات من 275 إلى 280 التي تؤكّد على حرمة الربا، وترسم الملامح الحقيقيّة للمرابين، فقد نزلت بعد سورة آل عمران[2].

ج. الآية 281 وهي آخر آية نزلت على النبيّ الكريم(ص)[3].

2. إنّ التحليل الإيجابيّ لمحتوى ومعارف سورة البقرة يدلّ على نزولها في الحقبة الزمنيّة المذكورة؛ لأنّ السورة تعكس وقائع ومناسبات السنتين الأولى والثانية للهجرة؛ أمثال تحويل القبلة، والاحتجاجات المتبادلة والمتعارضة في تحويلها.

3. وأمّا التحليل السلبيّ لمضامين السورة فهو يشير كذلك إلى نزولها في أوائل عهد الهجرة؛ إذ لا نعثر فيها على أدنى تعرّض لأحداث أواسط وأواخر عهد الهجرة؛ كالمباهلة، والصلح مع صناديد قريش وقادة الطغيان، والفتح النهائيّ، والنصر الشامل للإسلام، وحجّة الوداع.


[1]. الميزان، ج2، ص75.

[2]. الميزان، ج2، ص408.

[3]. الميزان، ج2، ص424؛ ومجمع البيان، ج1 ـ 2، ص676؛ والدرّ المنثور، ج2، ص116؛ والإتقان في علوم القرآن، ج1، ص36.

تسنيم، جلد 2

47

اختلاف السور المكّية والمدنيّة في أجواء نزولها

للقرآن الكريم 114 سورة نزلت 85 منها قبل الهجرة في غضون ثلاثة عشر عاماً وهي الفترة التي قضّاها الرسول الكريم(ص) في مكّة، و29 منها بعد الهجرة خلال إقامة النبيّ(ص) في المدينة وهي عشرة أعوام[1]. نزلت السور المكّية في أجواء خاصّة تختلف عن تلك التي هي للسور المدنيّة. ولمّا كان بين أجواء نزول أيّ سورة ومحتواها تأثير متبادل، فإنّ من معايير التمييز بين السور المكّية والمدنيّة هي دراسة مضمون السورة.

نستعرض الآن الاختلافات الموجودة بين أجواء نزول السور المكّية والمدنيّة:

[1] أجواء نزول السور المكّية: ظهر الإسلام، كظاهرة ثقافيّة، ابتداءً في مكّة. ولمّا كان زمام الأمور في قبضة رموز الشرك والمعاندين للإسلام، لم يلق الإسلام قبولاً لدى السواد الأعظم من الناس، فكان عدد المسلمين ضئيلاً للغاية، لكنّ هذه الفئة القليلة وقفت، متحمّلة أليم العذاب، ومضحّية بالغالي من الأموال والأرواح، والنفس والنفيس في سبيل الدفاع عن شريعة التوحيد الوليدة الغضّة.

في فترة ما قبل الهجرة لم يكن هناك أثر للدولة الإسلاميّة، وقد عمل صناديد قريش على حصر الإسلام ضمن حدود مكّة وفي نطاق الأحوال الشخصيّة والعائليّة. ولم يكتفوا بمنع انتشاره خارج حدود مكة، وتعرّف المسافرين الواردين إلى مكّة عليه، بل منعوا أهالي مكّة أنفسهم من اعتناقه أيضاً.


[1]. البرهان في علوم القرآن، ج1، ص194.

تسنيم، جلد 2

48

في تلك الفترة، وبسبب الدعوة إلى التوحيد ونبذ الوثنيّة، كانت التوتّرات القبليّة تهيمن على أجواء مكّة فقط نتيجة لموقف المشركين المتعصّب. ولمّا لم تكن رسالة الإسلام قد تعدّت تخوم مكّة أو الحجاز بعد، فإنّه لم يكن الأمر قد بلغ حدّ الأزمة الدوليّة الخارجيّة آنذاك.

في مكّة كانت ظاهرة النفاق مستورة، ولم تتوفّر بعدُ البيئة المناسبة لظهورها وشيوعها؛ ذلك أنّ المسلمين كانوا أقلّية وليس لهم من سلطة سياسيّة وعسكريّة، ولا قدرة اقتصاديّة، وكانت جميع الأمور القانونيّة، والتنفيذيّة، والقضائيّة بيد أعداء الإسلام، ولهذا السبب أيضاً لم يكن هناك ذكر للجهاد ضدّ الكفّار، إذ لم تتهيّأ بعدُ البيئة لظهور القوّة، والإيمان، والجهاد، والقتال كي يمتاز المنافق عن غيره.

في العهد المكّي لم تكن الظروف مواتية لتشريع أحكام الدين بشكل موسّع، ولم يكن هناك محلّ للمناظرة مع الإقليّات الدينيّة (كاليهود والنصارى). كما لم يتوفّر مجال واسع لتهذيب النفوس، والتوفيق لتزكيتها، وتربية الأرواح؛ إذ أنّ جميع أعمال سلاطين الجور كانت تتمحور حول قانون ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ ﭐليَوْمَ مَنِ ﭐسْتَعْلَىٰ﴾[1]، و«الحقّ لمن غلب»، و«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً».

[2] أجواء نزول السور المدنيّة: في العهد المدنيّ الذي امتدّ عشرة أعوام سيطرت أجواء مغايرة هي كالتالي: أوّلاً: استقبال الناس المنقطع النظير لدين الحقّ قد مهّد الأرضيّة لانتشار سريع للإسلام. ثانياً: كانت أركان الدولة الإسلاميّة قد توطّدت. ثالثاً: لم يكن نداء الدعوة إلى


[1]. سورة طٰه، الآية 64.

تسنيم، جلد 2

49

التوحيد قد اجتاز حدود مكّة فحسب، بل تعدّى رقعة الحجاز أيضاً، ووصلت رسالته إلى سائر الأمم والأقلّيات الدينيّة، الأمر الذي أدّى إلى بروز أزمة دوليّة جعلت، ليس فقط اليهود والنصارى، بل حتى ملوك امبراطوريّتيّ فارس والروم، يشعرون بالخطر من توسّع الإسلام ونفوذه. رابعاً: لقد تهيّأت بيئة مناسبة لتشريع المئات من الأحكام العمليّة للدين. خامساً: ساعد الاقتدار المتنامي للدولة الإسلاميّة من جهة، وانزواء الأعداء من جهة أخرى، على توفير الظروف المناسبة لظهور وشيوع ظاهرة النفاق. سادساً: جعل التنامي المطّرد لسلطة الإسلام الكفّارَ، والمنافقين، وأهل الكتاب في حرج وضيق ، وإنّ الانتصارات والنجاحات المتواصلة التي حقّقها المسلمون دفعت المنافقين لليأس من إخماد النهضة الإسلاميّة الجديدة. كما كانت هناك علاقات سرّية بين أهل النفاق، والكفّار، واليهود المعاندين. سابعاً: كان المعاندون اليهود في قلق وخوف شديدين من اتساع رقعة الإسلام إلى درجة أنّهم لم يكفّوا لحظة عن إيجاد العراقيل، وإغواء المسلمين وخداعهم. ثامناً: لأوّل مرّة طُرِحت مسألة الجهاد ضدّ المعاندين المخرّبين، وكانت تتهيّأ كل يوم أرضيّة هي أكثر مناسَبَة للدفاع عن الإسلام، ودفع أعدائه عنه. تاسعاً: كانت تقوم بين النبيّ الأكرم(ص) وعلماء اليهود والنصارى مناظرات، بل وحتّى تحدّيات، ودعوة إلى المباهلة. كان انتشار صيت الإسلام قد وصل إلى الحدّ الذي حمل اتباع الأديان الأخرى على التحقيق حول الإسلام، فكانت تأتي من البلدان الدانية والقاصية إلى المدينة وفود للقاء النبيّ(ص) وإجراء المباحثات المفتوحة، والاحتجاج المعقول معه كما هو الحال في

تسنيم، جلد 2

50

«وفد نجران» الذي أوفد من قبل نصارى نجران للتحقيق في الدين الجديد. وعاشراً: في أواخر عهد استقرار الدولة الإسلاميّة في المدينة كانت فترة إرسال رسول الله(ص) للكتب والرسُل إلى القادة الدينيّين، وكذلك إلى القادة غير الدينيّين للبلاد الأخرى كفارس والروم.

على الرغم من أنّ قضيّة هجرة المسلمين إلى الحبشة حدثت في مكّة، وقد تعقّب المشركون المسلمين حتّى الحبشة لإلقاء القبض عليهم، فتمكّن المسلمون من إبلاغ صوت الإسلام إلى نجاشيّ الحبشة وبعض أهلها ونَجَوا من شرّ قريش، لكنّهم لم يُعتبَروا رُسُلاً رسميّين (كما هو حال الوفود التي كانت تُرسَل في أواخر العهد المدنيّ إلى أطراف العالم وأكنافه)، ذلك أنّ صوت النداء المكّي كان مصحوباً بالاستنصار، في حين أنّ نداء وإنذار الرسالة المدنيّة كان مقروناً بالتهديد بالنصر والانتقام. بالطبع، إنّ روح جميع التهديدات الإلهيّة هي التحبيب؛ كما يتّضح ذلك في تبرير الجهاد.

إذن، فالمدينة كانت المهد المناسب لاقتدار الدولة الإسلاميّة، والنضوج الفكريّ والمعنويّ للمسلمين؛ فلقد كانوا يقيمون صلواتهم اليوميّة وصلاة الجمعة بإمامة شخص النبيّ الكريم(ص)، وكانوا ينهلون من منابر خطابته ووعظه أيضاً.

حصيلة ذلك، هي أنّ تشكيل الدولة، وانطلاق نداء الدعوة الإسلاميّة، والمواجهات السياسيّة، والكفاح الثقافيّ والعقائديّ، والحروب الابتدائيّة والدفاعيّة المختلفة، ونموّ واتّساع واشتهار ظاهرة النفاق، وعراقيل اليهود في طريق الدعوة الإسلاميّة، وتشريع المئات من الأحكام الفقهيّة للدين،

تسنيم، جلد 2

51

كلّها كانت مطروحة في المدينة، وفي مثل تلك الإجواء كان نزول القسم الأعظم من سور القرآن الكريم.

بناءً على هذا، فإنّ سرّ التفاوت الأساسيّ بين مضامين السور المكّية والمدنيّة للقرآن الكريم هو الاختلاف في أجواء نزولها. على هذا الأساس، فإنّ مخاطَبي السور المكّية هم عموماً من المشركين، وإنّ محتوى هذه السور يتمحور بشكل أساسيّ حول تبيين أصول الدين الثلاثة، والدعوة إلى قبولها، ونبذ الشرك، وإبطال عبادة الأصنام، في حين أنّ مخاطَبي السور المدنيّة هم عموماً من المؤمنين، أو أهل الكتاب، أو المنافقين. من هنا فإنّ الحديث عن الجهاد، والمناظرة مع اليهود والنصارى، والعراقيل العلنيّة للمنافقين طُرِحت فقط في السور المدنيّة التي اشتملت ـ مضافاً إلى الأصول العقائديّة ـ على الفروع الفقهيّة، والقوانين القضائيّة والحكوميّة.

أجواء نزول سورة البقرة

بعد تقديم بحث مجمل عن الأجواء العامّة لنزول السور المدنيّة، يتعيّن أن نتعرّف الآن على الأجواء الخاصّة التي أحاطت بنزول سورة البقرة، أوّل السور المدنيّة. ومن أجل ذلك لابدّ من دراسة الوضع الاجتماعيّ والثقافيّ للمدينة في فترة ما بعد الهجرة، وكذلك الظروف السياسيّة والعسكريّة السائدة فيها آنذاك.

نظرة شاملة للوضع الثقافيّ والاجتماعيّ للمدينة

قرية «يثرب» الخَضِرة النضِرة، التي تقع على امتداد «وادي القُرى» الطويل

تسنيم، جلد 2

52

(وهو الطريق التجاريّ الذي يربط اليمن بالشام)، والتي سُمّيت بعد هجرة الرسول الكريم(ص) إليها باسم «المدينة»، هي موطن قبيلتَيّ «الأوس» و«الخزرج» المعروفتين. لقد قطن الأوس والخزرج، وهم من مهاجري عرب اليمن (القحطانيّين)، هذه المنطقة منذ أوائل القرن الرابع للميلاد، ودخلوا الإسلام بعد الهجرة النبويّة، نابذين الأعراف الجاهليّة، والتقاليد البعيدة عن الإسلام وراء ظهورهم، مادّين يد الأخوّة لبعضهم البعض بعد مائة وعشرين عاماً من الحروب الأهليّة الدامية.

وإلى جوار الأوس والخزرج كانت تعيش ثلاث من القبائل اليهوديّة الكبيرة والمعروفة هم «بنو قُرَيظة»، و«بنو النَّضِير»، و«بنو قَيْنُقاع» وهم من مهاجري شبه الجزيرة. كانت هذه القبائل تتمتّع بمنزلة مرموقة بين الآخرين إذ كانوا معروفين بين الأوس والخزرج (وهم من أمّيّي العرب) بأنّهم من «أهل الكتاب»، وكان مشركو العرب، بالرغم من عدم ميلهم لاعتناق ديانتهم، يعتبرونهم أعلم منهم بسبب الكتاب السماويّ الذي عندهم. كما وأنّ من جملة الممهّدات لانجذاب أبناء الأوس والخزرج إلى الإسلام هي البشارة ببعثة نبيّ الإسلام(ص) التي سمعوها من اليهود، ممّا جعلهم يُقبِلون على مستقبل ملؤه الأمل للتخلّص من حقارتهم الثقافيّة، وصولاً إلى الثقافة الدينيّة، وتدارك ما مضى من الجهالة.

الحالة الاجتماعيّة والثقافيّة للمدينة بعد الهجرة

بعد هجرة الرسول الأكرم(ص) إلى المدينة وقيام الدولة الإسلاميّة كان سكّان المدينة منقسمين إلى عدّة فئات:

تسنيم، جلد 2

53

[1] المسلمون الأنصار: في موسم الحجّ من السنة الحادية عشرة للبعثة التقى ستّة من قبيلة الخزرج رسول الله(ص) في مكّة ، فدخلوا الإسلام، وكانوا أوّل جماعة تلتحق بركب المسلمين من خارج مكّة[1].

وفي السنة الثانية عشرة للبعثة، ونتيجة للنشاط الثقافيّ للجماعة المذكورة، بايع اثنى عشر رجلاً من المدينة النبيّ الأكرم(ص) أوّل بيعة على الإسلام في وادي «عقبة»[2] وقد عرفت ﺑ «بيعة العقبة الأولى». وبطلب من الجماعة المذكورة أرسل النبيّ(ص) أوّل مُبلّغ للإسلام إلى المدينة هو «مِصعَب بن عُمَير»[3]. ثم في شهر ذي الحجّة من العام الثالث عشر للبعثة[4]، بايع النبيّ(ص) في العقبة أكثر من سبعين من أهل المدينة بيعة جديدة على الإسلام عرفت ﺑ «بيعة العقبة الثانية»، وقد كانوا اعتنقوا الإسلام لما دعاهم مصعب بن عمير إليه.

بعد مجيء الرسول الكريم(ص) إلى المدينة دخل الإسلام معظم أبناء الأوس والخزرج، وقد عُرفوا في التاريخ الإسلاميّ باسم «الأنصار» بسبب نصرة دين الله، ونصرة رسوله(ص)، واستقبالهم وإيوائهم لمهاجري مكّة. ويمكن القول إنّ من عوامل تقبّلهم السريع للإسلام هي البشارة التي تلقّوها من اليهود ببعثة النبيّ الجديد، وسأمهم من التناحر الداخليّ الذي دام بينهم زهاء مائة وعشرين عاماً. من هنا، فقد التحق المدنيّون بركب الإسلام قبل المكّيّين على الرغم من بعدهم عن مكّة، مركز انتشار


[1]. راجع تاريخ الطبريّ، ج2، ص246.

[2]. مضيق في مكّة قرب منى.

[3]. السيرة النبويّة لابن هشام، ج2، ص 431 ـ 434.

[4]. «تاريخ پيامبر اسلام»، للدكتور آيتي (فارسيّ)، ص148.

تسنيم، جلد 2

54

الإسلام، وكان لبضع لقاءات قصيرة لهم مع النبيّ(ص) من الأثر ما فاق أثر ثلاثة عشر عاماً من دعوة النبيّ(ص) للمكّيّين إلى الإسلام والسبب هو أنّ حجاب المعاصَرة، والقوميّة، والتنافس القبليّ والجاهليّ من شأنها أن تقود أهل القرية أو المدينة الواحدة إلى قطع السبل بدلاً من التشاور وتبادل الرأي فيما بينهم.

في السنة الأولى من الهجرة دخلت طوائف الأوس والخزرج إلى الإسلام إلاّ القليل منهم[1] فقد اعتنقوا الإسلام بعد وقعة بدر. لقد نبذ الأوس والخزرج، بعد إسلامهم، الصراعات الداخليّة التي استمرّت مائة وعشرين عاماً ، فهاجروا من العداوة إلى المودّة بالاعتصام بحبل الله المتين، وصاروا أخوة في الإيمان.

[2] المسلمون المهاجرون: هؤلاء ـ الذين كانوا من أوائل مسلمي الصدر الأوّل للإسلام، ومن أكثرهم إخلاصاً ـ قد هاجروا من مكّة جرّاء الضغوط التي تعرّضوا لها من صناديد قريش ورؤوس الشرك تاركين وراءهم بيوتهم وأموالهم، متوجّهين إلى معقل الإسلام (المدينة)، ومشـكّلين جـزءاً من سـكّانها. في الأيّـام الأولـى من الهـجرة إلـى المدينة كان يعرف هؤلاء ﺑ «أصحاب الصُفّة» وذلك لنزولهم في إيوان صغير عند مدخل مسجد النبيّ(ص).

[3] اليهود: وكانوا يستقرّون في داخل المدينة وخارجها، وقد شكّلوا ـ بالإضافة إلى يهود الأوس والخزرج ـ ثلاث قبائل معروفة هي قبيلة «بني قُرَيظة»، و«بني النَّضِير»، و«بني قَينُقاع». كان هؤلاء يتمتّعون بثروة


[1]. السيرة النبويّة لابن هشام، ج2، ص500.

تسنيم، جلد 2

55

طائلة وإمكانات هائلة، وكان لهم دور جوهريّ ومحوريّ في اقتصاد المدينة وتجارتها.

كان لليهود بين اُمّيّي المدينة مكانة مرموقة فقد كانوا، قبل ظهور الإسلام، بانتظار ظهور نبيّ جديد قد تلقّوا البشارة بمبعثه من العهدين كي تتسنّى لهم، بهدايته وقيادته، الغلبة على الكفّار (اُمّيّي العرب). بَيد أنّهم، بعد سطوع نور الإسلام في المدينة، كانوا أوّل من جابه الدعوة الإسلاميّة ولم يألوا أيّ جهد في إظهار العداء للإسلام وحكومته وإيجاد العراقيل في طريقهما؛ ﴿وَكَانُواْ مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾[1]. بالطبع، لقد آمن ثلّة من اليهود برسول الإسلام(ص) وقد ذكرهم الله سبحانه وتعالى بتكريم خاصّ.

كان وراء عداء الطائفة الأخرى ـ التي شكّلت القسم الأعظم من اليهود ـ للإسلام عوامل شتّى؛ فمن جانب كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب كتاب سماويّ، ويرون أنّهم مقَدّمون على النبيّ(ص) في تبليغ الدين الحقّ، ومن جانب آخر كانوا قد فقدوا سيادتهم بمجيء الإسلام إلى المدينة، تلك السيادة المكتسبة من كون بقيّة مواطنيهم، كالأوس والخزرج، أمّيّين ومن سعة رقعة الخلافات فيما بينهم.

تنويه:

أ. لم يرد في المصادر التاريخيّة والتفسيريّة بحث يُعتنى به عن تواجد النصارى في المدينة، والسرّ في ذلك يعود إلى أنّه: أوّلاً: في صدر الإسلام


[1]. سورة البقرة، الآية 89 .

تسنيم، جلد 2

56

كانت المنطقة الوحيدة التي يقطنها المسيحيّون في الحجاز هي «نجران» (وتقع على الحدود بين الحجاز واليمن) التي كفّ سكّانها ـ لأسباب خاصـّّة[1] ـ عن عبادة الأوثان (وهي العقيدة الرائجة آنذاك بين أهل الحجاز)، واتّبعوا تعاليم المسيح(ص). وبالإضافة إلى أهالي نجران فقد أعتنق بعض سكّان شمال الحجاز النصرانيّة جرّاء مجاورتهم للمنطقة الواقعة تحت نفوذ الروم المسيحيّين. ثانياً: كان المسيحيّون في منطقة الحجاز يشكّلون الأقليّة بالنسبة لغيرهم من أتباع الأديان السماويّة، أي اليهود. ثالثاً: على خلاف اليهود الذين كانوا يُعرَفون بنقمتهم على الإسلام والمسلمين وعراقيلهم ضدّهم، كان لنصارى عهد النبيّ الأكرم(ص) علاقات حسنة مع المسلمين، والقرآن الكريم يضع اليهود، جنباً إلى جنب مع المشركين، في عداد ألدّ أعداء الإسلام في حين يعتبر المسيحيّين من أقرب الناس مودّة للمسلمين بسبب وجود العلماء، والزهّاد، والرهبان بينهم وعدم تكبّرهم؛ ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱليَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُم لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾[2].

ب. بالرغم من أنّ النصارى في منطقة الحجاز كانوا أقلّية، لكنّ تواجدهم بكثرة في نجران والحبشة وبلاد الروم، ووجود علاقات للمسلمين معهم على خلفيّة تبليغ الدين الإسلاميّ، والتعاملات التجاريّة، وما إلى ذلك، هو الذي وفّر الأرضيّة لنزول آيات من سورة البقرة في شأنهم.


[1]. راجع معجم البلدان، ج5، ص266 ـ 267.

[2]. سورة المائدة، الآية 81 .

تسنيم، جلد 2

57

[4] المشركون: وهم بعض الأفراد من قبيلتَيّ الأوس والخزرج الذين شابهوا مشركي مكة في عنادهم للإسلام، وقد شكّلوا مثلث ارتباط مشؤوم، بُنِي على أساس من العداوة والخصومة للإسلام، وهو ارتباط مع اليهود المعاندين من جهة، ومشركي مكّة من جهة أخرى، والمنافقين في الداخل من جهة ثالثة، لكنّهم بعد استقرار النظام الإسلاميّ تحوّلوا إلى النفاق، أو فرّوا من المدينة، ولم يسجّل لهم أثر مشهود بعد ذلك.

[5] المنافقون: خلال ثلاثة عشر عاماً من العهد المكّيّ للإسلام لم تكن البيئة مناسبة لبروز وشيوع ظاهرة النفاق، وذلك أنّ المسلمين في تلك المرحلة كانوا إمّا محاصرين في شعب أبي طالب، أو رازحين تحت وطأة التعذيب المهلك لصناديد قريش، كما هاجرت طائفة منهم إلى الحبشة، وأساساً فإنّ اعتناق الإسلام في تلك المرحلة من الزمن كان يعادل الحرمان من كلّ امتيازات الحياة.

بتعبير آخر، في العهد المكّيّ الذي امتدّ ثلاثة عشر عاماً لم يتظاهر أحد بالإسلام نفاقاً من أجل طمع مادّي، أو جرّاء خوف من قدرة عسكريّة، أو فقدان مكانة اجتماعيّة، أو لأجل توجيه ضربة للإسلام، إذ لم يكن للمسلمين في مكّة حكومة أو سلطة كي يخافها المخالفون، ولا كانت لهم إمكانات مادّية حتّى ينافق البعض في إظهار الإيمان طمعاً في الحصول عليها. في مكّة لم يكن أحد قد صدّق بعد بقدرة الإسلام، وكان مستقبل النهضة الإسلاميّة الغضّة شديد الغموض بالنسبة لغير المسلمين، بل كان الإسلام أساساً يعتبر ظاهرة ثقافيّة فاشلة وغير موفّقة.

من هذا المنطلق، فنحن لا نعثر في أيّ من السور الخمس والثمانين

تسنيم، جلد 2

58

التي نزلت في مكّة على ذكر رسميّ للمنافقين، إلاّ في سورة العنكبوت، وهي آخر السورة المكّية، وقد ذكرت كتب التفسير العامل من وراء نفاق المنافقين المشار إليهم في تلك السورة[1]. وعلى هذا الأساس فإنّه لا يمكن الادّعاء بعدم توفّر أيّ من علل النفاق في مكّة، وأنّ النفاق فيها كان يفتقر إلى البيئة المناسبة بشكل كامل[2]؛ إذ أنّ تنبّؤ البعض بمستقبل موفّق للإسلام ـ سواء كان عن طريق روايات المبشّرين، أو بسبب إعلام الكهنة، أو في ظلّ فراسة الساسة الخبراء في علم الاجتماع، أو بسبب شواهد أو علل أو أدلّة أخرى ـ كان الدافع في إسلام هؤلاء، كما تؤيّد هذا المعنى بعض الأحاديث.

أمّـا في المـدينة فقد ترسّـخت أركـان الدولـة الإسلاميّـة القويّة، وأخذت قوّة المسلمين ـ خصوصاً بعد وقعة بدر المظفّرة ـ بالتعاظم وباتت ملفتة للأنظار، إلى الحدّ الذي دفع العديد من أكابر المدينة لمجاراة الإسلام حفاظاً على مصالحهم الموروثة؛ أمثال «عبد الله بن اُبَيّ بن سَلُول»، رأس النفاق في المدينة، الذي كان قومه يمهّدون لتسلّمه زمام الأمور قبيل مجيء الإسلام إلى ربوع المدينة.

استناداً إلى ذلك، فإنّ ظهور النفاق على نطاق واسع كان معلولاً للظروف الخاصّة للحقبة المدنيّة؛ تلك الظروف التي أدّت إلى إفراد عدد ضخم من آيات السور المدنيّة (التي نزلت بعد سورة البقرة وانتهاء وقعة بدر؛ كالأنفال، وآل عمران، والأحزاب، والنساء، والحديد، والحشر،


[1]. الميزان، ج16، ص106.

[2]. الميزان، ج19، ص301؛ وج16، ص106.

تسنيم، جلد 2

59

والمنافقين، والتحريم، والفتح، والتوبة)[1] للمنافقين، وإفشاء خططهم ودسائسهم التخريبيّة، وعلاقاتهم السرّية مع يهود المدينة الرامية إلى إحباط النهضة الإسلاميّة.

الظروف السياسيّة والعسكريّة للمدينة أثناء نزول السورة

مع تشكّل الحكومة الإسلاميّة في المدينة وبداية عهد اقتدار المسلمين، كان الخطر يتهدّد حكومة الإسلام الفتيّة، بل وأصل موجوديّتها، من أربعة محاور:

1. من مشركي قريش وعموم عُبّاد الأوثان في شبه الجزيرة العربيّة.

2. من اليهود الذين كان لهم الدور المحوريّ في تجارة واقتصاد المدينة.

3. من المنافقين الذين كان عددهم وإيجادهم للعراقيل في ازدياد تدريجيّ وبشكل متزامن مع نموّ القدرة السياسيّة, والعسكريّة، والاقتصاديّة للمسلمين.

4. تجدّد العداء التاريخيّ بين الأوس والخزرج بعد أن أخمدت الأخوّة الإسلاميّة نيران البغضاء بينهم.

لكنّ أهمّ الأخطار التي كانت تهدّد النظام الإسلاميّ هو خطر اليهود الذين بذلوا قصارى جهدهم من أجل إثارة النفاق بين صفوف المسلمين، وإفشال الحكومة الإسلاميّة، ومن هذا المنطلق فقد فاق الحديثُ في سورة البقرة عن اليهود الحديثَ عن جميع الفرق المخالفة الأخرى. أمّا أهمّ إجراءاتهم على صعيد عدائهم للمسلمين فكانت كالتالي:

1. إلقاء الشبهات من أجل زعزعة الأسس العقائديّة للأمّة الإسلاميّة


[1]. ترتيب نزول السور المذكورة هو كالتالي: 88 ، 89 ، 90، 92، 94، 101، 105، 108، 112، 114.

تسنيم، جلد 2

60

وإضعاف عزيمتها. وقد جاءت سورتا البقرة والنساء لتبيّنا مجادلاتهم في هذا الخصوص والردّ عليها[1].

2. محاولة إعادة إذكاء نار الفتنة الداخليّة، وإثارة الأحقاد القبليّة الدفينة بين الأنصار (الأوس والخزرج).

3. إقامة علاقات سرّية مع المشركين والمنافقين.

4. مُؤازرة المشركين في الحروب التي نشبت بين المسلمين وقريش المشركة.

وبالرغم من أن النبيّ الأكرم(ص) كان قد وقّع معاهدات دفاعيّة مع يهود الأوس والخزرج، وكذا مع الطوائف اليهوديّة الثلاث المعروفة (وهم بنو قُرَيظة، وبنو النَضِير، وبنو قَيْنُقاع) للحيلولة دون وضعهم للعراقيل، إلاّ أنّ عداءهم المستمرّ، ونقضهم المتكرّر للمواثيق والعهود آل إلى نشوب حروب دامية مع المسلمين كانت نتيجتها إبعاد اليهود من المدينة.

من النكات التي تسترعي الاهتمام أيضاً فيما يخصّ الظروف السياسيّة والعسكريّة للمدينة التي تواكبت مع فترة نزول السورة ما يلي:

1. كانت القدرة العسكريّة والقتاليّة للمسلمين في ازدياد مطّرد، وقد سجّل التاريخ سلسلة من المناورات العسكريّة قام بها النبيّ(ص) في السنة الثانية للهجرة[2] من خلال إرسال سرايا


[1]. راجع السيرة النبويّة لابن هشام، ج2، ص513؛ و«تاريخ پيامبر اسلام»، د. آيتي (فارسيّ)، ص188.

[2]. يرى بعض المؤرّخين أنّ إرسال السرايا ابتدأ منذ السنة الأولى للهجرة، في حين يرى البعض الآخر أنّ ذلك كان قد بدأ منذ شهر صفر من العام الثاني للهجرة. راجع «تاريخ پيامبر اسلام»، د. آيتي (فارسيّ)، ص218.

تسنيم، جلد 2

61

«دوريّات رصد ومراقبة» إلى نقاط مختلفة[1]؛ كالسريّة التي بعثها بإمرة حمزة بن عبد المطّلب في ثلاثين من المهاجرين[2] حتّى بلغ بهم طريق قوافل قريش التجاريّة على ضفاف البحر الأحمر، وإنّ قسماً من آيات سورة البقرة فيه إشارة إلى موضوع تلك السرايا[3].

كان غرض الرسول الأكرم(ص) من تلك المناورات ـ التي كان يشارك هو شخصيّاً في بعض منها كالسفر إلى «بواط» و«ذات العشيرة» ـ هو زيادة الجهوزيّة الدفاعيّة والهجوميّة للمسلمين من جهة، وإشعار المخالفين المعاندين، لاسيّما مشركي مكّة، بالقوّة العسكريّة والقدرة المتنامية للأمّة الإسلاميّة من جهة إخرى.

2. في الحقبة الزمنيّة الخاصّة بنزول سورة البقرة لم تنشب أيّ معركة رسميّة بين المسلمين والمعارضين. حتّى معركة بدر كانت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، أيّ بعد انقضاء نزول السورة، وكانت الغاية من بعض الآيات الجهاديّة للسورة هي التمهيد لتلك الوقعة.

3. بالاستلهام من المعارف والتعاليم الإسلاميّة، أضحى المسلمون على درجة من الشغف بالجهاد والشهادة في سبيل الله بحيث دفع بعض الفتية الغير البالغين إلى الانضمام إلى صفوف الجيش الإسلاميّ ببدر لكنّ النبيّ(ص) لم يسمح لهم بالحضور في ساحة النزال.


[1]. السيرة النبويّة لابن هشام، ج2، ص595 ـ 605؛ ؛ والمغازي، ج1، ص9 ـ 19؛ والكامل في التاريخ، ج2، ص113؛ وبحار الأنوار، ج19، ص186.

[2]. السيرة النبويّة لابن هشام، ج2، ص595.

[3]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص551.

تسنيم، جلد 2

62

لمحة عن الأوضاع الاقتصاديّة

كان مجتمع المدينة في فترة نزول السورة منقسماً من الناحية الاقتصاديّة إلى ثلاث طوائف هي:

1. اليهود الذين كانوا يتمتّعون بأسباب الرفاهية والإمكانات الماليّة الضخمة، وكان الشريان الرئيسيّ لاقتصاد المدينة ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ في قبضتهم، وأهمّ مصدرين لدخلهم هما التجارة وأكل الربا.

2. المسلمون الأنصار الذين امتازوا بمستوى معيشيّ متوسّط عموماً.

3. المسلمون المهاجرون الذين عاشوا في منتهى الفقر الاقتصاديّ. هؤلاء ـ ناهيك عن عدم امتلاكهم للسكن الشخصيّ، وعيشهم بشكل جماعيّ في إيوان صغير عند مدخل مسجد النبيّ(ص) يسمّى «الصُفّة» ـ فقد كان أغلبهم محروماً حتّى من الحدّ الأدنى من المستوى العاديّ للمأكل والملبس.

التأثير المتبادل بين أجواء النزول ومعارف السورة

هناك تأثير وتأثّر متبادلان ما بين أجواء نزول أيّ سورة ومعارفها. لذا، لابدّ من دراسة التأثير والتأثّر المتبادلين بين أجواء نزول سورة البقرة ومعارفها.

[1] تأثير أجواء النزول على مضمون السورة: في الوقت الذي تمتلك سورة البقرة السمات المميّزة لأجواء النزول العامّة للسور المدنيّة، فإنّها تنسجم مع خصوصيّات فترة نزولها، أيّ السنتين الأولى والثانية للهجرة حتّى وقعة بدر. وهذه أمثلة على انسجام الأجواء مع المحتوى وتأثيرها فيه:

تسنيم، جلد 2

63

أ. التركيبة الاجتماعيّة الخاصّة للمدينة في فترة نزول السورة (المسلمون، واليهود، والمشركون، والمنافقون)، وكذا سيطرة المشركين والكفّار في مكّة شكّلت أرضيّة لنزول آيات حول الفئات المذكورة في المجتمع، وأوصافهم، وأعمالهم، كالآيات من 3 إلى 20 التي تبيّن أوصاف المتّقين والكفّار والمنافقين، والآيات من 40 إلى 152 التي جاءت في حقّ اليهود، والآيات من 200 إلى 207 التي تقسّم الناس وفقاً لعقائدهم وأعمالهم. فمن أجل تقييم التوحيد ونفي أيّ قيمة للشرك ورد النهي الشديد عن الزواج بين المسلمين والمشركين، وفي الآية 221 جاء التنبيه إلى قيمة المرأة المؤمنة مقارنة بتلك المدنّسة بالشرك، وقدر الرجل المؤمن بالنسبة للمبتلى بداء الشرك.

ب. لمّا كان اليهود أبرز فئة مخالفة للإسلام والنظام الإسلاميّ، فقد نزل فيهم ما فاق الثلث من آيات سورة البقرة (الآيات من 40 إلى 152). في هذه الآيات يحصي الله سبحانه وتعالى النعم التي أولاها على قوم يهود وبني إسرائيل، ويتحدّث عن كفرهم، وعصيانهم، وجحودهم، ونقضهم للعهود والمواثيق، ويروي اثنتي عشرة قصّة من قصصهم؛ كفَرْق البحر ونجاتهم من قبضة آل فرعون، وإغراق فرعون وجنوده في اليمّ، ومواعدة الله عزّ وجلّ لموسى(ص) في طور، وعبادة اليهود للعجل، والأمر بالتوبة وقتل أنفسهم، وإقتراحهم على موسى أن يريهم الله، ونزول عذاب الصاعقة عليهم ثمّ بعثهم من جديد، ونزول المنّ والسلوى، والأمر بذبح البقرة، ...الخ.

كما يتمّ الحديث في هذه الآيات عن المواثيق التي أخذها الله

تسنيم، جلد 2

64

سبحانه عليهم فنقضوها كلّها بقسوة من قلوبهم ولم يذروا لأنفسهم أثراً غير الخبث والشقاء[1].

تنويه: طُرِحت في أثناء هذه الآيات مواضيع أخر كقصّة النبيّ إبراهيم(ص) (في الآيات من 124 إلى 143) وهي ـ بتعبير الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) ـ بمنزلة المقدّمة والتمهيد لآيات تغيير القبلة، وآيات أحكام الحجّ[2]. فعلاوة على قداسة النبوّة، والرسالة، والإمامة الإلهيّة التي كانت له، كان لنبيّ الله إبراهيم(ص) حرمة خاصّة لدى مختلف أقوام العرب. فكلّ من النصارى واليهود كانوا يدّعون أنّ إبراهيم(ص) منهم، وإنّ نقل أنواع الاحتجاجات للنبيّ إبراهيم(ص) حول التوحيد والمعاد من شأنه أن يكون له دور فاعل في سدّ الحاجة العلميّة لأجواء نزول السورة. من هذا المنطلق طُرح كلام هذا النبيّ العظيم حول التوحيد في الآية 258، وحول المعاد في الآية 260.

ج. لمّا كان النفاق في مرحلة نزول السورة، كما هو في العهد المكّي، مستوراً وليس مشهوراً لم يرد ذكر للمنافقين إلاّ في بضع آيات، وقد جاء بتعبير ﴿مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ لا بعنوان «المنافق»؛ كما في الآيات من 8 إلى 20، ومن 204 إلى 206. الآيات المشار إليها تُخبِر عن الأسقام التي أصابت القلوب المريضة لهؤلاء ، وتكشف عن مراوغتهم وتذبذبهم، وتخبر عن إفسادهم في الأرض وعن سفههم الفكريّ، إلاّ أنّه لم يرد فيها التصريح بالنفاق.


[1]. راجع تفسير الميزان، ج1، ص151.

[2]. الميزان، ج1، ص267.

تسنيم، جلد 2

65

د. إنّ الفاقة الشديدة للمسلمين المهاجرين المعوزين من ناحية، والمتطلّبات الماليّة للحروب التي كانت ستحدث في المستقبل من ناحية أخرى، وأكل اليهود للربا، لاسيّما الربا المضاعف، من ناحية ثالثة كلّها مهّدت لنزول آيات الإنفاق، والقرض الحسن، والربا، كالآيات 195، و215، و245، ومن 261 إلى 274، ومن 275 إلى 280 حيث نُهِي الناس فيها عن إنفاق المال الفاسد والمتدنّي القيمة، وعُدّ الإقدام على مثل هذا العمل السخيف غير مشروع، وحُذّر من المنّ على الفقراء ومتقاضي المال المُنفَق ومن إيذائهم نفسيّاً، وذُكِر الثواب والأجر الجزيلان للإنفاق الواجد للشروط المذكورة.

ﻫ . كان الاقتدار الدفاعيّ المتنامي للمسلمين الرامي إلى حراسة الكيان والنظام الإسلاميّين، وضرورة تهيئة بيئة مساعدة للمعارك القادمة، خير حافز لنزول الآيات المرتبطة بالجهاد والشهادة كالآيات من 153 إلى 157، ومن 190 إلى 195، ومن 245 إلى 252. ومن هذا القبيل أيضاً الآيات التي تأمر بالإنفاق في سبيل تأمين الطاقات البشريّة، والقدرة والإمكانات الماليّة للحرب كالآية 244. كما وقُدِّمت حقيقة دفع الجناة والمفسدين، التي تعود إلى الدفاع عن الحقوق الفطريّة للمجتمع البشريّ، (في الآية 251) تحت عنوان تخليص الأرض من فساد الطغاة.

و. توفُّر الأرضيّة المناسبة لتشريع الأحكام الفقهيّة على أثر استقرار النظام الإسلاميّ واستقبال الناس للإسلام، كان قد استدعى نزول العديد من الآيات حول الأحكام الفرعيّة. من هنا فقد تضمّنت السورة كمّاً هائلاً من المسائل العباديّة، والاُسَريّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والجزائيّة،

تسنيم، جلد 2

66

حتّى نقل بعض المفسّرين عن ابن العربيّ قوله: «سمعتُ بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر»[1].

وهذه هي بعض الأحكام الواردة في السورة: إقامة الصلاة (في الآيات 110، و177، و ...)، وتحريم السحر (102)، وتحريم الزواج بين المسلمين والمشركين (221)، والأسلوب الصحيح للمعاملة بأموال اليتامى (220)، وضرورة تحصيل الرزق الحلال الطيّب (من 168 إلى 172)، وحرمة أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير (173)، والقصاص (178 و179)، والوصيّة (من 180 إلى 182)، والصيام وبعض أحكام شهر رمضان الأخرى (من 183 إلى 187)، والجهاد والدفاع، وتحريم القتال وإراقة الدماء في الأشهر الحُرُم وفي الحَرَم، وجوازه تحت عنوان التقاصّ عند هجوم غير محسوب للعدوّ وعدم رعايته لحرمة المكان والزمان الخاصّين (من 190 إلى 194 ومن 216 إلى 218)، والحجّ والعمرة (من 196 إلى 203)، وحرمة الخمر والميسر (219)، والعادة الشهريّة للنساء (222)، والاَيْمان (القسم) والإيلاء (من 224 إلى 227)، والمسائل الاُسَريّة؛ كالطلاق، والعدّة، وما إلى ذلك (من 228 إلى 242)، وتحريم الرشاء والارتشاء (188)، وتبيين أحكام الهلال من أجل الصيام، والحجّ، وسائر الأوقات الدينيّة والاجتماعيّة (189)، وحرمة كتمان الشهادة، وتفاوت المرأة والرجل في عدد الشهود، ومسائل الدَيْن، والرهن، وتنظيم الوثائق الماليّة (282 و283).


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص148.

تسنيم، جلد 2

67

تنويه:

1. جاء في الآيتين 282 و283 ما يقرب من عشرين حكماً من أصول أحكام الدَيْن، والرهن، وتنظيم الوثائق الماليّة.

2. طُرِحت مسألة تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وتشريع القبلة الجديدة في آيات متعدّدة بسبب أهمّيتها (نظراً للضجّة التي أثارها اليهود حولها في البداية وجدالاتهم فيما بعد). ففي البدء جاء التمهيد لهذا التغيير في الآيات 124 وما يليها بإيراد قصّة إبراهيم(ص) الذي كان محطّ قبول وتكريم لدى القبائل العربيّة المختلفة، ثمّ تلاه تشريع حكم تغيير القبلة في الآيات من 142 إلى150، ليُصار إذ ذاك إلى الردّ على مجادلات اليهود في هذا الخصوص في الآية 177.

ز. ما تبقّى من آيات السورة اُفرِد إمّا لتبيين الأصول والمعارف العقائديّة، وإمّا للتعريف بمكانة الإنسان الكامل في نظام الوجود (الآيات من 30 إلى 39)، أو للدعوة إلى قبول أصول الدين، أو لإعطاء الموعظة والنصح الأخلاقيّين، ممّا يحتاجه كلّ مجتمع. كما اشتملت بعض آيات السورة على مباحث جانبيّة ذات صلة بالموضوعات المحوريّة للسورة، من قبيل ضرورة المحافظة على العهد والوفاء به (في الآية 40)، والابتعاد عن الوعظ من غير اتّعاظ (في الآية 44)، واجتناب ترجيح المرجوح على الراجح، ورعاية تقديم الفاضل على المفضول، ومجانبة اختيار الرديء مكان الحسن، وأمثال ذلك تحت عنوان ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ...﴾ (في الآية 61)، والتحذير من أيّ سَفَه فكريّ في ترجيح المذهب الباطل على المذهب الحقّ تحت عنوان ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ

تسنيم، جلد 2

68

إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (في الآية 130)، ولزوم تطهير الكعبة من لَوث الأوثان، ورَوْث الشرك، ودم ميتة الجاهليّة للطائفين، والعاكفين، والرُكَّّع، والسجود (في الآية 125)، وقصّة هاروت وماروت وتعليم الشياطين للسحر، واتّباع المغرضين لهم، وتوقّف تأثير السحر على الإذن الإلهيّ التكوينيّ وإن كان مصحوباً بالنهي التشريعيّ لله سبحانه (في الآية 102)، وما جرى من تحريف للكتاب السماويّ وهو مذكور في الآية 79.

[2] تأثير معارف السورة على أجواء النزول: من أهم تأثيرات سورة البقرة هي محو وإزالة آثار الجهل والجهالة المترسّبة من عصر الجاهليّة والسفاهة. فقد محى نور الحكمة في آيات من قبيل ﴿يُؤْتِي ٱلحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾[1] ظلامَ السفاهة والجهل، وبدّل الراغبين «عن» ملّة الخليل(ص) إلى راغبين «بها»، وداوى ما اعترى النفوس من أمراض عقائديّة وعمليّة.

ونتيجة لذلك، فقد ارتقوا إلى الابتهاج بالإيثار وبذل النفس والنفيس بدل الافتخار بالإغارة وسفك الدماء ، وكفّوا عن أكل الضبّ واستبدلوا به أكل لحم الغزال، وذبح الهدي في الحرم في حالة الإحرام، وظفروا بالجهاد في سبيل دين الله بعد العناد والتمرّد، وتشرّفوا بالإقرار بالإعجاز بعد إنكاره، وهاجروا من التَصْدِيَة والمُكاء[2] في جوار الكعبة إلى الطواف والعكوف والركوع والسجود، وانتقلوا إلى القرض الحسن بعد أكل الربا، ونجوا من فساد مباهاة الجاهليّة ليبلغوا فخار العبوديّة عند حضرة


[1]. سورة البقرة، الآية 269.

[2]. سورة الأنفال، الآية 35.

تسنيم، جلد 2

69

الربّ القدّوس، وجاءت المناداة والمناجاة ـ اللتان وردتا في الآيتين 186 و286 باعتبارهما أدباً للدعاء ومنهجاً للتوسّل عند العتبة الإلهيّة ـ لتذيق أرواحهم شَهْد الشهود، وأدركوا بمجامع قلوبهم المراد من تثبيت المؤمنين، وتثبيط المنافقين، وتبْكِيت اليهود، وتشتيت جمع المشركين، وفي وقعة بدر (في شهر رمضان المبارك) هزموا جيوش الشرك، التي توجّهت نحو المدينة بالتواطؤ والتآمر مع المنافقين واليهود، بعزيمة صلبة بعيداً عن أيّ إدهان وإيهان، ومن غير أدنى وهن، ذلك أنّه بالرغم من وقوع معركة بدر بعد انقضاء نزول سورة البقرة، إلاّ أنّ الاجتهاد في تقوية روحيّة الجهاد لابدّ أن يسبق ذلك، وهذا ما أخذته سورة البقرة على عاتقها.

ومن الجدير بالذكر أنّ سورة البقرة تشترك مع سائر السور القرآنيّة في أصل جامع وهو أنّ المستعدّين لتقبّل نور ثقافة الوحي الإلهيّ قد عولجوا ويعالَجون من داء الجهل والجهالة، وأنّ المعاندين المصرّين الذين لجّوا في جحودهم قد استنكفوا ويستنكفون من قبوله؛ فالله يقول: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾[1]. لذا، فإنّ سورة البقرة باشتمالها على المعارف المميّزة، ونقل المعجزات المتعدّدة من جهة، والتحدّي بالإتيان بما يشبه سورة واحدة من القرآن من جهة أخرى، كانت مدعاة لسكينة المؤمنين، وإن لم يتعدّ ما جناه الآخرون منها حدّ السكوت، فالمتحجّر المتعصّب لا تشفيه ثقافة


[1]. سورة الإسراء، الآية 82 .

تسنيم، جلد 2

70

الوحي، كما جاء في نفس السورة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ...﴾[1].

وفي الختام نشير إلى ملاحظتين محوريّتين حول تأثير مضامين السورة في بيئة نزولها:

أ. إنّ الدين المشترك لجميع أنبياء الله(ع) هو الإسلام: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِنْدَ ٱللهِ ٱلإِسْلاَمُ﴾[2]، وليس هناك أيّ دين ما عدا الإسلام محطّ قبول الله ورضاه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[3]. وبناءً على هذا، فإنّ الأصول القيميّة الجامعة والشاملة لكلّ الأديان الإلهيّة بُيِّنت في الآية 62 على هذا النحو: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللهِ وَٱليَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾؛ أي إنّ سبيل النجاة الأوحد أمام جميع الأمم هو هذا الإسلام الحقّ، وإنّ الإسلام الحقيقيّ هو مجموع العقيدة الصائبة والعمل الصالح، وإنّ الأصول العقائديّة إمّا أن تعود إلى المبدأ، أو إلى المعاد، أو إلى الوحي والنبوّة؛ بحيث يرجع العدل إلى المبدأ، والإمامة إلى النيابة عن النبوّة، وخلافة الرسالة. فما يرجع إلى المبدأ والمعاد صُرِّح به في الآية، أمّا ما يرجع إلى النبوّة فهو مندرج ضمن العمل الصالح؛ إذ لا يعدّ العمل، وفق الثقافة القرآنيّة، صالحاً إلاّ إذا طابق حجّة ذلك العصر، أي دين ذلك الزمان، ووحي ورسالة ذلك العصر، وليس موافقة الحجّة السابقة


[1]. سورة البقرة، الآية 145.

[2]. سورة آل عمران، الآية 19.

[3]. سورة آل عمران، الآية 85 .

تسنيم، جلد 2

71

عليه وهي التي قد نُسِخت شريعتها وبُدِّل منهاجها. المقصود هو أنّ نزول هذه الآية الجامعة الشاملة قد رسم صورة جليّة للأصول القيميّة الحاكمة على أجواء نزول السورة.

ب. لقد شحذ أعداء المسلمين كلّ ما لديهم من همم من أجل إبعاد المسلمين عن أصولهم القيميّة، وصرفهم عن حضارتهم الدينيّة، كما جاء في الآية 217: ﴿... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطاعُواْ ...﴾. من هذا المنطلق فقد انتبه المسلمون إلى هذا الخطر الفكريّ والعقائديّ، فهبّوا لمواجهته وإخماد لهيب الفتنة.

* * *

تسنيم، جلد 2

72

تسنيم، جلد 2

73

بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ <p>لقد ذُكرت المباحث العامّة لتفسير الآية الكريمة ﴿بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ في سياق تفسير سورة الحمد. ولمّا كان التفسير الخاصّ ﻟ ﴿بِسمِ ٱلله﴾ من أيّ سورة يتناسب ومحتوى نفس السورة ، فإنّ التفسير الخاصّ ﻟ ﴿بِسمِ ٱلله﴾ من سورة البقرة المباركة سوف يتّضح بجلاء بعد تبيين مضامين هذه السورة. وإذا كان لكلّ تفسير تأويل خاصّ به، فإنّ ﻟ ﴿بِسمِ ٱلله﴾ من هذه السورة تأويلاً خاصّاً أيضاً.

الم (1)

خلاصة التفسير

بعض سور القرآن الكريم تستهلّ بحروف تدعى ﺑ «الحروف المقطّعة» لأنّها تُقرأ على نحو منفصل.

إنّ هاجس تبيين هذه الحروف كان ولا يزال مستحوذاً على اهتمام

تسنيم، جلد 2

74

المفسّرين والمحقّقين في الحقل القرآنيّ منذ مطلع تاريخ التفسير وحتّى يوم الناس هذا، وقد انقسموا فريقين في تحـليلهم لـها: فبعض رأى أنّها سرّ بين الله سبحانه ورسوله الكريم(ص)، فهي ـ من هذه الجهة ـ غير قابلة للتفسير برأيهم. والبعض الآخر، وهم القسم الأعظم من المفسّرين وعلماء القرآن، ذهبوا إلى أنّ تلك الحروف، وإن لم يتيسّر بلوغ معرفة كُنهها، يقبل التفسير كسائر الآيات القرآنيّة.

لأمثال هؤلاء آراء شتّى في تفسير الحروف القرآنيّة المقطّعة. ولكون تلك الآراء لا تتناقض مع بعضها، فإنّ لنا الأخذ بجميعها إذا تمّ إثباتها بدليل معتبر، وإن كان الباب لا يزال مفتوحاً أمام الفحص والتقييم النهائيّين حول تلك الحروف، وقد يتمّ طرح هذا الموضوع في مناسبات أخرى.

التفسير

خواصّ الحروف المقطّعة

منذ بزوغ شمس تاريخ تفسير القرآن الكريم إلى يومنا هذا وتفسير الحروف المقطّعة يشغل دوماً بال المفسّرين، وعلاوة على ما أوردوه في تفاسيرهم، فقد صنّفوا فيه كتباً وكتبوا فيه رسائل مستقلّة.

للحروف المقطّعة جملة خواصّ لابدّ من التعرّف عليها قبل الولوج في البحث التفسيريّ:

1. هذه الحروف من مختصّات القرآن الكريم ولا سابقة لها في سائر الكتب السماويّة كالتوراة والإنجيل.

2. لا تختصّ الحروف المقطّعة بالسور المكّية ولا بالسور المدنيّة،

تسنيم، جلد 2

75

فلقد جاءت في 27 سورة مكّية وفي سورتين مدنيّتين.

3. السور التي وردت فيها الحروف المقطّعة هي بالترتيب: سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، ومريم، وطٰه، والشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، ويٰس، وص، والمؤمن (غافر)، وفصّلت, والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، وق، والقلم.

4. أتت بعض الحروف في أوائل السور على شكل حرف مفرد ﮐ «ص»، و«ن»، و«ق»، وبعضها على شكل حرفين مثل «طس»، و«يٰس»، و«طٰه»، و«حم»، وأخرى على شكل ثلاثة حروف مثل «الم»، و«الر»، و«طسم»، وقسم منها على شكل أربعة حروف مثل «المص»، و«المر»، وبعـض على شكـل خمسـة حروف مثل «كهٰيٰعص»، و«حم عسق». إذن فهي تنقسم ـ من هذا الجانب ـ إلى خمس مجموعات.

5. عُدّت بعض هذه الحروف، طبق حساب آيات السورة، آيةً من تلك السورة كما في «الم» في سور البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة، و«المص» في سورة الأعراف، و«كهيعص» في سورة مريم، و«طٰه» في سورة طٰه، و«طسم» في سورتي الشعراء والقصص، و«يٰس» في سورة يٰس، و«حم» في سور المؤمن وفصّلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف. واعتُبر البعض كآيتين في مطلع السورة مثل «حم عسق» في سورة الشورى. أمّا في سائر الموارد فعدّت جزءاً من الآية الأولى من السورة مثل «الر» في سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر، و«المر» في سورة الرعد، و«طس» في سورة النمل

تسنيم، جلد 2

76

و«ص» في سورة ص، و«ق» في سورة ق، و«ن» في سورة القلم. وعلى هذا، تقسم الحروف المقطّعة ـ من هذه الناحية ـ إلى ثلاثة أقسام.

6. بعض هذه الحروف لم يتكرّر أساساً مثل «ن»، و«ق»، بينما تكرّر بعضها مرّتين مثل «ص» الذي جاء تارة مستقلاًّ في سورة ص، وجاء تارة أخرى جزءاً من «المص» في سورة الأعراف. كما تكرّر بعضها ستّ مرّات مثل «الم»، وبعضها سبع مرّات مثل «حم» وقد سمّيت هذه السور السبع ﺑ «الحواميم السبع». إذن تنقسم الحروف المقطّعة ـ وفقاً لهذا التصنيف ـ إلى أربعة أقسام.

7. بعد حذف الحروف المكرّرة يكون عدد الحروف المقطّعة 14 حرفاً هي: الألف، والحاء، والراء، والسين، والصاد، والطاء، والعين، والقاف، والكاف، واللام، والميم، والنون، والهاء، والياء.

8 . باستثناء السور الأربع (مريم، والعنكبوت، والروم، والقلم) جاءت لفظة «الكتاب» أو «القرآن» في مستهلّ جميع السور المُفتتَحة بالحروف المقطّعة، كما وأنّ الحديث عن الوحي وعظمة القرآن قد تصدّر تلك السور أو جاء في أثنائها. لكنّه مع إمعان النظر أكثر، نرى أنّ الكلام عن الوحي، والرسالة، والقرآن موجود في تلك السور الأربع أيضاً؛ ففي سورة القلم جاءت آيات من أمثال ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ (الآية 2)، كما ذُكِرت في سورة مريم قصص العديد من الأنبياء كيحيى، وعيسى‘. إذن فمحور مباحث سورة مريم هو أيضاً النبوّة العامّة وبعض النبوّات الخاصّة، كما أنّ عصارة مباحث سورتي العنكبوت والروم هي أيضاً الوحي، والنبوّة، والإعجاز.

محصّلة ذلك، هي أنّ الكلام عن الوحي، والنبوّة، والكتاب قد ورد

تسنيم، جلد 2

77

في مستهلّ أو في وسط السور التسع والعشرين ذات الحروف المقطّعة بما فيها الحواميم السبع والطواسين، والنتيجة هي أنّ المباحث التي تشترك فيها هذه السور هي النبوّة، والرسالة الإلهيّة.

9. هناك ارتباط خاصّ بين الحروف المقطّعة لكلّ سورة ومضمونها. وعلى أساس ذلك، فالسور المبتدئة بنفس الحروف المقطّعة تتشابه في الخطوط العامّة لمضامينها. على سبيل المثال، السور السبع التي تبتدئ ﺑ «حم» (الحواميم السبع) فقد تضمّنت جميعها الحديث عن الوحي، والرسالة، وعظمة القرآن الكريم بأسلوب خاصّ ومضمون مميّز. كما أنّ السور التي تبدأ ﺑ «الم» استهلّت كلّها بالحديث عن نفي الريب عن القرآن.

على هذا الأساس أيضاً، فإنّ السورة التي تمتلك مجموع الحروف المقطّعة الخاصّة بسورتين أخريين، تكون جامعة لمحتوى هاتين السورتين، كما هو الحال في سورة الأعراف المبتدئة ﺑ «المص» فهي جامعة لمعارف السوَر المبتدئة ﺑ «الم» و«ص»، وسورة الرعد التي تُفتتَح ﺑ «المر» تكون جامعة لمعارف السور المفتتحة ﺑ «الم» و«الر».

10. يقول بعض المفسّرين في بيان خواصّ هذه الحروف: بعد حذف المكرّرات من الحروف المقطّعة يمكن صياغة جمل مثل «صراط عليّ حقّ نُمسكه»، أو «عليّ صراط حقّ نمسكه»، أو «عليّ حقّ، نمسك صراطه». كما شكّلت جمل أخرى من هذه الحروف ذكرت في كتب العلوم القرآنيّة[1].

هذه الخصوصيّة، وإن كانت لطيفة، لكنّه ليس في أيدينا دليل معتبر


[1]. راجع البرهان في علوم القرآن، ج1، ص167.

تسنيم، جلد 2

78

يؤيّدها. وبالإضافة إلى ذلك فإنّه لا يمكن إثبات العقائد والاُسس الدينيّة بهذه الطرق، إذ أنّها قابلة للنقد، كما في قول الآلوسيّ:

ومن الظريف أنّ بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير عليّ (كرّم الله تعالى وجهه) فإنّه إذا حُذف منها المكرّر يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صراط عليّ حقّ نمسكه»، ولك أيّها السنّي أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنّه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صحّ طريقك مع السُنّة»[1].

فيتعيّن علينا أن نتكلّم بشكل لا يوجب النقد، فالكلام الذي ليس له رصيد في المعقول أو المنقول ينهار أمال النقد المُستدَلّ بنحو النقض، أو المنع، أو المعارضة.

11. يقول الزمخشريّ حول بعض خواصّ الحروف المقطّعة:

واعلم أنّك إذا تأمّلت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم، أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، و... في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، ... [2].

يريد الزمخشريّ من الجملة الأخيرة أنّ للحروف أوصافاً مثل: المهموسة، والمجهورة، والشديدة، والرخوة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمنخفضة، وحروف القلقلة، ...الخ. فكلّ واحدة من تلك


[1]. روح المعاني، ج1، ص172 (بتصرّف طفيف).

[2]. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص29.

تسنيم، جلد 2

79

هي صفة لمجموعة من حروف الألفباء، وإنّ نصف حروف كلّ مجموعة موجودة بين الحروف المقطّعة. فمثلا، نصف الحروف المهموسة، وهي الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء، موجودة ضمن الحروف المقطّعة.

ومع أنّ صحّة جميع تلك الخواصّ أمر ممكن، إلاّ أنّها لا تثبت معياراً جامعاً، وإنمّا هي من قبيل «مناسبات ذكروها بعد الوقوع».

آراء المفسّرين

لقد بحث المفسّرون وعلماء القرآن في موضوع الحروف المقطّعة منذ أوائل عهد بحوثهم التفسيريّة والقرآنيّة، وأدلوا بآراء واحتمالات شتّى حولها جاوزت العشرين رأياً واحتمالاً[1]، نبدأ الآن في نقل ونقد بعض منها:

الرأي الأوّل

إنّ الحروف المقطّعة هي من المتشابهات التي انفرد الله سبحانه بعلمها وليس لغيره إدراكها[2]، فالله تعالى يقول: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ٱلكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِين فِي


[1]. البرهان في علوم القرآن، ج1، ص106. نُقِل في تفسير مجمع البيان (ج1 ـ 2، ص112 ـ 113) 11 قولاً، وفي التفسير الكبير (مج1، ج2، ص5) 21 قولاً، وفي تفسير القرآن الكريم، للشهيد السيّد مصطفى الخمينيّ (ج2، ص285 ـ 292) 26 قولاً.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص150؛ والتبيان في تفسير القرآن، ج1، ص48؛ والبحر المحيط في التفسير، ج1، ص158.

تسنيم، جلد 2

80

قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ ٱللهُ...﴾[1].

الجواب: لا يمكن اعتبار حروف القرآن المقطّعة من المتشابهات، فالمتشابه من الآيات هو ما يمكن أن تكون له دلالة على معنى واضح، أو ما يمكن استظهار معنى منه إلاّ أنّه معنى باطل وهو في ظاهره حقّ، وفي اتباعه فتنة، والحال أنّ الحروف المقطّعة ليست كذلك؛ فمعناها ليس واضحاً.

ولتوضيح ذلك نقول: انّ كلمة «متشابه» في القرآن جاءت أحياناً بمعنى «شبيه» كقوله تعالى في الثمر: ﴿مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾[2]؛ أي إنّ ثمار المزرعة الواحدة التي تنبت من نفس الأرض، وتُسقى من نفس الماء، وتتلقّى ذات النور والهواء والحرارة، ويرعاها نفس البستانيّ يتشابه بعضها ويختلف بعضها الآخر. كما جاءت بنفس هذا المعنى (الشبيه والمثل) وصفاً للقرآن كلّه في أوائل سورة الزمر في قوله: ﴿ٱللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً﴾[3]؛ بمعنى أنّ آيات القرآن الكريم يشابه بعضها بعضاً في كونها كلام حقّ، وفي إعجازها، وبرهانيّتها، وحكمتها.

أمّا التشابه المشار إليه في مطلع سورة آل عمران فهو وصف لبعض آيات القرآن، والمراد منه: أنّ بعض آيات القرآن تحمل عدّة معان بعضها


[1]. سورة آل عمران، الآية 7.

[2]. سورة الأنعام، الآية 141.

[3]. سورة الزمر، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

81

سالم، وبعضها موجب للشبهة، أو بعبارة أخرى: هو معنى باطل ظاهره حقّ؛ ذلك أنّه يشبه مراد المتكلّم، لكنّه ليس بمراده، وهذا هو بالضبط ما يقول الإمام أمير المؤمنين(ص) في وصفه للشبهة: «وإنّما سُمِّيَت الشبهة شبهة لأنّها تُشبِه الحقّ»[1].

فالمتشابه بالمعنى المذكور هو من سنخ الدلالات اللفظيّة؛ بمعنى أنّ اللفظ قد يظهر تارة بمعنى حقّ، وقد يحتمل تارة أخرى عدّة معان بعضها حقّ وبعضها باطل، ولمّا لم يكن مدلول الحروف المقطّعة جليّاً ـ كي تكون مدعاة للشبهة، ويكون اتّباعها باعثاً للفتنة ـ فإنّها لا تعدّ من المتشابه (الآية التي لها مدلول واضح إلاّ أنّه باطل ظاهره حقّ).

وعلاوة على ذلك، حتّى لو كانت تلك الحروف من المتشابهات فهي قابلة للتفسير، ولا يمكن القول بأنّها من الأمور التي استأثر الله تعالى بعلمها، وعجز الآخرون عن فهمها، وذلك لأنّ المفسّرين قادرون على تفسيرها من خلال إرجاعها إلى المحكمات، فالمحكمات أمّ المتشابهات وهي التي تحقّق الانسجام فيما بينها، وفي ظلّ المحكمات يرجع كلّ متشابه إلى معناه الحقّ فيقبل التفسير، وانّ الذي اختصّ علمه بالذات الإلهيّة المقدّسة، وليس لأحد غير الله بلوغ علمه، إنّما هو تأويل المتشابه لا تفسيره؛ إذ ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ ٱللهُ...﴾.

تنويه: إنّ الأمور التي اختصّ الله سبحانه وتعالى أو الأئمّة المعصومين(ع) بعلمها قسمان: الأوّل: هو العلوم التي لم يُعَلّمها الله أو المعصومون(ع) لغيرهم، ولا يستطيع الآخرون إدراكها، ولا هم مكلّفون


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 38.

تسنيم، جلد 2

82

بذلك؛ مثل «الأسماء المُستأثَرَة». بالطبع، إنّ في المسألة تأمّلاً وهو: هل إنّ الله عزّ وجلّ علّمها للمعصومين(ع) أم لا؟ ومع أنّ تعليمها للمعصومين(ع) أولى وأصوب، إلاّ أنّ الآخرين محرومون من تعلّم مثل هذه العلوم جرّاء عدم استيعاب وعائهم الوجوديّ.

الثاني: هو العلوم التي ـ وإنْ كانت هي لله بالأصالة ـ إلاّ أنّها ليست من الأسرار الإلهيّة الخاصّة، بل إنّ الله أنزلها من أجل التعلّم. لكنّ هناك سبيلاً خاصّاً لتعلّم تلك العلوم ومن أجل العثور على طريق تعلّمها لابدّ من الرجوع إلى الله، والرجوع إلى الله هو رجوع إلى كتابه؛ كما أنّ الرجوع إلى الرسول الأكرم(ص) وأهل بيته(ع) هو رجوع إلى سنّتهم، ومثلما أنّ الرجوعين الأخيرين ملازمان لبعضهما، فإنّ هذين المرجعين متلازمان، وإن كان المرجع بالذات واحداً طبعاً.

فما كان علمه من الأسرار الإلهيّة، ولا يصل إلى غير الله أصلاً فليس بمتشابه، إذ أنّ تفسير المتشابه ميسور لغير الله أيضاً. والحاصل، هو أنّ التشابه من أوصاف الدلالة في الآيات التي لها ظهور في معنى مع كون هذا المعنى مدعاة للشبهة، في حين أنّه لا ظهور أصلاً للحروف المقطّعة في معنى خاصّ حتّى تبعث على الشبهة.

الرأي الثاني

الحروف المقطّعة لكلّ سورة هي اسم لتلك السورة[1]، فكلّ من سورة «يٰس»، و«طٰه», و«ص»، و«ق» قد وُسمت باسم حروفها المقطّعة. وبعض


[1]. المنار، ج1، ص122؛ والتفسير الكبير، مج1، ج2، ص6.

تسنيم، جلد 2

83

السور الأخرى أيضاً لها أسماء متعدّدة أحدها هو نفس تلك الحروف المقطّعة التي تُفتتح بها، وفي الحقيقة فإنّ أسماءها الأخرى هي «المشهورة» وحروفها المقطّعة هي اسمها «المستور».

يرى المرحوم الشيخ الطوسيّ أنّ هذا الرأي في تفسير الحروف المقطّعة هو أفضل الآراء فيقول:

وليس لأحد أن يقول: كيف تكون أسماء للسور، والاسم غير المسمّى، فكان يجب أن لا تكون هذه الحروف من السورة، وذلك خلاف الإجماع. قيل: لا يمتنع أن يسمّى الشيء ببعض ما فيه، ألا ترى أنّهم قالوا: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، ولا خلاف أنّها أسماء للسور، وإن كانت بعضاً للسور[1].

الجواب: مع أنّ تسمية الأشياء أو الأشخاص ارتجاليّة في بعض الموارد، وليست بحاجة إلى مناسبة خاصّة[2]، إلاّ أنّ إثبات هذا المدّعى بالنسبة للموارد الخاصّة يتطلّب دليلاً. وبالرغم من أنّنا لا نملك الدليل على عدم تسمية السور بهذه الأسماء، لكنّ لا دليل على إثباتها أيضاً، ممّا يجعلها في خانة الاحتمال.


[1]. التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص49.

[2]. الاسم بمدلوله الأعمّ يشمل كلاً من اسم العلم (الاسم الخاصّ) والوصف أو اللقب كذلك. فالاسم الذي هو بمعنى العلم ارتجاليّ وليس بالضرورة أن تكون له مناسبة؛ كما لو قلنا: لماذا سمّي الحجر أو سمّيت الشجرة بهذا الاسم؟ لكنّ التلاؤم والتناسب ملحوظان في الاسم الذي يكون بمعنى الوصف واللقب.

تسنيم، جلد 2

84

الرأي الثالث

الحروف المقطّعة هي أسماء للقرآن[1]، كما «الفرقان»، و«الذكر» التي هي أسماء له أيضاً.

الجواب: مع أنّ الرأي المذكور ليس من قبيل المستحيل العقليّ، بيد أن إثباته يحتاج إلى دليل معتبر، ولم يقدّم أصحاب هذا الرأي دليلاً عليه، فهو من هذا المنطلق لا يتجاوز حدّ الاحتمال.

فلو كانت تلك الحروف اسماً للقرآن لاستلزم ذلك إمكانيّة وضع كلمة القرآن، أو أيّ اسم آخر له كالفرقان أو الذكر، محلّ أيّ منها؛ فبدلاً من قولنا: ﴿كهٰيٰعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ...﴾[2]، نستطيع القول: «القرآن، ذكر رحمة ربك ...». وبطبيعة الحال فإنّ التالي المذكور ليس بباطل عند أصحاب الرأي الثالث كما أنّهم يستطيعون التمسّك بأصل التلازم أيضاً.

الرأي الرابع

كلّ من هذه الحروف المقطّعة هو علامة اختصار وإشارة إلى اسم من أسماء الله الحسنى، كما أنّ بعضها أيضاً يرمز ويشير إلى اسم النبيّ الأكرم(ص)[3]؛ فكلّ واحد من أسماء الله مركّب من بضعة أحرف وقد اختير من كلّ اسم حرف ليُُقرأ بشكل منفصل في مستهلّ بعض سور القرآن.


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص112.

[2]. سورة مريم، الآيتان 1 و2.

[3]. الإتقان، ج2، ص12 ـ 15.

تسنيم، جلد 2

85

كما أنّ النحو الذي اختيرت على أساسه تلك الحروف متفاوت أيضاً؛ فاختيرت تارة من أوّل الاسم الإلهيّ كالألف المأخوذة من اسم «الله»، والكاف من اسم «الكافي»، وتارة أخرى من وسطه كالياء من «العليم»، و«الحكيم»، و«الرحيم»، وتارة ثالثة اختير الحرف الأخير من الاسم كحرف الميم المأخوذ من أسماء «العليم» و«الحكيم» و«الرحيم».

وقد قيل تأييداً لهذا الرأي: إنّ ذكر الحروف كرمز مختصر للدلالة على الكلمات متعارف عند العرب، كقول الشاعر:

قلنا لها: قفي قـالت: قـاف لا تحسبي انّا نسينا الإيجاف

فالقاف هنا رمز وعلامة اختصار لكلمة «قد وقفتُ»[1]. كما ورد في الحديث: «كفى بالسيف شا»؛ و«شا» هي رمز لكلمة «شافياً»[2].

يعتقد المرحوم الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا أيضاً، في رسالته النوروزيّة التي كتبها تبياناً وتفسيراً للحروف المقطّعة، أنّ كلّ واحد من تلك الحروف هو رمز وعلامة مختصرة لكلمة معيّنة؛ فاﻟ «ألف» مثلاً ناظرة إلى الباري تعالى، واﻟ «باء» ناظرة إلى العقل الأوّل، واﻟ «جيم» ناظرة إلى النفس الكلّية، واﻟ «دال» ناظرة إلى عالم الطبيعة[3].

وجاء في تأويلات الكاشانيّ:

أشار [الله] بهذه الحروف الثلاثة [الم] إلى كلّ الوجود من حيث


[1]. جامع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص118؛ والجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص151.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص152.

[3]. ميراث إسلامي ايران (فارسيّ)، ج4، ص267؛ تفسير القرآن الكريم لصدر المتألّهين، ج6، ص15.

تسنيم، جلد 2

86

هو كلّ لأنّ «ا» إشارة إلى ذات الذي هو أوّل الوجود ... و«ل» إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل، ... و«م» إلى محمّد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته وتتّصل بأوّلها[1].

الجواب: هذا الاحتمال أيضاً ليس بالمحال عقلاً، لكنّ إثباته ـ كمـا قلنا في الردّ على الرأي الثالث ـ بحاجة إلى دليل، ولم يُقَم عليه دليل سوى أحاديث هي إمّا مرسلة سنداً أو ضعيفة دلالة، وسوف نتعرّض لها في البحث الروائيّ.

أمثال هذه الاحتمالات في معنى وتفسير الحروف القرآنيّة المقطّعة إضافة إلى كونها مجرّدة من الدليل النقليّ المعتبر، فهي خلو من البرهان العقليّ أيضاً.

فما أوردوه من أشعار العرب تأييداً لهذا الاحتمال هو استدلال غير تامّ، إذ ليس من المتعارف عند العرب استخدام الحروف الرمزيّة المختصرة للدلالة على الكلمات في النثر، وهذا الاستخدام في الأشعار التي استند إليها المفسّرون هو ـ على فرض صحّته ـ للضرورة الشعريّة، ومن الجليّ أنّ ما لا يُستساغ في النثر والكلام العاديّ، هو مستساغ في نظم الشعر حال الضرورة.

وأمّا ما قاله الشيخ الرئيس ابن سينا حول هذه الحروف فيعوزه الدليل المعتبر كذلك. فذكر مثل هذه الاستحسانات (وهي: لمّا كانت الألف أوّل حروف الأبجديّة، وأنّ الباري تعالى هو أوّل موجود، إذن


[1]. تفسير القرآن الكريم لابن العربيّ، ج1، ص13 (هذا التفسير وإن كان مشهوراً بتفسير محيي الدين العربيّ، لكنّه في الواقع هو «تأويلات» الملاّ عبد الرزّاق الكاشانيّ).

تسنيم، جلد 2

87

الألف هي إشارة ورمز إلى تلك الذات المقدّسة) لا يورث الاطمئنان؛ إذ أنّ أوّليّة الحقّ هي من الأمور التكوينيّة والحقيقيّة، بينما أوّليّة الألف في الحروف الأبجديّة هي من الأمور الاعتباريّة المستندة إلى اعتبار المعتبِرين، ولا يصحّ جعل الأمور الاعتباريّة أمارة على الأمور التكوينيّة، فلا علاقة بين الأمور التكوينيّة والاعتباريّة حتّى تكون إحداهما دليلاً على الأخرى.

وعلاوة على ذلك فإنّ أهميّة ومكانة الأمور الاعتباريّة تتفاوت من أمّة إلى أخرى بسبب كونها مستندة إلى جعل المعتبِرين، فإنّ الحروف الأبجديّة هي حروف ألفباء طائفة من الأمم على وجه الأرض فقط، وليست حروف جميع الأقوام والملل. وستُطرح سبل تصحيح مثل هذه الاحتمالات لاحقاً ضمن الإشارات التي سيُختتم بها البحث الروائيّ.

وفي الجواب على هذا الاحتمال يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائي(ره) :

لكنّ لا يخفى عليك أنّ الرمز في الكلام إنّما يُصار إليه في الإفصاح عن الأمور التي لا يريد المتكلّم أن يُطلِع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه بما لا يتعدّاه ومخاطبه ولا يقف عليه غيرهما. وهذه الأسماء الحسنى قد أورِدت وبُيِّنت في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحاً، وتلويحاً، وإجمالاً، وتفصيلاً، ولا يبقى مع ذلك فائدة في الإشارة إلى كلّ منها بحرف مأخوذ منه رمزاً إليه[1].


[1]. تفسير الميزان، ج18، ص14 ـ 15.

تسنيم، جلد 2

88

الرأي الخامس

الحروف المقطّعة هي أجزاء من اسم الله الأعظم، وهي إذا ما رُكّبت بدقّة وبصيرة ظهر الاسم الأعظم[1]. والاسم الأعظم هو الاسم الذي يمكن التصرّف، من خلاله، في عالم الوجود، وليس للناس العاديّين سبيل إلى معرفته.

اختلاف هذا الرأي مع سابقه هو أنّ القول الرابع يؤكّد على أنّ كلاًّ من الحروف المقطّعة هو علامة مختصرة ورمز لأحد الأسماء الإلهيّة، بينما المُدَّعَى في هذا القول هو: أنّه بتركيب هذه الحروف يتشكّل الاسم الأعظم؛ فمثلاً بتركيب حروف «الر» و«حم» و«ن» ينتج «الرحمن» الذي هو اسم أعظم لفظيّ، بالضبط كما تستعمل الحروف المقطّعة «م ح م د» للإشارة إلى الاسم المبارك للإمام المهديّ (عج).

إنّ أصحاب هذا الرأي استندوا إلى بعض الروايات التي سيشار إليها في البحث الروائيّ.

الجواب: يطلق «الاسم الأعظم» على أسماء الله اللفظيّة تارة، وعلى أسمائه التكوينيّة تارة أخرى.

الأسماء اللفظيّة هي كلمات تدلّ على الذات والصفات الإلهيّة، وإنّ بعضها عظيم؛ كالقدير، والعليم، والحكيم، والحيّ، والرزّاق، وبعضها أعظم؛ كالله، والرحمن. أمّا سرّ أعظميّة هذين الاسمين فعائد إلى أنّهما محيطان بسائر أسماء الله سبحانه؛ فاسم «الشافي» مُحاط باسم «الرزّاق»، واسم الرزاق محاط باسم «الخالق»، وهذا محاط باسم «القادر»، والأخير


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص151؛ التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص47.

تسنيم، جلد 2

89

بالاسم الجامع والأعظم وهو «الله» الذي يدلّ على الذات الجامعة لكلّ الكمالات، وكذلك بالاسم الأعظم «الرحمن» الذي يدلّ على جميع ألوان الرحمة الإلهيّة[1].

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلّ اسم ـ عدا «الله» و«الرحمن» ـ يحيط باسم آخر فهو اسم أعظم نسبيّ؛ أيّ بالنسبة للاسم المحاط به، لكنّ «الله» اسم أعظم مطلق، وكذلك «الرحمن».

وقد يُراد من الاسم الأعظم أيضاً الاسم الأعظم التكوينيّ لا اللفظيّ والمفهوميّ، وهذا هو مصطلح أهل المعرفة المقتبَس من أدعية وروايات أهل البيت(ع). فالاسم في اصطلاح أهل المعرفة هو «ذات الحقّ بتعيُّن خاصّ»؛ أي، الذات التي يُنظر إليها بما أنّها موصوفة بإحدى صفاتها.

وفيما يخصّ تركيب الحروف المقطّعة من أجل الحصول على الاسم الإلهيّ الأعظم لابدّ من الالتفات إلى بضع ملاحظات:

1. لايمكن قبول هذا الوجه كتفسير للحروف المقطّعة لافتقاده لأيّ دليل معتبر.

2. إنّ اسمي «الله» و«الرحمن» ـ وهما من أسماء الله الأعظم اللفظيّة


[1]. يقول القرآن الكريم في اسمي «الله» و«الرحمن»: (قُلِ ٱدْعُواْ ٱللهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمٰنَ أَيّاً مَا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَاءُ ٱلحُسْنَى﴾ (الإسراء/110). مرجع الضمير في قوله «فله» هو «أيّاً» وليس الله، فليس المراد من الآية أنّ: لله الأسماء الحسنى، بل المراد هو أنّ: كلاًّ من «الله» و«الرحمن» له أسماء حسنى، إذ لا يتحقّق التناسب عند إرجاع الضمير في قوله«فله» إلى الله. من هذا المنطلق، يقول المرحوم الفاضل الهنديّ: «فالمحقّقون على أنّ «الرحمن» أيضاً اسم للذات تماماً مثل «الله»، وأنّ لفظه هنا [في البسملة] بدل من «الله»، ولذا قُدّم على «الرحيم» لكونه [الرحيم] صفة»، (كشف اللثام، ج1، ص106).

تسنيم، جلد 2

90

ـ قد ذُكِرا صراحة في القرآن الكريم ولا حاجة لتركيب الحروف المقطّعة للحصول عليهما.

3. فيما يتعلّق بالاسم الأعظم، وكما مرّ في تفسير سورة الحمد، يتعيّن القول: إنّ الاسم الاعظم الذي له آثار تكوينيّة، كإحياء الموتى أو طيّ الأرض، ليس هو من سنخ اللفظ، وتوقّع مثل تلك الآثار من اللفظ إنّما ينبع من التصوّر الخاطئ للاسم الأعظم. كذلك فإنّ الاسم الأعظم ليس مفهوماً حصوليّاً كي يصير إحياء الموتى أو طيّ الأرض ممكناً بتعلّمه، بل هو مقام يتسنّى للحائزين عليه القيام بمثل تلك الأعمال بمجرّد الإرادة حتّى وإن لم يتفوّهوا بأيّ لفظ.

في نظام الوجود، الذي يُدار على أساس الحقّ العينيّ، وفي إطار العلّية والمعلوليّة الحقيقيّة، لا يمكن التأثير على الأمور التكوينيّة بواسطة أمور اعتباريّة كاللفظ والمفهوم (العلاقة بين اللفظ والمفهوم). ففي مثل هذا النظام لابدّ لكلّ علّة مؤثّرة أن تفوق معلولها وتكون أقوى منه. بالطبع من الممكن، من خلال مناجاة خاصّة عند قراءة الآيات أو الأدعية، توفير استعداد قابليّ مناسب من أجل أن تصبح المبادئ الفائقة ـ التي هي سبب فاعليّ بإذن الله ـ علّة في إيجاد أثر تكوينيّ. لكنّه في هذه الحالة يكون التأثير لذلك المبدأ الملكوتيّ، وليس اللفظ أو المفهوم الذهنيّ للشخص المناجي.

الناس المتّصفون بالصفات الملكوتيّة والسجايا الملائكيّة، الذين تشرّفوا بمقام الاسم الأعظم، يهيمنون على الأمور المُلكيّة، ويتصرّفون في النظام التكوينيّ للوجود، كما في قصّة آصف بن برخيا الذي استطاع

تسنيم، جلد 2

91

ـ من خلال ما تعلّمه من النبيّ سليمان(ص) من العلوم ـ أن يأتي بعرش الملكة بلقيس من منطقة نائية (من اليمن إلى فلسطين) في زمن أقصر من رمشة العين: ﴿قَالَ ٱلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ ٱلْكِتَابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾[1]. ومن لم يحظَ بذلك المقام فأنّى لألفاظه أو مفاهيمه الذهنيّة أن تصنع شيئاً:

أيّ فعلٍ تَرتجيهِ لِخاتمْ إنْ سـليمانٌ به ما تـختَّمْ[2]

كان لعمرو بن معدي كرب، وهو من أشهر أبطال العرب، سيف اسمه «الصمصامة»، ويعدّ حديث الناس في الصرامة والقاطعيّة. فأرسل الخليفة الثاني إليه أن يبعث إليه بسيفه، فبعث به إليه. ولمّا لم يجد في السيف، حين ضرب به، ما كان يبلغه عنه كتب لعمرو في ذلك، فكتب إليه عمرو: إنّما بعثت إليك بالسيف، ولم أبعث إليك بالساعد الذي يضرب به؛ أيّ إنّ شهرة الصمصامة في الصرامة مرهونة بساعدي القويّ[3].

فالألفاظ حالها حال الصمصامة؛ أي ما لم تستقرّ بيد مقاتل شجاع فإنّها لن تكون ذات أثر، والمقام الخاصّ للاسم الأعظم التكوينيّ هو الساعد الذي يتصرّف في الوجود أحياناً بصمصامة الألفاظ الخاصّة.


[1]. سورة النمل، الآية 40.

[2]. إشارة إلى البيت الفارسيّ لحافظ الشيرازيّ، «ديوان غزليّات حافظ» (فارسيّ)، ص658: گر انگشت سليمانی نباشد چه خاصيّت دهد نقش نگينی

[3]. العقد الفريد، ج1، ص199 ـ 200.

تسنيم، جلد 2

92

والآثار التكوينيّة التي وردت لسورة الحمد هي من هذا القبيل أيضاً. يقول الإمام الصادق(ص): «لو قُرِأت الحمد على ميت سبعين مرّة ثمّ رُدّت فيه الروح ما كان ذلك عجباً»[1].

إنّ العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقة اعتباريّة وجعليّة. ولهذا فالمفردة المستعملة في ثقافة ما تعتبر مهملة وعديمة المعنى في سائر الثقافات؛ كما نلاحظ كلمة «العين» في العربيّة، فلها سبعين معنى، وقد جاءت في بعض قصائد الشعر في سبعين بيتاً من الشعر كلّ بمعنى معيّن، في حين أنّها لفظ مهمل في اللغات الأخرى. فالتأثير العينيّ للألفاظ في الأمور التكوينيّة يستلزم تأثير الأمور الاعتباريّة في الأمور التكوينيّة، وبطلان هذا الأمر بديهيّ.

محصّلة ذلك، أنّ الاسم الأعظم هو مقام، وله درجات، وأنّ الحاصلين على هذا المقام مؤثّرون في العالم التكوينيّ، ومستجابو الدعوة، استخدموا اللفظ أم لم يستخدموه. وسورة الحمد أيضاً إن جرت على ألسنة هؤلاء كانت سبباً في إحياء الموتى. فبالاسم الأعظم التكوينيّ، الذي هو مقام ملكوتيّ، يصبح التصرّف في نظام الوجود مقدوراً، وليس باللفظ والمفهوم الاعتباريّين. إذن، فعلى الرغم من تكوُّن الاسم الأعظم؛ مثل الله والرحمن من تركيب بعض الحروف القرآنيّة المقطّعة، إلاّ أنّ هذا الاسم هو من قبيل الاسم الأعظم اللفظيّ وليس التكوينيّ حتّى تكون له آثار تكوينيّة.


[1]. الكافي، ج2، ص623؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص4.

تسنيم، جلد 2

93

تنويه

1. كما أشرنا، فإنّ الآثار التكوينيّة الواردة للأدعية والأذكار هي في الحقيقة آثار المقام الخاصّ للداعي. فالداعي إمّا أن يؤثّر في عالم الوجود بسبب قربه الخاصّ من الذات الإلهيّة القدسيّة، وإمّا أن يوصِل ـ من خلال المناجاة والابتهال ـ النصاب القابليّ إلى الكمال كي يُظهِر المبدأ الفاعليّ آثاراً مميّزة. على أيّ تقدير، فالتأثير التكوينيّ إمّا أن يعود إلى النفس القدسيّة للداعي، أو إلى مبدأ أسمى.

2. يُستفاد من بعض الأدعية والروايات أنّ المراد من الأسماء الإلهيّة ليس هو الأسماء اللفظيّة والمفهوميّة بل الأسماء التكوينيّة، وأنّ ما نتلفّظه نحن هو «اسم الاسم»، وأنّ هذه الأسماء اللفظيّة ليست هي الأسماء الحقيقيّة لله سبحانه وتعالى، وذلك لأنّ هذه الأدعية والروايات تتحدّث عن اسم ملأ أركان كلّ شيء، وبه بُسِطت الأرض، أو رُفِعت سلاسل الجبال، أو خُلِقت الجنّة والنار، ومن المعلوم أنّه في مقام خلق الأرض، والجبال، والجنّة، والنار لا يتمّ الحديث عن اللفظ العربيّ وغيره.

يخاطب الإمام أمير المؤمنين(ص) الله سبحانه قائلاً: «وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ شيء»[1]، و«وأسألك باسمك الذي خلقت به عرشك... واستقرّ به عرشك... باسمك الذي أقمت به عرشك وكرسيّك... وحمّلتهم عرشك بذلك الاسم يا الله...»[2]. وكما يقول الرسول الأكرم(ص) في مناجاته الجامعة مع ربّه: «أسألك باسمك الذي خلقت به رضوان، خازن الجنان...


[1]. مفاتيح الجنان، دعاء كميل بن زياد.

[2]. مصباح المتهجّد، ص258 ـ 261؛ وبحار الأنوار، ج55، ص36.

تسنيم، جلد 2

94

باسمك الذي خلقت به مالك، خازن النيران... باسمك الذي غرست به أشجار الجنان... باسمك الذي فتحت به أبواب الجنان... النيران... باسمك الذي فجّرت به عيون الجنان... باسمك الذي خلقت به جنّة عرضها كعرض السماء والأرض.. باسمك الذي خلقت به الشمس والقمر والنجوم... باسمك الذي خلقت به جبرئيل... إسرافيل... باسمك الذي خلقت به وأحييت جميع خلقك بعد أن كانو أمواتاً بذلك الاسم... باسمك الذي تُمِيت به جميع خلقك عند فناء آجالهم... باسمك الذي تحيي به جميع خلقك للقيام بين يديك... باسمك الذي تحشر به جميع خلقك... باسمك الذي قذفت به الخوف في قلوب الخائفين الراجين... باسمك الذي تُنَوَّم به العيون... باسمك الذي أنزلته على عيون أهل الغفلة فغفلوا عنك فناموا عن طاعتك... باسمك الذي أنزلته على عيون محبّيك فطار عنهم النوم إجلالاً لعظمة ذلك الاسم...»[1].

إنّ كلّ الآيات الإلهيّة هي أسماؤه التكوينيّة؛ فكلّ موجود هو آية للحقّ، فهو سمته وعلامته سبحانه. إذن فالأمور العينيّة، والمقامات التكوينيّة هي الأسماء الحقيقيّة لله.

وبمزيد من التأمّل يتعيّن القول: إنّ الأسماء اللفظيّة هي «أسماء أسماء الأسماء»؛ إذ أنّ الأسماء اللفظيّة ليست هي أسماء وسمات للأمور العينيّة بشكل مباشر، بل إنّها سمات المعاني الذهنيّة التي تُدرَك عن طريق العلم الحصوليّ، وإنّ المعاني الذهنيّة الحصوليّة هي أسماء وسمات للأمور العينيّة، وإنّ الأمور العينيّة، والمقامات التكوينيّة هي


[1]. البلد الأمين، ص416 ـ 418؛ وبحار الأنوار، ج90، ص260 ـ 262.

تسنيم، جلد 2

95

سمات حقيقيّة لله سبحانه وتعالى، وكما أنّ كلام الله هو عين فعله؛ إذ «وإنّما كلامه سبحانه فعل منه»[1]، فإنّ أسماءه الحقيقيّة كذلك هي الأمور والأعيان التكوينيّة، وليست الأمور الاعتباريّة. وبالتالي فلابدّ من القول: في العالم العينيّ إنّما يظهر الأثر التكوينيّ والعينيّ من الاسم الحقيقيّ، لا من اسم الاسم الذي هو مفهوم حصوليّ ذهنيّ، ولا من اسم اسم الاسم الذي هو كلمة لفظيّة.

إنّ المقامات المعنويّة التي هي من نصيب الأوحدين من العلماء الربّانيّين، أمثال السيّد ابن طاوس، وابن فهد الحلّيّ، والسيّد بحر العلوم، هي التي يُعوّل عليها، وليس الألفاظ والمفاهيم التي يقضي معها الإنسان العاديّ عمراً من دون أن يجني منها أيّة ثمرة. يقول الإمام الحسن المجتبى(ص): من لم يخطر في قلبه إلاّ رضا الحقّ تعالى فهو مستجاب الدعوة وأنا أضمن ذلك؛ «وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلاّ الرضا أن يدعو الله فيستجاب له»[2].

إنّ دراسة موارد استجابة وعدم استجابة الدعاء من جهة، وتقييم النصوص الواردة في شروط استجابة الدعاء وموانعها، كما في «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»[3] من جهة أخرى، يوصلنا إلى نتيجة مفادها: أنّ تأثير الأدعية لا يعود إلى ألفاظها الاعتباريّة، ولا إلى مفاهيمها الذهنيّة، بل إنّه بتحقُّق مدلولاتها في نفس الداعي يصل نصاب القبول


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 186.

[2]. الكافي، ج2، ص62؛ وبحار الأنوار، ج43، ص351.

[3]. الإقبال بالأعمال الحسنة، ص220؛ ومفاتيح الجنان، دعاء كميل.

تسنيم، جلد 2

96

إلى تمامه، فيُتلَقّى الفيض من المبدأ الفاعليّ. لكنّ المفاهيم الذهنيّة للأدعية ـ بالطبع ـ هي الممهّدة لحصول هذا الاستعداد.

الرأي السادس

الحروف المقطّعة هي ألوان من القَسَم أقسم الله تعالى بها على أنّ القرآن كلامه وكتابه، وسرّ القسم بهذه الحروف هو أنّ لحروف الهجاء شرفاً وحرمة، وذلك لأنّها المكوّنات للكتب السماويّة، والأسماء الإلهيّة[1].

الجواب: إنّ هذا الاحتمال، وإن لم يكن مستحيلاً عقلاً أيضاً، لكنّه غير مُدعم بأيّ دليل معتبر من ناحية ، ولا يعدّ تفسيراً للحروف المقطّعة من ناحية أخرى. فلو سلّمنا بأنّ المراد من «يٰس» هو: «قَسَمٌ بيٰس»، لظلّ السؤال على حاله: ما هو المراد بهذا المُقسَم به؟ وإنّ ما ذُكر على أنّه سرّ فهو لا يختصّ بهذه الحروف الأربعة عشر.

فما اُقسِم به في القرآن الكريم، سواء من الجمادات؛ كالشمس والقمر، أو غيرها؛ كأسماء الله الحسنى، فمدلولاتها واضحة، أمّا مدلول الحروف المقطّعة فهو غير واضح.

إذن، هناك إبهامان في هذا الرأي: الأوّل في أصل كون الحروف المقطّعة قسماً، والثاني في معنى المُقسَم به. إذ لابدّ للمخاطبين بالقسم أن يفهموا المغزى من وراء اللفظ المُقسَم به. فالقسم إنّما يُوجّه للشخص الشاكّ في صحّة دعوى المدّعي، فيحاول المدّعي رفع الشكّ بقسمه. فالرسول الأكرم(ص) وسائر المعصومين(ع)، وهم المطّلعون على سرّ تلك


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص112 ـ 113؛ والبرهان في علوم القرآن، ج1، ص173.

تسنيم، جلد 2

97

الحروف، لا حاجة لهم بالقسم لعدم شكّهم في صحّة الدعوى الإلهيّة، والآخرون المحتاجون للقسم فإنّهم نتيجة لشكّهم، لا يهتدون إلى مدلوله.

الرأي السابع

وفقاً للحساب الأبجديّ[1] فإنّ هذه الحروف تمثّل إشارات لفترة بقاء الأقوام والأمم وآجالهم، ولآلاء الله وبلاياه[2]؛ فلقد جاء في بعض الأخبار أنّ «المص» ناظرة إلى انقراض الدولة الأمويّة. وهذا الرأي مستقى من بعض الأحاديث.

الجواب: لا يُعلَم اعتبار الأحاديث المؤيّدة لهذا القول[3]. وعلى الرغم من أنّ قيمة علم الحروف وخواصّ كلّ حرف منها، كما هو الحال في علم الأعداد والآثار الخاصّة لكلّ عدد، هي محطّ قبول مدّعيه ولا دليل على بطلانه، لكنّ المطروح هنا هو: هل توجد في مدلول الحروف


[1]. في الحساب «الأبجديّ» نظّمت حروف الألفباء العربيّة وفقاً لترتيب خاصّ متمثّل بالكلمات التالية: اَبجَد، هَوَّز، حُطّي، كَلِمَن، سَعفَص، قَرَشَت، ثَخِذ، ضَظِغ، وكلّ واحد من هذه الحروف له قيمة عدديّة ورياضيّة خاصّة هي كما يلي: أ=1، ب=2، ج=3، د=4، ﻫ=5، و=6، ز=7، ح=8 ، ط=9، ي=10، ك=20، ل=30، م=40، ن=50، س=60، ع=70، ف=80 ، ص=90، ق=100، ر=200، ش=300، ت=400، ث=500، خ=600، ذ=700، ض=800 ، ظ=900، غ=1000.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص113؛ التفسير الكبير، مج1، ج2، ص7.

[3]. تعرّض بعض المفسّرين، أمثال الطبريّ (في جامع البيان، ج1، ص68) وابن كثير (في تفسير القرآن العظيم، ج1، ص40) لمناقشة بعض تلك الأحاديث واعتبروها ضعيفة لا قيمة لها.

تسنيم، جلد 2

98

المقطّعة إشارة إلى تحديد بعض الأقوام، والتهديد بزوال وانقراض بعض الأمم؟ فالظاهر إذن أنّه مدّعى لا دليل عليه.

الرأي الثامن

وفقاً لحساب الجمل، وهو نوع من أنواع الحساب، فإنّ في هذه الحروف إشارات إلى مدّة بقاء الأمّة الإسلاميّة[1].

الجواب: هذا الوجه أيضاً هو احتمال صرف، وهو لا يفتقر إلى الدليل المعتبر عليه فحسب، بل هو غير منسجم مع القرآن الكريم أيضاً، فالقرآن يعلن بصراحة: انّه ما من فرد يعلم أجله المقدّر، وما من أمّة تعلمه: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾[2]. والمعصومون(ع) فقط هم المطّلعون، من خلال الإخبار الإلهيّ، على زمان رحيلهم، لكنّه ليس للآخرين مثل هذا العلم. بناءً على هذا، لا يمكن القبول بأنّ الله يقول، من ناحية، أن لا أحد على الإطلاق يعلم بزمان موته، ثمّ ينزّل، من ناحية أخرى، حروفاً يُعلَم زمان انقراض الأمّة الإسلاميّة بتجميعها مع بعض. طائفة من المفسّرين اعتبروا هذا الرأي أسخف الآراء حول الحروف المقطّعة[3]. وكما قد مرّ في الردّ على الرأي السابع، فمع أنّ حساب الجمّل مقبول لدى مدّعيه، إلاّ أنّ إشارة المدلول الجمليّ للحروف المقطّعة إلى آجال الأمم يتطلّب دليلاً، فأين هو الدليل؟


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص113؛ والميزان، ج18، ص7.

[2]. سورة لقمان، الآية 34.

[3]. المنار، ج1، ص122.

تسنيم، جلد 2

99

الرأي التاسع

المراد من هذه الحروف هو حروف المعجم ذاتها وقد ذُكرت هنا كمثال ونموذج[1]، وسيأتي تفصيل ذلك في بيان الرأي الحادي عشر.

الجواب: حتّى لو اعتبرنا أنّ الحروف المقطّعة أمثلة ونماذج من حروف المعجم، فإنّه لا يمكن قبول هذا الوجه باعتباره تفسيراً لها، إلاّ أن يُقال: لم يُرَد أيّ معنى من هذه الحروف المتنوّعة، البسيطة والمركّبة، ولم تُنزّل إلاّ للإشارة إلى تركيب القرآن من سنخ هذه الحروف، وفي الحالة هذه لن يكون لها تفسير.

الرأي العاشر

جاءت الحروف المقطّعة لتنبيه الكفّار وإسكاتهم[2]، فقد كانوا يتواصَون بأن لا يسمعوا لقرآن النبيّ(ص)، وأن يحُولوا دون الاستماع إليه بإثارة الجلبة والضوضاء: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لِهٰذَا ٱلقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ﴾[3]. فكانوا يقومون بأعمال كالتصفير والتصفيق واللغط من أجل صرف النبيّ(ص) عن تلاوة القرآن أو دفعه للوقوع في الخطأ. لأجل ذلك أنزل تعالى هذه الحروف في أوائل بعض السور حتّى إذا سمعها المشركون ـ حيث لا هي نظم، ولا نثر، ولا سابقة لها ـ اُعجِبوا بها، فسكتوا، فأنصتوا.

توضيح ذلك؛ طبقاً لهذا الرأي ليست الحروف المقطّعة اسما (لا


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص113؛ وجامع البيان ج1، ص115.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص113.

[3]. سورة فصلت، الآية 26.

تسنيم، جلد 2

100

هي اسم أعظم أو عظيم لله، ولا هي اسم للقرآن، أو السورة، أو النبيّ(ص)) بل هي حروف نظير حروف التنبيه. غير أنّ «ألا» و«ها» هي حروف تنبيه شائعة، بينما الحروف المقطّعة هي حروف تنبيه غير شائعة، وإنّ ما يمتاز القرآن الكريم به على لغة العرب هو ابتكاراته في جميع الميادين، ومن جملتها الميادين الأدبيّة؛ كما يقول الفخر الرازيّ في ذيل الآية الشريفة: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَىٰ ٱلتَّهْلُكَةِ﴾[1]، في معرض ردّه على شبهة الأدباء واللغويّين القائلين: إنّ وزن «تَفْعُلَة» لم يرد في المصادر الثلاثيّة المجرّدة:

إنّي لأتعجّب كثيراً من تكلّفات هؤلاء النحوييّن في أمثال هذه المواضع، وذلك أنّهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتّخذوه حجّة قويّة، فورود هذا اللفظ [تهلكة] في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة، أولى بأن يدلّ على صحّة هذه اللفظة واستقامتها[2].

مراد الفخر الرازيّ هو أنّ هذا الإشكال إنّما يراود من لم يثبت لديه كون القرآن وحياً، وأنّه كلام الله. أمّا الذي ثبت له إعجاز القرآن الكريم، فيرى أنّه أهمّ مصادر الأدب العربيّ. بناءً على هذا، فيما يختصّ بالحروف المقطّعة أيضاً، فبعد ثبوت إعجاز القرآن، لا ينبغي مقارنته بشعر الشعراء العرب، أو نثر حُداة إبلهم، ولا نستطيع القول إنّ تلك الحروف خارجة عن حروف التنبيه لعدم استعمال العرب لها.


[1]. سورة البقرة، الآية 195.

[2]. التفسير الكبير، مج3، ج5، ص147.

تسنيم، جلد 2

101

إنّ أصحاب هذا الرأي اختلفوا فقط في كون تلك الحروف هل هي لتنبيه النبيّ(ص) أم لتنبيه المشركين.

الجواب: هذا الوجه أيضاً هو أوّلاً: محض احتمال لا دليل على إثباته، وإن لم يتوفّر برهان على نفيه. وسيأتي في البحث الروائيّ أنّ ما يؤيّده من روايات فهي غير موثوق بها. ثانياً: لا مجال لقبول هذا الوجه بعنوان أنّه تفسير لتلك الحروف. ثالثاً: لو كانت الحروف المقطّعة للإسكات لاستلزم ذلك احتواء قديمات السور عليها، وخلوّ السور التي نزلت بعد الهجرة منها، والحال، كما أنّ بعض السور الأوائل خالية من هذه الحروف، فإنّ طائفة من سور ما بعد الهجرة مشتملة عليها، بل إنّ الحروف المذكورة قلّ وجودها في السور القديمة، وهي موجودة في السور المدنيّة أيضاً. رابعاً: لم يذكر التاريخ أنّ مشركي الحجاز تعجّبوا وسكتوا عند سماعهم هذه الحروف، وأقلعوا عمّا كانوا يقومون به أثناء التلاوة. خامساً: إنّهم لو كانوا سكتوا فعلاً عند سماعها، فما الذي دفعهم إلى السكوت عند سماعهم باقي الآيات؟! إذ لم يكن في سائر الآيات جديد، بل هي مشابهة لما سمعوه من قبل منها.

بالطبع، لو ثبت، طبقاً للشواهد المعتبرة، أنّ الحروف المقطّعة في نظر القرآن الكريم هي حروف تنبيه، وهي تستعمل بمعنى «ألا» ومثيلاتها، أو أنّ الأصل في جعلها كان لإسكات المخاطبين المعاندين، فلن يكون لها مدلول غير الهدف المشار إليه، وعندها ستكون محطّ قبول، ولن تحتاج إلى تفسير.

ملاحظة: إذا كان الغرض من تلك الحروف هو التنبيه، فستكون حتماً لتنبيه الآخرين، لا الرسول الأكرم(ص).

تسنيم، جلد 2

102

يقول بعض المفسّرين: لأنّ النبيّ الكريم(ص) كان مشتغلاً بالأمور الدنيويّة، فقد أنزل الله عليه تلك الحروف تنبيهاً له، وجلباً لاهتمامه إلى الوحي. لكنّ هذا الكلام عار عن الصحّة؛ فقلب النبيّ الأكرم(ص) كان متيّماً بحبّ الله عزّ وجلّ، وقد شرح الله تعالى صدره، ولم يكن ليغفل بتاتاً عن ذكر الله؛ إذ ما من شيء يُغفِل أولياء الله ـ وأكملهم الرسول(ص) ـ عن ذكره عزّ وجلّ: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ ٱللهِ﴾[1]. أمّا قول النبيّ(ص): «إنّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة»[2] فهو لتعليم الآخرين، لا من أجله هو(ص)، فهذا القلب المطهّر منزّه عن كلّ غين، وغبار، وغفلة، وذنب، ذلك أنّ آية التطهير الشريفة تنفي، وعلى نحو مطلق، كلّ رجس عن حيّز قلبه.

من ناحية أخرى، إذا كان الغرض من الحروف المقطّعة هو تنبيه النبيّ(ص)، فلا وجه لجعلها جزءاً من النصّ القرآنيّ، إلاّ أن تكون من نظائر كلمة «قُلْ» التي كما هي خطاب للنبيّ(ص)، فهي جزء من نصّ الصحيفة الدينيّة أيضاً.

الرأي الحادي عشر

كما تمّ بيانه في الرأي التاسع على نحو مجمل، فإنّ الله سبحانه وتعالى


[1]. سورة النور، الآية 37.

[2]. كشف الغمّة، ج2، ص254؛ وبحار الأنوار، ج25، ص204 (وجاء في المصدر الأخير بلفظة «ليغان» بدلاً من «ليران»).

تسنيم، جلد 2

103

تحدّى الناس بهذه الحروف[1]، وإنّ إتيانه بها في أوائل السور هو من باب تعداد وبيان حروف الهجاء، وذلك يعني أنّكم إن شككتم في إعجاز القرآن فأتوا بكتاب، أو عشر سور، أو حتّى سورة واحدة من مثله من نفس تلك الحروف التي صيغ القرآن منها. وعجزكم عن الإتيان بكتاب أو سورة ممّا يماثله، من جنس الحروف التي تتحاورون أنتم بها في كلامكم وخطابكم، وهي ذات الحروف التي يتألّف منها القرآن، لَدليل على إعجاز القرآن الكريم، واستناده إلى الله عزّ وجلّ. فمثلما أنّ أصناف المأكولات، والفاكهة، وكذلك الناس قد صُنِعوا من التراب، وليس غير الله من هو قادر على صنعهم منه، فإنّ آيات القرآن هي من تلكم الحروف، لكنّه لا أحد سوى الله يستطيع أن يصوغها بهذه الصورة.

ما يؤيّد هذا الوجه هو ـ كما جاء في بيان خواصّ الحروف المقطّعة ـ أنّ معظم السور التي ابتدأت بهذه الحروف تحدّثت طلائع آياتها عن عظمة القرآن وإعجازه، أو عن الوحي والرسالة؛ فأكثر الحواميم السبع تطرّقت إلى الحديث عن الوحي والقرآن، وهذا التناسب مدعاة لتقوية الرأي القائل بأنّ الغرض من الحروف المقطّعة هو التحدّي.

الجواب: بالرغم من أنّ هذا الوجه، كبعض الآراء الأخرى، من أنسب الوجوه المذكورة حول الحروف المقطّعة، وهو مقبول في الجملة، إلاّ أنّ الدليل المعتبر لا يدعمه.

في مثل تلك الوجوه، حيث لا دليل يقام على إثباتها، ولا برهان على نفيها، فإنّه يقال لتقريرها «استحسان»، ولنفيها «استبعاد». فمتوسِّطو الناس


[1]. راجع التبيان، ج1، ص48؛ وفي ظلال القرآن، ج1، ص38.

تسنيم، جلد 2

104

تتولّد عندهم الطمأنينة من تراكم الوجوه المستحسنة، ذلك أنّهم يخالون الظنون المتراكمة علماً، ويتركون التحقيق ظنّاً منهم بالحصول على العلم. إلاّ أنّ العلماء المحقّقين، الذين ينظرون إلى «وجوه الاستبعاد» جنباً إلى جنب مع «وجوه الاستحسان»، فتحدوهم رغبة أشدّ إلى التحقيق. والسرّ في تبيين الوجوه المستحسنة هو أن لا نكتفي بها وحدها في مراحل التحقيق.

فما قيل عن تناسب هذا الوجه مع أوائل آيات السور المبتدئة بالحروف المقطّعة صحيح؛ إذ، باستثناء سورة مريم، والعنكبوت، والروم، والقلم، تصَدّر الحديث عن الوحي والقرآن جميع السور المفتتحة بتلك الحروف. وحتّى تلك السور الأربع فقد تحدّثت أواسطها عن الوحي والقرآن، وإن لم تتعرّض صدورها لتلك العناوين.

تنويه: مع أنّ الناس كانوا يعلمون بأنّ القرآن جاء بالعربيّة، وإنّه مُكوّن من هذه الحروف، إلاّ أنّ ذكر هذه الحروف هو من لوازم التحدّي. فالله سبحانه يقول لهم: انّ النبيّ فرد واحد وقد أتى بكتاب مُعجِز مؤلّف من نفس هذه الحروف، وإنّكم لو استعنتم بالجنّ والإنس على أن تأتوا ولو بسورة واحدة من مثله لما استطعتم إلى ذلك سبيلاً.

استناداً إلى هذا الوجه لا يلزم أن تدلّ الحروف المقطّعة على مدلول خاصّ، لأنّ معناها لا يخرج عن: أنّ هذه المواد الخام هي ليست في عالم الغيب وبعيداً عن متناولكم، فإن كان القرآن كلام بشر فأتوا بمثله.

من جملة وجوه الاستحسان لهذا الرأي هو ما قيل: كما أنّ كلّ أسماء الله الحسنى تحوي واحداً أو أكثر من الحروف المقطّعة، فإنّه أيضاً ما من آية في القرآن تخلو من بعض تلك الحروف؛ أيّ، إنّ كلّ

تسنيم، جلد 2

105

آية إمّا أن تتشكّل من الحروف المقطّعة فقط، مثل: ﴿عَلَّمَ ٱلإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[1]، و﴿إِنَّ مَعَ ٱلعُسْرِ يُسْراً﴾[2]، و﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه﴾[3]، ... الخ، أو مركّبة من الحروف المقطّعة وغيرها، مثل: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلمُطَهَّرُونَ﴾[4] فالواو فيها ليست من جملة الحروف المقطّعة.

من هذا المنطلق، يمكن الحدس بأنّ تصدير بعض السور بالحروف الأربعة عشر المشار إليها هو لأنّ الحروف المقطّعة موجودة في كلّ آية من القرآن، وعلى هذا الأساس يكون التحدّي بذكر تلك الحروف أمراً في محلّه.

الرأي الثاني عشر

إنّ وجود الحروف المقطّعة في أوائل سور معيّنة يشير إلى غلبة هذه الحروف في كلمات تلك السورة[5] وهذه بحدّ ذاتها معجزة.

يعتقد أصحاب هذا القول أنّ النسبة المئويّة للحروف المقطّعة في متن السورة المبتدئة بها إلى سائر حروفها هي أكثر مقارنة بالسور الأخرى. فمثلاً، تكرّر حرف القاف في كلّ من سورتي «ق» و«حم عسق» 57 مرّة. وإذا ما أخذنا هذا العدد 57 بعين الاعتبار تكون النسبة المئويّة


[1]. سورة العلق، الآية 5.

[2]. سورة الشرح، الآية 6.

[3]. سورة الحاقّة، الآية 29.

[4]. سورة الواقعة، الآية 79.

[5]. راجع البرهان في علوم القرآن، ج1، ص169 ـ 170.

تسنيم، جلد 2

106

لعدد الحرف قاف إلى سائر حروف سورة ق مساوية ﻟ 782349‚3% وهي تفوق نسبته المئويّة في أيّ من السور القرآنيّة ما عدا سورة الشمس، والقيامة، والفلق.

مثال آخر: تُفتتَح سورة الأعراف بالحروف المقطّعة «المص»، حيث تشير الإحصاءات إلى أنّ حرف الألف تكرّر في هذه السورة 2529 مرّة، واللام 1530 مرّة، والميم 1164 مرّة، والصاد 97 مرّة؛ أيّ ما مجموعه 5320 مرّة، وإنّ النسبة المئويّة لهذا الرقم إلى سائر حروف نفس السورة هي 558‚37%. وإذا ما قارنّا هذه النسبة المئويّة لحروف «المص» مع نسبة نفس الحروف في ال 113 سورة الأخرى من القرآن، مع الأخذ بنظر الاعتبار مكيّها ومدنيّها وطويلها وقصيرها، لوجدنا أنّ «المص» تمتلك أعلى نسبة مئويّة في سورة الأعراف.

وعلى خلاف ما اشتُهِر عنهم، فأصحاب هذا الرأي لا يدّعون أنّ حرف القاف في سورة ق مثلاً يزيد على بقيّة حروف نفس السورة، أو أنّه يزيد على تعداد حرف القاف في سائر السور الأخرى. بل يقولون: إنّ «النسبة المئويّة» لحرف القاف إلى سائر حروف السورة تفوق نفس «النسبة المئويّة» في بقيّة السور. إذن من الممكن أن يكون عدد حرف القاف في سورة البقرة مثلاً أكثر منه في سورة ق، وهذا لا يتناقض مع مدّعاهم ولا ينقضه.

كذلك، فهم لا يدّعون أنّ حرف الألف في سورة الأعراف المباركة مثلاً أكثر من اللام، واللام أكثر من الميم، وهذا أكثر من الصاد، والأخير أكثر من سائر الحروف الأخرى.

تسنيم، جلد 2

107

الجواب: إذا تمّ إثبات هذا القول، كان من معاجز القرآن اللفظيّة؛ إذ لو اشتملت سورة كالبقرة، التي استمرّ نزولها مدّة 12 إلى 18 شهراً، على مثل هذا النسق، كان ذلك علامة على إعجازها؛ فمن المستحيل أن يقول بشر عاديّ مثل هذا الكلام. كما أنّ الإعجاز العدديّ للقرآن في سائر الموارد مذهل أيضاً؛ فكلمة «شهر» ـ على سبيل المثال ـ تكرّرت في القرآن الكريم 12 مرّة بعدد أشهر السنة، وكلمة «يوم» 365 مرّة بعدد أيّام السنة، وإنّ لفظتي «دنيا» و«آخرة» تكرّرتا بالتساوي كلّ واحدة منها 115 مرّة[1].

فإذا كان في هذا النسق العدديّ ـ في كتاب استغرق نزوله 23 سنة وامتلك مثل هذا النسق الرياضيّ ـ رسالة لنا ولو ظنّاً، فإنّه لا يعدم الفائدة.

لكنّ، لابدّ من القول، فيما يتعلّق بالتحليل الإحصائيّ للحروف المقطّعة، إنّه بالرغم من كونه مجهوداً خيّراً، إلاّ أنّه حتّى الآن ليس محطّ اعتماد بسبب وجود موارد النقض عليه. ومن أجل أن لا يكون قابلاً للنقض، فإنّ على المحقّقين في الحقل القرآنيّ أن يناقشوا هذه القضيّة بدقّة أكبر وهي: هل إنّ المدّعى المذكور قابل للتطبيق على صعيد مجاميع السور المتماثلة؛ كالسور الطوال، والمئين، والمفصّل، ... الخ فحسب، أم على مستوى جميع السور القرآنيّة؟

مهما كان، لم يتمّ في هذا الحقل لحدّ الآن تقديم رأي يعوّل عليه، ولا يقبل النقض، وإن كان من الممكن أن تكون الطمأنينة الحاصلة منه طمأنينة نفسيّة لا منطقيّة.


[1]. الإعجاز العدديّ للقرآن الكريم، ج1 إلى 3.

تسنيم، جلد 2

108

الرأي الثالث عشر

إنّّ الحروف المقطّعة هي بمثابة فواصل بين السور لتحديد انقضاء السورة السابقة وبداية السورة التالية[1].

الجواب: أوّلاً: تكفي الآية الكريمة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ لفصل السور عن بعضها؛ كما ورد في الخبر أنّ نزول البسملة في عصر نزول الوحي كان أمارة على انقضاء السورة السابقة وبدء نزول سورة جديدة: «وإنّما كان يُعرَف انقضاء السورة بنزول ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ابتداء للأخرى»[2]. ثانياً: لو كانت هذه الحروف فواصل، للزم أن تكون لجميع السور مثلها، إلاّ السورة الأولى، في حين أنّها لم تأت إلاّ في 29 سورة وحسب.

الرأي الرابع عشر

إنّ هذه الحروف هي بمثابة خلاصة وبلاغ مجمل لما جاء في السورة[3].

الجواب: في حالة كهذه ينبغي أن يكون لبقيّة السور مثل هذه العناوين، لأنّ كتاباً منسجماً كالقرآن لابدّ أن يكون منسجماً في هذا الجانب أيضاً؛ إذ يقول الله عزّ شأنه بخصوص تشابه جميع أجزاء القرآن: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ﴾[4].


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص8 .

[2]. تفسير العيّاشيّ، ج1، ص19؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص6.

[3]. راجع الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص152.

[4]. سورة الزمر، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

109

الرأي الخامس عشر

إنّ الحروف المقطّعة مقدّمة للسور، ومفتاح لها[1]. وأصحاب هذا القول يستندون في مدّعاهم إلى بعض الروايات التي سنذكر سندها في البحث الروائيّ. كما قال البعض: لا دور إطلاقاً للحروف المقطّعة سوى افتتاح السور[2].

الجواب: من لوازم هذا الرأي هو احتواء كلّ السور على مثل هذه المقدّمات أو المفاتيح، في حين أنّ 85 سورة من القرآن محرومة منها. كذلك، بالنظر إلى كون هذه الحروف مجهولة فإنّه يستلزم هذا القول دخول حوالي خُمْس سور القرآن في دائرة الإبهام والمجهوليّة؛ ذلك أنّ هذه الحروف تفتتح حوالي خُمس سور القرآن، ولم يُعرَف معناها الدقيق لحدّ الآن، فإن كان مفتاح كنز غير بيّن، فإنّه يصبح الكنز نفسه مبهماً أيضاً، إذ من غير المستطاع الولوج من باب موصد.

الرأي السادس عشر

في مقابل الآراء القيّمة لأولئك القائلين بأنّ الحروف المقطّعة ناظرة إلى أسماء الله العظيمة والعظمى، أو إنّ الاسم الإلهيّ الأعظم يتشكّل من تركيبها مع بعض، يقول بعض المستشرقين: هذه الحروف تشير إلى أسماء الأشخاص الذين كانت بحوزتهم نسخ من المصحف الشريف؛ فمثلاً تشير السين إلى اسم «سعد بن أبي وقّاص»، والميم إلى «المغيرة


[1]. جامع البيان، ج1، ص112.

[2]. الحروف المقطّعة في القرآن الكريم، ص81 .

تسنيم، جلد 2

110

بن شعبة»، والنون إلى «عثمان بن عفّان»، والهاء إلى «أبي هريرة»[1]، و«طه» إلى «طلحة»، و«حم» والنون إلى «عبد الرحمن»، ممن كان لهم دور أيضاً في جمع القرآن!

الجواب: إنّ هذا الكلام عارٍ عن الأساس والصحّة وذلك للأسباب التالية: أوّلاً: إنّه مبنيّ على أساس باطل وهو أنّ هذه الحروف لا تدخل ضمن الوحي وكلام الله عزّ وجلّ، وهي كلمات اُضيفت إلى النصّ القرآنيّ، وهذا مخالف لإجماع المسلمين المعتقدين بأنّ القرآن الذي بين ظهرانينا الآن هو ـ من ناحية اللفظ والمعنى ـ ذاته الذي نزل على قلب النبيّ(ص) من دون أدنى نقصان. ثانياً: لقد دوّن التاريخ ونقلت أحاديث متعدّدة أنّ النبيّ الأكرم(ص) كان قد قرأ تلك الحروف أيضاً[2]. ثالثاً: لم يكن المذكورون هم كُتّاب الوحي، ولا أصحاب نسخ القرآن الأصليّة، فالقرآن الكريم، الذي نُقِل متواتراً عن لسان النبيّ الأكرم(ص)، كان محفوظاً في بيته(ص) وعند الكثير من الصحابة.

إنّ حديث «الثقلين»، الذي يعُدّ القرآن الكريم والعترة الطاهرين(ع) مرجعاً للمسلمين، وكذا روايات «العرض على الكتاب»، التي وردت عن نبيّ الإسلام(ص)، والتي تَعتبِر صحّة أيّ حديث (سواء ما تعارض منه أو لم يتعارض) رهناً بانسجامه مع القرآن الكريم، تدلّ على أنّ جمع القرآن كان متحقّقاً في عصر النبيّ(ص)، ولم يُترَك سوراً مبعثرة على خشب، أو جلد، أو قرطاس. فلو لم يكن القرآن الكريم إلاّ بضع نسخ موجودة عند


[1]. مباحث في علوم القرآن، ص241 ـ 242.

[2]. تاريخ اليعقوبيّ، ج1، ص410؛ والبرهان في تفسير القرآن، ج1، ص126.

تسنيم، جلد 2

111

عدد من الصحابة ليس غير، لما أمكن جعله المرجع العام لهداية الأمّة، وميزاناً لمقارنة الأحاديث به، وعرضها عليه.

رابعاً: لو كانت تلك الحروف تشير إلى أصحاب نسخ القرآن لكان لزاماً أن تُكتَب ـ كما هو الحال مع سائر علامات الاختصار ـ في صدر النسخة أو في ظهر المجلّد، لا بعد الآية ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، بينما جاءت الحروف المقطّعة بعد البسملة. خامساً: أصحاب هذا القول لم يقدّموا هذا التبرير إلاّ لقسم من الحروف المقطّعة لا لجميعها.

هذا الرأي هو الاحتمال الأدنى من حيث سخافته من بين ما ذُكر في تفسير الحروف المقطّعة، كما أنّ رأي أولئك الذين يحاولون تأليف الاسم الإلهيّ الأعظم من دمج هذه الحروف يعتبر الاحتمال الأفضل، وإنْ احتاج إلى دليل يثبته. فانظر الفارق بين الاثنين.

الرأي السابع عشر

يُحتمَل أن تكون هذه الحروف مشيرة ـ بشكل أو بآخر ـ إلى عدد آيات السور.

الجواب: هذا الوجه هو من وجوه الاستحسان أيضاً، وهو بحاجة إلى دليل يدلّ عليه. وحيث إنّ 85 سورة من القرآن لا توجد فيها الحروف المقطّعة، فإنّ قبول هذا القول أمر صعب.

الرأي الثامن عشر

نُقل عن أبي بكر التبريزيّ (ما مضمونه) أنّه: لمّا كان اللّه تعالى

تسنيم، جلد 2

112

يعلم بأنّ طائفة من هذه الأمّة ستقول بقِدَم القرآن، فقد ذكر هذه الحروف في أوائل بعض السور ليعلم الناس أنّ القرآن مؤلّف من نفس هذه الحروف الحادثة، فيجب أن لا يكون قديماً؛ فإن كان هناك من يقول بقدم القرآن، فلابدّ أيضاً أن يقول بقدم هذه الحروف، ولمّا لم يوجد من يقول بقدم هذه الحروف، فلا ينبغي أيضاً أن يقول أحد بقدم القرآن[1].

الجواب: ليس لهذا الرأي كذلك أيّ برهان عقليّ، ولا دليل نقليّ. ناهيك عن أنّ القائلين بقدم القرآن يفتون بقدم حروفه أيضاً.

الرأي التاسع عشر

يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) في تفسيره للحروف المقطّعة:

ثمّ إنّك إن تدبّرت بعض التدبّر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها، مثل «الميمات»، و«الراءات»، و«الطواسين»، و«الحواميم»، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها و بين غيرها من السور. ويؤكّد ذلك ما في مُفتتَح أغلبها من تقارب الألفاظ؛ كما في مُفتتح «الحواميم» من قوله: ﴿تَنْزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللهِ﴾ أو ما هو في معناه، و ما في مُفتتَح «الراءات» من قوله: ﴿تِلْكَ ءَايَاتُ ٱلْكِتَابِ﴾ أو ما هو في معناه، و نظير ذلك واقع في مُفتتح


[1]. تفسير القرآن الكريم لصدرالمتألّهين، ج1، ص212؛ والتفسير الكبير، مج1، ج2، ص8 .

تسنيم، جلد 2

113

«الطواسين»، و ما في مُفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.

ويمكن أن يُحدَس من ذلك أنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحـة بهـا ارتبـاطاً خـاصّاً. ويؤيّـد ذلك مـا نجـد أنّ سـورة الأعراف المصدّرة ﺑ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين «الميمات» و«ص»، و كذا سورة الرعد المصدّرة ﺑ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين «الميمات» و«الراءات».

ويُستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله(ص) خفِيّة عنّا، لا سبيل لأفهامنا العاديّة إليها إلاّ بمقدار أن نستشعر أنّ بينها و بين المضامين المُودَعة في السور ارتباطاً خاصّاً[1].

الجواب: مع أنّ سعي الأستاذ العلاّمة(ره) على صعيد الوصول إلى تفسير الحروف المقطّعة سعي قيّم، وأنّ الشواهد تؤيّده أيضاً، لكنّ من أجل أن يصل رأيه إلى نصاب القبول يحتاج إلى المزيد من البحث والتدقيق، أي انّ إثبات التشابه الخاصّ بين السور المصدّرة بحروف مقطّعة معيّنة، والقول بنفي هذا التناسب الخاصّ في سائر السور يتطلّب سبراً، وتقسيماً، وتحليلاً شاملاً، فلا يُكتفَى بصِرف الادّعاء، ولا بملاحظة بعض الشواهد. ومن الواضح أنّ الأرضيّة ممهّدة للفحص والتقييم الكاملين، ولعلّ من الممكن الوصول إلى مثل هذه النتيجة من خلال التحقيق النهائيّ في هذه المسألة.


[1]. تفسير الميزان، ج18، ص8 ـ 9.

تسنيم، جلد 2

114

طبعاً يمكن ـ فقط ـ تصويب حدس الأستاذ العلاّمة(ره) في حالة العثور على وجوه مشتركة خاصّة بين السور المُصدَّرة بحروف مقطّعة معيّنة، أوّلاً، وعدم العثور على تلك الوجوه المشتركة في سائر السور، ثانياً، وعدم اشتراك باقي السور مع بعضها بوجوه أخرى، ثالثاً، وعلى فرض الاشتراك، أن يتمّ الحدس بأن لا يكون أيّ وجه مشترك موجباً أو مصحّحاً لتصدير سائر السور بحروف مقطّعة، بل أن تكون الوجوه الخاصّة التي تشترك بها السور المُصدَّرة بمثل هذه الحروف هي الموجبة والمرجّحة لتصدير تلك السور بها، رابعاً. ومن الجليّ أنّه لا يمكن تصويب حدس سماحة الأستاذ(ره) إلاّ بعد طيّ كلّ هذه المراحل الصعبة، أو بالأحرى المستصعبة؛ لكنّه لا يبدو للعيان حتّى الآن حدس أفضل من حدسه.

الرأي العشرون

كلّ ما بُيِّن لحدّ الآن من آراء ووجوه كان لغرض تفسير الحروف المقطّعة، وهي بأجمعها مبنيّة على أساس قابليّة تلك الحروف للتفسير. أمّا الرأي العشرون، وهو في مقابل كلّ ما سبقه، فيقول: إنّ الحروف المقطّعة رموز بين الله سبحانه وحبيبه المصطفى(ص) وليس المراد منها إفهام الآخرين[1]؛ كما يقول الآلوسيّ:

... هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال،


[1]. تفسير القرآن الكريم لصدر المتألّهين، ج6، ص17 ـ 18؛ والحكمة المتعالية، ج7، ص41 ـ 42؛ وتفسير روح البيان، ج1، ص28.

تسنيم، جلد 2

115

والذي يغلب على الظنّ أنّ تحقيق ذلك علم مستور، وسرّ محجوب عجزت العلماء ـ كما قال ابن عباس ـ عن إدراكه و...، وقال الشعبيّ: «سرّ اللّه تعالى فلا تطلبوه».

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه قول ولا قـلم للخلق يحكـيه‏

فلا يعرفه بعد رسول اللّه(ص) إلاّ الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة...[1].

يعتقد عدد من العظماء أنّ تلك الحروف رموز بين الله ورسوله وأوليائه(ع)، ولا سبيل للآخرين إلى نيلها، ولابدّ لهم من قبولها من باب الإيمان بالغيب.

إنّ كثيراً من الأحكام والتعاليم الدينيّة لا تعدو كونها رموزاً وأسراراً. ومثلما يدفعنا الله سبحانه وتعالى إلى القيام بأفعال نجهل رموزها وأسرارها، فهو يأمرنا بقول أقوال لا يتيسّر لنا فهم معانيها. فالأفعال الرمزيّة؛ كرمي الجمرات، والتعليق في الهدي (تعليق النعل في رقبة البعير أو الشاة المُعَدّين للهدي لتحقّق إحرام حجّ القِران)، والهرولة بين الصفا والمروة في الحجّ، والأقوال الرمزيّة؛ كالحروف القرآنيّة المقطّعة.

واستناداً إلى هذا الرأي، فإنّه لا يجب السعي لفهم مدلولات الحروف المقطّعة، هذا إذا كان في النيّة بلوغ ذلك من خلال العلوم الحصوليّة المتعارفة، لكنّ الباب للوصول إلى هذه الرموز والأسرار ليس موصداً بالكامل؛ إذ أنّ نيل تلك الأسرار عن طريق قرب الفرائض


[1]. راجع روح المعاني، ج1، ص167.

تسنيم، جلد 2

116

والنوافل[1] ميسور بالنسبة لأولياء الله؛ فابن العربيّ، العارف المشهور، ينضمّ أيضاً إلى طائفة المعتقدين برمزيّة وسرّية هذه الحروف.

الجواب: إنّ الأمر بالتدبّر في القرآن يشمل الحروف المقطّعة أيضاً، لأنّها ألفاظ مستعملة لا مهملة، وإنّ لبسيطها ومركّبها معنى قابلاً للفهم، ولابدّ للادّعاء بأنّها رموز أن يأتي بعد الإذعان بكونها ذوات معان. أمّا الادّعاء بانحصار فهم هذا المعنى بالرسول الأكرم، والأولياء المعصومين(ع)، وإن أمكن ثبوتاً، إلاّ أنّه محتاج للدليل إثباتاً؛ مثلما أنّ آيات أمثال: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ﴾[2]، التي يستفاد منها حرمة مسّ كتابة القرآن من غير طهارة، تشمل الحروف المقطّعة أيضاً، فلا يجوز مسّ هذه الحروف بل وحتّى تقبيلها بدون طهارة.

إنّ رمزيّة الحروف المقطّعة لا تتناسب مع ذكرها في القرآن (الذي هو كتاب الهداية، والبيان، والتبيان)، ولا مع الأمر بالتدبّر بكلّ آياته (على نحو العموم أو الإطلاق). فالقرآن الكريم يقول: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[3]، ولمّا كانت الحروف المقطّعة جزءاً من القرآن،


[1]. جاء في حديث قرب النوافل، المرويّ في الجوامع الروائيّة للفريقين، أنّ الإنسان يصير حبيب الله نتيجة للنوافل، وحينها يصبح الله عينه، وأذنه، و... الخ؛ أيّ إنّ الله يُؤمّن له كل المجاري الإدراكيّة والتحريكيّة: «قال رسول الله(: قال الله عزّ وجلّ: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي. وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إليّ ممّا أفترضت عليه. وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»، (الكافي، ج2، ص352).

[2]. سورة الواقعة، الآية 79.

[3]. سورة محمد(، الآية 24.

تسنيم، جلد 2

117

فالأمر بالتدبّر شامل لها أيضاً، وإنّ رمزيّتها لا تتلاءم مع التدبّر، أضف إلى ذلك أنّه لا يوجد دليل معتبر يدعم هذا الرأي كي يكون مدعاة لتخصيص العموم أو تقييد الإطلاق.

وفي الجمع بين كون الحروف المقطّعة رموزاً والأمر بالتدبّر بالقرآن، لا يعتقد الآلوسيّ أنّ الأمر بالتدبّر يشمل تلك الحروف[1]. وعدم الشمول هذا إمّا ﺑ «الانصراف»، أو ﺑ «الصَرْف» وبدليل آخر. وعلى الرغم من أنّ التدبّر قسمان: تسبيبيّ وبشكل مباشر؛ أيّ تارة يفهم الإنسان معنى الآية بنفسه بالتدبّر، وتارة يعلم أنّه إلى أيّ شخص عليه الرجوع من أجل فهم المراد منها والتدبّر فيها، كما لو علم أنّ عليه الرجوع إلى أهل البيت(ع) الذين هم أهل الذكر: ﴿فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[2]، لكنّه في حالة الحروف المقطّعة، وبناءً على كونها رمزيّة، فكلا الطريقين معدوم، وهذا يتنافى مع عموم أو إطلاق التدبّر في جميع القرآن.

تنويه: ليس مرادنا من هذا الجواب نفي وجود أيّ سرّ أو رمز بين الله سبحانه ورسوله الكريم(ص) أو سائر أوليائه؛ فالله عزّ وجلّ علّم الرسول الأكرم(ص) في المعراج اسراراً جمّة، وعلّم حضرته(ص) أميرَ المؤمنين(ص) علوماً مستفيضة ممّا كُتِم وسُتِر عن الباقين، حتّى قال(ص) لكُمَيل بن زياد النخَعِيّ: «ها إنّ هاهنا لَعلماً جمّاً [وأشار بيده إلى صدره] لو أصبتُ له حَمَلَةً»[3]؛ أي إنّ في صدري لعلوماً جمّة لا طاقة لأحد


[1]. راجع روح المعاني، ج1، ص167.

[2]. سورة النحل، الآية 43.

[3]. نهج البلاغة، الحكمة 147.

تسنيم، جلد 2

118

بحملها، بل المراد أنّ الحروف المقطّعة، التي هي جزء من القرآن، ليست من تلكم الرموز، أو أنّ رمزيّتها غير مؤكّدة.

لكنّ كبار أهل المعرفة، كالعارف المشهور ابن العربيّ، يستطيعون الاطّلاع على جانب من أسرار العالم، وكشف جملة من الأمور عن طريق الشهود، بيد أنّ كشفهم ليس حجّة على الباقين، ولا سبيل لنا لإثباته. فلو تمكّن أهل الشهود من برهنة مشهوداتهم وجعلها معقولة، لتمّ عرض براهينهم على ميزان الصحّة والسقم، أي العلوم المتعارفة أو الأصول المنتهية إليها، وإذا تمّ تأييدها فهي تصبح مقبولة.

خلاصة القول، إنّ من جملة أوصاف الكمال المنسوبة للقرآن هو وصفه بالنور، والموصوف بالنور ـ ما لم يُقَم الدليل على اختصاص نورانيّته ـ فكلّ أجزائه نور وإن تفاوتت مراتب المشاهدة. بناءً على ذلك، لابدّ أن يكون للآخرين نصيب ولو من بعض مراتب الفهم لمدلولات الحروف المقطّعة.

لطائف وإشارات

[1] اشتراك السور في عدد الحروف المقطّعة

إنّ الحدس الصائب أو المحتمل الإصابة لحضرة الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) سيكون قابلاً للسريان إلى اشتراك السور المصدّرة بالحروف المقطّعة في وجوه أخرى كالعدد؛ بمعنى: أنّ ثلاث سور تشترك في أنّ لها حرفاً مفرداً في أوّلها، وأربع سور في أنّ لها حرفين

تسنيم، جلد 2

119

من الحروف المقّطعة المشتركة، وثلاث سور لها ثلاثة حروف مشتركة، وسورتين لها أربعة حروف، وسورتين لها خمسة حروف. فلعلّ في الاشتراك في العدد رمزاً خاصّاً، وكذا الأمر في سائر جهات الاشتراك.

[2] السبيل لحلّ معضلتين

إنّ وضع الحروف مسألة اعتباريّة وهي تختلف باختلاف الجعل. وعلى هذا الأساس، من الممكن أن يُجعَل حرف في لغة قوم ليؤدّي معنى خاصّاً، ويكون ـ في الوقت ذاته ـ مهمَلاً غير مستعمَل في لغة قوم آخرين، كما هو الحال بالنسبة لأصل الكلمة أيضاً؛ فخواصّ الحروف والكلمات ليست أمراً تكوينيّاً كي تكون متماثلة عند كلّ الأقوام والملل، أوّلاً، ويكون لها ارتباط عينيّ مع الموجودات التكوينيّة الأرفع منها كالموجود المثاليّ، والعقليّ وما فوقها، ثانياً، لكن، كما أنّ معضلة اعتباريّة وضع الحرف، من ناحية، وإعضال ارتباط الاعتبار بالتكوين، من ناحية أخرى، مطروحان بالنسبة لأصل آيات القرآن الكريم، فهما مطروحان كذلك بالنسبة للحروف المقطّعة، ولحلّ هاتين المعضلتين يُطرَح جواب معقول ومقبول بالاستمداد من مباني العرفان، والاستعانة بمسألة خلافة الإنسان الكامل، وتنظيم ارتباط الموجود الاعتباريّ بالموجود الحقيقيّ ضمن الحيّز الوجوديّ لخليفة الله؛ أيّ، الإنسان الكامل الذي ظهر الفيض الإلهيّ الخاصّ في جميع مجاريه الإدراكيّة والتحريكيّة، وزهر الفوز الإلهيّ المميّز في كلّ شؤونه الوجوديّة جرّاء قرب النوافل والفرائض.

في هذا المشهد، تكلّم العرفاء، في المرحلة الأولى، والحكماء الذين

تسنيم، جلد 2

120

أداموا صبغة العرفاء في سيرتهم، أو بادروا إلى كتابة رسالة عرفانيّة في فترة خاصّة، في المرحلة الثانية، عن سرّ الحروف المقطّعة ورمزها، وجعلوا المحجوب المستور مشهوراً لبعض أصحاب السرّ. إنّ هذا الإنزال لِما وراء الحجاب إلى الخارج، وتنزيل السرّ المستور إلى مقام المشهور لا يتنافى مع الحكم الأزليّ؛ إذ، بالرغم من أنّ الحكم الأزليّ في ماء الورد والورد هو أنّ ماء الورد محجوب مستور، والورد شاهد مشهور:

حكمُ ماءِ الوردِ والوردِ قديماً في الأزلْ ذاكَ محجـوبٌ وذا مُشـتَهِـرٌ ولـم يــزلْ[1]

إلاّ أنّه مكتوب في هذا الأزل أن تكون بعض الأسرار المكتومة مشهورة، لكنّه ليس لأيّ أحد، بل للخواصّ الذين سلكوا سبيلاً مستورة ومصونة عن غبار الغيريّة، وطريقاً هي أقرب من حبل الوريد.

لم يَبُح عارفُ الحقّ بالســرِّ طوعـاً يا ترى من لبائعِ الراحِ للسرِّ أفشى؟[2]

إنّ ما أزال الحيرة، يفشي سرّ هذا السرّ المستور، وهو:

هاتِ يا ساقي الكأسَ فالحبُّ يُنبي: نحن مَنْ حديثَ الهوى لـراويهِ أفشى[3]

أيّ، ما من أجنبيّ تدخّل، ولا من غريب عرف السرّ أو نقله، كلّ ما في الأمر أنّ صاحب السرّ عمد إلى إفشائه بشكل خصوصيّ.


[1]. إشارة إلى البيت الفارسيّ لحافظ الشيرازيّ، «ديوان غزليّات حافظ»، ص217: در کار گلاب وگل حکم ازلی اين بود کاين شاهد بازاری وآن پرده نشين باشـد

[2]. إشارة إلى البيتين الفارسيّين لحافظ الشيرازيّ، «ديوان غزليّات حافظ»، ص328 (بالترتيب): سرّ خدا که عارف سالک به کس نگفت در حــيرتم که باده فروش از کجا شـنيد ســاقی بيــا که عشق ندا می کـند بلند کان کـس که گفت قصّه ما هم ز ما شـنيد

[3]. إشارة إلى البيتين الفارسيّين لحافظ الشيرازيّ، «ديوان غزليّات حافظ»، ص328 (بالترتيب): سرّ خدا که عارف سالک به کس نگفت در حــيرتم که باده فروش از کجا شـنيد ســاقی بيــا که عشق ندا می کـند بلند کان کـس که گفت قصّه ما هم ز ما شـنيد

تسنيم، جلد 2

121

بناءً على هذا، تكون فتوى العقل الحازم، واللبّ الجازم ـ بعد مشاهدة نموذج تنزّل أم الكتاب والكتاب المبين (الذي هو موجود عينيّ تكوينيّ) بكسوة آيات وسور بلغة عربيّة مُبِينة (وهي موجودات وضعيّة اعتباريّة) ـ هو عدم إبداء التعجّب أمام ادّعاءات بعض سَدَنة الأسرار، وأن لا يحلّ «الاستبعاد» محلّ «الاستحالة»، وأن لا يحتلّ «عدم الإدراك» مكان «إدراك العدم»، ولا يُترَك قول «لا أدري» في البحوث العرفانيّة التي هي فوق المسائل الدارجة والشائعة، وإلاّ فسيُحكم عليه في محكمة العرفان الأصيل بحكم أنّه قد «أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ»[1]، ومثل هذا الحكم على العقل في محكمة العشق لهو خُسران عظيم.

الآن، وقد كُبِحَت سَورَة استبعاد رأي أهل المعرفة، واُخمِدَت صَولة العقلاء وأرباب الفكر في ميدان محترفي الشهود، ومدّعي صعود قمم العرفان، فسنكتفي في الإشارة اللاحقة بنقل بعض كلمات طويلي الباع في هذه الحرفة، والسبّاقين على هذا الدرب، كي تنسجم رسالة «أصحاب البصر» وكلمات «أرباب النظر» في صحيفة واحدة، عند ذاك يتخلّص المتغذّون من المائدة القرآنيّة، والمُغْتَذون من المأدبة السماويّة ـ كلّ بحسب سعة واديه ـ من سراب الرمضاء، ويروُون ظمأهم بعذْب الماء، وتسيل أوعية السائلين عن المسائل الغيبيّة على قدر أوعيتهم: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾[2]. وهذه الإشارة هي كالتالي:


[1]. عن أمير المؤمنين(ص): «من ترك قول لا أدري اُصيبت مَقاتِله»، (نهج البلاغة، الحكمة 85).

[2]. سورة الرعد، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

122

[3] قول ابن العربيّ في الحروف المقطّعة

تعرّض محيي الدين بن العربيّ للبحث حول اﻟ 29 سورة التي يتصدّرها 14 من الحروف المقطّعة (إذا ما حذفت مكرّراتها) بشكل كلّي وجامع في مطلع كلّ من سورتَي البقرة وآل عمران، ولم يتطرّق في السور السبع والعشرين الأخرى إلى هذا البحث، إلاّ في مستهل سورة يٰس، وص، والقلم حيث أورد بحثاً مقتضباً فيما جاء في طليعتها. وفي ما يلي عصارة مباحثه الواردة في تلك السور الخمس:

أ. كانت الحروف أمّة من الأمم، وهم مخاطبون ومكلّفون، ولهم رسول من جنسهم، ولهم أسماء حيث وُجِدوا، ولكلّ عالَم رسول من جنسهم، ولهم شريعة يتعبّدون بها، وهم صنفان: لطيف وغير لطيف، والخطاب الوحيد الموجّه لهم هو الأمر، فلا نهي عندهم.

ب. للحروف مراتب ودرجات؛ بعضها عامّ، وبعضها خاصّ، وقسم منها هو خاصّ الخاصّ، وطائفة منها هي صفاءُ خلاصة خاصّ الخاصّ. أمّا الحروف التي في أوائل السور فهي من سنخ الخاصّ، وفوق العامّ.

ج. إنّ معرفة حقيقة أوائل السور، أي الحروف المقطّعة، هي من نصيب من كان له حظّ من خلقة الإنسان بصورة الرحمن، ومن خلقة آدم بالصورة الإلهيّة، وهو ذلك الواصل إلى مقام الخلافة.

د. هناك تسع وعشرون سورة مصدّرة بالحروف المقطّعة وهي كالمنازل التسعة والعشرين للقمر.

ﻫ . إنّ رقم الحروف المقطّعة بدون حذف المكرّر هو 78 وهذا الرقم هو عدد المراتب الكماليّة للإيمان، ولا يكمل إيمان امرئ إلاّ

تسنيم، جلد 2

123

بحيازة كلّ المراحل النيّف والسبعين. وإنْ فَهِم أحد حقيقة تلك الحروف من دون تكرار، لعَلِم بأنّ الله نبّه من خلال هذه الحروف إلى حقيقة الإيجاد، وفردانيّة القديم.

و. أوّل هذه الحروف في الكتابة هو الألف، وفي القراءة هي الهمزة، وآخرها النون. فالألف لوجود الذات الكاملة، إذ لا حاجة فيها إلى الحركة. والنون لوجود نصف العالم ونصف دائرة الوجود، التي نصفها محسوس ونصفها الآخر معقول، والنقطة تشير إلى نصفيّة الدائرة.

ز. أحياناً تتألّف الحروف المقطّعة من حرف واحد، وأحياناً أكثر حتّى تصل إلى خمسة أحرف. والحروف الخماسيّة بعضها متصلّ؛ مثل ﴿كهٰيٰعص﴾، وبعضها منفصل؛ ﮐ ﴿حٰم * عسق﴾. وعلم الحروف موجود فقط عند أولياء الله فهو مكشوف لهم، وقد سمّاه الحكيم الترمذيّ بعلم الأولياء... .

ح. الحروف المقطّعة أجساد وحُفّاظُها أرواح وملائكة خاصّون، وأيّ أثر يترتّب من كتابة أو تلفّظ هذه الحروف فهو يستند إلى هؤلاء الملائكة؛ فعندما يقول القارئ: ألف، لام، ميم، فإنّه يجيبه الملائكة الثلاثة: ماذا تقول؟ وعندما يقرأ القارئ ما بعد هذه الحروف، يقول الملائكة الثلاثة: لقد أَصَبْت... .

ط. ألف، من ﴿الم﴾ إشارة إلى التوحيد. فالألف بالقياس إلى سائر الحروف هو كالواحد بالقياس إلى مراتب العدد؛ فكما أنّ الواحد ليس بعدد، إلاّ أنّ العدد يظهر بسبب الواحد، فإنّ الألف، عند من شمّ نسيماً من الحقائق، ليس من الحروف، وإن كانت الحروف تظهر بواسطة

تسنيم، جلد 2

124

الألف، ويسمّيه عامّة الناس حرفاً. فعندما يقول المحقّق: الألف حرف، فإنّه يقول ذلك مجازاً في التعبير، لا حقيقة.

إنّ مقام الألف هو مقام الجمع، واسمه هو اسم الله، وهو يتمتّع بصفات القيّوميّة، وواجدٌ لكلّ مراتب الحروف. والميم إشارة إلى المَلِك والسلطان الذي لا يهلك قطّ. واللام، التي بين الألف والميم، هي للوساطة بين الذات والسلطنة الباقية.

تنويه: إنّ الأمور التسعة المذكورة هي بعض مباحث تفسير ابن العربيّ التي ذكرها في تفسير الآية الأولى من سورة البقرة[1].

ي. مجموع حروف التهجّي هو 29، منها 28 بسيطة وحرف مركّب وهو: لام ألف، وهذا الحرف المركّب إشارة إلى، وعبارة عن الحقّ والعبد... الاسم هو للباء، والجيم، والحاء، وحروف أخرى، لكنّ المعنى للألف؛ ذلك أنّ الألف صانع كلّ الحروف، وهو حاضر وظاهر فيها جميعاً، نظير الواحد بالنسبة لأرقام العدد[2].

[4] رأي ابن العربيّ في «يٰس» و«ص»

على الرغم من أنّ كلمة «يٰس»، وفقاً للمشهور بين المفسّرين، تعدّ من الحروف المقطّعة، إلاّ أنّها اعتُبرت في تفسير ابن العربيّ من قبيل المنادى المُرَخّم. من هنا فقد جاء في هذا التفسير ما يلي: يٰس نداء مرخّم، والمراد منه: يا سيّد، مثلما أنّ المراد من: يا أبا هر، هو: يا أبا


[1]. رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن لابن العربيّ، ج1، ص42 ـ 47.

[2]. رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن لابن العربيّ، ج1، ص408 ـ 409.

تسنيم، جلد 2

125

هريرة[1]. لذا فإنّ يٰس كلمة مؤلّفة من حروف متّصلة، لا إنّ حروفها منفصلة وليس لمجموعها عنوان كلمة.

فمن ناحية، يرى ابن العربيّ في مطلع سورة يٰس أنّ يٰس منادى مرخّم، ومن ناحية أخرى يعتبر في مطلع سورة البقرة أنّ مجموع السور المُصَدّرة بالحروف المقطّعة 29 رقماً، كما وضرب طس، ويس، وحم ( الحواميم السبع)، وطه مثلاً للسور المبتدئة بحرفين مقطّعين. بناءً على ذلك، فإنّ الجمع بين البيانين قابل للتأمّل، إذ يبدوان للوهلة الأولى أنّهما غير منسجمين.

في مستهلّ تفسير سورة ص يقول ابن العربيّ: صاد حرف من حروف الصدق، والصَّوْن والصورة. إذن فهو حرف شريف وعظيم[2]، وهذا التعبير لا يتنافى مع كون «ص» من الحروف المقطّعة، على خلاف ما مرّ في مطلع تفسير سورة يٰس؛ فلم يتمّ التصريح في سورة ص أنّ المراد من هذا الحرف شيء معيّن بالخصوص وحرف الصاد جزء من اسم ذلك الشيء.

وأمّا ما أورده في مستهلّ سورة القلم بخصوص النون[3] فقد ذكر مُجمَلَه في مطلع سورة البقرة[4]، وهو لا يتنافى مع كون النون من الحروف المقطّعة.


[1]. رحمة من الرحمن، ج3، ص461.

[2]. رحمة من الرحمن، ج3، ص501.

[3]. رحمة من الرحمن، ج4، ص363.

[4]. رحمة من الرحمن، ج1، ص43.

تسنيم، جلد 2

126

البحث الروائيّ

تُقسم الروايات الواردة في تفسير الحروف القرآنيّة المقطّعة إلى عدّة طوائف:

[1] الروايات التي تَعتبِر الحروف المقطّعة أجزاء من الاسم الإلهيّ الأعظم

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «﴿الم﴾ هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطّع في القرآن الذي يؤلّفه النبيّ(ص) والإمام، فإذا دعا به اُجيب»[1].

ـ قال: «﴿الر﴾ هو حرف من حروف الاسم الأعظم المنقطع في القرآن، فإذا ألّفه الرسول أو الإمام فدعا به اُجيب»[2].

ـ قال: «﴿طسم﴾ هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المرموز في القرآن»[3].

ـ عن أمير المؤمنين(ص)، و... «أنّ الحروف المقطّعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلاّ أنّا لا نعرف تأليفه منها»[4].

[2] الروايات التي تعتبر هذه الحروف ناظرة غالباً إلى أسماء الله، وإجمالاً إلى مظاهرها الخاصّة

ـ حدثنا جُوَيريَة عن سفيان بن السعيد الثوريّ، قال: قلت لجعفر بن


[1]. معاني الأخبار، ص23؛ والبرهان، ج1، ص125.

[2]. تفسير القمّي، ج1، ص309؛ والبرهان، ج4، ص6 (وقد جاءت في الأخير بلفظة «المقطّع» بدلاً من «المنقطع»).

[3]. تفسير القمّي، ج2، ص94؛ والبرهان، ج5، ص484.

[4]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص151.

تسنيم، جلد 2

127

محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع): يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿الم﴾، و﴿المص﴾، و﴿الر﴾، و﴿المر﴾، و﴿كهٰيٰعص﴾، و﴿طٰه﴾، و﴿طٰس﴾، و﴿طٰسم﴾، و﴿يٰس﴾، و﴿ص﴾، و﴿حٰم﴾، و﴿حٰم عسق﴾، و﴿ق﴾، و﴿ن﴾؟ قال(ص): «أمّا ﴿الم﴾ في أوّل البقرة فمعناه «أنا الله الملك»، وأمّا ﴿الم﴾ في أوّل آل عمران فمعناه «أنا الله المجيد»، و﴿المص﴾ فمعناه «أنا الله المقتدر الصادق»، و﴿الر﴾ فمعناه «أنا الله الرؤف»، و﴿المر﴾ فمعناه «أنا لله المحيي المميت الرازق»، و﴿كهيعص﴾ معناه «أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد»، وأمّا ﴿طٰه﴾ فاسم من أسماء النبيّ(ص) ومعناه «يا طالب الحقّ الهادي إليه ...»، وأمّا ﴿طس﴾ فمعناه «أنا الطالب السميع»، وأمّا ﴿طسم﴾ فمعناه «أنا الطالب السميع المُبدئ المعيد»، وأمّا ﴿يٰس﴾ فاسم من أسماء النبيّ(ص) ومعناه «يا أيّها السامع للوحي ...»، وأمّا ﴿ص﴾ فعين تنبع من تحت العرش وهي التي توضّأ منها النبيّ(ص) لمّا عُرِج به، و...، وأمّا ﴿حٰم﴾ فمعناه «الحميد المجيد»، وأمّا ﴿حٰم عسق﴾ فمعناه «الحليم المثيب العالم السميع القادر القويّ»، وأمّا ﴿ق﴾ فهو الجبل المحيط بالأرض، وخضرة السماء منه، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها، وأمّا ﴿ن﴾ فهو نهر في الجنّة ...». قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول الله بَيِّن لي أمر اللوح، والقلم، والمداد فضل بيان ... فقال: «يا ابن سعيد لولا أنّك أهل للجواب ما أجبتك. فنون مَلَك يؤدّي إلى القلم وهو مَلَك ...». ثمّ قال لي: «قُم يا سفيان فلا آمَنُ عليك»[1].


[1]. معاني الأخبار، ص22 ـ 23؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص373.

تسنيم، جلد 2

128

ـ قال الصادق(ص): «ثمّ الألف حرف من حروف قول الله دلّ بالألف على قولك «الله»، ودلّ باللام على قولك «الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين»، ودلّ بالميم على أنّه «المجيد المحمود في كلّ أفعاله»، وجعل هذا القول حجّة على اليهود؛ وذلك أنّ الله لمّا بعث موسى بن عمران ثمّ مَن بَعدَه من الأنبياء إلى بني إسرائيل لم يكن فيهم قوم إلاّ أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليؤمننّ بمحمّد العربيّ الأمّي المبعوث بمكّة الذي يهاجر إلى المدينة، يأتي بكتاب من الحروف المقطّعة افتتاح بعض سوره، يحفظه أمّته، فيقرأونه قياماً وقعوداً»[1].

ـ عن جعفر بن محمّد ‘ قال: «﴿المص﴾، فمعناه أنا الله المقتدر الصادق»[2].

ـ قال: قلت لجعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع): يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عزّ وجلّ﴿الر﴾ ...؟ قال(ص): «... فمعناه أنا الله الرؤف»[3].

ـ ابن بابَوَيه... في معنى ﴿الر﴾: قال الصادق(ص): «معناه أنا الله الرؤف»[4].

ـ قال: قلت لجعفر بن محمّد ... : يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿المر﴾؟

قال: «... ﴿المر﴾ فمعناه: أنا الله المحيي المميت الرازق»[5].


[1]. معاني الأخبار، ص25؛ والبرهان، ج1، ص127.

[2]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج3، ص133.

[3]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج4، ص6.

[4]. البرهان، ج4، ص74.

[5]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج4، ص242.

تسنيم، جلد 2

129

ـ عن سفيان بن السعيد الثوريّ، قال: قلت لجعفر بن محمّد بن عليّ ... (ع): يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عزّ وجلّ ﴿كهٰيٰعص﴾؟ قال: «... معناه: أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد»[1].

ـ رُوي عن أمير المؤمنين(ص) أنّه قال في دعائه: «أسألك يا ﴿كهٰٰيٰعص﴾»[2].

ـ عن النبيّ(ص): «وأسألك باسمك التامّ العامّ الكامل يا الله، وأسألك باسمك ﴿ص﴾، و﴿يٰس﴾، و﴿الصَّافَّاتِ﴾، و﴿حٰٰم * عسق﴾، و﴿كهٰيٰعص﴾ يا الله، وأسألك باسمك ﴿الم * الله لا إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّّ ٱلقَيُّومُ﴾ يا الله، ...»[3].

ـ قال: حضرتُ عند جعفر بن محمّد الباقر ‘، فدخل عليه رجل فسأله عن ﴿كهٰيٰعص﴾، فقال(ص): «كاف: كافٍ لشيعتنا، هاء: هادٍ لهم، ياء: وليٌّ لهم، عين: عالِمٌ بأهل طاعتنا، صاد: صادق لهم وعدهم حتّى يبلغ بهم المنزلة التي وعدها إيّاهم في بطن القرآن»[4].

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «هذه ﴿كهٰيٰعص﴾ أسماء الله مقطّعة. وأمّا قوله ﴿كهٰيٰعص﴾، قال: الله هو الكافي الهادي العالم الصادق ذو الأيادي العظام وهو قوله كما وصف نفسه تبارك وتعالى»[5].

ـ عن جعفر بن محمّد ‘ [في قول الله عزّ وجلّ ﴿طس﴾


[1]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج5، ص102.

[2]. مجمع البيان، ج5 ـ 6، ص775؛ وتفسير نور الثقلين، ج3، ص320.

[3]. البلد الأمين، ص418؛ وبحار الأنوار، ج90، ص262.

[4]. معاني الأخبار، ص28؛ والبرهان، ج5، ص102.

[5]. تفسير القمّي، ج2، ص22؛ والبرهان، ج5، ص103.

تسنيم، جلد 2

130

و﴿طسم﴾] قال: «... وأمّا ﴿طس﴾ فمعناه: أنا الطالب السميع، وأمّا ﴿طسم﴾ فمعناه: أنا الطالب السميع المُبدئ المعيد»[1].

ـ عن سفيان بن السعيد الثوريّ، قال: قلت لجعفر بن محمّد ‘ ...، يا ابن رسول الله(ص) ما معنى قول الله عزّ وجلّ ﴿حم﴾ و﴿ حم * عسق﴾؟ قال: «أمّا ﴿حم﴾ فمعناه: الحميد المجيد، وأمّا ﴿حم * عسق﴾ فمعناه: الحليم المُثيب العالم السميع القادر القويّ»[2].

[3] الروايات التي ترى أنّ بعض الحروف المقطّعة ناظر إلى إسم النبيّ الأكرم(

ـ [عن الصادق(ص) قال]: «﴿طٰه﴾ فاسم من أسماء النبيّ(ص)، ومعناه: يا طالب الحقّ الهادي إليه ...»[3].‏

ـ عن الكلبيّ، عن أبي عبد الله(ص)، قال: قال لي: «يا كلبيّ، كم لمحمّد(ص) من اسم في القرآن؟» فقلت: اسمان أو ثلاثة. فقال: «يا كلبيّ، له عشرة أسماء ... و﴿طٰه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾‏، و﴿يٰس * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ عَلىٰ‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، و﴿ن وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾، و...»[4].

ـ عن أبي عبد الله وأبي جعفر ‘، قالا: «كان رسول الله(ص) إذا صلّى


[1]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج5، ص484.

[2]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج7، ص7.

[3]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج5، ص154 ـ 155.

[4]. مختصر بصائر الدرجات، ص67؛ والبرهان، ج5، ص154.

تسنيم، جلد 2

131

قام على أصابع رجليه حتّى تورّمت، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿طٰه﴾ بلغة طيئ، يا محمّد! ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾ ...‏»[1].

ـ [عن الصادق(ص) قال له]: يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿يٰس﴾؟ قال: «... فاسم من أسماء النبيّ(ص)، ومعناه: يا أيّها السامع للوحي، ﴿وَٱلقُرْآنِ ٱلحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾»[2].

ـ عن أمير المؤمنين(ص)، وقد سأله بعض الزنادقة عن آي من القرآن، فكان فيما قال له(ص): «قوله ﴿يٰس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فسمّى الله النبيّ(ص) بهذا الاسم، حيث قال: ﴿يٰس * وَالْقُرْآن‏ ...﴾»[3].

ـ عن أبي جعفر(ص) قال: «إنّ لرسول الله(ص) اثني عشر اسماً. خمسة منها في القرآن: محمّد، وأحمد، وعبد الله، ويٰس، ونون»[4].

ـ عن مولانا زين العابدين(ص): «إلهي وسيّدي ... وخصصته [ محمّداً(ص)] بالكتاب المنزل عليه، والسبع المثاني الموحات [الموحاة] إليه، وأسميته القرآن، وأكنيته الفرقان العظيم، فقلت جلّ اسمك : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلعَظِيمَ﴾، وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته به من الأسماء: ﴿طٰه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾، وقلت عزّ قولك: ﴿يٰس * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ﴾، وقلت تقدّست أسماؤك: ﴿ص وٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلْذِّكْرِ﴾، وقلت عظمت آلاؤك: ﴿ق والقرآن


[1]. تفسير القمّي، ج2، ص32؛ والبرهان، ج5، ص155.

[2]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج6، ص380.

[3]. البرهان، ج6، ص380 ـ 381.

[4]. مجمع البيان، ج7 ـ 8 ، ص647؛ والبرهان، ج6، ص381.

تسنيم، جلد 2

132

المجيد﴾. فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته، وقرنت القرآن معه. فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مُرْدَف به إلاّ وهو اسمه وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به، وتكلّ عن علم ثنائك عليه. فقلت ... وقلت تباركت وتعاليت في عامّة ابتدائه: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ﴾، ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾، ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ﴾، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ﴾، و﴿الم * ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾. وفي أمثالها من السور والطواسين والحواميم في كلّ ذلك ثنّيت بالكتاب مع القسم الذي هو اسم من اختصصته لوحيك ...»[1].

ـ قال الصادق(ص): «﴿يٰس﴾ اسم رسول الله(ص)، والدليل عليه قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم‏ٍٍ﴾»[2].

ـ عن الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ(ع) في قوله عزّ وجلّ: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِلْ‏يَاسِينَ﴾، قال: «﴿يٰس﴾ محمّد(ص)، و نحن آل يٰس»[3].

ـ قال الرضا(ص) في الآيات الدالّة على الاصطفاء: «وأمّا الآية السابعة: فقول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ ٱللهََ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. فهل


[1]. إقبال الأعمال، ص593 ـ 594.

[2]. تفسير القميّ، ج2، ص186؛ والبرهان، ج6، ص381.

[3]. معاني الأخبار، ص122؛ والبرهان، ج6، ص448.

تسنيم، جلد 2

133

بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟» فقالوا: لا. فقال المأمون: هذا ممّا لا خلاف فيه أصلاً، وعليه إجماع الأمّة، فهل عندك في «الآل» شي‏ء أوضح من هذا في القرآن؟ فقال أبو الحسن: «نعم، أخبروني عن قول الله عزّ وجل: ﴿يٰس * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فمن عنى بقوله: ﴿يٰس﴾؟» قالت العلماء: ﴿يٰس﴾: محمّد(ص)، لم يشكّ فيه أحد. قال أبو الحسن(ص): «فإنّ الله عزّ وجلّ أعطى محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلاّ من عقله، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ لم يُسَلّم على أحد إلاّ على الأنبياء (صلوات الله عليهم)، فقال تبارك وتعالى: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ﴾، وقال: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِبْرَاهِيمَ﴾، وقال: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ مُوسَىٰ‏ وَهَارُونَ﴾، ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل إبراهيم، ولا قال: سلام على آل موسى وهارون، وقال عزّ وجلّ: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِلْ‏يَاسِينَ﴾‏َ يعني آل محمّد(ص)»[1].

ـ عن عليّ(ص)، قال: «إنّ رسول الله(ص) اسمه ياسين، و نحن الذين قال الله: ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِلْ‏يَاسِينَ﴾»[2].

ـ ﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِلْ‏يَاسِينَ﴾ قال: «يٰس محمّد، ونحن آل محمّد»[3].

ـ قوله: «﴿سَلامٌ عَلَىٰ‏ إِلْ‏يَاسِينَ﴾ لإنّ الله سمّى به النبيّ(ص) حيث قال: ﴿يٰس * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾، لعلمه بأنّهم يسقطون قول الله «سلام على آل محمّد»، كما أسقطوا غيره»[4].


[1]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص213 ـ 214؛ والبرهان، ج6، ص449 ـ 450.

[2]. تأويل الآيات الظاهرة، ص489؛ والبرهان، ج6، ص450.

[3]. نفس المصدرين السابقين.

[4]. الاحتجاج، ج1، ص597؛ والبرهان، ج6، ص450.

تسنيم، جلد 2

134

ـ عن أبي الحسن موسى(ص) ... فقال: «أمّا ﴿حٰم﴾ فهو محمّد(ص)، وهو في كتاب هود الذي أنزل عليه، وهو منقوص الحروف»[1].

[4] الروايات التي ترى إشارة الحروف المقطّعة إلى أمور غير أسماء الله

ـ عن سعد بن عبد الله القمّي... [في حديث له مع أبي محمّد الحسن بن‏ عليّ العسكريّ ‘]: فقال لي: «ما جاء بك يا سعد؟» فقلت: شوّقني أحمد بن إسحاق على لقاء مولانا. قال: «والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟». قلت: على حالها يا مولاي. قال: «فسل قرّة عيني عنها». وأومأ إلى الغلام. فقال لي الغلام: «سل عمّا بدا لك منها». [وذكر المسائل إلى أن قال:] قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن تأويل ﴿كهٰيٰعص﴾، قال: «هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها على محمّد(ص)، وذلك أنّ زكريّا(ص) سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل(ص) فعلّمه إيّاها. فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين^، سُرِّي عنه همّه وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين(ص) خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة. فقال ذات يوم: يا إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم(ع) تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصّته، وقال: ﴿كهٰيٰعص﴾؛ فالكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك العترة، والياء: يزيد (لعنه الله)، وهو ظالم الحسين(ص)، والعين: عطشه، و الصاد: صبره. فلما سمع بذلك فزع زكريّا(ص) ولم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيها الناس من


[1]. الكافي، ج1، ص479؛ والبرهان، ج7، ص157.

تسنيم، جلد 2

135

الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي، أتفجع خير خلقك بولده؟ إلهي، أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه‏؟ ...»[1].

ـ قال جعفر بن محمّد الصادق ‘: «﴿طٰه﴾ طهارة أهل بيت محمّد(ص)»، ثمّ: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾»[2].

ـ عن أبي جعفر(ص)، قال: «﴿حٰم﴾ حميم، وعين عذاب، وسين سنون كسنيّ يوسف(ص)، وقاف قذف وخسف‏ ومسخ يكون في آخر الزمان بالسفيانيّ وأصحابه، وناس من كلب ثلاثون ألف [ألف] يخرجون معه، وذلك حين يخرج القائم(ص) بمكّة، وهو مهديّ هذه الأمّة»[3].

[5] الروايات التي تعتبر بعض الحروف المقطّعة أسماً لموجود خاصّ وشريف

ـ عن الصادق(ص) [في معنى قوله ﴿ص﴾]، ... قال: «... ص فعين تنبع من تحت العرش، وهي التي توضّأ منها النبيّ(ص) لمّا عُرِج به، ويدخلها جبرئيل(ص) كلّ يوم دخلة فيغتمس فيها، ثمّ يخرج منها فينفض أجنحته، فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلاّ خلق الله تبارك وتعالى منها ملكاً يسبّح الله، ويقدّسه، ويكبّره، ويحمده إلى يوم القيامة»[4].


[1]. كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص133 ـ 136؛ والبرهان، ج5، ص102 ـ 103.

[2]. الكشف والبيان، ج6، ص236؛ والبرهان ج5، ص155.

[3]. تأويل الآيات الظاهرة، ص528؛ والبرهان، ج7، ص64 ـ 65.

[4]. معاني الأخبار، ص22؛ والبرهان، ج6، ص463 ـ 464.

تسنيم، جلد 2

136

ـ عن إسحق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر ‘ [وذكر صلاة النبيّ(ص) ليلة المعراج إلى أن قال:] قلت: جُعلت فداك، وما صاد الذي أمر أن يغسل منه؟ فقال: «عين تنفجر من ركن من أركان العرش، يقال له ماء الحياة، وهو ما قال الله عزّ وجلّ: ﴿ص وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ﴾ إنّما أمره أن يتوضّأ، ويقرأ، ويصلّي»[1].

ـ عن أبي عبد الله(ص) ... [وذكر حديث الإسراء إلى أن قال: «قال رسول الله(ص)]: «ثمّ أوحى الله إليّ: يا محمّد، اُدنُ من صاد، فاغسل مساجدك، و طهّرها، و صلّ لربّك. فدنا رسول الله(ص) من صاد، وهو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن»[2].

ـ عن يحيى بن ميسرة الخثعميّ، عن أبي جعفر(ص)، قال: سمعته يقول: «﴿حٰم عسق﴾ أعداد سنيّ القائم، و﴿ق﴾ جبل محيط بالدنيا من زمرّد أخضر، فخضرة السماء من ذلك الجبل، وعلم كلّ شي‏ء في ﴿عسق﴾»[3].

ـ عن سفيان بن السعيد الثوريّ، عن الصادق(ص): وسُئل عن معنى ﴿ق﴾ ...، فقال: «... ﴿ق﴾ فهو الجبل المحيط بالأرض، وخضرة السماء منه، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها»[4].

ـ [عن الصادق(ص) في تفسير الحروف المقطّعة في القرآن قال]: «وأمّا ﴿ن﴾ فهو نهر في الجنّة قال الله عزّ وجلّ: اجمُد، فجمد فصار مداداً. ثمّ


[1]. علل الشرائع، ج2، ص30؛ والبرهان، ج6، ص464.

[2]. الكافي، ج3، ص485؛ والبرهان، ج6، ص464.

[3]. تفسير القمّي، ج2، ص240؛ والبرهان، ج7، ص278.

[4]. معاني الأخبار، ص22 ـ 23؛ والبرهان، ج7، ص278.

تسنيم، جلد 2

137

قال عزّ وجلّ للقلم: اكتب، فسطّر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة»[1].

[6] الروايات التي ترى أنّ الحروف المقطّعة ناظرة إلى آجال الأمم

ـ عن محمّد بن قيس، قال: سمعت أبا جعفر(ص) يحدّث: «أنّ حَيِيّاً وأبا ياسر ابنَي أخطب، ونفراً من يهود أهل نجران، أتوا رسول الله(ص) فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أُنزل الله عليك ﴿الم﴾؟ قال: بلى. قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: نعم. قالوا: لقد بُعِثَت أنبياء قبلك، وما نعلم نبيّاً منهم أخبرنا مدّة ملكه، وما أجل أمّته غيرك! قال: فأقبل حييّ بن أخطب على أصحابه، فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. فعجبٌ ممّن يدخل في دين مدّة ملكه وأجل أمّته إحدى وسبعون سنة! قال: ثمّ أقبل على رسول الله(ص)، فقال له: يا محمّد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته. قال: ﴿المص﴾. قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستّون سنة! ثمّ قال لرسول الله(ص): فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته. قال(ص): ﴿الر﴾. قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان! ثمّ قال لرسول الله: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: ﴿المر﴾. قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان! ثمّ قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قالوا: قد التبس علينا أمرك، فما ندري ما أعطيت! ثمّ


[1]. معاني الأخبار، ص23؛ وتفسير نور الثقلين، ج5، ص388.

تسنيم، جلد 2

138

قاموا عنه. ثمّ قال أبو ياسر للحييّ أخيه: ما يدريك، لعلّ محمّداً قد جمع له هذا كلّه، و أكثر منه». قال: فذكر أبو جعفر(ص): «أنّ هذه الآيات أنزلت فيهم ﴿مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، قال: وهي تجري في وجه آخر، على غير تأويل حييّ وأبي ياسر وأصحابهما»[1].

ـ ... جاء رجل إلى أبي جعفر(ص) بمكّة فسأله عن مسائل، فأجابه فيها ... فقال له: فما ﴿المص﴾؟ ... فقال لي أبو جعفر(ص): «... أمسك، الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون» فقلت: فهذه مائة وإحدى وستّون. فقال: «يا لبيد، إذا دخلت سنة إحدى وستّين ومائة، سلب الله قوماً سلطانهم»[2].

ـ رحمة بن صدقة قال: أتى رجل من بني أميّة ـ وكان زنديقاً ـ جعفر بن محمّد ‘ فقال: قول الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿المص﴾ أيّ شي‏ء أراد بهذا، وأيّ شي‏ء فيه من الحلال والحرام، وأيّ شي‏ء فيه ممّا ينتفع به الناس؟ قال: فاغتاظ من ذلك جعفر بن محمّد ‘، فقال: «أمسك ويحك! الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، كم معك؟» فقال الرجل: مائة وإحدى وستّون. فقال له جعفر بن محمّد ‘: «إذا انقضت سنة إحدى وستّين ومائة انقضى ملك أصحابك». قال: فنظرنا، فلمّا انقضت سنة إحدى وستّين ومائة يوم عاشوراء دخل المسودّة الكوفة، وذهب ملكهم»[3].


[1]. معاني الأخبار، ص23 ـ 24؛ والبرهان، ج1، ص126.

[2]. المحاسن، ج1، ص421؛ والبرهان، ج3، ص134.

[3]. معاني الأخبار، ص28؛ والبرهان، ج3، ص134 ـ 135.

تسنيم، جلد 2

139

ـ قال أبو جعفر(ص): «يا أبا لبيد، إنّه يملك من ولد العباس اثنا عشر، يقتل بعد الثامن منهم أربعة، فتصيب أحدهم الذبحة فتذبحه. هم فئة قصيرة أعمارهم، قليلة مدّتهم، خبيثة سيرتهم، منهم الفُوَيسِق الملقّب بالهادي، والناطق، والغاوي.

يا أبا لبيد، إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلماً جمّاً. إنّ الله تبارك وتعالى أنزل ﴿الم * ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ﴾ فقام محمّد(ص) حتّى ظهر نوره، وثبتت كلمته، وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين». ثمّ قال: «وتبيانه في كتاب الله [في] الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، وليس من حروف مقطّعة حرف ينقضي أيّام [الأيّام] إلاّ وقائم من بني هاشم عند انقضائه». ثمّ قال: «الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فذلك مائة وإحدى وستّون. ثمّ كان بَدو خروج الحسين بن عليّ ‘ ﴿الم * اللهُ ...﴾، فلمّـا بلـغت مدّته قام قائم ولـد العبّاس عند ﴿المص﴾ ويقوم قائمـنا عند انقضائها ﺑ ﴿الر﴾. فافهم ذلك وعِه واكتمه»[1].

ـ عن العسكريّ(ص): «... وسيسفر لهم ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام ﴿الم﴾، و﴿طٰه﴾، والطواسين من السنين»[2].

[7] الروايات التي ترى أنّ في الحروف المقطّعة تحدّياً

ـ عن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر ...


[1]. تفسير العياشيّ، ج2، ص3؛ والبرهان، ج3، ص135 ـ 136.

[2]. بحار الأنوار، ج52، ص121.

تسنيم، جلد 2

140

(صلوات الله عليهم)، أنّه قال: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا سحر مبين تقوله. فقال الله: ﴿الم * ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ﴾؛ أي؛ يا محمّد، هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، هو الحروف المقطّعة، التي منها: ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى‏ٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ ...»[1].

ـ عن الرضا(ص): ... ثمّ قال(ص): «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب، ثمّ قال: ﴿قُلْ لَئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْآنِ ...﴾»[2].

تنويه: هذا الحديث ليس في الحروف المقطّعة، لكنّه يندرج ضمن بعض نصوص طائفة الروايات التي تشير إلى أنّ الحروف المقطّعة هي للتحدّي.

[8] الروايات التي تعتبر الحروف المقطّعة مفاتيح للسور

ـ عن الحسن بن عليّ بن محمّد ... (صلوات الله عليهم) أنّه قال: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تقوله، فقال الله: ﴿الم * ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ﴾؛ أي، ...‏ هو القرآن الذي افتتح ﺑ ﴿الم﴾ هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى‏ ...»[3].


[1]. معاني الأخبار، ص24؛ والبرهان، ج1، ص127.

[2]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص119؛ وبحار الأنوار، ج2، ص319.

[3]. معاني الأخبار، ص24 ـ 25؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص27 ـ 28.

تسنيم، جلد 2

141

ـ قال الصادق(ص): «... أنّ الله لمّا بعث موسى بن عمران ثمّ من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل لم يكن فيهم أحد إلاّ أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليُؤمننّ بمحمّد العربيّ الأمّي المبعوث بمكّة الذي يهاجر إلى المدينة، يأتي بكتاب من الحروف المقطّعة افتتاح بعض سوره ...»[1].

[9] الروايات التي تعتبر الحروف المقطّعة رمزاً بين الله ورسوله(

ـ قال جعفر الصادق(ص): «﴿الم﴾ رمز وإشارة بينه وبين حبيبه محمّد(ص) أراد لا يطلع عليه سواهما أخرجه بحروف بعدت عن درك الاعتبار وظهر السرّ بينهما لا غير»[2].

[10] الروايات التي تعتبر هذه الحروف «صفوة» القرآن

ـ عن أمير المؤمنين(ص) أنّه قال: «أنّ لكلّ كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي»[3].

إشارات

من المفيد في هذا السياق ذكر بضع نقاط حول الروايات الواردة في تفسير الحروف المقطّعة:


[1]. معاني الأخبار، ص25؛ والبرهان، ج1، ص127.

[2]. سعد السعود، ص217.

[3]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص112؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص30.

تسنيم، جلد 2

142

الأولى: على الرغم من التنوّع المشهود في روايات الحروف المقطّعة، إلاّ أنّها لا تخلو من تداخل؛ إذ، بصرف النظر عن مباحثها الخاصّة، تشاهَد فيها مباحث مشتركة أيضاً.

الثانية: الروايات المذكورة ـ وكما هو الحال في روايات أبواب الفقه المختلفة ممّا تستند إليه الفروع الفقهيّة ـ فيها الصحيح المعتبر، وكذا الفاقد لنصـاب الحجّية. لـذا فـمن أجـل دراستهـا لابـدّ ـ ابتداءً ـ من تشخيص الروايات الصحيحة منها، ليتمّ الاستناد إليها عند البحث في تفسير الحروف المقطّعة، والاحتراز من اللجوء إلى الإسرائيليّات التي قد تتخلّلها؛ كما فعل الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) حيث أكّد على أنّ الروايات الواردة في الحرف المقطّع «ق»، والتي تقول: «وأمّا ﴿ق﴾ فهو الجبل المحيط بالأرض، وخضرة السماء منه»، هي من الإسرائيليّات[1].

ومع أنّ سرّ إسرائيليّة هذه الروايات غير جليّ بما يكفي، إلاّ أنّ تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة وتشخيصها أمر ضروريّ في سبيل نيل المعارف التي قدّمها الثقل الأصغر، وهي العترة الطاهرة(ع)، إلى البشريّة؛ إذ لا يمكن حصول الاطمئنان بمضمون مثل هذه الأحاديث من دون التحقّق منها وتبيُّنِها من حيث السند والدلالة.

الثالثة: يجب أن تتمتّع الروايات التفسيريّة للحروف المقطّعة بالاعتبار اللازم المطلوب في الروايات الفقهيّة؛ بمعنى أن تكون إمّا صحيحة، أو موثّقة، أو حسنة.

لتوضيح ذلك نقول: إنّ الفقه هو من الأمور العمليّة والتعبّديّة، بينما


[1]. الميزان، ج18، ص15.

تسنيم، جلد 2

143

التفسير هو من الأمور العلميّة، والاختلاف بين الاثنين يكمن في أنّ التعبّد ﺑ «الظنّ» ممكن في المسائل العمليّة، في حين أنّه غير ممكن في المسائل العلميّة. فالظنّ هو الثمرة الوحيدة للخبر الواحد، ولمّا لم يكن التعبّد بالظنّ ممكناً إلاّ في مقام العمل، كان الخبر الواحد حجّة في الأمور العمليّة والتعبّديّة فحسب، أمّا في المسائل العلميّة فلا مجال للتعبّد استناداً إلى الخبر الواحد الظنّي، ذلك أنّ اليقين هو سيّد الموقف في المسائل العلميّة، وليس من موطئ قدم للتعبّد فيها، فإذا توفّرت مبادئ الفهم والاعتقاد بخصوص موضوع معيّن، فَهِمه الإنسان، وإلاّ لم يحصل اليقين به، إذ ليس العلم واليقين بِيَد الإنسان كي يبني على قبول وتصديق أو رفض وإنكار أمر ما، بل إنّ زمام يقين الإنسان بِيَد العلم والبرهان.

والذي يُقال في علم الأصول من أنّ: «الخبر الواحد معتبر في المسائل العمليّة وليس بحجّة في الأمور العلميّة» يشير إلى هذا المعنى، وهو في الحقيقة إرشاد إلى نفي الموضوع؛ بمعنى أنّه، في الأمور الاعتقاديّة لا يحصل العلم بفضل الخبر الواحد أساساً، لا أنّه يحصل العلم ولكنّه لا يكون حجّة. فليس للخبر غير القطعيّ ـ أصلاً ـ أن يترك أثراً يقينيّاً في ذهن الإنسان، اللهمّ إلاّ أن يكون نصّه برهانيّاً، أو يكون سنده قطعيّاً، أو محفوفاً بقرائن قطعيّة.

محصّلة ذلك، أنّنا، حتّى وإن تسامحنا ووضعنا تفسير الحروف المقطّعة ـ الذي هو من المسائل العلميّة والاعتقاديّة ـ في مستوى المسائل العمليّة والتعبّديّة، لَلَزِم ـ على أقلّ تقدير ـ مراعاة شروط اعتبار

تسنيم، جلد 2

144

الروايات الفقهيّة فيه؛ في حين أنّ بعض الأحاديث المفسّرة لهذه الحروف تفتقر إلى عنصر الاعتبار المشار إليه من حيث رجال سندها. بطبيعة الحال، إذا كان السند قطعيّاً، كالقرآن، فلابدّ أن يكون نصّها صريحاً، لا ظاهراً.

يُفهم ممّا تقدّم، أنّه إذا كان مضمون الدليل النقليّ برهانيّاً، أو كان سنده قطعيّاً كقطعيّة سند القرآن، وكانت دلالته صريحة أيضاً فإنّه يمكن حصول اليقين منه آنذاك.

الرابعة: إنّ حصول الاطمئنان النفسيّ، لا المنطقيّ، من الأحاديث المرسَلة والضعيفة ليس ضابطاً كليّاً، إذ أنّه قابل للاعتماد لمن حصل له. لكنّه، قد يحصل الاطمئنان المنطقيّ أحياناً بأنّ واحداً من مجموع عدد من الأحاديث الضعيفة يكون صادراً من المعصوم(ص). وهنا ـ بالطبع ـ لابدّ من الاعتماد على المضمون المشترك فيما بينها، لا الخصوصيّة الممتازة لبعضها.

الخامسة: بيّنت الروايات التفسيريّة المعتبرة معانيَ شتّى للحروف المقطّعة. ولمّا كانت من قبيل «المُثبِتات»؛ أي، إنّ كلّ واحدة منها تثبت أمراً، ولا ينفي أيّ منها مفاد الأخرى، فإنّ مضامينها قابلة للجمع، ولعلّها بأجمعها تكون صحيحة، ولا سبيل للتخصيص، أو التقييد والتصحيح فيها. فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك تفاسير مختلفة ﻟ ﴿الم﴾ في الروايات ـ كأن يقول بعضها أنّ كلّ حرف منها ناظر إلى اسم من أسماء الله تعالى (فالألف مثلاً رمز لله، واللام للعليم، والميم للحكيم أو الملك)، ويرى بعضها أنّ جميع حروفها الثلاثة تشكّل جزءاً من الاسم الأعظم، ويعتبرها

تسنيم، جلد 2

145

بعض آخر ناظرة إلى أعمار الأمم، وأخرى إلى التحدّي، ...الخ ـ فلا دليل إطلاقاً على بطلان مضامين تلك الروايات بشكل إجماليّ، إذ أنّها لا ينفي بعضها البعض كي تتناقض فيما بينها ويحصل اليقين من بطلان إحداها، بل من الممكن، من باب تعدّد المطلوب، أن تكون جميعها صحيحة إذا كانت تشير إلى تعدّد مراتب معاني الحروف المقطّعة.

إذن، عند التحقيق في الروايات المفسِّرة للحروف المقطّعة يجب القول: إنّه، بعد تحديد الروايات الضعيفة والإسرائيليّات ونبذها، فإنّ الباقي يمكن قبوله، وهو يُحمَل على تعدّد المراتب والمصاديق، لا على تعدّد المفاهيم.

السادسة: يُستشَفّ من الروايات المذكورة في تفسير الحرف المقطّع «ص» ـ والتي تقول: إنّ «ص» هو اسم عين تنبع من تحت عرش الله، وإنّ الرسول(ص) توضّأ منها عند المعراج وصلّى[1] ـ بضع نكات هي: أ: إنّ الجنّة موجودة في الوقت الحاضر. ب: الجنّة مرتبطة بعرش الله. ج: إنّ ماء نهر الجنّة هذا مدعاة للعروج. د: في الجنّة يكون الليل أيضاً نهاراً؛ إذ أنّ حضرته(ص) دخل الجنّة في «ليلة» المعراج في حين أنّه صلّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وعاد من المعراج في نفس الليلة.

هذه المعارف القيّمة التي نستقيها من أمثال هذه الروايات، هي مصداق لما قاله الإمام الرضا(ص): «علينا إلقاء الأصول إليكم وعليكم التفرُّع»[2]، ذلك أنّ إلقاء الأصول وتفريع الفروع لا ينحصر بالفقه الأصغر


[1]. راجع البحث الروائيّ، الطائفة الخامسة، الحديث الأوّل والثاني والثالث، ص 135ـ136.

[2]. كتاب السرائر، ج3، ص575؛ وبحار الأنوار، ج2، ص245.

تسنيم، جلد 2

146

(الفقه المتعارف)، بل يتعدّاه إلى الفقه الأكبر(المعارف القرآنيّة، والفلسفيّة، والعرفانيّة)، وأنّ الاجتهاد، والتفريع، وإرجاع الفرع إلى الأصل وارد في جميع الأحكام والحِكَم.

السابعة: نُقِلَت في ذيل الحرف المقطّع «ن» رواية تقول: «وأمّا ﴿ن﴾ فهو نهر في الجنّة قال الله عزّ وجلّ: اجمد، فجمد، فصار مداداً. ثمّ قال عزّ وجلّ للقلم: اكتب، فسطّر القلم في اللوح المحفوظ ...». ثمّ إنّ الراوي (سفيان الثوريّ) طلب من الإمام الصادق(ص) أن يبَيِّن له بشكل أوضح أمر اللوح والقلم والمداد. فقال(ص): «يا ابن سعيد لولا أنّك أهل للجواب ما أجبتك. فنون مَلَك يؤدّي إلى القلم وهو مَلَك ...». ثمّ قال لسفيان: «قُم يا سفيان فلا آمَنُ عليك»[1].

يُستشَفّ من كلام الإمام(ص) أنّ سفيان لم يكن لديه الاستعداد لسماع المزيد، وإلاّ فالأئمّة(ع) ـ الذين كانوا يُرَغِّبون الناس في تعلّم المعارف الدينيّة العميقة ـ كانوا، عندما يجدون ذوي الاستعداد، وأهل البصائر، فإنّهم يبيّنون لهم معارف أسمى بشكل مفصّل؛ كما في تفسير الآية الشريفة ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾[2] فقد روي عنهم(ع) بيانان متفاوتان في هذا المجال، حيث قال(ص) لعبد الله بن سنان في حقّ ذُريح المحاربيّ (الذي تلقّى من حضرته تفسيراً أدقّ): «ومن يحتمل ما يحتمل ذُريح؟»[3]. وكذا ما ورد حول كنية الرسول الأكرم(ص)


[1]. راجع البحث الروائيّ، الطائفة الثانية، الحديث الأوّل، ص127.

[2]. سورة الحج، الآية 29.

[3]. معاني الأخبار، ص340؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص84 .

تسنيم، جلد 2

147

بأنّه «أبو القاسم» حيث فُسّرت بعدّة تفاسير بما يتناسب ودرجات فهم المخاطبين المختلفين[1].

فالرواة من أمثال «ابن سنان»، و«ابن مسكان» رووا ما يتعلّق بأقسام الفقه المتعارف من أحاديث ولم يتطرّقوا لتلك التي تتناول المعارف العميقة التي اضطلع متخصّصون آخرون بمهمّة تدوينها وروايتها.


[1]. راجع معاني الأخبار، ص52.

تسنيم، جلد 2

148

تسنيم، جلد 2

149

ذَلِكَ الْكِتَبُ لارَيْبَ فِيهِ هُدًي لِلْمُتَّقِينَ (2)

خلاصة التفسير

القرآن الكريم هو من أكثر الكتب الإلهيّة جامعيّة، فهو مشتمل على كلّ معارف الكتب السماويّة السابقة له، ومهيمن عليها جميعاً، ولا يدنو الشكّ أو الريب من حريمه على الإطلاق؛ ذلك أنّ القرآن حقّ محض، ولا يتحقّق الشكّ إلاّ عندما يمتزج الحقّ مع الباطل، فيكون ظهور الباطل بمظهر الحقّ هو الباعث على الشكّ. أمّا شكّ المنافقين والكفّار في دعوى القرآن ودعوته فإنّ منشأه قلوبهم المريضة؛ بالضبط كما يشكّ الأعمى، نتيجة لعماه، في الشمس أثناء رابعة النهار.

إنّ القرآن الكريم هو سبب لهداية المتّقين، فعلى الرغم من أنّ الهداية التشريعيّة للقرآن (الإرشاد) هي عامّة، وغير مختصّة بطائفة دون أخرى، لكنّ هدايته التكوينيّة (القيادة) المطروحة في هذه الآية، والمتأخّرة عن الهداية التشريعيّة، خاصّة بالمتّقين ممّن حافظوا على سلامة فطرتهم، وانتفعوا من الهداية التشريعيّة للقرآن كذلك. فالذين دفنوا فطرتهم في غياهب حفر أهوائهم لا حظّ لهم من الهداية القرآنيّة.

تسنيم، جلد 2

150

التفسير

ذلك»: ذلك اسم إشارة للبعيد، والمشار إليه إمّا أن يكون محسوساً، فهو موجود في «مكان بعيد» أو «زمان بعيد»، وإمّا أن يكون غير محسوس ومجرّداً، فهو متحقّق في «مكانة عالية».

إنّ مقام القرآن منيع ليس لاشتماله على العلوم الغيبيّة، والمعارف الملكوتيّة، وأمثالها فحسب، بل إنّه، بلحاظ فنونه الأدبيّة المتنوّعة، يكون من الرفعة بمكان بحيث لم يتمكّن أحد، حتّى نفس الرسول الأكرم(ص)، من مجاراة القرآن في كلامه لا قبل البعثة ولا بعدها.

«الكتاب»: إنّ لفظة «الكتاب» وإن اُطلِقت على مطلق المكتوب، إلاّ أنّها استُعمِلت في القرآن الكريم تارة بمعنى الكتاب التكوينيّ، وأخرى بمعنى الكتاب التدوينيّ، وإنّ الاختلاف في مكتوب الكتاب، سواء التكوين أو التدوين، هو سبب في اختلاف مصداقه (وليس مفهومه)؛ فلفظة «الكتاب» في أقوال عظماء أهل المعرفة تطلق أحياناً على الإنسان الكامل، كما تطلق لفظة «الكلمة» على الإنسان أيضاً.

يرى الفيض الكاشاني( أنّ بيت الشعر المعروف لدى أهل المعرفة:

وأنت الكتاب المبين الذي بأحــرفه يظــهر المُضـمَرُ

هو لأمير المؤمنين(ص)، كما أنّه يسند الجملة المشهورة عندهم: «الصورة الإنسانيّة هي أكبر حجّة الله على خلقه وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده» إلى الإمام الصادق(ص)[1]، بيد أنّه لم يقدّم سنداً معتبراً لأيّ منهما.


[1]. تفسير الصافي، ج1، ص78.

تسنيم، جلد 2

151

على أيّ تقدير، فقد استعمل عنوان «الكتاب» في القرآن الكريم لبضعة مصاديق هي:

1. المكان الذي تدوَّن فيه عقائد الناس وأخلاقهم وأعمالهم: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً﴾[1]، و﴿فَأَمَّا مَنْ اُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾[2].

2. الحقيقة التي ثُبِّتت فيها شؤون نظام الوجود قاطبة: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[3].

3. مجموعة القوانين والأحكام التي هي حصيلة رسالات الأنبياء من أولي العزم(ع) والتي يُعبَّر عنها بالشريعة: ﴿فَبَعَثَ ٱللهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ ٱلكِتَابَ بٱلحَقِّ﴾[4]. أمّا تلك المجموعة التي تقتصر على التوصيات والمواعظ الأخلاقيّة فقد اُطلق عليها اسم «الزبور» لا الكتاب؛ كالذي أوتي داودَ(ص): ﴿وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾[5].

4. وثيقة النكاح، والتجارة، والمخطوطات البشريّة، فقد يقال لها أحياناً كتاباً إذا أتت مع القرينة كما في: ﴿وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتِّىٰ يَبْلُغَ ٱلكِتَابُ أَجَلَهُ﴾[6]، و﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ


[1]. سورة الإسراء، الآية 13.

[2]. سورة الانشقاق، الآية 7.

[3]. سورة يونس، الآية 61.

[4]. سورة البقرة، الآية 213.

[5]. سورة الإسراء، الآية 55.

[6]. سورة البقرة، الآية 235.

تسنيم، جلد 2

152

يَكْتُبُونَ ٱلكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ ...﴾[1]، و﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا ٱلمَلأَُ إِنِّي اُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾[2].

تنويه: إنّ مفردة «الكتاب» هي مصدر يطلَق على «المكتوب» من باب المبالغة، كما هو الحال بالنسبة لمفردات أخرى كالقرآن، والفرقان، والتبيان.

«رَيْب»: حالة من الاضطراب تحصل للإنسان نتيجة بعض الشكوك كالشكّ في وجود القيامة مثلاً. إنّ بعض الشكوك ليس ممّا يدعو إلى القلق والاضطراب كالشكّ في عدد جبال الأرض بالنسبة لعلماء الجيولوجيا (طبقات الأرض)، لكنّ البعض الآخر من الشكّ يورث الإنسان القلق والاضطراب. فالشكّ الخاصّ الذي يورث الاضطراب يسمّى «الريب».

كذلك يطلَق «الريب» على الشكّ الذي يكون مشفوعاً بسوء الظنّ والتهمة، ومثل هذا الشكّ يقع في مقابل الاطمئنان الذي يتأتّى من الإيمان.

«المُتَّقين»: أصل التقوى في اللغة هو «وَقوى»، وهي من مادّة «وَقْي» و«وِقَايَة» وهي بمعنى الاتّقاء والاحتماء. والمتّقي هو من يحمي نفسه في الحرب بارتداء الدرع وحمل التُرس وما شابه كي لا يناله الأذى من العدوّ. كما أنّ المتّقي، حسب الثقافة القرآنيّة، هو من يكسب لنفسه، بالإيمان والعمل الصالح، ملكة نفسانيّة تصونه من المكاره والمخاطر الداخليّة (هوى النفس) والخارجيّة (الشيطان). يقول القرطبيّ:


[1]. سورة البقرة، الآية 79.

[2]. سورة النمل، الآية 29.

تسنيم، جلد 2

153

التقوى؛ يقال: أصلها في اللغة قلّة الكلام، حكاه ابن فارس. قُلتُ: ومنه الحديث: «التقِيّ مُلْجَم»[1].

‏وعلى فرض صحّة كلام ابن فارس، فالحديث المذكور، وإن كان مناسباً لهذا المعنى، إلاّ أنّ الرسالة التي يقدّمها هي الأمر بالصمت وقول الصواب.

هذه الآية الكريمة، المتكوّنة من بضعة جُمَل[2]، تنطوي على ثلاثة خطابات عامّة ومعارف محوريّة هي:

1. إنّ القرآن الكريم هو المصداق الأوحد للكتاب الإلهيّ الجامع والكامل.

2. إنّه لا سبيل لأيّ ريب أو شكّ إلى حريم القرآن الطاهر.

3. إنّ هذا الكتاب الإلهيّ هو سبب هداية المتّقين.

في القرآن الكريم جاءت لفظة «الكتاب» من دون اسم إشارة حيناً: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ﴾[3]، ومع اسم إشارة للقريب حيناً آخر: ﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾[4]، ومع اسم إشارة للبعيد حيناً ثالثاً: ﴿ذَٰلِكَ ٱلكِتَابُ﴾[5]، و﴿تِلْكَ آيَاتُ ٱلكِتَابِ﴾[6].


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص157؛ وراجع بحار الأنوار، ج75، ص275.

[2]. في هذه الآية الشريفة محلّ«ذلك» من الإعراب هو مبتدأ و«الكتاب» خبر، وإنّ «لا ريب فيه» جملة مستقلّة أخرى، كما أنّ «هدى للمتّقين» أيضاً جملة بحدّ ذاتها فيها «هدى» خبر لمبتدأ محذوف.

[3]. سورة آل عمران، الآية 7.

[4]. سورة الأنعام، الآيتان 92 و155.

[5]. سورة البقرة، الآية 2.

[6]. سورة يوسف، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

154

إنّ السرّ في هذا الاختلاف في التعبير يرجع إلى أنّ القرآن الكريم حقيقة مبسوطة لها مراحل مرتبطة مع بعضها، حيث إنّ مرحلتها السفلى بيد الإنسان: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾[1]، ومرحلتها المتوسّطة بيد ملائكة الله الكرام البررة؛ ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾[2]، أمّا مرحلتها العليا فهي لدى الله سبحانه وتعالى؛ ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[3]، وجميع المراحل المذكورة مرتبطة ومتّصلة مع بعضها البعض وما من سبيل إلى الفصل بينها إطلاقاً.

القرآن الكريم هو ذلك الحبل الإلهيّ الذي دُعِي الناس إلى الاعتصام به: ﴿وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[4]، فأحد طرفيه هو عربيّ مبين وهو بين الناس، والطرف الآخر له مقام رفيع في أمّ الكتاب: «وإنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي وأهل بيتي. هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزّ وجلّ ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا. سبب منه بيد الله، وسبب بأيديكم ...»[5].

إنّ هذه المراحل المختلفة للقرآن الكريم من شأنها أن تصحِّح الاختلاف في الإشارة لهذه الحقيقة الواحدة. فظاهر القرآن القابل للقراءة والكتابة والذي هو في متناول البشر هو «المشار إليه» باسم الإشارة «هذا»، أمّا باطنه وأصله الذي هو لدى الله فهو «المشار إليه» ﺑ


[1]. سورة الإنسان، الآية 23.

[2]. سورة عبس، الآيتان 15 و16.

[3]. سورة الزخرف، الآيتان 3 و4.

[4]. سورة آل عمران، الآية 103.

[5]. الغيبة للنعمانيّ، ص42؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص102.

تسنيم، جلد 2

155

«ذلك»، ولمّا كان باطنه غير منفصل عن ظاهره، أضحى بالإمكان الإشارة بالبعيد لنفس هذا القرآن على اعتبار مقامه الرفيع. وبناءً على هذا، فإنّ الأوصاف والأحكام المذكورة للقرآن في هذه الآية الكريمة؛ كهداية المتّقين، وإن كانت مرتبطة بمرحلته السفلى، لكنّ ما يصحِّح الإشارة للقرآن باسم إشارة للبعيد هو ما تقدّم ذكره؛ بمعنى، أنّ المُشار إليه هو قرآن عالَم الشهادة هذا، إلاّ أنّ المجوِّز لاستعمال كلمة «ذلك» في الإشارة إليه هو مقامه المنيع، لا أنّ المشار إليه هو المقام الرفيع للقرآن فحسب.

القرآن الكريم، هو الكتاب الفرد والمُهَيمِن

في بعض المواضع من القرآن الكريم جاءت لفظة «الكتاب» أحياناً بدون «الألف واللام» كما في قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ ٱللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾[1]، كما جاءت مع «الألف واللام» في مواضع أخرى كالآية مورد البحث. وفي الموارد التي أتت فيها مع «ال» فإنّ احتمال أن تكون «ال» تفيد «حصر الحقيقة» وارد مضافاً إلى احتمال كونها للتعريف والعهد، نظير «ال» في جملة: هو الرجل؛ وهي تعني: أنّه الرجل الفرد الوحيد. وعلى أساس هذا الاحتمال، فإنّ جملة ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ﴾ هي بمعنى: أنّ حقيقة الكتاب منحصرة في القرآن الكريم، لأنّ القرآن هو الكتاب السماويّ الوحيد الذي انطوى على جميع معارف وأسرار الكتب السماويّة السابقة،


[1]. سورة المائدة، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

156

والصُحُف السالفة، وهو مهيمن عليها جميعاً: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾[1].

إنّ مفردة «الكتاب» في هذه الآية الكريمة تعني المجموعة التي تحوي الخطوط العامّة للمعارف، والشريعة وأحكامها وقوانينها (وهي العقائد، والأخلاق، والأحكام العمليّة) التي نزلت على النبيّ الأكرم(ص) عن طريق الوحي: ﴿فَبَعَثَ ٱللهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾[2].

ومثل هذا الكتاب لم يُنزّل إلاّ على أولي العزم الخمسة من الأنبياء (وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى(ع)، والرسول الأكرم(ص)): ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ﴾[3]، وإذا كان سياق الحديث في الآية الكريمة ﴿جَاؤُواْ بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ﴾[4] هو إعطاء الكتاب للأنبياء قاطبة، فهو باعتبار مجموعهم، لا جميعهم؛ بمعنى، أنّ من بين أنبياء الله نفراً ممّن أوتوا الكتاب، لا أنّ الكتاب اُنزل على كلّ واحد منهم.

كان سائر الأنبياء حفظة ومبلّغين لكتب الأنبياء من أولي العزم؛ نظير يحيى(ص) الذي كان مبلّغاً وحافظاً لكتاب عيسى(ص): ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ


[1]. سورة المائدة، الآية 48.

[2]. سورة البقرة، الآية 213.

[3]. سورة الشورى، الآية 13.

[4]. سورة آل عمران، الآية 184.

تسنيم، جلد 2

157

ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[1]، وإن كان البعض يخال أنّ النبيّ يحيى(ص) كان صاحب كتاب مستقلّ، إلاّ أنّ إثبات ذلك وفق رؤية القرآن الكريم أمر صعب.

المراد من نفي الريب عن القرآن

المراد من نفي الريب عن القرآن الكريم هو أنّه لا مجال لأدنى ريب في ظرف القرآن، ذلك أنّ المجال أمام الريب والشكّ لا يكون مفتوحاً إلاّ عندما يختلط الحقّ مع الباطل، فينشأ الشكّ من تلبُّس الباطل بلباس الحقّ، في حين أنّ القرآن حقّ محض: ﴿بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾[2]، ولا سبيل لأيّ باطل إلى حريمه الطاهر: ﴿لاَ يَأتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾[3]، ومن هذا المنطلق، فإنّه عندما تنكشف حقيقة القرآن يوم القيامة فلن يكون هناك باطل يشوبها ولا من أحد يشكّ فيها. إذن، فالمراد من نفي الريب في القرآن هو نفي موضوعه.

لقد أتى نفي الريب بالتعبير ذاته ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ بخصوص يوم القيامة كذلك: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[4]؛ لأنّ القيامة أيضاً، مثل القرآن، هي حقّ محض: ﴿ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ﴾[5]، والمحلّ الذي لا يوجد فيه إلاّ الحقّ لن يكون ظرفاً لشكّ وارتياب أيّ أحد حتّى


[1]. سورة مريم، الآية 12.

[2]. سورة السجدة، الآية 3.

[3]. سورة فصّلت، الآية 42.

[4]. سورة النساء، الآية 87 .

[5]. سورة النبأ، الآية 39.

تسنيم، جلد 2

158

المحشورين عُمياً في ذلك اليوم. إذن، فأرضيّة الريب وموضوعه منتفيان في القيامة أيضاً.

ارتياب مرضى القلوب في القرآن والقيامة

إنّنا نلاحظ ـ من ناحية ـ أنّ الله سبحانه وتعالى ينفي كلّ ريب عن ساحة القرآن والقيامة ، إلاّ أنّه تعالى ـ من ناحية أخرى ـ يشير إلى حصول الريب لدى الكفّار والمنافقين حول القرآن، وبخصوص القيامة في آيات من قبيل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾[1]، و﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ ٱلْبَعْثِ﴾[2]. وفي الحقيقة لا يوجد تناف بين هذه الآيات بتاتاً؛ ذلك أنّه في آيات «نفي الريب» يكون الكلام عن أنّه لا أرضيّة ولا موضوع للريب في القرآن الكريم والقيامة أساساً، بينما في آيات «إثبات الريب» ينسب سبحانه الريب إلى الكفّار من خلال عبارة ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾، وفي موضع آخر يعتبر أنّ منشأ هذا الريب هو قلوبهم المريضة؛ ﴿وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[3]. إذن، فالقرآن الكريم والقيامة ليسا مجالاً للشكّ، وما منشأ الشكّ إلاّ قلوب الكفّار والمنافقين المريضة وأعينهم العُمْي. وهذا مثل ما أنّه لا شكّ ولا ريب أبداً في وجود نور الشمس في رابعة النهار، لكنّ الأعمى يشكّ بوجوده نتيجة لعماه: ﴿بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ


[1]. سورة البقرة، الآية 23.

[2]. سورة الحج، الآية 5.

[3]. سورة التوبة، الآية 45.

تسنيم، جلد 2

159

مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾[1]. وعلى النقيض من هؤلاء، فالمؤمنون لا يساورهم أدنى شكّ حول تلكم الحقائق والمعارف: ﴿إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ﴾[2].

وبناءً على ذلك، فإنّ نفي الريب عن القرآن الكريم هو بمعنى أنّ هذا الكتاب لا هو ظرف للشكّ، ولا هو متعلّقه؛ فلا ريب إذن لا في دعواه، ولا في دعوته.

ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ «لا» في ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هي لنفي الصحّة، وقالوا في معنى الآية: «المراد أنّه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه»[3]. كما ذهب البعض الآخر إلى أنّ «لا» هنا ناهية[4] وهي من قبيل «لا» في الآية: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ﴾[5]. في هذه الحالة يكون المراد من ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هو أنّه لا ينبغي لأحد الشكّ في القرآن، وأمّا عصيان الكفّار والمنافقين فهو لا يتنافى مع النهي التشريعيّ.

ارتياب الكفّار والمنافقين في دعوى القرآن ودعوته

الكفّار والمنافقون مرتابون ليس فقط في «دعوى» القرآن بل في «دعوته»


[1]. سورة النمل، الآية 66.

[2]. سورة الحجرات، الآية 15.

[3]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص21.

[4]. ورد هذا المعنى في مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص118.

[5]. سورة البقرة، الآية 197.

تسنيم، جلد 2

160

أيضاً[1]. ففي الوقت الذي يبيّن الله سبحانه وتعالى شكّ هؤلاء في دعوى القرآن الكريم: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾[2]، ويردّ عليهم بأنّه لا شكّ أبداً في استناد القرآن إلى الله: ﴿تَنْزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾[3]، وأنّه كتاب غير قابل للافتراء: ﴿وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ ٱللهِ﴾[4]، وأيضاً فهو تعالى، ومن أجل إزالة شكّهم الذي هو في غير محلّه، يدعوهم أيضاً إلى المنازلة مع القرآن تحدّياً لهم: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ ٱللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَلَنْ تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[5].

كذلك، فيما يتّصل بريب المنافقين في «دعوة» القرآن، فكما قد بُيِّن أصل هذا الريب: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾[6]، فقد بُيِّنت كذلك بديهيّة حقّانيّة محور الدعوة، ونفي الريب عن المبدأ، والمعاد، والوحي، والرسالة: ﴿أَفِي ٱللهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ﴾[7]، ﴿رَبَّنَا


[1]. إنّ «دعوى» القرآن هي أنّه كلام الله المنزل على نبيّ الإسلام(، أمّا «دعوة» القرآن فهي دعوته الناس إلى قبول التوحيد، والرسالة، والمعاد، واللوازم الاعتقاديّة والعمليّة لهذه الأصول الثلاثة.

[2]. سورة ص، الآية 8 .

[3]. سورة السجدة، الآية 2.

[4]. سورة يونس، الآية 37.

[5]. سورة البقرة، الآيتان 23 و24.

[6]. سورة إبراهيم، الآية 9.

[7]. سورة إبراهيم، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

161

إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[1]، ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[2]. كما ويُقِيم القرآن ـ بدافع رفع شكّهم وهو غير مبرَّر ـ البرهان على التوحيد الربوبيّ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللهُ لَفَسَدَتَا﴾[3]، بل ويطالبهم بالبرهان على عقائدهم الباطلة كذلك: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[4].

تنويه: على الرغم من أنّ لعنوان «الريب» مصاديق شتّى (دعوى القرآن ودعوته)، وأنّ معظم مصاديقه الواردة في القرآن المجيد تتعلّق بالقيامة، بيد أنّه لمّا تعلّق النفي بالريب في مطلع سورة البقرة، وطُرِح الارتياب في صحّة دعوى القرآن وإعجازه في الأية 23 من السورة نفسها، ولم يُتطرَّق في هذه السورة إلى الريب في المعاد (وهو من موارد دعوة القرآن)، فيُستشَفّ من ذلك أنّ المصداق البارز (لا المنحصر) للريب في الآية موضع البحث هو الريب في دعوى القرآن الكريم وإعجازه.

سرّ تخصيص هداية القرآن بالمتّقين

بعد بيان الصفة السلبيّة للقرآن: ﴿لاَ رَيْبِ فِيهِ﴾ في هذه الآية الكريمة، تتمّ الإشارة إلى الصفة الإيجابيّة له: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، بالضبط كما في الآية الشريفة: ﴿الْحَمْدُ للهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ


[1]. سورة آل عمران، الآية 9.

[2]. سورة البقرة، الآية 2.

[3]. سورة الأنبياء، الآية 22.

[4]. سورة النمل، الآية 64.

تسنيم، جلد 2

162

عِوَجاً * قَيِّماً ...﴾[1]؛ فقد جاءت الصفة السلبيّة للقرآن أوّلاً: ﴿لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً﴾، متبوعة بصفته الإيجابيّة: ﴿قَيِّماً﴾.

إنّ السرّ في تقديم الصفات السلبيّة للقرآن على الإيجابيّة في هاتين الآيتين يرجع إلى أنّ صفتَي كون القرآن قيّماً وهادياً تتفرّعان من نفي الاعوجاج والريب عنه.

يقدّم الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم في عدّة آيات على أنّه كتاب هداية للناس كافّة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾[2]، و﴿وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ﴾[3]. إنّ عموم وإطلاق مثل هذه الآيات يفيدان عموميّة واستمراريّة الهداية القرآنيّة. أضف إلى ذلك أنّ السيرة العمليّة للرسول الأكرم(ص) كانت تصبّ في دعوة كافّة الناس إلى اعتناق الإسلام وقبوله. كما أنّ الذين آمنوا بالإسلام والنبيّ الكريم(ص) كانوا من طوائف مختلفة وقد حظي إسلامهم بقبول الرسول(ص). لكنّه من ناحية أخرى نجد أنّ هناك آيات كالآية مورد البحث، وعبارات من قبيل: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[4]، و﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾[5]، و﴿هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾[6]، تطرح


[1]. سورة الكهف، الآيتان، 1 و2.

[2]. سورة البقرة، الآية 185.

[3]. سورة المدّثّر، الآية 31.

[4]. سورة يونس، الآية 57.

[5]. سورة لقمان، الآية 3.

[6]. سورة النحل، الآية 89 .

تسنيم، جلد 2

163

هداية القرآن على أنّها مختصّة[1] بالمتّقين، والمؤمنين، والمحسنين، والمسلمين، مثيرة التساؤل التالي: ما السرّ في تخصيص الهداية والدعوة القرآنيّتين بالمؤمنين، والمتّقين، والمحسنين، والمسلمين مع وجود الأدلّة التي تثبت عموميّتهما؟

إجابةً على هذا التساؤل القرآنيّ طُرِحت ثلاثة آراء أدقّها ثالثها:

1. يقول بعض المفسّرين كأمين الإسلام الطبرسيّ:

أمّا تخصيص المتّقين بأنّ القرآن هدى لهم، وإن كان هدى لجميع الناس، فلأنّهم هم الذين انتفعوا به واهتدوا بهداه‏[2].‏

فالقرآن الكريم في مقام الهداية التشريعيّة ونشر الهدى لا يختصّ بمجموعة دون أخرى، إلاّ أنّ الناس في مقابل القرآن ينقسمون إلى فريقين: فبعضهم لا يسمعون هدى القرآن ودعوته: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ﴾[3]، وحتّى لو سمعوا فإنّهم لا يرتّبون أثراً: ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ﴾[4]. بل إنّ بعضهم الآخر يتجاوزون حدّ عدم الاستجابة إلى إنكار الوحي، والنبوّة، ورسالة البشر من الأساس: ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَنْ قَالُواْ أَبَعَثَ ٱللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾[5].

أمّا المتّقون والمحسنون فأولئك ينتفعون من الهداية القرآنيّة، والآيات التي تخصّص الهداية إنّما تشير إليهم؛ مثلما أنّ إنذار القرآن


[1]. يظهر أنّ اللام في الآيات الثلاث هي للاختصاص.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص118.

[3]. سورة الأعراف، الآية 198.

[4]. سورة فاطر، الآية 14.

[5]. سورة الإسراء، الآية 94.

تسنيم، جلد 2

164

الكريم والنبيّ الأكرم(ص) هو عامّ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾[1]، ﴿وَاُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلقُرْآنَ لاُِنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾[2]، لكنّ المستفيدين من هذا الإنذار هم فئة خاصّة: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً﴾[3]، و﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾[4]. بناءً على هذا، فبالرغم من أنّ دعوة القرآن وهدايته عامّتان، إلاّ أنّه لا يرشد إلاّ من صدّق به، ولم يجادل باطلاً عند ظهور الحقّ، بل اتّبع أحسن القول: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[5].

2. يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره): إنّ المراد من «الهدى» في هذه الآية الكريمة هو الهداية التكوينيّة التي أكرم الله تعالى المتّقين بها، لا الهداية التشريعيّة الابتدائيّة، وإنّ سرّ التخصيص المذكور هو أنّ المتّقين حافظوا على رأس المال اللازم لقبول الهداية القرآنيّة؛ ألا وهو «سلامة الفطرة»[6]. فهؤلاء كانوا قد انتفعوا من الهداية التكوينيّة الابتدائيّة للفطرة قبل العمل بهداية القرآن التشريعيّة الابتدائيّة، فشكّلت هذه التقوى الفطريّة عندهم أرضيّة خصبة لقبول الهداية التشريعيّة القرآنيّة، ومن ثمّ ـ وفي ضوء العمل بمعطيات الوحي ـ أصبحوا مشمولين بالهداية التكوينيّة الجزائيّة للقرآن أيضاً.

تأسيساً على ذلك، فإنّ أولئك المنتفعين من الهداية التشريعيّة


[1]. سورة الفرقان، الآية 1.

[2]. سورة الأنعام، الآية 19.

[3]. سورة يٰس، الآية 70.

[4]. سورة النازعات، الآية 45.

[5]. سورة الزمر، الآيتان 17 و18.

[6]. راجع تفسير الميزان، ج1، ص44.

تسنيم، جلد 2

165

القرآنيّة هم محفوفون بهدايتين: اُولاهما: الهداية التكوينيّة الفطريّة التي هي ابتدائيّة ومتعلّقة بمرحلة ما قبل تقبّل الهداية القرآنيّة، وإنّ الآية: ﴿اُولـَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾[1] ناظرة إلى هذا المعنى. والثانية: هي الهداية التكوينيّة الجزائيّة وهي المرتبطة بمرحلة ما بعد قبول الهداية التشريعيّة القرآنيّة، وإنّ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تشير إلى ذلك.

تنويه: إنّ الهداية التكوينيّة الفطريّة عامّة وجميع الناس منتفعون من ثروة الهدى هذه إلاّ ثلّة ممّن أطفأوا نور هداية فطرتهم، فدفنوا فطرتهم الباحثة عن الحقّ والطالبة لله حيّة في أنفسهم: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[2]، وجرّاء دفن الفطرة ودسّها صاروا إلى الهلاك، ولأنّهم أغمضوا عيون فطرتهم، وسدّوا أسماعها، وعقدوا لسانها فقد اشتروا الضلالة في مقابل الهداية التشريعيّة للقرآن وعوضاً عنها: ﴿اُولـَٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُا ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾[3]. من هذا المنطلق، يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم(ص): «إنّ هؤلاء محرومون من الهداية بسبب عماهم الخاصّ»: ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ﴾[4]؛ فبالرغم من أنّ عيونهم الظاهريّة مبصرة، إلاّ أنّ عمى عيون فطرتهم جعلهم لا يرون الحقائق: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾[5]، فهم أهل نظر لا أهل بصر، والنظر بلا بصر كالشجر بلا ثمر.


[1]. سورة البقرة، الآية 5.

[2]. سورة الشمس، الآية 10.

[3]. سورة البقرة، الآية 16.

[4]. سورة النمل، الآية 81 .

[5]. سورة الأعراف، الآية 198.

تسنيم، جلد 2

166

إنّ المنحرفين عن جادّة الهداية الفطريّة هم أيضاً مشمولون بالدعوة والهداية التشريعيّتين للقرآن، لكنّ عدم قبولهم لهما يبقيهم في ضلالتهم كعقاب لهم، وهم لا يُحرَمون من كون القرآن مصدر هداية وشفاء ورحمة لهم فحسب، بل ويكون عامل خسران ومضرّة بالنسبة لهم أيضاً: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾[1]. إذن، فالكفّار والمنافقون أيضاً محفوفون بضلالتين: الأولى: نابعة من دفن ودسّ الفطرة، والخروج عن سراطها المستقيم. والأخرى: ناشئة من الضلال الجزائيّ الذي أحاق بهم بسبب مخالفتهم للهداية التشريعيّة القرآنيّة، وإنّ الآية الشريفة ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلفَاسِقِينَ﴾[2] لهي إشارة لكلا الصنفين من الضلالة.

محصّلة ذلك، أنّ الهداية التكوينيّة والجزائيّة للقرآن، والتي هي هداية ثانويّة، هي من نصيب المتّقين الذين حرسوا ثروة هدايتهم الفطريّة وصانوها. فهؤلاء قد وُصِفوا بالتقوى بالفعل نتيجة محافظتهم تلك.

هذه الإجابة أدقّ من الأولى إذ أنّ التساؤل بعد الإجابة الأولى يبقى مطروحاً وهو: أنّه لو كانت هداية القرآن عامّة والانتفاع منها خاصّ فما هو سرّ انتفاع فريق من الناس (المتّقين) من الهداية القرآنيّة وعدم انتفاع الآخرين منها؟ وهنا يأتي دور البيان الدقيق للأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) في الردّ على هذا التساؤل. لكنّ، لمّا كان جواب العلاّمة مبنيّاً أيضاً على قبول أصل الإشكال (التعارض الابتدائيّ للآيات)، فهو يبدو غير تامّ


[1]. سورة الإسراء، الآية 82 .

[2]. سورة البقرة، الآية 26.

تسنيم، جلد 2

167

كذلك. لذا يمكن اعتبار الجواب الثالث هو الجواب الأكثر دقّة والذي من شأنه أن يزيل الإشكال من أساسه.

3. إنّ المراد من الهداية الخاصّة للمتّقين في هذه الآية الكريمة هو تلك الهداية التكوينيّة (الإيصال إلى المطلوب) وهي متأخّرة عن الهداية التشريعيّة العامّة للقرآن (الإرشاد إلى الطريق). كما أنّ المراد من المتّقين هم أولئك الذين حفظوا رأس مال الفطرة بالاستماع لندائها أوّلاً، وهم ـ علاوة على التقوى الفطريّة ـ يتمتّعون بتقوى عمليّة؛ أيّ إنّ هؤلاء بالإضافة إلى انتفاعهم بالهداية الفطريّة، فقد أفادوا من الهداية التشريعيّة للقرآن. وبعبارة أخرى، فهم بالإضافة إلى إسهامهم في تفتّح وازدهار فطرتهم، فقد قطعوا شوطاً من الطريق بهداية من القرآن أيضاً، لتكون الهداية الجزائيّة (ألا وهي الإيصال إلى المطلوب) من نصيبهم.

إنّ السرّ وراء التأكيد على الإعداد للحياة الفطريّة من أجل تقبّل القرآن يعود إلى أنّ الإنسان إذا ما دفن فطرته بسوء اختياره في طامورة هواه ونزواته لم يسعه حينئذ الانتفاع من الهداية القرآنيّة؛ ذلك أنّ الرسالة القرآنيّة فيها شفاء المرضى: ﴿شِفَاءٌ لِمَا فِي ٱلصُّدُورِ﴾[1]، لا إحياء الموتى، والدليل على هذا المدّعى هو الآية الشريفة: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ ٱلْكَافِرِينَ﴾[2] التي ـ من خلال قرينة مقابلة الحيّ مع الكافر ـ اعتبرت الكافر ميتاً. فأمثال هؤلاء يقولون بألسنتهم: لا جدوى من


[1]. سورة يونس، الآية 57.

[2]. سورة يٰس، الآية 70.

تسنيم، جلد 2

168

موعظتك إيّانا لأنّه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ ٱلْوَاعِظِينَ﴾[1]. كما أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في حقّ هؤلاء: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[2].

إنّه لا أثر للهداية القرآنيّة في فطرة الموتى، ولا تعارض ـ من الأساس ـ بين هاتين الطائفتين من الآيات؛ إذ أنّ موتى الفطرة هم في الواقع ليسوا أناساً، بل أشبه بالحيوانات، أو حتّى أدنى وأضلّ من ذلك: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[3].

إذن، يتبيّن من خلال التأمّل أنّ «الناس» هم «المتّقون» وأنّ المتّقين هم الناس، أمّا الآخرون فهم بحكم الأنعام أو أدنى منهم. وإذا ما ورد في بعض الآيات، أمثال: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[4]، أنّ أثر الوحي الإلهيّ هو إحياء النفوس الميتة، الذي هو أسمى من شفاء القلوب المريضة، فإنّما يكون في ضوء قبول أصل الإيمان؛ حيث أنّ عنوان الآية ناظر إلى المؤمنين أيضاً. إذ ذاك سينال الناس المؤمنون ـ المتمتّعون بحياة دينيّة ابتدائيّة ـ الحياة الأسمى بسبب قبولهم لدعوة الجهاد وأمثاله ممّا يشير ظاهر سياق الآية من سورة الأنفال إليه، مثلما أنّ أهل الجاهليّة الذين كانوا موتى من منظار الروح الدينيّة فقد دبّت فيهم الحياة بفضل الوحي الإلهيّ. لكنّ الشخص الذي


[1]. سورة الشعراء، الآية 136.

[2]. سورة البقرة، الآية 6.

[3]. سورة الفرقان، الأية 44.

[4]. سورة الأنفال، الآية 24.

تسنيم، جلد 2

169

يصرّ على سبيل الطغيان والإنكار، ويتخلّى عمداً عن حياته الإنسانيّة بعد إتمام الحجّة الإلهيّة عليه فإنّه لن يكون جديراً بالهداية؛ أيّ، إنّ مثل هذا الأمر ممنوع حسب العادة، لا ممتنع طبق العقل. فإنّه بالإمكان الاستنباط من الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[1] أنّ الكفّار المتعمّدين، والمنافقين المتعنّتين هم موتى الأرواح وما من سبيل إلى هدايتهم.

تنويه: ستُطرح مسألة تأثير القرآن في إحياء النفوس المستعدّة في مواطن متعدّدة لاسيّما في ذيل الآية 24 من سورة الأنفال. لكنّه ينبغي أن نلتفت إلى هذه القضيّة وهي أنّ شفاء المرض الظاهريّ هو أمر تكوينيّ وعينيّ، لا اعتباريّ أو جعليّ، ولمّا كانت الألفاظ ورسم الخطّ وكذلك المفاهيم الاعتباريّة المستفادة منها هي في إطار الجعل لا التكوين، فإنّه كما يكون للعمل بتوجيهات الطبيب الحاذق المكتوبة في الوصفة بألفاظ خاصّة أثر عينيّ، فسيكون للعمل بالأحكام المستقاة من ظواهر ألفاظ القرآن، والتعبّد بالمواضيع المستنبطة منها أثر عينيّ وتكوينيّ أيضاً.

بناءً على ما تقدّم، إذا كانت الإشارة ﺑ «ذلك» إلى هذا القرآن الحاضر، وكان مصحّح الإشارة بأداة الإشارة للبعيد مع قرب المشار إليه هو مقامه الرفيع، لا أنّ المشار إليه هو المقام العالي له خاصّة، فلن تطرأ شبهة أنّه: لمّا كان خطّ وألفاظ ومفاهيم القرآن اعتباريّة فكيف يمكن أن يكون لها الأثر في شفاء أو إحياء النفوس؟ لأنّ الدعامة لمثل هذه المعاني الاعتباريّة هي الحقائق التكوينيّة.


[1]. سورة الأنعام، الآية 36.

تسنيم، جلد 2

170

خاتمة: من المفيد في الختام الالتفات إلى هذا الموضوع الإعجازيّ وهو أنّ بعض المفسّرين توصّلوا إلى أنّ الرقم الناتج من الوجوه المحتملة في ﴿الم﴾ من جهة اشتمالها على حروف الاسم الأعظم، ومن جهة: هل إنّ للحروف المقطّعة محلاًّ من الإعراب أم لا؟ والصور المحتملة في إعرابها، وكذلك دراسة الوجوه المحتملة في إعراب ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، بالنسبة لكلّ من كلماتها على حدة، وبالأخذ بنظر الاعتبار الوجوه المحتملة للكلمات الأخرى حتّى نهاية ﴿... وَاُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾[1]، من ناحية جمع وتبويب الوجوه الاحتماليّة، مثنى وفرادى، أقول توصّلوا إلى أنّ الرقم الناتج من ذلك هو: أحد عشر ترليون وأربعمائة وأربعة وثمانون مليار ومائتان وخمسة ملايين وسبعمائة وسبعون ألفاً ومائتان وأربعون (11484205770240)[2].

لطائف وإشارات

[1] مراتب القرآن مظاهرٌ لشؤون الحقّ

القرآن الكريم هو محلّ تجلّي الله سبحانه وتعالى: «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه»[3]. ولمّا كان الربّ الذي تجلّى في هذا الكتاب بالرغم من علوّه: ﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ﴾[4] فهو قريب: ﴿وَهُوَ


[1]. سورة البقرة، الآية 5.

[2]. تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، ج1، ص39 ـ 45.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 147.

[4]. سورة الأعلى، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

171

مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾[1]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[2]، كان تجلّيه، أي القرآن الكريم، هو أيضاً قريب مع أنّه بعيد، ودان مع أنّه عال، ومن هذه الجهة فهو مظهر الإله الذي هو عال في الوقت الذي هو فيه دان: «في علوّه دان، وفي دنوّه عال»[3].

بالطبع لا تماثل بين المُتَجَلّي والتَجَلّي؛ فالقرآن عندما يظهر في مرحلة كونه قريباً فإنّه يُرَى ويُسمَع بالحواسّ، إلاّ أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة لا تُدرَك بالحواسّ مع كونها قريبة. والسرّ في هذا التفاوت أنّ الله ذاتاً هو بسيط الحقيقة، وهذه الحقيقة البسيطة هي غير متناهية. ومن هنا، فإنّ له ظهوراً بسيطاً ومجرّداً بشكل تامّ في كافّة مراحل الوجود، وهذا على خلاف شؤونه وأوصافه الفعليّة التي تكون محسوسة نتيجة للتركُّب والتنزُّل.

[2] طهارة القلب هي السبيل لنيل المراحل الأسمى من القرآن

يؤكّد الله سبحانه على أنّ الطريق لنيل المراحل الأسمى من القرآن هي طهارة القلب: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ﴾[4]. فإذا كان مرجع الضمير في ﴿لاَ يَمَسُّهُ﴾ هو الكتاب المكنون، كان المراد من المسّ هو ذلك التماسّ العقليّ والقلبيّ، وكان


[1]. سورة الحديد، الآية 4.

[2]. سورة البقرة، الآية 186.

[3]. إقبال الأعمال، ص120؛ وبحار الأنوار، ج95، ص379.

[4]. سورة الواقعة، الآيات 77 ـ 79.

تسنيم، جلد 2

172

المراد من الطهارة هي طهارة الباطن بدلالة الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾[1] فالمطهَّرون المرتبطون بالكتاب المكنون على نحو كامل وتامّ هم أهل بيت العصمة والطهارة(ع).

فالرسول الأكرم(ص) والأئمّة(ع) حاضرون في جميع مراحل القرآن، وإنّ بينهم وبين كافّة مراحل القرآن تجانساً بل ووحدة أيضاً؛ كما قال النبيّ الأكرم(ص): «إنّي تارك فيكم الثقلين... وهو كتاب الله... وعترتي أهل بيتي لن يفترقا ...»[2]، وقال أمير المؤمنين(ص): «وجعَلَنا مع القرآن، وجعَلَ القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا»[3]. من هذا المنطلق، فالمعصومون(ع) من جهة أنّهم موجودون في هذه النشأة، ومتساوون مع الآخرين في الأحكام، فإنّه يُشار إلى كلّ واحد منهم بتعبير «هذا الإنسان»، وهو منسجم مع «هذا القرآن»: ﴿مَا هَٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنْهُ﴾[4]، ومن جهة أنّ له مقاماً رفيعاً: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ﴾[5]، فهو متّحد مع «ذلك الكتاب»، ويكون بالنتيجة «ذلك الإنسان»؛ لأنّه في مرتبة: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[6] وعندئذ يكون حتماً لحرف الإشارة «ذلك» مُصَحِّح، وليس «هذا».


[1]. سورة الأحزاب، الآية 33.

[2]. الطرائف، ج1، ص115؛ وبحار الأنوار، ج23، ص108.

[3]. الكافي، ج1، ص191.

[4]. سورة المؤمنون، الآية 33.

[5]. سورة النجم، الآيتان 8 و9.

[6]. سورة النمل، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

173

[3] مغانم سالكي طريق معرفة القرآن

القرآن الكريم هو حبل الله الممدود وله مراتب جمّة. والناس أيضاً ينالون مغانم شتّى من مراتب القرآن المتنوّعة بحسب اختلاف مراتب طهارة قلوبهم: «كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوامّ، والإشارة للخواصّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء»[1].

فالذين لهم ارتباط بالمراحل النازلة للقرآن (المشار إليها ﺑ «هذا القرآن») ينالون العلوم الحصوليّة والمدرسيّة التي تكون عرضة للنسيان والزوال. أمّا الناس الكُمّل المرتبطون بالمراحل العالية للقرآن (المشار إليها ﺑ «ذلك الكتاب») فهم يتلقّون حقائق القرآن ممّا هو «عند الله» و«لدى الله»، ومن هذا الباب يسمّى ما يحصلون عليه من علم «العلم اللدُنّيّ»: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[2]. فبمقدار ما يتنزّه الإنسان ـ المنتفع من القرآن ـ من مرحلة الطبيعة، تزداد إفادته من عمق القرآن أكثر.

[4] اسم الإشارة للبعيد لتعظيم القرآن وذات الله

إنّ معيار الإشارة للبعيد والقريب هو حال المتكلّم، لا المخاطَب أو المستمِع. وفي القرآن الكريم يكون المتكلّم هو الله سبحانه وتعالى الذي هو حاضر بالنسبة لنفسه في كلّ حال. من هنا فإنّ التعبير باسم الإشارة


[1]. جامع الأخبار، ص41؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص20.

[2]. سورة النمل، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

174

للبعيد (ذلك) هو من أجل تعليم الناس ولفت انتباههم إلى تعظيم المقام الشامخ للكتاب، وإلاّ فإنّ استعمال اسم الإشارة للبعيد عندما يكون الربّ هو المشير لن يكون صائباً. بالضبط مثلما لا يستخدم القرآن الكريم إلاّ اسم الإشارة للبعيد عند الإشارة إلى الله سبحانه وذلك بهدف تعليم العباد ولفت أنظارهم إلى تعظيم المقام الربوبيّ الرفيع المنيع: ﴿ذَٰلِكُمُ ٱللهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ﴾[1]، ولا يشير إليه أبداً باسم الإشارة للقريب ﮐ «هذا»، مع أنّ الله دائم الحضور، وهو يقول في ذلك: ﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾[2].

تنويه: إنّ بحث الغياب والحضور في استعمال الضمير أو الاسم الظاهر مغاير لبحث القرب والبعد في استعمال أسماء الإشارة. من هذا الباب، ففي استعمال الضمير أو الاسم الظاهر، جاء تعبير القـرآن الكـريم بخصوص الله عـزّ وجـلّ تارة على نحو الحضـور باسـتخدام صـيغة ضمير المتكلّـم؛ كما في قوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا ٱللهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنَا فَٱعْبُدْنِي﴾[3]، أو ضمير المخاطَب؛ مثل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[4]، وتارة أخرى على نحو الغياب بالاستفادة من الاسم الظاهر؛ مثل: ﴿وَٱعْبُدُواْ ٱللهَ﴾[5]، أو ضمير الغائب؛ كما في قوله: ﴿فَٱعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾[6]، ولمّا كان الله بسيطاً غير متناهٍ، كانت جميع أنحاء التعبير بحقّه (الإشارة أو الضمير)، على النحو


[1]. سورة الزمر، الآية 6.

[2]. سورة الأعراف، الآية 7.

[3]. سورة طٰه، الآية 14.

[4]. سورة الحمد، الآية 5.

[5]. سورة النساء، الآية 36.

[6]. سورة الزخرف، الآية 64.

تسنيم، جلد 2

175

الدفعيّ والآنيّ، صحيحة، ولا حاجة إلى التدريج والتناوب؛ لأنّ بُعد الحقيقة اللامحدودة هو عين قربها، وحضورها هو عين غيابها، وعلوّها هو عين دنوّها، وخروجها هو عين دخولها؛ إذ أنّها لا تتّحد مع أيّ موجود لتقبَلَ حُكمَه الخاصّ. من هذا المنطلق تكون جميع التعابير التي هي على نحو دفعيّ (لا بالتدريج ولا بالتناوب) صحيحة.

[5] القرآن الكريم هُدًى وهادٍ

إطلاق «الهدى» على القرآن (بدلاً عن الهادي) لم يأت من باب المبالغة فحسب ليكون نظير «زيدٌ عدلٌ»، بل هو إشعار بأنّ هذا الكتاب كما هو عين الهدى، فهو هاد للآخرين أيضاً؛ كما النور فهو نيّر بذاته، ومنير للآخرين، ذلك أنّ الهداية والنور وإن كانا مفهومين منفصلين، إلاّ أنّهما شيء واحد من حيث المصداق. فكما أنّ حمل النور على القرآن ليس مجازيّاً ولا هو بحمل «ذو هو»، فإنّ حمل الهداية على القرآن هو من هذا القبيل أيضاً، وتعتبر هذه من خصائص السبيل المعنويّة حيث لا يكون اتّصافها بالهداية مجازيّاً، وإنّما حمل الهداية على الطريق الحسّيّ مَجاز؛ لأنّ الطريق المادّي هو العلامة والدليل لا أنّه عين الهداية بذاته، يعني أنّ الطريق المعنويّ يدعو سالكه إلى الله، فهو يقوده إلى المقصد نتيجة للعمل به.

[6] الحصن الحصين للسالكين في طريق القرآن

مضى في البحث التفسيريّ أنّ التقوى الفطريّة والعمليّة شرطان أساسيّان للإفادة من هداية القرآن الكريم. إنّ اشتراط التقوى يأتي من باب أنّ

تسنيم، جلد 2

176

للإنسان عدوّاً لدوداً هو الشيطان: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[1]. والشيطان عدوّ يرى بني آدم ويتربّص لهم ويباغتهم بالهجوم من حيث لا يحتسبون، في حين أنّ من هم عرضة لوساوس الشياطين وشرورهم لا يرون إبليس وجنوده: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾[2]. في مثل هذه الحالة لا يكون هناك ملجأ ولا مأوى إلاّ بالاستعاذة بالذات الإلهيّة المقدّسة: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللهِ﴾[3]، وقد عرّف الله سبحانه وتعالى سالكي طريق القرآن بهذا الحصن الحصين: ﴿فَإِذَا قَرَأتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللهِ مِنَ ٱلشَّيْطِانِ ٱلرَّجِيمِ﴾[4]، فالله سبحانه هو وحده القادر على حفظ الإنسان من شرّ الشيطان وأذاه؛ لأنّ الله يرى الشيطان وجنوده، لكنّهم لا يرونه جرّاء أنانيّتهم: ﴿وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾[5]. فالإنسان ينال هذه الحراسة الإلهيّة في كنف الإيمان والعمل الصالح فيُصان من الانحراف والاعوجاج واتّباع وساوس الشيطان.

[7] التنافي بين النزاهة عن الريب والتحريف

لقد أثنى الله عزّ وجلّ على القرآن الكريم لكونه منزّهاً عن الريب، ولأنّه سبب للهداية، وكلّ من هذه الأوصاف ثابت بالفعل للقرآن المجيد. ومن


[1]. سورة البقرة، الآيتان 168 و208؛ وسورة الأنعام، الآية 142.

[2]. سورة الأعراف، الآية 27.

[3]. سورة الأعراف، الآية 200؛ وسورة فصّلت، الآية 36.

[4]. سورة النحل، الآية 98.

[5]. سورة الأنعام، الآية 61.

تسنيم، جلد 2

177

هنا لعلّ من الممكن القول إنّ هذا الكتاب مصون من أيّ شكل من أشكال التحريف كالزيادة والنقصان؛ ذلك أنّ الكتاب المحرَّف سيكون محلاًّ للريب، لا منزّهاً عنه، وسيحتاج هو للهداية، لا أنّه يكون هادياً للآخرين.

البحث الروائيّ

مراتب التقوى ودرجاتها

ـ عن الحسن بن عليّ بن محمّد... (ع): «... ﴿للمتّقين﴾ الذين يتّقون الموبقات، ويتّقون تسليط السَّفَه على أنفسهم، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم»[1].

ـ «﴿هُدًى﴾ بيان وشفاء ﴿للمتّقين﴾ من شيعة محمّد وعليّ؛ إنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها، واتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتّقوا إظهار أسرار الله وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد(ص) فكتموها، واتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها وفيهم نشروها»[2].

إشارة: إنّ حقيقة التقوى هي الشهود العلميّ والالتزام العمليّ في قضيّة إسناد حسنات العالم وبني آدم إلى الله، وإسناد سيّئاتهم إليهم أنفسهم؛ أي، جعل الفيض الإلهيّ الخاصّ «وقاية الحسنات» كي لا تُسنَد لغير الله وتكون منه وحده، وجعل النفس «وقاية السيّئات» كي لا يتعدّى


[1]. معاني الأخبار، ص25؛ وبحار الأنوار، ج10، ص15.

[2]. معاني الأخبار، ص28؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص380.

تسنيم، جلد 2

178

منها شيء من القصور والنقص والعيب والذنب فيُسنَد إلى الله. فالشخص المتحرّك في هذا المحور يرتقي إلى مقام كتمان سرّ العلوم وسترها، فيكتمها عن غير أهلها، وينشرها لمن هم أهل لها. بالطبع يكون مثل هذا المتّقي مصوناً، في مقام العمل، من آفات الذنوب فيرتقي إلى أعلى مدارج الكمال؛ إذ أنّ سهمه يكون من أفضل أنماط التقوى (ألا وهي التقوى التوحيديّة)، ولمّا كانت الهداية تدور مدار التقوى، فإنّ أفخر صنوف الهداية تغدو من نصيبه أيضاً.

تنويه: على الرغم من أنّ التقوى قد عُدّت رئيس الأخلاق: «التقى رئيس الأخلاق»[1], لكنّه كما أنّ لأغلب الفضائل الأخلاقيّة ثلاث درجات: درجة عامّة ودرجة خاصّة ودرجة أخصّ، فإنّ للتقوى أيضاً تلك المراتب الثلاث. فالتقوى العامّة هي اجتناب المحرّمات، والتقوى الخاصّة هي الورع عن المشتبَهات، أمّا التقوى الأخصّ فهي ترك المباحات في ضوء الاشتغال بالفرائض والنوافل. إلاّ أنّ التقوى في شهود آيات الله، وكيفيّة انتسابها إلى الله، وكيفيّة ظهور الله فيها أو عدم شهود أصلها، فلها بحثها الخاصّ بها.


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 410.

تسنيم، جلد 2

179

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ (3)

خلاصة التفسير

إنّ القرآن هو هادي الأتقياء الذين يعتقدون بالغيب (الله سبحانه وتعالى، وأسماؤه الحسنى، والوحي، والملائكة، والمعاد)، مع أنّ الغيب المطلق (أي كُنْه ذات الله) لا هو مشهود للعارف تفصيلاً، ولا معقول للحكيم والمتكلّم، ولا هو متعلَّق الإيمان التفصيليّ لأيّ مؤمن.

المتّقون كما هم أهل صلاة فهم يقيمون حقيقتها أيضاً. فهؤلاء يُخرِجون الرسالة الأصيلة للصلاة من إطارها اللفظيّ والمفهوميّ، فيوصلونها إلى وجودها العينيّ؛ أي، إنّهم ـ ابتداءً ـ يجعلون حقيقة الصلاة متمثّلة في حيّز أرواحهم، ثمّ يُبرِزونها في المجتمع بسنّتهم المستمرّة، ويصيّرون الآخرين أيضاً روحاً متمثّلة للصلاة من خلال دعوتهم لها وتعليمهم إيّاها، من أجل أن تتمثّل في المجتمع حقيقتها

تسنيم، جلد 2

180

الناهية عن الفحشاء والمنكر، والشافية لما يعتري الإنسان الدنيويّ من أمراض تجعل منه هلوعاً، وجزوعاً، ومنوعاً.

هؤلاء، ومن خلال إنفاقهم ممّا جعل الله من نصيبهم من الرزق، يعمدون بادئ ذي بدء إلى توطيد ارتباطهم بالله عزّ وجلّ، ثمّ ينشغلون ـ على ضوء ذلك ـ بتدعيم علاقاتهم مع عباده.

إنّّ إنفاق المتّقين لا يقتصر على المال، فهم مستعدّون لبذل أيّ رزق لهم كالمال، والعلم، والعقل، والسلطة، والجاه والنفوذ، والنفس في سبيل الحقّ.

التفسير

يؤمنون»: أصل لفظة «إيمان» من اﻟ «أمْن»، وسرّ إطلاق الإيمان على العقيدة هو أنّ المؤمن يخلّص عقيدته من الريب والاضطراب والشكّ التي هي آفات العقيدة، ويصونها ويؤَمّن عليها. من هذا الباب يقال لرسوخ واستقرار العقيدة في القلب «إيمان». لكنّ العلم وحده غير كاف لبلوغ هذا الإيمان؛ فقد يكون الإنسان عالماً بشيء إلاّ أنّه ليس بمؤمن به: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾[1].

لابدّ للاعتقاد العلميّ أن يخالط روح الإنسان المعتقد العالم وقلبه، ويتجلّى في أوصافه النفسانيّة، وأعماله الجسمانيّة، كي يكون إطلاق الإيمان عليه صائباً. وعلى هذا الأساس، لا يصحّ إطلاق كلمة المؤمن على من لا تتعدّى عقيدة الحقّ لديه لقلقة اللسان: ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا


[1]. سورة النمل، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

181

بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾[1]، ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُواْ أَنْ يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾[2]. فالعقد العلميّ، الذي هو قضيّة ذهنيّة ومعقولة، ما لم يتبعه عقد آخر يربطه مع روح العالِم فهو ليس بإيمان.

«الغيب»: هو ما لا يمكن إدراكه بأيّ من الحواسّ العاديّة أو المسلّحة، وهو في مقابل الحضور والشهادة، وله مصاديق جمّة. وإذا ما طُبِّق عنوان الغيب، في البحث الروائيّ للمفسّرين الشيعة، على الإمام المهديّ (عج) فإنّه من قبيل بيان المصداق وليس تفسير المفهوم، ومن باب المثال لا الحصر. وهو يستند إلى النصّ المقبول لدى الإماميّة وإن لم يقبل به الباقون. وبناءً عليه، فإنّ ما قاله الآلوسيّ تأسّياً بالإمام الرازيّ من أنّه: «زعمت الشيعة أنّه القائم وقعدوا عن إقامة الحجّة على ذلك‏»[3] ليس بصواب.

الإيمان بالغيب يكون إمّا بالاستناد إلى «البرهان العقليّ»، أو إلى «الدليل النقليّ» (في الموارد التي يكون فيها النقل حجّة)، أو أحياناً بالاستناد إلى «الوجدان الكشفيّ». ومثلما أنّه لتقويم البرهان العقليّ أو النقليّ هناك معيار خاصّ تُقاس به صحّة البرهان المذكور، فإنّ للمشاهدة معياراً خاصّاً أيضاً يُعرَض عليه الكشف المشار إليه لتَبَيُّن صحّته.

بعض أهل الباطن ينظرون إلى البرهان النظريّ دائماً بما أنّه في معرض الدَّخَل والقدح والعيب والنقص، وانطلاقاً من ذلك يقولون: مَن


[1]. سورة المائدة، الآية 41.

[2]. سورة العنكبوت، الآية 2.

[3]. روح المعاني، ج1، ص189.

تسنيم، جلد 2

182

كان من أهل البرهان (لا العرفان أو الوجدان) فلن يخالط الإيمان قلبه قطّ[1]. إلاّ أنّ إطلاق مثل هذا التصوّر غير صحيح؛ إذ أنّه وإن لم يكن البرهان الحصوليّ صنْو العرفان الصحيح الحضوريّ، لكنّه ليس صحيحاً أنّ جميع البراهين هي حتماً في معرض النقد والقدح.

«يقيمون»: «الإقامة» مشتقّة من «القيام» و«القوام». والقيام تارة يكون في مقابل القعود والسجود والاضطجاع والاستلقاء، فهو بمعنى الوقوف؛ كما في: ﴿ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً﴾[2]، و﴿وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾[3]. وتارة يستعمل في مقابل الحركة فيكون بمعنى التوقّف والسكون؛ كما في قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَواْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾[4]. كما ويكون تارة أخرى في مقابل الانحراف والاعوجاج وهو بمعنى الاستقامة لا الوقوف الظاهريّ؛ كما في: ﴿جَعَلَ ٱللهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ﴾[5].

«الصلوٰة»: يعتقد البعض أنّ «الصلوٰة» و«الزكوٰة» ناقصتا الياء لكنّها تُكتَب بالواو من باب التفخيم اللفظيّ[6]. كما نُقِل عن بعضهم احتمال كون «الصلوٰة» ناقصة الواو أيضاً.

«رزقناهم»: «الرزق» هو الإنعام الخاصّ الذي يحصل بشكل متواصل،


[1]. راجع رحمة من الرحمن، ج1، ص56.

[2]. سورة آل عمران، الآية 191.

[3]. سورة الفرقان، الآية 64.

[4]. سورة البقرة، الآية 20.

[5]. سورة المائدة، الآية 97.

[6]. تفسير منهج الصادقين (فارسيّ)، ج1، ص139.

تسنيم، جلد 2

183

بحسب مقتضى حال المرزوق ووفقاً لحاجته، ليكون سبباً في حياته وبقائه. ويتمايز الرزق ـ بالقيود المذكورة في تعريفه ـ عن المفاهيم التي هي مثل: الإحسان، والإنعام، والإعطاء، والحظّ، والنصيب، والإنفاق[1].

يصدق عنوان الرزق التكوينيّ على كلّ ما يتغذّى عليه الإنسان أو غيره من ذوات الأرواح، أو ما ينتفعون به على نحو آخر. لكنّ الرزق التشريعيّ لا يصدق على أيّ مال أو منفعة أو انتفاع إلاّ أن يكون حلالاً، لأنّه لا سبيل إلى اعتبار الحلّية والحرمة الاعتباريّتين في نظام التكوين. لذا، فتقييد الرزق بقيد الحلّية غير صائب إلاّ في البحوث التشريعيّة.

«يُنفِقون»: كلّ تأمين للنفقات والتكاليف، سواء الماليّة منها أو غير الماليّة، وسواء خرج من يد المُنفِق أم لم يخرج، فهو إنفاق، فما خرج من يد المنفق؛ كإنفاق غير الله، وما لم يخرج من يده؛ كإنفاق الله الذي هو في عين تأمين نفقات الآخرين، هو بيد الله. إذن، (خلافاً لما يخاله القرطبيّ)[2]، لم يُؤخذ في حقيقة الإنفاق خروج المال من يد المُنفِق.

عدّ بعضهم أصل الإنفاق من «نَفَقْ» وهو الجُحْر الذي يحفره الجرذ الصحرائيّ تحت الأرض والذي له فتحتان، فكلّما حاول أحد اصطياده من فتحة عمد هو إلى الهرب من الأخرى. ووجه التناسب هو أنّ الإنفاق منسوب إلى الله الغنيّ من جهة، وإلى المخلوق المحتاج من جهة أخرى[3].


[1]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج4، ص123.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص174.

[3]. راجع رحمة من الرحمن، ج1، ص59.

تسنيم، جلد 2

184

في الآية الكريمة مورد البحث والآية التي تليها امتُدِح المتّقون بخمس خصال اُولاها الإيمان بالغيب.

الإيمان، كما هي الهداية والتقوى، حقيقة تشكيكيّة، ولها درجات ومراتب: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾[1]؛ فالإيمان تارة يتعلّق بأصل الشيء، وتارة أخرى ببعض لوازمه، وثالثة بكلّ لوازم الشيء، ويترتّب على كلّ مرتبة من مراتب الإيمان أثر خاصّ بها. فكلّما قوي الإيمان، ترسّخ تعلُّقه بمتعلَّقه، وتعمّق ارتباطه بلوازمه.

لفظ «الغيب»، وإن شمل بإطلاقه مطلق الغيب، لكنّه لمّا أتى «الإيمان بالغيب» في الآية المعنيّة إلى جانب الإيمان بالوحي واليقين بالآخرة، فإنّ المراد منه هو الذات الإلهيّة المقدّسة التي هي أنصع مصاديق الغيب. لكنّ من الممكن القول إنّ المراد هو الغيب المطلق، وعليه يُستظهَر منه أنّ الإيمان بأصول الدين الثلاثة (الله، والوحي والرسالة، والمعاد) قد عُدَّ في هاتين الآيتين من صفات المتّقين. بالطبع إنّ الغيب المطلق (والذي هو لا بشرط في المَقسَم) لا هو مشهود للعارف تفصيلاً، ولا معقول للحكيم والمتكلّم، ولا هو متعلَّق الإيمان التفصيليّ لأيّ مؤمن، ولذا فهو ـ من هذا الباب ـ خارج عن نطاق بحثنا.

ثلاثة احتمالات في كلمة «بالغيب»

هناك ثلاثة احتمالات لمعنى «الباء» في كلمة «بالغيب»:

1. أن تكون «للظرفيّة»، ويكون المراد من الغيب هو الخفاء والخلوة؛


[1]. سورة الأنفال، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

185

نظير: ﴿لِيَعْلَمَ ٱللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ﴾[1]؛ أي، إنّ إيمان المتّقين لا يختصّ بحال الشهادة والظهور، بل إنّهم مؤمنون حتّى في حال الغيب والخلوة، على خلاف المنافقين الذين يُظهِرون الإيمان أمام المؤمنين، لكنّهم كفّار في الخلوات: ﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾[2].

2. أن تكون «سببيّة» نظير: «كتبتُ بالقلمِ»، فيكون المراد من الغيب هو القلب؛ أي، حقيقة الإنسان التي هي غير محسوسة وهي من مصاديق الغيب. طبقاً لهذا الرأي يكون معنى الآية: إنّ المتّقين يؤمنون بقلوبهم، على خلاف المنافقين الذين يُظهِرون الإيمان بأفواههم فقط وقلوبهم خالية منه: ﴿قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾[3].

3. أن تكون «للصلة والتعدية»، فيصبح المراد من الغيب عالم الغيب، لاسيّما الله سبحانه وتعالى، وأسماؤه، وصفاته.

وهذا الاحتمال هو الراجح إذ أنّه إذا كان المعنيّ من الغيب هو الوجه الأوّل أو الثاني لاستوجب ذلك عدم طرح الإيمان بالله ضمن مجموعة صفات المتّقين؛ أي عدم التطرُّق أساساً إلى متعلَّق الإيمان الذي يتمتّع بأهمّية خاصّة. أضف إلى ذلك فإنّ وحدة السياق تقتضي أن تكون الباء للصلّة والتعدية؛ ذلك أنّ الظاهر من تعبير «الإيمان بالغيب» هو كون الغيب متعلَّق الإيمان؛ مثلما أنّ الظاهر من حرف الباء في: ﴿بِمَا اُنْزِلَ


[1]. سورة المائدة، الآية 94.

[2]. سورة البقرة، الآية 14.

[3]. سورة المائدة، الآية 41.

تسنيم، جلد 2

186

إِلَيْكَ﴾، و﴿بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ هو قطعاً للتعدية والصلة، وكما أنّه في مواطن كثيرة من القرآن الكريم يُذكَر متعلَّق الإيمان (ألا وهو توحيد الله وأسماؤه الحسنى) جنباً إلى جنب مع الإيمان.

الردّ على ثلاثة إشكالات على الاحتمال الثالث

اُشكِل على الاحتمال الثالث بثلاثة إشكالات[1] نوردها مع الردّ على كلّ منها:

1. إذا كان المراد من قوله «بالغيب» هو الإيمان بعالم الغيب لاستلزم ذلك التكرار، لأنّ الإيمان بالوحي واليقين بالآخرة مطروحان في الآية التالية: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ... وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، والوحي والآخرة كلاهما من مصاديق عالم الغيب.

الجواب: أوّلاً: لا يلزم التكرار من الاحتمال الثالث بل إنّه تفصيل بعد الإجمال. ثانياً: في الآية اللاحقة ذُكِرت بعض مصاديق الغيب لا جميعها.

2. لمّا كان الإيمان غير متيسّر من دون علم، فإنّ من لوازم إيمان المتّقين بالغيب هو علمهم به، والحال أنّ العلم بالغيب منحصر بالله سبحانه وتعالى: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للهِ﴾[2].

الجواب: أوّلاً: إنّ العلم بالغيب، وإن كان أصالة منحصراً بالله عزّ وجلّ، إلاّ أنّ إجماله ميسور للجميع من خلال عطائه ولطفه جلّ وعلا، مثلما أنّ التوصّل إلى علم حصوليّ حول المبدأ، والمعاد، وضرورة


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص31.

[2]. سورة يونس، الآية 20.

تسنيم، جلد 2

187

الوحي والرسالة من خلال إقامة البراهين العقليّة أمر ممكن، مع أنّ هذه الثلاثة هي من أجلى مصاديق الغيب.

ثانياً: جاء الكلام في الآية التالية عن إيمان المتّقين بالوحي والمعاد، وهما من مصاديق الغيب. وحيث إنّ الإيمان متفرّع عن العلم، فإنّهم إذن عالمون بالغيب.

ثالثاً: للغيب مراتب ومصاديق مختلفة. فذلك القسم من الغيب الذي ليس هو بمتعلَّق علم أحد، والذي هو من المستأثَرات لم يُكلَّف أحد بالإيمان به، ولم يكن صفة لأيّ متّق إطلاقاً، أمّا ذلك القسم الذي يكون متعلَّق الإيمان، فبمقدور الإنسان المؤمن بلوغ علمه بالتعليم الإلهيّ، عن طريق البرهان أو الوجدان، وبشكل إجماليّ أو تفصيليّ.

والمراد من الآية الشريفة: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للهِ﴾ أيضاً هو أنّ العلم بالغيب هو أصالةً لله، وأنّه هو الذي يعطي جانباً منه لمن يشاء: ﴿عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ﴾[1]، ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾[2].

3. إنّ من لوازم الاحتمال الثالث هو إطلاق الغيب بمعنى «الغائب»على الله تعالى، في حين أنّ الغائب هو وصف مَنْ يكون حاضراً حيناً وغير حاضر حيناً آخر، لكنّ الربّ، الذي يُعَدّ من غير السائغ بتاتاً وصفه ﺑ «الحاضر»، فإنّ إطلاق «الغائب» عليه غير سائغ أيضاً.


[1]. سورة الجنّ، الآيتان 26 و27.

[2]. سورة يوسف، الآية 102.

تسنيم، جلد 2

188

الجواب: أوّلاً: إنّه لا دليل على ادّعاء الملازمة بين صحّة إطلاق الغائب وصحّة إطلاق الحاضر.

ثانيـاً: ليـس هنـاك مـن فـرق بيـن «الحاضـر» و«الظاهـر»، وعندمـا يكون الله قد وُصف ﺑ «الظاهر»: ﴿ٱللهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ﴾[1]، ﴿هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ﴾[2]، إذن فهو «حاضر» أيضاً. أمّا الحرمان من مشاهدته فيعود إلى الحجاب الذي يلقيه المرء على عين قلبه: ﴿وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾[3], ﴿ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾[4]، فهؤلاء هم عُمْي القلوب حتّى في يوم القيامة: ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهَمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾[5].

ثالثاً: لو كان لشيء حضور وغياب محدودان، كان غيابه وحضوره في مقابل بعضهما، أمّا الإله الذي يتمتّع بحضور وغياب غير محدودين، فإنّ غيابه وحضوره عين بعضهما. يقول أمير المؤمنين(ص): «كلّ ظاهر غيرَه غيرُ باطن، وكلّ باطن غيرَه غيرُ ظاهر»[6]. فظهور ما سوى الله هو في مقابل بطونه، وبطونه هو في مقابل ظهوره، لكنّ ظهور الذات الإلهيّة المقدّسة هو عين بطونها، وبطونها هو عين ظهورها؛ والسبب في ذلك هو أنّ ظهور وبطون غير الله محدودان وقد ينفصلان عن بعضهما، بينما


[1]. سورة النور، الآية 35.

[2]. سورة الحديد، الآية 3.

[3]. سورة البقرة، الآية 7.

[4]. سورة الكهف، الآية 101.

[5]. سورة المطفّفين، الآية 15.

[6]. نهج البلاغة، الخطبة 65، المقطع 4.

تسنيم، جلد 2

189

ظهور وبطون الله، بما أنّهما غير محدودين، فهما عين بعضهما. فالله سبحانه وتعالى محجوب لشدّة نورانيّته، وهذا الحجاب إنّما يعود إلى ضعف باصرة الشاهد، لا إلى غيبة المشهود من مسرح الشهود.

كما أنّ بعض آيات القرآن تنفي الغيبة عن الله تعالى، وهي تفيد ـ على نحو الالتزام ـ حضوره؛ مثل: ﴿... وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾[1].

والحاصل، أنّ المتّقين يؤمنون بكلّ مصاديق الغيب (الله سبحانه وتعالى، والوحي والنبوّة، والملائكة، والقيامة, والجنّة، والنار): ﴿وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللهِ وَمَلاَئِكَتِِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[2]. فالإيمان برسل الله هو أيضاً إيمان بالغيب لأنّه، وإن كانت أشخاصهم وأبدانهم محسوسة ومشهودة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾[3]، لكنّ شخصيّتهم الحقوقيّة، ومنصب كشفهم للوحي، خصوصاً مقام ﴿دَنَا فَتَدَلَّىٰ﴾[4]، فهي غيب.

وفي مقابل المؤمنين هناك مجموعة تمثّل الكفّار والمشركين حيث الطائفة الأولى ينكرون الغيب بشكل كامل: ﴿وَقَالُواْ مَا ِهَي إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ﴾[5]، وأمّا المشركون فهم، وإن كانوا يعتقدون بخالقيّة الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللهُ﴾[6]، إلاّ أنّهم يشركون


[1]. سورة الأعراف، الآية 7.

[2]. سورة البقرة، الآية 285.

[3]. سورة الكهف، الآية 110.

[4]. سورة النجم، الآية 8 .

[5]. سورة الجاثية، الآية 24.

[6]. سورة لقمان، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

190

بربوبيّة الله وعبادته، وينكرون المصاديق الأخرى للغيب كرسالة البشر والحياة بعد الموت.

إقامة الصلاة هي الباعث لإقامة الدين

إنّ إقامة الصلاة هي غير أدائها. فأداء الصلاة والمواظبة عليها عمل واجب وقد عدّه القرآن من أوصاف المؤمنين: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾[1]، أمّا الأهمّ من ذلك فهو إقامة الصلاة التي حُسِبت من خصال الأتقياء، وهذه هي إقامة حقيقة الصلاة.

إنّ إقامة حقيقة الصلاة وروحها تتحقّق ـ بغضّ النظر عن تلفّظ أذكار القراءة والكلمات، وذكر الركوع والسجود والتشهد وأمثال ذلك، وبصرف النظر عن الهيئات الخاصّة من استواء، وانحناء تامّ وغير تامّ، وجلوس، وما إلى هذا، وبقطع النظر عن تصوّر مفاهيم أذكارها في الذهن ـ تتحقّق من خلال إخراج الرسالة الأصيلة للصلاة من وجودها اللفظيّ والذهنيّ، وإيصالها إلى وجودها العينيّ، لتتمثّل في حيّز روح المصلّي، ومن ثمّ إبرازها في المجتمع من خلال السُنّة والسيرة المستمرّة له، وتربية الآخرين المؤهّلين بجعلهم كروح متمثّلة للصلاة بالدعوة، والتعليم، وتزكية نفوسهم المستعدّة، من أجل أن تتمثّل في المجتمع حقيقة ذلك الشيء الذي ذكره القرآن المجيد على أنّه ناهٍ عن الفحشاء والمنكر[2]، وعلاج وشفاء لما يعتري الإنسان الطبيعيّ من كونه هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً[3].


[1]. سورة المؤمنون، الآية 9.

[2]. راجع الآية 45 من سورة العنكبوت.

[3]. راجع الآيات 19 ـ 21 من سورة المعارج.

تسنيم، جلد 2

191

إنّ الدين الإلهيّ بخطوطه العامّة يدعو البشر إلى «القيام بالقسط» والقيام لله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ﴾[1]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُواْ للهِ﴾[2]، وإنّ الكعبة، التي هي من مظاهر الدين، هي لقيام الناس: ﴿جَعَلَ ٱللهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ﴾[3]، كما أنّ الإنسان القائم هو ذلك الذي يطرد من حريم وجوده كلّ عوامل السقوط على صعيد العقيدة والأخلاق والعمل.

مثل هذا الإنسان، الذي صار قائماً بالإلهام الفطريّ، والتعاليم الدينيّة، بمقدوره أن يضفي على الصلاة ـ التي هي عمود الدين ـ القيام. ومثل هذه الصلاة هي التي تستطيع أن تهيّئ للإنسان الدرجات الأسمى من القيام؛ ذلك أنّ الصلاة القائمة هي التي تحول دون الفحشاء والمنكر: ﴿إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ﴾[4]، وتردع الإنسان من أن يكون جزوعاً عند الشدائد والفاقة، ومنوعاً حال المقدرة والسعة: ﴿إِنَّ ٱلإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ﴾[5]. أمّا الصلاة الساقطة فهي تتلاءم مع السقوط في جهنّم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾[6].


[1]. سورة الحديد، الآية 25.

[2]. سورة سبأ، الآية 46.

[3]. سورة المائدة، الآية 97.

[4]. سورة العنكبوت، الآية 45.

[5]. سورة المعارج، الآيات 19 ـ 22.

[6]. سورة الماعون، الآيتان 4 و5.

تسنيم، جلد 2

192

إنّ أنبياء الله العظام كما كانوا مأمورين بإقامة الدين: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّينَا بِِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾[1]، فقد كانوا مأمورين بإقامة الصلاة أيضاً؛ فإنّ عيسى المسيح(ص) كان يرى نفسه مكلّفاً بإقامة الصلاة: ﴿وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾[2]، وإنّ موسى الكليم(ص) اُمِر بإقامتها: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾[3]، أمّا إبراهيم الخليل(ص) فقد سأل الله لنفسه ولأبنائه التوفيق لإقامة الصلاة: ﴿رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾[4].

فالتناسب والارتباط بين «إقامة الدين» و«إقامة الصلاة»، هو أنّ الإفادة من هداية الفطرة، والتعاليم الإبتدائيّة للدين، والصمود أمام الكفر والشرك، هي من لوازم إقامة الصلاة، وأنّ إقامة الصلاة هي العامل لإقامة الدين على نحو كامل. بناءً على ذلك، فلو كان الناس من أهل القيام بالقسط والقيام لله، وصمدوا بوجه الشرك والكفر، لاستطاعوا إقامة الصلاة التي هي عمود الدين كي تنتصب خيمة الدين كاملاً. وإنّه من هذا الباب لم تُطرَح في الآية مورد البحث من بين العبادات إلاّ إقامة الصلاة؛ والسبب هو أنّ إقامة الصلاة مدعاة لإقامة الدين، إذ أنّ الدين كالخيمة، وأنّ عمودها الصلاة، فإذا كان عمود الخيمة قائماً، قامت الخيمة وانتصبت.


[1]. سورة الشورى، الآية 13.

[2]. سورة مريم، الآية 31.

[3]. سورة طٰه، الآية 14.

[4]. سورة إبراهيم، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

193

دور الإنفاق في الانتفاع من هداية القرآن

مثلما يقوّي الإنفاق ـ وهو الخصلة الثالثة للمتّقين في هذه الآية الكريمة ـ العلاقة بين العباد وربّهم، فإنّ له الأثر في توطيد العلاقات بين العباد أنفسهم في ضوء التوجّه إلى الله.

من الضروريّ الالتفات هنا إلى أنّ حقيقة الإنفاق لا تنحصر في بذل المال، بل إنّها تشمل حتّى بذل النفس في سبيل الله، وإن لم يطلَق على الأخير عنوان الإنفاق عرفاً؛ لأنّ هناك عناوين أخرى تُستخدَم في باب بذل النفس كالبيع والشراء والاشتراء.

إنّ الإنفاق ضروريّ لأيّ مجموعة منسجمة ولها هدف، ولا يمكن تحقّق العيش الاجتماعيّ المشترك، وليس بالإمكان نيل الكمال الفرديّ ـ الذي هو حصيلة العيش الجماعيّ ـ من دون تعاون أعضاء هذه المجموعة، وإحسانهم، وإيثارهم المتبادل فيما بينهم.

يُستظهَر من جملة ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ في الآية المطروحة على طاولة البحث: أوّلاً: إنّ المتّقين ينفقون جزءاً من رزقهم لا كلّه (في حال كون «من» للتبعيض)، وهذا الاعتدال والتحفّظ من الإفراط والتفريط هما من توجيهات القرآن الكريم بخصوص مقدار الإنفاق: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾[1].

ثانياً: إنّ ما ينفقونه لابدّ أن يعدّوه من «رزق الله» وليس من أموالهم: «رَزَقْنا»، والقرآن الكريم هو الذي يعلّم الناس هذه الرؤية


[1]. سورة الإسراء. الآية 29.

تسنيم، جلد 2

194

التوحيديّة: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ ٱللهِ﴾[1]، ﴿وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ ٱللهِ ٱلَّذِي ءَاتَاكُمْ﴾[2].

فالإنسان ليس هو المالك الحقيقيّ للأشياء بل هو ممثّل عن المالك الحقيقيّ وعليه التصرّف بماله طبقاً لأوامره: ﴿وَأَنْفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾[3]، وإنْ قال شخص: إنّني حصلت على المال بمجهودي، كان قوله هذا ممثّلاً للمنطق الباطل لقارون الذي قال: ﴿إِنَّمَا اُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي﴾[4]. إنّ الله سبحانه وتعالى قد أمضى ـ من الناحية التشريعيّة ـ أصل المالكيّة الاعتباريّة للناس، واعتبر الإنسان، في كثير من الآيات الاقتصاديّة (كالآيات المرتبطة بالتجارة، والإرث، وأداء الحقوق الشرعيّة)، مالك المال، وأسند المال له، إلاّ أنّه تعالى ـ من وجهة النظر التكوينيّة والعقائديّة ـ قد أنزل آيات تدلّ على سلب المالكيّة التكوينيّة والحقيقيّة منه. إذن، فالآيات المُثبِتَة ناظرة إلى المالكيّة الجعليّة والاعتباريّة، والآيات النافية ناظرة إلى المالكيّة التكوينيّة والحقيقيّة.

ثالثاً: لابدّ أن يكون الإنفاق من المال الحلال؛ إذ أنّ المال الحرام شرعاً ليس هو «رزق الله»، بل هو مبغوض من قبل الله. من هذا المنطلق، فالقرآن الكريم يحثّ على الإنفاق من الطيّبات: ﴿أَنْفِقُواْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾[5]. وصحيح أنّ أصل المال هو رزق الله، لكنّ المال الحلال لأيّ


[1]. سورةالنحل، الآية 53.

[2]. سورة النور، الآية 33.

[3]. سورة الحديد، الآية 7.

[4]. سورة القصص، الآية 78.

[5]. سورة البقرة، الآية 267.

تسنيم، جلد 2

195

شخص هو رزقه الخاصّ، وأنّ الله تعالى قد أمر المنفِق أن ينفق من رزقه الخاصّ.

رابعاً: لا ينبغي أن يُحصَر الإنفاق بالمال، بل إنّ العلم، والعقل، والسلطة، والجاه، والنفس كلّها من موارد الإنفاق أيضاً، لأنّها جميعاً من مصاديق الرزق الإلهيّ الذي يعطيه الله لعبده، وسوف يتّضح هذا الموضوع أكثر في البحث الروائيّ. من هذا المنطلق، فقد قال هنا: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، ولم يقل: «من أموالهم». بناءً على ما تقدّم، فالمتّقون لا ينفقون من المال فقط، بل من كلّ ما رزقهم إيّاه الله الرزّاق، وإنّ مثل هذا الإنفاق هو ما يمهّد لجني ثمار الهداية القرآنيّة.

وخلاصة القول إنّ الآيات المعنيّة بالإنفاق تنقسم إلى عدّة مجاميع: فبعضها يصرّح بإنفاق المال، وإن لم يكن مدار دلالتها حصر الإنفاق به. والبعض الآخر فيه دلالة على إنفاق «الخير» أو «المحبوب» ومثل هذه العناوين تشمل غير المال أيضاً، وإن كان مصداقها البارز هو المال. كما أنّ البعض يدلّ على إنفاق «الرزق»، ومن الواضح أنّ عنوان الرزق يشمل غير المال كذلك. وبعضها الآخر أتى من دون ذكر المتعلَّق، وإنّ حذف المتعلَّق علامة على عموميّته[1]. ولمّا لم يؤخَذ عنوان «المال» في حقيقة الإنفاق، فإن أتى الأمر بالإنفاق المطلق مع حذف المتعلَّق، أمكننا التمسّك بإطلاقه، ولن تكون الآيات التي تطرح الإنفاق الماليّ بالخصوص مقيِّدة للإطلاق المذكور؛ إذ أنّ هذين الدليلين هما من قبيل المُثبِتَين ولا مجال لتقييد الإطلاق في مثل هذه الموارد.


[1]. راجع الآيات 272 من سورة البقرة، و92 من سورة آل عمران؛ و...

تسنيم، جلد 2

196

والدليل على أنّه لم تُؤخَذ خصوصيّة المال في حقيقة الإنفاق هو الآية الشريفة: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[1]؛ ذلك أنّ الإنفاق الإلهيّ شامل لكلّ النعم المادّية والمعنويّة. كذلك فإنّ ظاهر الآية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ﴾[2] هو عدم تخصيص الإنفاق بالمال؛ وصحيح أنّ المال الزائد هو مصداق «العفو»، وأنّ الرفاه الماليّ المتراكم يمهّد الأرضيّة لصدق «العفو» في الآية ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ﴾[3]، لكنّ مفهوم العفو ليس مرادفاً لمعنى المال. بناءً عليه، فإنّ الصفح الأخلاقيّ هو من مصاديق الإنفاق أيضاً.

لطائف وإشارات

[1] الغيب المطلق والنسبيّ

الغيب قسمان: مطلق ونسبيّ. فالغيب المطلق هو الشيء الخفيّ والمستور في كلّ المراحل الوجوديّة وبالنسبة للجميع؛ كذات الله تعالى، فإنّ معرفة كُنْه ذاته ليست بمقدور أيّ أحد، وهي غيب بالنسبة للجميع، وإن كانت مشهودة له تعالى. من هذه الناحية، فالغيب المطلق، الذي هو غيب حتّى لذات ذلك الشيء، لا وجود له أصلاً، بل هو عدم محض، وهو معدوم حتّى لذاته؛ لأنّه هو ذاته عين العدم، أي لا ذاتيّة له كي يكون شيء معلوماً له، سواء كان هذا المعلوم ذاته أو غير ذاته.


[1]. سورة المائدة، الآية 64.

[2]. سورة البقرة، الآية 219.

[3]. سورة الأعراف، الآية 95.

تسنيم، جلد 2

197

أمّا الغيب النسبيّ فهو غيب في بعض المراحل الوجوديّة، أو بالنسبة لبعض الأشخاص؛ كأخبار الماضين: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾[1]، أو القيامة والملائكة. لأنّ القيامة مشهودة لبعض الأشخاص. كما أنّ تمثُّل المَلَك ممكن للبعض كذلك: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾[2]، وإنّ مشاهدته أمر ميسور لأنبياء الله وأوليائه. بطبيعة الحال فإنّ الكلّ ـ حتّى الكفّار ـ يشاهد بعض الملائكة في ساعة الاحتضار وفي البرخ والقيامة: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾[3].

في مقابل الغيب المطلق والنسبيّ هناك شهادة مطلقة ونسبيّة أيضاً وأصل وجودهما كمعناهما يتّضح من خلال البحث الآنف الذكر. فالشهادة المطلقة مثل أصل الواقع حيث لا تكون غائبة ولا محجوبة عن أيّ موجود. أمّا فيما يخصّ الموجودات المادّية المحسوسة، فهي وإن كان وجودها متحقّّقاً في نشأة الشهادة، لكن لمّا كانت بعض موجودات نشأة الشهادة غائبة عن البعض الآخر، فقد اتّسمت جميع شهادات عالم الحسّ بغيب نسبيّ.

من الجدير بالذكر أنّ تقسيم الموجود إلى غيب وشهادة هو بلحاظ المعرفة، لا بلحاظ أصل ذات الشيء، أيّ إنّه ليس نظير تقسيم الموجود إلى واجب وممكن، والذي هو أمر عينيّ لا معرِفيّ؛ إذ أنّه لو لم تكن المعرفة مطروحة أساساً، لم يصحّ تقسيم الموجود إلى غيب وشهادة.


[1]. سورة آل عمران، الآية 44.

[2]. سورة مريم، الآية 17.

[3]. سورة الفرقان، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

198

بالطبع، فإنّ ملزوم ذلك، أيّ تقسيم الموجود إلى مجرّد ومادّي، هو أمر نفسيّ وعينيّ، لا نسبيّ وعلميّ، لكنّ لازم التجرّد والمادّية، أي الغيب والشهادة، فهو أمر معرفيّ وعلميّ.

[2] المعيار في معرفة الغيب والشهادة

تنقسم موجودات عالم الوجود إلى قسمين: محسوسة وغير محسوسة. وإنّ المعيار في معرفة الموجود المحسوس هو الحسّ والتجربة. والتجربة وإن كانت معتبرة وذات قيمة في مجالها الخاصّ، إلاّ أنّ اعتبارها يكون في طول اعتبار العقل، لا في عرضه؛ إذ ليس المراد من التجربة هو الاستقراء والحسّ المكرّر، بل التجربة هي حسّ مكرّر لا يفيد اليقين إلاّ في ظلّ قياس خفيّ، وإنّ لكلّ قياس دائماً كبرى كلّية ممتنعة عن الإدراك بالحسّ (سواء العادّي أو المسلّح)، ولا يمكن فهمها إلاّ عن طريق التفكّر العقلانيّ.

ولابدّ من القول أيضاً فيما يخصّ معرفة عالم الغيب: إنّه لا يمكن التوصّل إلى معرفة الغيب المطلق (أي كُنْه ذات الله سبحانه وتعالى، والذي هو حقيقة غير متناهية) لا عن طريق العلم الحصوليّ والمفهوميّ، ولا عن طريق العلم الحضوريّ والشهود القلبيّ. إذن، فالمعرفة للكُنه غير متيسّرة لأحد إلاّ لذاته سبحانه، بل ولا يمكن إلاّ العلم الإجماليّ به، والإيمان به في الجملة، لا بالجملة.

لكنّ المعيار في معرفة الغيب النسبيّ هو البراهين العقليّة، وكذلك المشاهدات القلبيّة. وإنّ إصرار القرآن الكريم على التفكّر والتعقّل هو

تسنيم، جلد 2

199

من أجل أنّ العقل يُعدّ أوّل معيار للمعرفة؛ ذلك أنّه لو كان العقل حاكماً، لكان قَبِل بمعيار المعرفة الأسمى، ألا وهو الوحي، من جهة: ﴿كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[1]، ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ اُولُواْ ٱلأَلْبَابِ﴾[2]، وأيّد الشهود القلبيّ من جهة أخرى، وهدى الإدراك الحسّي من جهة ثالثة. وفي هذا الميدان فإنّ الأسلوب الذي يتّبعه القرآن الكريم في الهداية هو الأخذ بيد الناس، وإيصالهم خطوة بعد خطوة من الحسّ إلى العقل، ومن العقل صوب الكشف والشهود الصحيحين المنطبقين مع الوحي، على نحو يكتسب معه الإنسان المتفكّر القدرة على مشاهدة الحقائق، ناهيك عن إدراكه لإمكان الشهود القلبيّ، ويتعرّف عن كثب على أصل وحي الأنبياء والأولياء الإلهيّين(ع)، فيؤمن به من دون أن يناله هو بنفسه.

[3] اختلاف منكِرِي الغيب

إنّ المنكرين للغيب مختلفون. ففريق منهم هم أولئك المبرِّرون للمدارس الإلحاديّة؛ كالماديّين المعاصرين الذين يقولون كما قال بنو إسرائيل في السابق: ما دام الله لا يدرَك بالحواسّ، فلا وجود له، أو إنّه غير قابل للحمد والثناء: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَىٰ ٱللهَ جَهْرَةً﴾[3]. ويرشدنا القرآن الكريم، في معرض الردّ عليهم، إلى أنّ معيار المعرفة هو العقل،


[1]. سورة الروم، الآية 28.

[2]. سورة ص، الآية 29.

[3]. سورة البقرة، الآية 55.

تسنيم، جلد 2

200

لا مجرّد الإحساس والتجربة؛ ذلك أنّ الركيزة لعالم الشهادة ـ حيث المعرفة التجريبيّة أمر قيّم أيضاً ـ هي العقل، وأنّ السرّ وراء إنكار الملحدين للإلهيّات والمعارف الغيبيّة هو حصرهم لمعيار المعرفة في التجربة، وظنّهم بأنّ معارف ما وراء الطبيعة المحسوسة مُهمَلة، ولهذا فإنّهم يقولون: ﴿أَرِنَا ٱللهَ جَهْرَةً﴾[1].

الفريق الآخر من منكري الغيب هم السواد الأعظم من الناس ممّن ينكرون الغيب على أساس من عاداتهم وأعرافهم التقليديّة واقتفاءً لأثر أسلافهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ اُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[2]، وهؤلاء يرشدهم الله عزّ وجلّ بأنّه حتّى المقلِّد لابدّ وأن يكون محقِّقاً في تقليده، وأن يعلم مَنْ يقلِّد، وفي ظلّ أيّة شروط: ﴿أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾[3].

أمّا الفريق الثالث فهم المستكبرون الذين ينكرون الغيب بالرغم من وجود اليقين عندهم بحقّانيّة الوحي والرسالة: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾[4]، ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾[5]، ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَٰؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَائِرَ﴾[6]، ولمّا كان إنكار هؤلاء عن تعدّ وبغي، لم يأت ردّ الإله القهّار عليهم إلاّ بالسيف


[1]. سورة النساء، الآية 153.

[2]. سورة الزخرف، الآية 23.

[3]. سورة البقرة، الآية 170.

[4]. سورة النمل، الآية 13.

[5]. سورة النمل، الآية 14.

[6]. سورة الإسراء، الآية 102.

تسنيم، جلد 2

201

والقوّة: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ﴾[1]. طبعاً سيتّضح ضمن بحوث الجهاد أنّ الجهاد الابتدائيّ هو من أجل الدفاع عن حقوق الإنسانيّة، وحظوظ الفطرة الأصيلة، وليس هو من باب فرض العقيدة على الآخرين.

[4] العلاقة بين العقيدة والأخلاق والعمل

يُستشَفّ من سياق الآية مورد البحث، والتي ذَكرت ـ بعد الإيمان بالغيب ـ إقامة الصلاة والإنفاق كجزء من صفات المتّقين، أنّه لِكمال الهداية والتقوى فإنّ «العمل بالأحكام» مطلوب جنباً إلى جنب مع العقيدة، ولمّا كانت الأخلاق والخصال النفسانيّة هي الواسطة بين العقيدة والعمل (وإلاّ لانفصم الارتباط بين العقيدة والعمل)، فمن أجل تحقّق التقوى، التي هي ملَكَة نفسانيّة ومتعلَّق الهداية، فإنّه بالإضافة إلى الاعتقاد القلبيّ والعمل الجوارحيّ، لابدّ من تحقّق الأوصاف النفسانيّة (الأخلاق) أيضاً، وإنّ هذه الأركان الثلاثة هي في طول، لا في عرض، بعضها البعض.

وصحيح أنّ بين العقيدة ـ من ناحية ـ والأخلاق والعمل ـ من ناحية أخرى ـ تأثيراً متبادلاً، وأنّ خلوص العمل يزداد بنفس النسبة التي تكون فيها المعرفة والعقيدة أقوى وأعمق، كما أنّ العكس صحيح أيضاً، لكنّه لمّا كانت المعرفة وصفاً لروح الإنسان، والروح هي أصل الإنسان وحقيقته، وهي ـ بسبب من تجرّدها ـ موجود أبديّ، ولمّا كان العمل ـ من ناحية أخرى ـ وصفاً لأعضاء البدن وجوارحه، وأنّ بقاءه محدود كذلك، يصبح معلوماً أنّه عند التقييم والتحليل للمعرفة والخُلق والعمل، تكون الأصالة للمعرفة.


[1]. سورة التوبة، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

202

والإنسان مكلّف بالعمل في الدنيا فقط، أمّا عالم البرزخ والقيامة فهما ظرفان للحساب لا للعمل، وفي تلك العوالم تشاهد روح الإنسان ثمرة عملها، وتستمتع بأعلى مراتب اللذّة. أمّا البدن فيكون تابعاً للروح في جميع تلك المراحل، والمرتبة النازلة لها، وفي الآخرة أيضاً ينتفع بسهمه من الجنّة؛ وإن كان الإدراك في كافّة تلك المراحل هو للروح، ولا يعدّ البدن إلاّ أداة بيدها.

تأسيساً على ما مرّ، فإنّ كلّ خُلُق وخلّة حسنة اُوصِي الإنسان بالتخلّق بهما، وكلّ عمل جُعِل عليه فرضاً، أو له نفلاً، فهو بهدف تفتُّح معرفته وازدهارها: ﴿وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأتِيَكَ ٱلْيَقِينُ﴾[1] كي تسمو روحه فينال حظوة ملاقاة الباري تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[2]، إذ ذاك يسطع نور الله، الذي هو نور السماوات والأرض: ﴿ٱللهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ﴾[3] في مرآة روحه الشفّافة. إذن، فالشهود المعْرِفيّ للإنسان هو أصيل، واستمراريّته غير محدودة. من هذه الجهة، لن تكون ممارساته البدنيّة لوحدها باعثة على ازدهار شهوده، بل ستصبّ أعماله القلبيّة والأخلاقيّة أيضاً باتّجاه ذلك الشهود، وإنْ كانت اهتماماته الأخلاقيّة تتمتّع بأصالة نسبيّة أيضاً.

[5] الإنفاق هو العامل لارتباط العبد بالله

ظنّ البعض أنّ جملة ﴿يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ﴾ في الآية محطّ البحث كاشفة


[1]. سورة الحجر، الآية 99.

[2]. سورة فاطر، الآية 10.

[3]. سورة النور، الآية 35.

تسنيم، جلد 2

203

عن علاقة الإنسان بالله، وأنّ جملة ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ لا تنبئ إلاّ عن رابطة الإنسان بالناس[1]. لكنّ هذا الكلام غير صحيح؛ إذ أنّ القرآن الكريم عبّر ﺑ «الإنفاق» عن بذل المال والنفس في سبيل الله وبهدف إحياء كلمة الله، وفي مثل هذه الموارد لا يجري الحديث عن علاقة الناس ببعضهم: ﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاتِِ ٱللهِ﴾[2]، ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَىٰ ٱلتَّهْلُكَةِ﴾[3]. كما أنّه قد مرّ في البحث التفسيريّ أنّ الإنفاق في المرحلة الأولى يكون مدعاة لتقوية ارتباط العبد بالله عزّ وجلّ، وفي المرحلة التالية ـ وفي ضوء التوجّه إلى الله ـ يكون له الأثر في تدعيم العلاقات ما بين العباد أنفسهم.

والحاصل هو أنّ الإنفاق الماليّ أحياناً ـ كتأسيس المسجد أو ترميمه ـ لا يكون بمعنى الإعانة المصطلحة لدى الناس، وأحياناً أخرى يحصل في سبيل سدّ حاجة فرديّة أو اجتماعيّة، ومثل هذا الإنفاق الماليّ لا يكون مفيداً في تدعيم العلاقات الاجتماعيّة ـ أوّلاً ـ وإيجاد التقرّب إلى الله ـ ثانياً ـ إلاّ عندما يكون خالصاً لابتغاء وجه الله؛ أي، إنّ السهم الحقيقيّ للإنفاق الماليّ هو من أجل الارتباط بالله؛ وإنْ طُرِح انتفاع المجتمع أيضاً في بعض الأحيان.

[6] مدار الإفادة من الهداية الأسمى للقرآن

في هذه الآية الكريمة ـ حيث يجري الحديث عن انتفاع المتّقين من


[1]. تفسير الأمثل، ج1، ص 78 ـ 79.

[2]. سورة البقرة، الآية 265.

[3]. سورة البقرة، الآية 195.

تسنيم، جلد 2

204

الهداية القرآنيّة ـ ذُكرت للمتّقين أوصاف خاصّة يمثّل كلّ منها شعبة من تقوى الله؛ فجملة ﴿يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾ تكشف عن التقوى في العقيدة، وإنّ شكّلت الرصيد للأنواع الأخرى من التقوى أيضاً، وجملة ﴿يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ﴾ علامة على التقوى العباديّة، أمّا جملة ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فهي مبيّنة للتقوى الماليّة وغير الماليّة (بناءً على تعميم الإنفاق).

المراد من التطرُّق إلى هذه الأوصاف الخاصّة هو أنّه لمّا كانت للهداية القرآنيّة درجات مختلفة، فلا ينتفع من جميع درجات هذه الهداية إلاّ الجامعون لكافّة مراتب التقوى، ولمّا كان متعلَّق التقوى في الآية المذكورة محذوفاً، وحذف المتعلّق علامة على العموم أيضاً، فإنّه يمكن الادّعاء بأنّ عنوان «المتّقين» دالّ على التقوى من جميع القبائح والسيّئات.

[7] التصوّر الخاطئ لمعنى الإنفاق

قال بعض المفسّرين: بما أنّ المادّة الأصليّة للإنفاق هي «نَفَق»، وكلّ كلمة تبدأ بحرف «النون» والحرف الثاني منها هو «الفاء» فهي تدلّ على معنى الزوال والذهاب والخروج (أمثال: نَفَر، نَفَد، نَفى، ...الخ)[1]، فإنّ الإنفاق يستبطن معنى الزوال والانعدام، لذا فالمراد من الإنفاق في جملة ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ هو إنفـاق المـال الذي يكون مدعـاة لنفاد


[1]. الكشّاف، ج1، ص41؛ وتفسير كنز الدقائق، ج1، ص88 .

تسنيم، جلد 2

205

وزوال مالكيّة المالك السابق، وإنّ شموله للعِلم ـ الذي ليس أنّه لا ينقص بسبب النشر والتعليم فحسب، بل هو ينمو ويزداد أيضاً ـ أمر «محتمل»، وليس حتميّاً[1].

الجواب على ذلك هو: أوّلاً: لقد استُخدِمت لفظة الإنفاق في القرآن الكريم في مجال الإعطاء الإلهيّ أيضاً: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[2]، ومن المعلوم أنّ إنفاق الله لا يكون باعثاً على نقصان مِلكه أو مُلكه، بل هو سبب في ازدياد نعمته وتنامي جوده وكرمه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾[3]، «ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرماًً»[4]. إذن، ففي مثل هذه المواضع لا كلام عن زوال وانعدام المتاع المُنفَق، لذا لابدّ من القول: لم يؤخَذ هذا المعنى بعين الاعتبار في الاستعمال القرآنيّ للإنفاق، بل استُعمِل للدلالة على الزوال، أو الزيادة، أو في المواضع التي يتساوى فيها المعنيان.

ثانياً: إذا صاحب إنفـاق المال الحُسن الفعليّ والحسن الفاعليّ أيضاً، أي كان المال حلالاً ـ من ناحية ـ وكان إعطاؤه بدافع الإخلاص، وعلى أساس الاحترام والتكريم، لا الترحّم والتحقير ـ من ناحية أخرى ـ فلن يرافقه الزوال والانعدام، وليس أنّ الله سيُخلِف من فضله المال المنفَق فحسب: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾[5]، بل سيضاعفه أيضاً: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ


[1]. راجع تفسير البيضاويّ، ج1، ص19.

[2]. سورة المائدة، الآية 64.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 7.

[4]. البلد الأمين، ص193؛ ومفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح.

[5]. سورة سبأ، الآية 39.

تسنيم، جلد 2

206

سُنْبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَٱللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، ولهذا، فالإنفاق عند أهل التقوى غنيمة، لكنّه عند الكفّار مغرمٌ وخسارة: ﴿وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً﴾[2]. وقد جاء في بعض النصوص الروائيّة التعبير التالي في الحثّ على الإنفاق: «مَنْ أيقنَ بالخَلَف، جادَ بالعَطِيَّة»[3].

[8] الوجه في ترتُّب الإنفاق على إقامة الصلاة

إنّ الوجه في ترتّب الإنفاق في ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ على إقامة الصلاة ﴿وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ﴾ في الآية مورد البحث هو أنّ حبّ المال والجاه، والبخل، وطبع المَنْع هي من موانع الإنفاق، وإنّ المصلين الحقيقيّين، ممّن خلّصوا أنفسهم من هذه القيود، هم فقط من يمتلك القدرة على الإنفاق. يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ﴾[4]؛ فالمصلّون الحقيقيّون مصانون من خطر صفة الهَلَع، ومن هذا المنطلق، يُتبِع تعالى هذه الآية بالقول: ﴿وَٱلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ﴾[5]. بناءً على ذلك، فإنّ لإقامة الصلاة دوراً فاعلاً في محو آثار البخل.


[1]. سورة البقرة، الآية 261.

[2]. سورة التوبة، الآية 98.

[3]. نهج البلاغة، الحكمة 138.

[4]. سورة المعارج، الآيتان 21 و22.

[5]. سورة المعارج، الآيتان 24 و25.

تسنيم، جلد 2

207

[9] كُرْه المنافقين للصلاة والإنفاق

الإنفاق والصلاة ـ اللذان هما من أركان تحقُّق التقوى، ومن خصال المتّقين، وهما الشرطان لنيل مقام الولاية الرفيع: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[1] ـ مكروهان لدى المنافقين: ﴿وَلاَ يَأتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾[2]، وسيعلم أهل جهنّم يوم القيامة أنّ إعراضهم عنهما وتجاهلهم لهما كان هو السبب في سقوطهم في سقر: ﴿يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ﴾[3]. وبما أنّ المحبّة الإلهيّة هي أساس للتقرّب، والكره مدعاة للتبعّد، لذا كان إنفاق المؤمنين مع المحبّة مقبولاً عند الله تعالى، وإنفاق المنافقين مع الكره مرفوضاً من قبل الله سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[4]. ولو صادف أن كان إنفاقهم عن طواعية ورغبة، فسيُرفَض من قبل الله أيضاً؛ لأنّ المعيار في قبول عمل هو طاعة الله، لا صِرف الطواعية والميل النفسانيّ. ومن هذا الباب يقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ أَنْفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾[5].


[1]. سورة المائدة، الآية 55.

[2]. سورة التوبة، الآية 54.

[3]. سورة المدّثّر، الآيات 40 ـ 44.

[4]. سورة التوبة، الآية 54.

[5]. سورة التوبة، الآية 53.

تسنيم، جلد 2

208

البحث الروائيّ

[1] حقيقة الإيمان ودرجاته

ـ عن عليّ بن موسى الرضا ‘: «إنّ الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان»[1].‏

إشارة: بما أنّ أصل الإنسان هو قلبه: «أصل الإنسان لبّه»[2]، فإنّ لحقيقة الإيمان أصلاً وفرعاً، كما قال أمير المؤمنين(ص): «الإيمان شجرة أصلها اليقين، وفرعها التُّقىٰ، ونورها الحياء، وثمرها السخاء»[3]، وإنّ ما جاء عن الرسول الأعظم(ص): «الإيمان قول مَقُول، وعمل معمول، وعرفان العقول»[4] فهو لا يتنافى مع أصل وجود الاعتقاد القلبيّ.

سوف تتّضح درجات الإيمان في ذيل الآية 163 من سورة آل عمران: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ ٱللهِ﴾. وقد اعتبر الإمام الصادق(ص) أنّ درجات الإيمان عشر مراتب هي بمنزلة درجات السلّم العشر، بحيث لا ينبغي لصاحب الدرجة الثانية أن يقول لصاحب الأولى: أنت لست على شيء[5].


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص121 ـ 122.

[2]. الأمالي للصدوق، ص199.

[3]. شرح غرر الحكم، ج2، ص47.

[4]. الأمالي للمفيد، ص310.

[5]. قال... أبو عبد الله(ص):«... إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لستَ على شيء ...»؛ الكافي، ج2، ص45:.

تسنيم، جلد 2

209

[2] مصاديق الغيب

ـ عن أبي جعفر(ص): «...‏َ ﴿يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ‏﴾ وهو البعث، والنشور، وقيام القائم(ص)، والرجعة»[1].

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «... ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾، قال: يصدّقون بالبعث، والنشور، والوعد، والوعيد»[2].

ـ قال الإمام [العسكريّ] (ص): «ثمّ وصف هؤلاء المتّقين الذين هذا الكتاب هدى لهم فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾ يعني بما غاب عن حواسّهم ـ من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها؛ كالبعث [والنشور]، والحساب، والجنة، والنار، وتوحيد الله تعالى، وسائر ما لا يُعرف بالمشاهدة وإنّما يُعرف بدلائل قد نصبها الله عزّ وجلّ [عليها] كآدم، وحوّاء، وإدريس، ...، والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان [بهم، و] بحجج الله تعالى ـ وإن لم ‏يشاهدوهم‏»[3].

ـ عن النبيّ(ص) قال: «يغيب عنهم إمامهم... الحجّة... لا يُسمّى حتّى يُظهِره الله... فإذا عجّل الله خروج قائمنا يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً»، ثمّ قال(ص): «طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمتّقين [للمقيمين] على محجّتهم أولئك وصفهم الله في كتابه وقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾»[4].

إشارة: إنّ ما خفي عن حواسّ الإنسان بالنسبة لعالَم الحسّ فهو


[1]. تأويل الآيات الظاهرة، ص33؛ وبحار الأنوار، ج24، ص352.

[2]. تفسير القمّي، ج1، ص43؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص31.

[3]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص66 ـ 67؛ وبحار الأنوار، ج65، ص285.

[4]. كفاية الأثر، ص59 ـ 60؛ وبحار الأنوار، ج52، ص143.

تسنيم، جلد 2

210

غيب، كما أنّ ما يكون مستوراً عن الخيال والوهم بالنسبة لعالَم المثال فهو غيب، وإنْ لم يكن غيباً لما هو فوق ذلك.

للغيب مصاديق جمّة، وإنّ ما جاء في الروايات الآنفة الذكر هو بيان لبعض تلك المصاديق وليس تبييناً لمعنى الغيب أو تفسيراً له، فمثل هذه الأحاديث في التفاسير الروائيّة للشيعة هي «تطبيقيّة» لا «تفسيريّة»؛ كما أنّ المقصود منها هو بيان بعض المصاديق، وليست هي للحصر ولا لتخصيص العامّ ولا لتقييد المطلق، وعلى هذا الأساس، فإنّ طعن الإمام الفخر الرازيّ في رأي الشيعة على أنّ: «تخصيص المطلق من غير دليل باطل»[1]، هو في غير محلّه. فالمفسّرون الشيعة لا يقولون: إنّ لفظ الغيب قد استُعمل في هذه المعاني (كالقيامة، والرجعة، وقيام المهديّ (عج))، ولا أنّ مصداقه منحصر فيها، بل قالوا: إنّ مدلول الغيب جامع وكلّي، وإنّ جانباً من مصاديقة قد بُيِّن في القرآن، وجانباً منها قد ورد في كلام المعصومين(ع)، وإنّ الأمور المذكورة هي بعض من مصاديق الغيب، وليست مفهومه.

والمبحث المهمّ الذي يُستشَفّ من حديث الإمام العسكريّ(ص) هو أنّ الموجود المجرّد الغائب الذي يمكن التوصّل إليه من خلال البرهان، أو الوجدان والعرفان الصحيحين، ليس هو الغيب المصطلح، وأنّ المراد من الغيب المصطلح هو ذلك الغيب الذي يختصّ الله تعالى بعلمه، كما سيأتي توضيحه في الحديث القادم.


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص31 ـ 32.

تسنيم، جلد 2

211

[3] علم الغيب المنحصر بالله

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «... يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلُّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ ٱللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾[1]، فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيّين مرافقاً. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه(ص) فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي»[2].

إشارة: بعد تنبّؤ أمير المؤمنين(ص) بالأحداث الجسيمة للبصرة، سأله أحد أصحابه، وكان من طائفة «بني كلب»، قائلاً: يا أمير المؤنين، أتخبرنا عن الغيب؟ فقال عليّ(ص): «يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلُّم من ذي علم (ويقصد النبيّ الأكرم(ص)) ...» الخطبة.

ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ للإنسان الكامل أعلى مراتب الفيض الإلهيّ، بل هو عين هذه المرتبة، وكلّ ما في تلك المرتبة وما دونها فهو شهادة بالنسبة له، وليس غيباً. وبما أنّ جميع مراتب الفيض في عالم الإمكان تقع بعد «الصادر» أو «الظاهر» الأوّل، فإنّ كلّ ما في عالم الإمكان يكون، بلطف الله، معلوماً لخليفة الله والإنسان الكامل، ومن ناحية أخرى،


[1]. سورة لقمان، الآية 34.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 128.

تسنيم، جلد 2

212

فإنّ الملائكة ـ المأمورين بكلّ ما هم بإذن الله مدبّرون له ـ هم ساجدون وخاضعون للإنسان الكامل. من هنا، فإنّ ما كان ضمن حدود مهمّتهم وتدبيرهم فسوف لن يكون مستوراً عن العلم المحيط للإنسان الكامل.

إنّ من أهمّ أصناف الغيب، والذي يشار إليه في مواطن كثيرة بعنوان الغيب الخاصّ، هو القيامة. لكنّه، لعلّ من الممكن الاستظهار من الآيات 25ـ27 من سورة الجنّ أنّ الله جلّ وعلا قد أعطى علم القيامة للإنسان الكامل الذي حظي بالمقام المنيع للرضوان المحض، وهو الراضي بقضاء الله، والذي رضي الله عن كلّ شؤونه العلميّة والعمليّة. ومن هذا الباب، فإنّ مثل هذا الإنسان يُعدّ المصداق البارز لقوله تعالى: ﴿مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ ...﴾[1]، ولمّا كان جميع أهل بيت العصمة والطهارة(ع) نوراً واحداً، فإنّ ما كان ـ بإذن الله ـ مكشوفاً لرسول الله(ص)، فهو مشهود لسائر أهل البيت(ع) أيضاً. وسيُتعرَّض لهذا البحث بمزيد من التفصيل في محلّه عند شرح الآيات ذات العلاقة بالموضوع.

[4] أهمّية إقامة الصلاة وآثارها

ـ عن رسول الله(ص): «إنّما مثل الصلاة فيكم كمثل السريّ ـ وهو النهر ـ على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم والليلة يغتسل منه خمس مرّات، فلم يبق الدرن مع الغسل خمس مرّات، ولم تبق الذنوب مع الصلاة خمس مرّات»[2].


[1]. سورةالجنّ، الآية 27.

[2]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص211؛ ووسائل الشيعة، ج4، ص15.

تسنيم، جلد 2

213

ـ «الصلاة ميزان فمَن وفّى استوفى»[1].

ـ «مَثَل الصلاة مَثَل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع وتد ولا طنب ولا غشاء»[2].

ـ قال أبو الحسن الرضا(ص): «الصلاة قربان كلّ تقيّ»[3].

ـ قال الصادق(ص): «إنّ طاعة الله عزّ وجلّ خدمته في الأرض، وليس شيء من خدمته يعدل الصلاة، فمِن ثَمّ نادت الملائكة زكريّا(ص) وهو قائم يصلّي في المحراب»[4].

ـ قال أبو جعفر(ص): «ما من عبد من شيعتنا يقوم إلى الصلاة إلاّ اكتنفَتْه بعدد من خالفه ملائكة يصلّون خلفه، ويدعون الله عزّ وجلّ له حتّى يفرغ من صلاته»[5].

ـ «للمصلّي ثلاث خصال: إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء، ويتناثر البرّ عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه، ومَلَك موكَّل به ينادي: لو يعلم المصلّي من يناجي ما انفتل»[6].

ـ قال النبيّ(ص): «ما من صلاة يحضر وقتها إلاّ نادى ملَك بين يدي


[1]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص207.

[2]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص211.

[3]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص210؛ ووسائل الشيعة، ج4، ص43.

[4]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص208.

[5]. من لا يحضره الفقيه، ص209.

[6]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص210؛ ووسائل الشيعة، ج4، ص33.

تسنيم، جلد 2

214

الناس: أيّها الناس! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم»[1].

ـ قال الصادق(ص): «إنّ العبد إذا صلّى الصلاة في وقتها وحافظ عليها ارتفعت بيضاء نقيّة تقول: حفظتني حفظك الله. وإذا لم يصلّها لوقتها ولم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة تقول: ضيّعتني ضيّعك الله»[2].

إشارة: تبيّن الروايات الآنفة الذكر معارف ولطائف جمّة، نشير إلى بعضها:

أ: للصلاة أحكام (منها الواجب ومنها المستحبّ و...الخ) وقد تكفّل ببيانها علم الفقه، ولها آداب أخذ علم الأخلاق على عاتقه توضيحها، ولها أسرار (كما جاء في الأحاديث المذكورة) ممّا لابدّ من مناقشته ضمن علوم هي أسمى من علم الأخلاق. إنّ كون الصلاة حيّة، وبياض وجهها أو كونها مظلمة، وكلامها مع المصلّي، ودعاءها للمصلّي أو عليه، ليست هي من تشبيهات أرباب الشعر، بل هي من الأسرار المستورة للصلاة؛ لأنّه مثلما أنّ للقرآن مراتب وبطوناً، فإنّ لحقيقة الدين درجات وبطوناً أيضاً، وإنّ الصلاة، التي تعدّ العمود لهذه الحقيقة، غير مستثناة من هذا الحكم الكلّي.

ب: الصلاة هي ماء الحياة الذي هو شفاء للمرضى المبتلين بالذنوب، وإنعاش للمحتضرين المشرفين على موت الروح؛ إذ أنّ الذنب بمثابة المرض أو الموت، يُمرِض أو يميت من يصاب


[1]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص208.

[2]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص209.

تسنيم، جلد 2

215

به. من هذا المنطلق، فإنّ للصلاة السهم الأوفر في علاج الأسقام، أو الإنقاذ من الموت.

ج: يصل المتّقون في ظلّ الصلاة إلى قرب خاصّ، وبالمقدار الذي تكون فيه صلاتهم أشدّ إخلاصاً، وأكثر قبولاً، فإنّه تزداد تقواهم كمالاً، ويتنامى ـ بالنتيجة ـ انتفاعهم من معارف القرآن الكريم؛ ذلك أنّ المحور في الانتفاع من الهداية السامية للقرآن هو التقوى.

د: إنّ مناجاة العبد مع المولى في الصلاة هي المقدّمة لنيل العبد مقاماً منيعاً بحيث تبدأ في تلك المرحلة مناجاة المولى مع العبد؛ ذلك أنّه، وفقاً للمناجاة الشعبانيّة، فإنّ الإنسان السالك الصالح يصل إلى منزلة يصبح فيها لائقاً لأن يكون المخاطَب والمستمع المؤهّل لمناجاة الربّ معه. وسيأتي تفصيل بركات الصلاة وأسرارها وآدابها في تفسير ما يناسب ذلك من الآيات.

ﻫ : إنّ أداء أصل الصلاة (الواجبة منها أو المستحبّة) يتيح للمصلّي نيل مقدار خاصّ من الهداية القرآنيّة. إلاّ أنّ إقامة الصلاة ـ التي هي أرفع من مجرّد أدائها ـ يمهّد لانتفاع أكبر، ولمّا كانت الصلاة عبارة عن حوار للعبد مع مولاه، والقرآن مكالمة المولى مع العبد، فإنّ مَن يفلح في الأمر الأوّل فلاحاً كاملاً، فسيكون له نصيب وافر من الأمر الثاني؛ إذ أنّ سهم المرء في تلقّي كلام الله هو بمقدار الخلوص في التكلّم معه، وبما أنّ الصلاة هي مدعاة لتقرّب العبد المتّقي من الله، فإنّه كلّما كان القرب الإلهيّ أشدّ، كان نيل بطون القرآن، التي هي أقرب إلى مقام «لدُنّا»، أيسر وأسهل.

تسنيم، جلد 2

216

[5] سعة مدلول الرزق والإنفاق

ـ عن أبي عبد الله(ص)... [في قوله تعالى]: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ قال: «ممّا علّمناهم يُنبِئون [يبثّون]، وممّا علّمناهم من القرآن يتلون»[1].

ـ قال الإمام [العسكريّ] (ص): «يعني ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من الأموال، والقوى في الأبدان والجاه‏ ...»[2].

إشارة: بمقدورنا استظهار سعة وضيق الإنفاق[3] من سعة وضيق عنوان الرزق. فكما أنّ عنوان الرزق يشمل الآلاء والنعم الظاهريّة والماديّة، فإنّه شامل للنعم الباطنيّة والمعنويّة أيضاً. وإنّه من هذا المنطلق أطلق شعيب(ص) تعبير «الرزق الحسن» على نبوّته، ورسالته، وولايته: ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾[4]. كما إنّه في الآية: ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً﴾[5]، طُرِح الترغيب بالإنفاق من الرزق الحسن (بمدلوله الجامع) أيضاً. وبما أنّ للرزق معنى جامعاً يغطّي جميع الشؤون والكمالات العلميّة والعمليّة، فإنّ لإنفاق الرزق كذلك مدلولاً جامعاً يشمل أيّ نمط من الإعانات العلميّة أو العمليّة. ولهذا فقد قيل في بحث «الصدقة» (المتناسبة مع الإنفاق): الصدقة هي كلّ عمل خير أو


[1]. معاني الأخبار، ص23؛ وبحار الأنوار، ج2، ص17.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص73؛ وبحار الأنوار، ج93، ص168.

[3]. ستأتي روايات الإنفاق في ذيل الآية 261 من هذه السورة.

[4]. سورة هود، الآية 88 .

[5]. سورة النحل، الآية 75.

تسنيم، جلد 2

217

معروف. فإرشاد الجاهل، وإصلاح ذات البين في النزاع والخصومة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفع الشوك والأذى من الطريق، وعيادة المرضى، ...الخ كلّها من مصاديق الصدقة؛ وبالنتيجة، ستكون مشمولة في عنوان «الإنفاق من أنواع الرزق»[1].


[1]. راجع بحار الأنوار، ج93، ص136.

تسنيم، جلد 2

218

تسنيم، جلد 2

219

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَ بِالأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

خلاصة التفسير

إنّ الهداية القرآنيّة هي مكسب المتّقين الذين آمنوا بكلّ ما نزل على القلب المطهّر للنبيّ الأكرم(ص) (سواء كان من القرآن أو من الحديث القدسيّ)، وبكافة الكتب السماويّة السابقة.

والإيمان بالقرآن وبالكتب السماويّة السالفة يستلزم الإيمان بأنبياء الله(ع) وبمعاجزهم، والإيمان بوجود الملائكة أيضاً، وعلى هذا الأساس فالمتّقون يؤمنون ويصدّقون بكلّ تلك المعارف.

وعلاوة على الإيمان بالوحي والرسالة فإنّ المتّقين موقنون بالمعاد الذي هو من أبرز معطيات الدين، ذلك لأنّ دين الله تعالى هو الصراط، ولن يجدي الاعتقاد بالصراط نفعاً من دون الاعتقاد بالمقصد (الذي هو المعاد).

تسنيم، جلد 2

220

والموانع التي تعوق الاعتقاد بالمعاد هي إمّا من قبيل «الشبهة العلميّة» أو «الشهوة العمليّة»، والمتّقون قد أزاحوا هذين الأمرين من حريم فكرهم وعملهم، وانتفعوا من أصفى وأندر أنواع الرزق الإلهي، ألا وهو رزق «اليقين» الأصيل.

التفسير

«الآخرة»: الآخرة هي في مقابل الأولى والدنيا، والمراد من «عالم الآخرة» هو القيامة التي فيها الحساب، والثواب والعقاب، والحياة الطيّبة والأفضل، والسعادة الأبديّة المحضة، وأمثال ذلك، والمراد من «العمل الأخرويّ» هو ذلك العمل الذي، إضافة إلى تأمينه لمتطلّبات الحاضر، فإنّ له دوراً في سعادة الإنسان الأبديّة، وهو من موجبات التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن عوامل استدرار رضاه. فأهل الآخرة هم أولئك الذين تمتاز جميع شؤونهم بالصبغة الإلهيّة.

وفي المقابل، فالمراد من الدنيا هو الأمور التي تنأى بالإنسان عن الذات الإلهيّة المقدّسة، وعن رضا الله، وهي متاع المكر وبضاعة الغرور: ﴿وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ﴾[1].

يقول القرآن الكريم في تعريفه للدنيا: ﴿ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ﴾[2]؛ أي إنّ


[1]. سورة آل عمران، الآية 185.

[2]. سورة الحديد، الآية 20.

تسنيم، جلد 2

221

الدنيا هي الشيء الذي يحول دون وصول الإنسان إلى غايته النهائيّة (المتمثّلة بلقاء الله سبحانه) تارة باللعب، وتارة أخرى باللهو، وثالثة بالزينة، ورابعة بالتفاخر، وخامسة بالتكاثر، وهي تلك الأمور الاعتباريّة لا التكوينيّة، لأنّه كما أنّ الحياة الدنيا الطبيعيّة تقدّم السعادة والجمال، فإنّ فيها الأحزان والآلام أيضاً. كذلك فإنّ الدنيا ليست خدّاعة بذاتها، ومن هذا المنطلق فإنّ النشأة الحاليّة لا تغرّ أهل التقوى، أمّا أهل الدنيا فإنّ أمانيّهم هي التي تغرّهم: ﴿وَغَرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ﴾[1].

«يوقنون»: اليقين هو العلم الثابت والقطعيّ الذي لا يقبل الشكّ، والذي يكون مدعاة لسكينة نفس الإنسان وطمأنينتها.

إنّ بعض ما يؤخَذ في خواصّ اليقين (مثل زوال الشكّ أو كون اليقين حصيلة النظر والاستدلال) يعدّ مانعاً من إسناده إلى الله واتّصافه سبحانه بصفة اليقين، إلاّ أن تكون تلك الخصائص التي يشوبها النقص متعلّقة ببعض مصاديق اليقين، وليست ممّا يؤخَذ في مفهومه. من هنا، فإنّه بتنزيه المعنى الجامع لليقين من خصوصيّات بعض المصاديق، لا يبقى محذور من اتّصاف الله عزّ وجلّ به.

والمفردات التي يستعملها القرآن الكريم للتعبير عن أنماط الإدراك تقارب 20 مفردة؛ مثل: الظنّ، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، بالإضافة إلى ألفاظ أخرى من


[1]. سورة الحديد، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

222

قبيل: القول، والفتوى، والبصيرة، ...الخ، وكلّ واحدة من هذه المفردات تمتاز عن البقيّة بخصوصيّة واحدة أو بضع خصوصيّات[1].

«الإيقان»، الذي هو باب الإفعال من المادّة «يقن»، ناظر إلى قيام اليقين عند من يمتلكه. والظاهر أنّ عنوان «الموقن» يُستعمَل في أمثال هذه الموارد كصفة مُشبهة، وليس اسم فاعل، ومن هذا الباب فإنّ له مدلولاً ثبوتيّاً وليس حدوثيّاً.

لقد مرّ في تفسير الآيتين الثانية والثالثة من هذه السورة أنّ القرآن الكريم هو هاد للأتقياء الذين يتمتّعون بتقوى اعتقاديّة (الإيمان بالغيب)، وتقوى عباديّة (إقامة الصلاة)، وتقوى ماليّة وغير ماليّة (الإنفاق). وبما أنّ الإيمان بالغيب قد ذُكر على نحو مطلق، وأنّه كان منصرفاً إلى أبرز مصاديقه ـ ألا وهو الغيب المطلق، الذي هو كُنه ذات الله سبحانه ـ فقد تمّت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى مصداقين آخرين من مصاديق الإيمان بالغيب (ألا وهما الإيمان بالوحي والنبوّة، واليقين بالآخرة).

تجلّي القرآن

هناك نحوان لتنزّل الأشياء من مكان عال أو من مكانة رفيعة: أحدهما بصورة التجلّي، والآخر بصورة التجافي. فتنزّل الأشياء المادّية والجسمانيّة (كالمطر وسائر ما ينزل من الجوّ) من الفضاء المرتفع، وليس من خزانة الغيب، هو بصورة التجافي؛ بمعنى أنّه بهبوطه يترك مكانه السابق فارغاً بصورة «أجوف»، فلا يعود هذا الشيء موجوداً في الأعلى.


[1]. الميزان، ج2، ص247.

تسنيم، جلد 2

223

كما أنّه عندما كان هو في الأعلى، أي في الفضاء العلويّ، فهو لم يكن موجوداً في الأسفل.

أمّا تنزّل القرآن فهو على نحو التجلّي؛ أي، إنّه لا يترك موطنه الأصليّ في العالم العلويّ فارغاً بتاتاً ولا يبقيه بصورة أجوف قطّ، بل إنّ حقيقته موجودة دوماً في موطنها، إلاّ أنّ تجلّيه ومخَفَّفَه يتحقّقان أيضاً في المراحل الأكثر سفلاً؛ بالضبط كتنزّل العلم والتفكّر العقلانيّ للإنسان الحكيم من صحيفة روحه وتجلّيهما على هيئة صوت القول أو نقوش الكتابة في المحيط الخارجيّ، أو على صفحة مكتوبة. ففي مثل هذه الحالات لن يخرج المبحث العلميّ العميق من حيّز ذهن المفكّر أو العالم إطلاقاً حتّى يخلو ذهنه منه.

إنّ القرآن الكريم هو حقيقة منبسطة وواسعة حيث أنّ مرتبتها العالية خارجة عن متناول الإنسان العاديّ، وهي موجودة في مكانة عالية وسامية، أمّا مرتبتها السفلى فقد تجلّت بصورة ألفاظ ومفاهيم كي تكون قابلة للقول، والسماع، والكتابة، والقراءة، والانتقال الذهنيّ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[1].

إذن فليست القضيّة هي أنّ القرآن عندما يهبط من «اللدنّ» ويصبح في متناول الناس، فلا تعود المرتبة الرفيعة لمعارفه موجودة في أمّ الكتاب أو الكتاب المبين، أو لا تعود مرتبتها المتوسّطة موجودة في أيدي الملائكة الحمَلَة لها.

تنويه: لمّا كان معنى «التنزّل»، والتحدُّد بحدود اللفظ، والتلبُّس بلباس


[1]. سورة الزخرف، الآيتان 3 و4.

تسنيم، جلد 2

224

الكلمة الملفوظة والمسموعة أمراً صعباً على البعض، فقد ابتُلي الفخر الرازيّ بالتكلّف في هذا المجال[1]؛ كما أنّه ليس لصاحب المنار تصوّر صحيح عن تنزّل الموجودات العينيّة والمُلْكيّة من الخزانة الغيبيّة والملكوتيّة[2]، لذا فقد تمّ إغفال الأصل العامّ المستنبط من الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾[3]. من هذا المنطلق، فهؤلاء يحسبون أنّ إنزال الحديد، وإنزال أزواج الأنعام الثمانية هو بنفسه إنزال الأحكام المتعلّقة بها.

اتّساع مدلول ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ﴾

إنّ تعبير ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ﴾ شامل لكافة مراحل النزول، سواء ما تنزّل إلى مستوى عالم الطبيعة، أو ما تسلّمه الرسول الأكرم(ص) في المعراج بواسطة أو بدون واسطة: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّىٰ ٱلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[4]. كما هو الحال في الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا اُنْزِلَ ...﴾ فقد تمّ تلقّيهما أثناء المعراج شفاهاً من غير واسطة.

ممّا يجدر ذكره هنا، هو أنّه حتّى عند المعراج لابدّ للوحي من جانب الله سبحانه وتعالى أن يتنزّل ليكون قابلاً للتلقّي من قبل


[1]. راجع التفسير الكبير، مج1، ج2، ص36.

[2]. المنار، ج1، ص132 ـ 133.

[3]. سورة الحجر، الآية 21.

[4]. سورة النمل، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

225

النبيّ(ص). إذن، فمن أجل تسلّم كلام الله عزّ وجلّ، فبالإضافة إلى صعود النبيّ(ص) وعروجه، يلزم تنزّل الوحي من جانب الله كذلك.

إنّ سعة معنى ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ﴾ مضافاً إلى أنّه يستوعب جميع مراحل تنزّل القرآن، فهو يشمل ما هو غير القرآن أيضاً كالحديث القدسيّ. لذا، فإنّ كلّ ما نزل على القلب المطهّر لحضرة النبيّ(ص) هو ضمن إطار ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ﴾ ـ سواء ما كان منه على هيئة قرآن (بجميع مراحل تنزّله)، أو بصورة حديث قدسيّ ـ ليقوم النبيّ(ص) بمهمّة إيصاله إلى الناس بلا أدنى تصرّف من جانبه.

فعلاوة على أنّ النبيّ الأكرم(ص) لا يكتم من الوحي الإلهيّ شيئاً بدافع البخل والضِنَّة: ﴿وَمَا هُوَ عَلَىٰ ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾[1]، فإنّه لا يضيف عليه شيئاً ولا يبدّل فيه أيضاً. إذن، فما أوحي إليه هو عين ما يقوله، وما يقوله هو عين مـا يوحى إليه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾[2].

تنويه: وُصفت بعض الأحكام في كتب الفقه بأنّها «فرض الله» والبعض الآخر وصفت بأنّها «فرض النبيّ(ص)»، وهو في مقابل «فرض الله»، لا بمعنى أنّ النبيّ الأكرم(ص) يزيد على دين الله شيئاً من عنده وباجتهاد ظنّي منه، بل المقصود أنّه لمّا كان الشارع الحقيقيّ هو الله سبحانه وتعالى، فإنّ فرض النبيّ(ص) يرجع أيضاً إلى فرض الله، إذ أنّ اللازم ممّا يُستفاد من الآيات الآنفة الذكر لسورتي التكوير والنجم هو رجوع فرض النبيّ(ص) إلى فرض الله، لكنّه مع الواسطة.


[1]. سورة التكوير، الآية 24.

[2]. سورة النجم، الآيتان 3 و4.

تسنيم، جلد 2

226

العلاقة بين الإيمان بالقرآن والإيمان بسائر الكتب السماويّة

إنّ الإيمان بما اُنزل على النبيّ الأعظم(ص) يستلزم الإيمان بجميع الأنبياء السابقين له، وبكتبهم السماويّة أيضاً، وذلك لأنّه من الممكن أن نستنتج حقانيّة الأنبياء السابقين وحقانيّة كتبهم من القرآن الكريم من خلال ثلاثة طرق:

1. إنّ جميع الشرائع تشترك في أصولها وفي الخطوط العامّة لمعارفها: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِنْدَ ٱللهِ ٱلإِسْلاَمُ﴾[1]، وإنّ الإسلام، الذي هو حصيلة ونتاج القرآن الكريم، هو روح جيمع الأديان الإلهيّة.

2. إنّ القرآن الكريم مصدّق للكتب السماويّة السابقة له ومهيمن عليها: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾[2].

3. الأنبياء السالفون هم محطّ إطراء وتمجيد عظيمين في القرآن الكريم، كما وقد عرض القرآن قصصهم كوسيلة للهداية والنجاة، وبيّن معارفهم، وأخلاقهم، وأحكامهم الغير المنسوخة.

بناءً على ذلك، فإنّ الإيمان بالقرآن الكريم هو ملازم للإيمان بالأنبياء السابقين وبكتبهم السماويّة.

العلاقة بين الإيمان بالوحي والإيمان بالرسالة

إنّ جملة ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ تبيّن الإيمان


[1]. سورة آل عمران، الآية 19.

[2]. سورة المائدة، الآية 48.

تسنيم، جلد 2

227

بالوحي الخاصّ (القرآن)، وبمطلق الوحي أيضاً، بصورة صريحة وبالدلالة المطابقيّة، كما وتنبئ عن لزوم الإيمان برسالة الرسول الأعظم(ص) وباقي الرسل، وكذلك عن حقانيّة جميع الأنبياء، وعن الإيمان بمعجزاتهم والإيمان بالملائكة من خلال الدلالة الالتزاميّة؛ إذ أنّ هناك تلازماً قطعيّاً بين الإيمان بكتاب الله، والإيمان برسالة الرسول الذي جاء به.

إنّ هذه اللوازم تبيّنها آيات أخرى بصراحة؛ مثل: ﴿فَآمِنُواْ بِٱللهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ﴾[1]، و﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[2]. كما أنّ بعض الآيات تطرح أيضاً ضرورة الإيمان بمعجزات الأنبياء بعد الإيمان بالوحي: ﴿قُولُواْ ءَامَنَّا بِٱللهِ وَمَا اُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا اُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَا اُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا اُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾[3].

وفي مقابل المتّقين الصادقين الذين آمنوا بكافّة الكتب الإلهيّة هناك جماعة من المتعصّبين من بني إسرائيل ممّن خالفوا الأمر الإلهيّ الداعي إلى الإيمان بكلّ ما أنزل الله وصرّحوا بالتمييز قائلين: إنّنا نؤمن بما اُنزل إلينا فحسب: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا اُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ﴾[4].


[1]. سورة الأعراف، الآية 158.

[2]. سورة البقرة، لآية 285.

[3]. سورة البقرة، الآية 136.

[4]. سورة البقرة، الآية 91.

تسنيم، جلد 2

228

قد يُقال: كيف يمكن تحقّق الإيمان الدفعيّ بكلّ الكتب التدريجيّة النزول التي كان كلّ واحد منها حقّاً في موطنه الخاصّ ثمّ نُسِخ فيما بعد؟ أي كيف يمكن أن يكون للإيمان الدفعيّ بالناسخ والمنسوخ تصوّر صحيح؟ والجواب هو: أوّلاً: إنّ النسخ متعلّق بالشريعة والمنهاج، وليس بكلّ الكتاب ولا بأصل الدين؛ ذلك لأنّ أصل الدين هو الإسلام، والكلّ متّفقون على ذلك: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِنْدَ ٱللهِ ٱلإِسْلاَمُ﴾[1]. ثانياً: مع أنّ الإيمان فعليّ ودفعيّ، إلاّ أنّ متعلَّقه مرتبط بظروف متنوّعة ومتعدّدة. من هذه الناحية، فإنّه ليس هناك من محذور أبداً في الإيمان بأنّ الله جلّ وعلا قد أنزل في مرحلة من مراحل التاريخ شريعة ومنهاجاً خاصَّين، ثمّ أنزل في مرحلة أخرى شريعة ومنهاجاً آخرين بحيث نسخا ما سبقهما، إذ أنّ كلّ واحد منها كان حقّاً في موطنه الخاصّ. لكنّ المحذور هو الاعتقاد بلزوم العمل بجميعها في الوقت الحاضر الذي هو ظرف الإيمان، وهذا الأمر ليس مطلوباً.

الإيمان الإجماليّ والتفصيليّ بالوحي والرسالة

المراد من قوله: ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ﴾ هو الوحي الخاصّ (القرآن، والحديث القدسيّ، ونحو ذلك) وهو الذي نزل على رسول خاصّ (النبيّ الأكرم(ص))، والذي يعبَّر عنه ﺑ «النبوّة الخاصّة»، والمقصود من قوله: ﴿مَا اُنزِلَ مِن قَبلِكَ﴾ هو مطلق الوحي والرسالة، وهو في الوقت الذي يسمّى


[1]. سورة آل عمران، الآية 19.

تسنيم، جلد 2

229

ﺑ «النبوّة العامّة»، فهو يتضمّن التعميم والتوسعة الفرديّة أيضاً؛ بمعنى، أنّ الإيمان ﺑ «جميعها» ضروريّ وهو غير الإيمان ﺑ «جامعها».

يظهر أنّ السرّ من وراء ذكر الإيمان بالوحي الخاصّ وبالنبوّة الخاصّة جنباً إلى جنب مع الإيمان بمطلق الوحي وبالنبوّة العامّة هو تبيان لأهميّة القرآن الكريم ورسالة نبيّ الإسلام(ص) أوّلاً، وللتفهيم ثانياً بأنّه مضافاً إلى الإيمان الإجماليّ بالكتب السماويّة وبالأنبياء الذين جاؤوا بها (الذي هو الإيمان بالنبوّة العامّة)، فإنّ الإيمان التفصيليّ بها ضروريّ أيضاً. بالطبع إنّ مقدار التفصيل هنا هو ذاك الذي جاء مفصّلاً على لسان القرآن الكريم والعترة الطاهرة(ع)، أمّا ما لم يُقَصّ أصلاً: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾[1]، فالإيمان التفصيليّ به غير مطروح أساساً.

تصديق المتّقين بالمعاد

إنّ من أبرز معطيات رسالات أنبياء الله هي المعارف المتعلّقة بالمعاد والأحكام المرتبطة به، إذ أنّه لا جدوى من الإيمان بالوحي والرسالة من دون الاعتقاد بالمعاد؛ لأنّ الدين هو الصراط، والصراط هو من أجل المقصد، وإذا لم يكن المقصد هو عالم الأبد، وعالم الحساب، والقسط والعدل، والجزاء والعقاب، فليس من معنى للصراط حينئذ. ومن هنا يتّضح التناسب بين جملتَي ﴿وَبِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ﴾ و﴿يُؤمِنُونَ بِمَا اُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أنزِلَ مِن قَبلِكَ﴾، والوجه في تأخّر الجملة الأولى عن الجملة الأخيرة.


[1]. سورة غافر، الآية 78.

تسنيم، جلد 2

230

إنّ اليقين بالآخرة يحصل في ضوء الإيمان بالوحي والرسالة، وبانضمام هذين تكتمل أركان التقوى. إنّ من أهمّ عوامل صيانة الإنسان من التردّي وارتكاب الآثام هو اعتقاده بالقيامة وذكره للمعاد: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَىٰ ٱلدَّارِ﴾[1]، وإنّ من موجبات الانحراف والابتلاء بالعذاب الإلهيّ هو نسيان القيامة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ ٱللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ﴾[2].

ومن الممكن أن يكون الشخص موحّداً، من حيث التوحيد الذاتيّ والتوحيد في الخالقيّة، لكنّه غير معتقد بالمعاد، كوثنيّي الحجاز الذين كانوا يعتقدون بخالقيّة الله للسماوات والأرض: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللهُ﴾[3]، إلاّ أنّهم لا يصدّقون بأنّه الحكيم العادل الذي قد عيّن يوماً للحساب والجزاء والعقاب؛ ذلك أنّ الاعتقاد بالربّ الذي لا يسأل الإنسان ولا يستفهمه أمر يسير، أمّا الاعتقاد بالإله الذي تحيط ربوبيّته بالدنيا والآخرة، فهو أمر عسير وفيه مسؤوليّة.

سرّ إنكار القيامة

لإنكار القيامة عاملان: أوّلهما الشبهة العلميّة، وثانيهما الشهوة العمليّة. فالشبهة العلميّة المطروحة في آيات من قبيل: ﴿مَنْ يُحْيِ ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾[4] تزول


[1]. سورة ص، الآية 46.

[2]. سورة ص، الآية 26.

[3]. سورة لقمان، الآية 25.

[4]. سورة يس، الآية 78.

تسنيم، جلد 2

231

بقليل من التأمّل، وإنّ نظرة خاطفة إلى عالم الوجود من شأنها أن تزيل أمثال تلك الشبهات، إذ أنّ الإنسان بتأمّله هذا سوف يشاهد كيف أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع، على نحو متواصل، الذرّات المتناثرة التي لا حياة فيها في عالم الطبيعة ليهبها حياة نباتيّة أو حيوانيّة أو إنسانيّة. والقرآن الكريم يقول في معرض ردّه على الذين يستبعدون بعث الذرّات المتبعثرة والميّتة: إنّ الله سبحانه ليس فقط قادراً على بعث الإنسان، بل إنّ باستطاعته أن يُعيد الخطوط التي في رؤوس أنامله ـ التي هي من شواهد ظرافة خلقة الإنسان ـ إلى حالتها الأولى: ﴿بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾[1].

أمّا فيما يخصّ الشهوة العمليّة، التي هي من أهمّ عوامل إنكار المعاد، فإنّه من أجل أن يُبقي الشخص الفاسق باب الفجور مفتوحاً أمامه على مصراعيه، تراه ينكر القيامة من الأساس: ﴿بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَومُ ٱلْقِيَامَةِ﴾[2]. إذن، فمثلما أنّ الاعتقاد بالقيامة هو الرادع الوحيد أو الأهمّ عن الفسوق والفجور، فإنّ العامل الرئيسيّ لإنكار القيامة هو إرادة ارتكاب الذنوب والآثام؛ لأنّ كلّ واحد من هذين الاثنين هو مناف للآخر، وحصول أيّ منهما أوّلاً يكون مانعاً من تحقّق الآخر.

مراتب اليقين والإيمان لأهل الآخرة

ينقسم الناس بالنسبة للآخرة إلى ثلاثة أصناف: فصنف منهم


[1]. سورة القيامة، الآية 4.

[2]. سورة القيامة، الآيتان 5 و6.

تسنيم، جلد 2

232

يؤْثِرون الحياة الدنيا على الآخرة ويشترونها بثمن باهض ألا وهو تضييع السعادة الأبديّة: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ * وَءَاثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأوَىٰ﴾[1]، ﴿اُولـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُا ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ﴾[2]. هؤلاء هم ضيّقوا الأفق ممن لم يشاهدوا ولم يختاروا غير الدنيا، والذين يأمر الله سبحانه رسولَه الكريم(ص) بالإعراض عنهم: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ ٱلْعِلْمِ﴾[3]

وصنف آخر من الناس يكونون تارة من أهل الدنيا وتارة من أهل الآخرة: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾[4]. كما أنّ صنفاً منهم بعزوفهم عن مظاهر الدنيا الخدّاعة فقد رجّحوا الآخرة على الدنيا وانتخبوها: ﴿ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ﴾[5].

ولمّا كانت الآخرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: جهنّم، والجنّة، والرضوان: ﴿وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ ٱللهِ وَرِضْوَانٌ﴾[6]، فإنّ لإيمان أهل الآخرة مراتبَ أيضاً: فيقين فريق منهم منحصر في نطاق الخوف من جهنّم، ومبلغ سعيهم هو في كيفيّة الخلاص من لهيب نيرانها، وفريق آخر فاق هؤلاء، حيث انّهم يعتقدون بنعيم الجنّة أيضاً، ولهذا فهم


[1]. سورة النازعات، الآيات 37 ـ 39.

[2]. سورة البقرة، الآية 86 .

[3]. سورة النجم، الآيتان 29 و30.

[4]. سورة التوبة، الآية 102.

[5]. سورة النساء، الآية 74.

[6]. سورة الحديد، الآية 20.

تسنيم، جلد 2

233

يسعون لنيله. أمّا الفريق الثالث، الذي هو أرفع من سابقيه، فإنّ يقينهم بالآخرة هو في إطار المقام المنيع للقاء الحقّ تعالى، ولا يتحدّد في الخوف من جهنّم، ولا في الشوق إلى الجنّة.

إنّ انتفاع الفريق الثالث من القرآن هو أقصى ما يكون الانتفاع. وهؤلاء راضون عن الله، والله سبحانه وتعالى راض عنهم أيضاً: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ... اُولـَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ اُولـَٰئِكَ حِزْبُ ٱللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾[1]. فالشخص الذي لا يرى في مرّ الشدائد حلاوة، وهو يحسّ بقسوتها وإيلامها، إلاّ أنّه يعضّ على الجراح ويصبر عليها، أو يرى في عدم نيل الرفاهيّة والحيويّة مشقّة وعذاباً، ولكنّه يصبر على هذا العذاب، فمثل هذا الشخص لم يبلغ مقام الرضوان الرفيع، وإنّ جوهر ذاته ليس مرضيّاً عند الله قهراً. لذا فمقام الرضا الشامخ مخصّص للفريق الثالث.

لطائف وإشارات

[1] خصوصيّة رسالة النبيّ الخاتم(

من جملة الفوارق بين شريعة الإسلام والشرائع التي سبقتها هو أنّ أتباع تلك الشرائع، علاوة على الإيمان بشريعتهم والشرائع السابقة لها (على فرض وجودها)، فقد كانوا ملزمين أيضاً بالإيمان بالشريعة أو الشرائع


[1]. سورة المجادلة، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

234

اللاحقة التي بشّر بها أنبياؤهم، إلاّ أنّه في شريعة نبيّ الإسلام(ص)، الذي هو خاتم الأنبياء، فلا يوجد كلام عن الاعتقاد بالشريعة أو النبيّ اللاحقين؛ إذ لا يوجد نبيّ لاحق ولا كتاب سماويّ آخر يأتي بعد النبيّ الأكرم(ص) كي يؤمن به الناس، أو يبشّر النبيّ الأعظم(ص)، بهما. ومن هنا كان الاكتفاء بقوله: ﴿مَا اُنزِلَ مِن قَبلِكَ﴾ مختصّاً بالنبيّ الأكرم(ص).

[2] الصفات الإيجابيّة والسلبيّة للمؤمنين بالوحي

للإيمان بالنبوّة الخاصّة والعامّة، والاعتقاد برسالات كلّ الأنبياء ونزول جميع كتبهم ﴿مَا اُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا اُنزِلَ مِن قَبلِكَ﴾ لوازم أشار القرآن الكريم إلى بعضها؛ مثل الكفر بالطاغوت، وعدم الاحتكام إلى محاكم الطاغوت. وإضافة إلى هذه الصفات السلبيّة لهؤلاء، فقد بيّن القرآن جانباً من صفاتهم الإيجابيّة كذلك؛ كالرسوخ في العلم، والإيمان الحقيقيّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُواْ إِلَىٰ ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُواْ أَنْ يَكْفُرُوْا بِهِ﴾[1], ﴿لَٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾[2].

[3] الهدف المتوسّط والنهائيّ لنزول الوحي

إنّ القلب المطهّر للنبيّ الأكرم(ص) هو مجرى نزول الوحي، وهو من


[1]. سورة النساء، الآية 60.

[2]. سورة النساء، الآية 162.

تسنيم، جلد 2

235

الحلقات المتوسّطة لتلقّيه وليس النهائيّة، إذ أنّ آخر محطّة للوحي الإلهيّ هي أسماع الناس وقلوبهم: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[1]، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾[2]. ومن هذا المنطلق، فإنّ القرآن الكريم في الوقت الذي هو كلام الله عزّ وجلّ، فهو تكَلُّمُه أيضاً[3]. بناءً على هذا، فالآيات التي تتحدّث عن تنزّل القرآن على الوجود المقدّس للرسول الأعظم(ص) (كالآية محلّ البحث) إنّما تبيّن الهدف المتوسّط لنزول الوحي، وليس هدفه النهائيّ. والاختلاف هو في أنّ الواسطة بين الله جلّ وعلا وحضرة الرسول الأكرم(ص) هي الملائكة، في حين أنّ الواسطة بين الملائكة والناس هي الرسول(ص)، الذي يتسلّم الوحي منهم ليوصله إلى الناس.

[4] اليقين بالآخرة نتيجة مشاهدة الملكوت

قد يحصل اليقين بالآخرة بفضل الاستدلال العقليّ حيناً، أو نتيجة لمشاهدة ملكوت الكون حيناً آخر: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ﴾[4]. فيقين الإنسان المتّقي بالقيامة ينشأ من ارتباطه بالملكوت، وإنّ الآيات التي هي من قبيل: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ﴾[5] ومثيلاتها هي خير شاهد على هذا المدّعى.


[1]. سورة النحل، الآية 44.

[2]. سورة النساء، الآية 174.

[3]. راجع «وحي ورهبري» (فارسيّ)، ص39؛ و«قرآن در قرآن» (فارسيّ)، ص61.

[4]. سورة الأنعام، الآية 75.

[5]. سورة التكاثر، الآيتان 5 و6.

تسنيم، جلد 2

236

[5] رين المعاصي مانع من تأثير العلم بالقيامة

لابدّ لليقين بالآخرة أن يكون مصحوباً بالعمل لها، وإلاّ فقد يكون المرء عالماً بالقيامة لكنّ علمه مدفون تحت طبقات من رين شهواته، ومثل هذا العلم لا يكون مؤثّراً ولا نافعاً: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ﴾[1]، فلو لم يحصل التدنّس بالآثام لكان مجرّد الظنّ بالآخرة كافياً لحصول التقوى: ﴿أَلاَ يَظُنُّ اُولـَٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾[2]، لأنّ العقل السليم، يعُدّ دفع الضرر المحتمل واجباً. فالمعاد على جانب من الأهميّة بحيث أنّه لو حصل مجرّد الظنّ به (لا القطع) لكان ذلك كافياً للعمل وفقاً له؛ وإن كان لابدّ من تحصيل القطع فيه أيضاً.

البحث الروائيّ

[1] ولاية العترة( في الكتب السماويّة السالفة

ـ عن العسكريّ(ص): [وقال الحسن بن عليّ ‘‏]: «من دفع فضل أمير المؤمنين(ص) على جميع مَن بعد النبيّ(ص) فقد كذّب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة، فإنّه ما نزل شي‏ء منها إلاّ وأهمّ ما فيه ـ بعد الأمر بتوحيد الله ‏تعالى والإقرار بالنبوّة ـ الاعتراف بولاية عليّ والطيّبين من آله(ع)»[3].‏


[1]. سورة الجاثية، الآية 23.

[2]. سورة المطفّفين، الآية 4.

[3]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص83 ؛ وبحار الأنوار، ج65، ص285.

تسنيم، جلد 2

237

إشارة: يُستنبَط من حديث الثقلين المعروف أنّ القرآن والعترة(ع) منسجمان مع بعضهما، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، وأنّ هذا الانسجام وعدم الإنفكاك يرجع إلى الحقيقة النورانيّة لكليهما. ومثل هذه الحقيقة لا تكون محدودة بزمان معيّن ولا بإقليم خاصّ، ولمّا لم تكن حقيقة القرآن منفصلة عن كتب أنبياء السلف(ع) وصحفهم، فإنّ حقيقة ولاية أهل البيت والعترة الطاهرين(ع) لا تكون منفصلة عنها أيضاً، وحيث إنّ القرآن هو الثقل الأكبر، والعترة(ع) هم الثقل الأصغر، فإنّ هذا الترتّب يكون محفوظاً في صحف السلف أيضاً.

[2] حقيقة اليقين وآثاره

ـ [عن أمير المؤمنين(ص)]: «... الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»[1].

إشارة: بما أنّ اليقين هو نور: «اليقين نور»[2]، وأنّ لحقيقة النور آثاراً صحيحة من الأعلى إلى الأسفل، فإنّ هذه الحقيقة تكون مصحوبة بجميع مراحل ما بعد اليقين (التي هي الانسجام بين الرأي والعمل والإخلاص في مقام العمل). طبعاً من المعلوم أنّ العمل عن يقين فيه غاية الفائدة.

روي عن أمير المؤمنين(ص) أنّ آثار يقين المؤمن تكون مشهودة في


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 125.

[2]. شرح غرر الحكم، ج1، ص26.

تسنيم، جلد 2

238

عمله سواء له أو لغيره، كما أنّ آثار شكّ المنافق تكون ملحوظة في عمله أيضاً، وإن كانت قد تخفى على المنافق نفسه بسبب عمى قلبه: «إنّ المؤمن يُرىٰ يقينه في عمله، والكافر يُرىٰ إنكاره في عمله»[1]. بالطبع، فالحقيقة هي كما يقول الإمام الرضا(ص): إنّ فيض اليقين هو أقلّ ما يُقسَم بين الناس من أنواع الرزق: «لم يُقسَم بين العباد شيء أقلّ من اليقين»[2]، واليقين ـ كما هو حال الصبر ـ من الفضائل الخاصّة التي يحظى أصحابها بمقام الإمامة والقيادة في المجتمع الإلهيّ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[3]، إذن فلابدّ من الالتفات إلى أنّ فضيلة الصبر هي أيضاً ناشئة عن اليقين: «الصبر ثمرة اليقين»[4].

[3] مراتب يقين أهل التقوى ومتعلَّقُه

ـ [عن أمير المؤمنين(ص)]: «فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين... وإيماناً في يقين»[5].

ـ «فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها [في الشبهة] اليقين»[6].

ـ «فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس»[7].


[1]. المحاسن، ج1، ص349؛ وبحار الأنوار، ج65، ص311.

[2]. الكافي، ج2، ص52؛ وبحار الأنوار، ج67، ص139.

[3]. سورة السجدة، الآية 24.

[4]. شرح غرر الحكم، ج1، ص113.

[5]. نهج البلاغة، الخطبة 193.

[6]. نهج البلاغة، الخطبة 38.

[7]. نهج البلاغة، الخطبة 87 .

تسنيم، جلد 2

239

ـ «واعلموا عباد الله أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة... وتيقّنوا أنّهم جيران الله غداً في آخرتهم»[1].

إشارة: لمّا كان اليقين من شؤون المعرفة والعلم، فهو متعلِّق بالمعروف والمعلوم، وبما أنّ أسماء الله الحسنى ـ التي هي معروفة ـ متعدّدة، فإنّ ألوان المعرفة متنوعة أيضاً، وإنّ كلّ معرفة تتمتّع باليقين ضمن حدودها. من هذا المنطلق، فإنّ من الممكن تصوُّرَ أنحاء متنوعة لليقين بلحاظ متعلَّقه. إنّ أهمّ مراتب اليقين هي ما قُسِّم حسب المتعارف إلى اليقين العلميّ (علم اليقين)، واليقين العينيّ (عين اليقين)، واليقين الحقّي (حقّ اليقين)، وحيث إنّ متعلَّق اليقين ـ التي هي أسماء الله الحسنى ـ غير محدود، فلا يمكن اعتبار حدّ معيّن من حصول اليقين أو الشهود هو منتهى مرحلة اليقين. خلاصة الأمر، إنّ حقيقة اليقين نور تشكيكيّ، فهو قابل للزيادة من جهة، وليس له حدّ خاصّ من جهة أخرى.


[1]. نهج البلاغة، الكتاب 27.

تسنيم، جلد 2

240

تسنيم، جلد 2

241

أُوْلَئِكَ عَلَي هُدًي مِّن رَّبِّهِهْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

خلاصة التفسير

إنّ أصحاب الدرجات الرفيعة من المتّقين يتمتّعون بهداية هي كالمركب الذلُول الذي يسير بهم بسرعة نحو المقصد، ويمنحهم الرفعة أيضاً، وهذه هي عين الهداية الإلهيّة التكوينيّة التي تمهّد للانتفاع الكامل من هداية القرآن. ومثلما أنّ تقوى هؤلاء ـ الذين يمتازون برفعة في المقام، والمستقيمين على الهداية الإلهيّة ـ كانت هي الممهّدة لانتفاعهم من القرآن، فستكون هي منشأ فلاحهم أيضاً، فقد تخلّص هؤلاء من كافّة العقبات، ووصلوا إلى مقصدهم الأصيل، وحيث إنّ فلاح الإنسان هو في الوصول إلى الكمال المطلق، وليس الكمال المطلق سوى الله سبحانه وتعالى، فإنّ فلاح الأتقياء هو في «لقاء الله»، ومن أجل تحقّق هذا اللقاء

تسنيم، جلد 2

242

لابدّ من قطع الأشواط الأولى من الطريق بهداية من الفطرة، والتقوى الاعتقاديّة، والعباديّة، والماليّة، ليأتي بعدها دور قيادة القرآنين الناطق والصامت (الثقلين) التي يتحتّم عليهم اتباعها حتّى بلوغ الهدف النهائيّ.

التفسير

«المفلحون»: إنّ مفردة «مفلح» مشتقّة من «الفلاح»، وإنّ المعنى الأصليّ لمادّة «فَلَح» هو كلّ ما من شأنه النجاة من الشرور وإدراك الخير والصلاح، وبهذين القيدين فهي تمتاز عن «النجاة»، و«الظفر»، و«الصلاح».

إنّ إطلاق لفظ «الفلاّح» على المُزارع، و«الفِلاحة» على الزراعة هو من باب أنّ الأرض تنجو من البوار بالزراعة، ويتم إحياؤها. كما أنّ معاني «الشقّ» و«الفتح» متضمَّنَة فيه أيضاً.

في اللغة الفارسيّة تستخدم كلمة «الفلاح» للتعبير عن الفوز والنجاح[1]؛ إذ أنّها تتضمّن معنى الفتح والشقّ، على خلاف ما يعطي معنى الرَتْق والسدّ. وحيث أنّ «الشقّ» مأخوذ في معنى الفلاح، سُمّي الشخص المشقوق الشفة السفلى باسم «أفْلَح»[2]. وبطبيعة الحال، فإنّ «المفلح» هو ذلك الشخص الذي وصل إلى مقام رفيع بتعب وعناء، وليس من دون عناء.

«هُم»: يسمّي البصريّون ضمير «هم» فاصلة، ويسمّيه الكوفيّون عماداً.


[1]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج9، ص147.

[2]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص38.

تسنيم، جلد 2

243

ولعلّ السرّ في عطف «أولئك» الثانية على «أولئك» الأولى في الآية محطّ البحث وعدم عطفها عليها في الآية: ﴿اُولـَٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ اُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ﴾[1] هو أنّ العنوانين المذكورين في الآية محلّ البحث منفصلان ومستقلاّن عن بعضهما، بينما في آية سورة الأعراف فإنّ أساس البحث هو تلك الغفلة التي تنتج عنها ثلاث مراحل نزوليّة وفقاً لدركاتها: الأولى: مشابهتهم للأنعام، والثانية: كونهم في مستوى الأنعام، والثالثة: تسافلهم إلى ما هو أدنى منها.

ملاحظة: هناك تناسق بين الآيات الأولى من سورة البقرة والآيات الأولى من سورة لقمان التي نزلت في مكّة: ﴿الم * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * اُولـَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رِبِّهِمْ وَاُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾[2]، حيث انّه بعد ذكر أوصاف المتّقين، جاء الحديث عن الهداية التي توصلهم، مثل المركب الذلول، بسهولة إلى المقصد وتمنحهم السموّ والرفعة.

والمراد من هذه الهداية هي الهداية الجزائيّة التكوينيّة. فالذي يحبّ الله سبحانه وتعالى أن يهديه يشرح له صدره: ﴿فَمَنْ يُرِدِ ٱللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾[3]، وهذه الهداية وشرح الصدر يشكّلان الأرضيّة للانتفاع الكامل من هداية القرآن.


[1]. سورة الأعراف، الآية 179.

[2]. سورة لقمان، الآيات 1ـ5.

[3]. سورة الأنعام، الآية 125.

تسنيم، جلد 2

244

أمير الهداية وأسير الضلالة

جاءت كلمة الهدى ومرادفاتها في القرآن الكريم مصحوبة ﺑ «على» التي هي علامة على الرفعة والعلوّ؛ مثل: ﴿إِنْ كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ﴾[1]، و﴿عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[2]، و﴿أَفَمَنْ شَرَحَ ٱللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[3]، أمّا لفظة الضلالة ومرادفاتها فقد أتت مع «في» وذلك أمارة على السقوط والخسران؛ مثل: ﴿إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾[4]، و﴿وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ﴾[5]، وحتّى لو جاءت مع «على» لأفادت السقوط أيضاً؛ لأنّ الظلمة تستولي على الإنسان الضالّ الفاجر: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾[6]، إذن فهؤلاء قد غرقوا في الضلالة والظلام، وإنّ الضلالة «عليهم»، لا أنّهم هم «على الضلالة»، على خلاف الهداية فإنّ المتّقين هم «على هدى»، لا أنّ الهداية «عليهم». بتعبير آخر، إنّ القرآن هو هدى للمتّقين، وإنّ التقوى هي الأساس والركيزة لبنيان سيرة الناس الأتقياء وسنّتهم: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ ٱللهِ﴾[7]، فالمتّقون ثابتون وراسخون على أساس من التقوى، وحيث إنّ التقوى مَجلَبة للهداية، إذن فهم ثابتون على أسس الهداية: ﴿عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم﴾.


[1]. سورة العلق، الآية 11.

[2]. سورة هود، الآية 17.

[3]. سورة الزمر، الآية 22.

[4]. سورة سبأ، الآية 24.

[5]. سورة الأنعام، الآية 39.

[6]. سورة البقرة، الآية 20.

[7]. سورة التوبة، الآية 109.

تسنيم، جلد 2

245

السرّ في هذا الاختلاف يعود إلى هذه الحقيقة وهي مثلما أنّ النور المحسوس يُبرِز الشيء ويُظهِره للعيان، وأنّ الظلمة المحسوسة تُغرِق الشيء في ظلام دامس، فإنّ نور الهداية المعقول أيضاً يجعل الإنسان بارزاً: ﴿يَرْفَعِ ٱللهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَٱلَّذِينَ اُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[1]، أمّا قتامة الضلالة فإنّها تقمعه وتفنيه وتهوي به إلى حضيض السقوط: ﴿وَلاَ تَطْغَواْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ﴾[2].

إنّ السرّ الجوهريّ في مثل هذه المسائل هو أنّ الكمال «مقهور» للنفس الكاملة، والنقص «قاهر» للنفس الناقصة؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ الإنسان العالم هو أمير العلم، أمّا الإنسان الجاهل فهو أسير الجهل. من هذا المنطلق يُقال: لسان العاقل في قلبه، وقلب الجاهل في لسانه. وبناءً على ما مرّ، فالإنسان المهتدي والمتّقي هو حاكم على الهداية والتقوى، أمّا الإنسان الضالّ والفاجر فهو محكوم من قبل الضلال والفجور، وقد عُبِّر عن هذه الحقيقة بقوله: ﴿عَلَى هُدًى﴾.

فلاح المتّقين

كما تقدّم، فإنّه مضافاً إلى معنى الخلاص من الموانع والعقبات، فإنّ مفردة «الفلاح» تفيد مدلولاً أسمى كذلك ألا وهو الإيصال


[1]. سورة المجادلة، الآية 11.

[2]. سورة طٰه، الآية 81 .

تسنيم، جلد 2

246

إلى المقصود. ففي ذات الوقت الذي تكون فيه تقوى المتّقين المستقرّين على الهداية الإلهيّة ممهّدة لإفادتهم من القرآن الكريم، فهي موطّئة لفلاحهم ونجاحهم أيضاً: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[1].

المتّقون ـ الذين هم في مأمن من الإفراط والتفريط، والعصيان، والبخل وشُحّ النفس، والذين يمتلكون المحافظ الإلهيّ للتقوى ـ هم مفلحون: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾[2].

الفلاح هو المقصود بالذات، وهو الهدف النهائيّ للإنسان. ولمّا كان فلاح الإنسان هو في الوصول إلى الكمال المطلق، وحيث إنّ الكمال المطلق هو الله جلّ وعلا ليس غير، إذن ففلاح الإنسان هو في لقاء الله، ومن أجل بلوغ هذا اللقاء لابدّ من قطع الخطوات الأولى من الطريق بالهداية الفطريّة، والتقوى الاعتقاديّة والعباديّة والماليّة، وحينئذ يتعيّن التمسّك بهداية وقيادة القرآنين الناطق والصامت من أجل الوقوف على باب المنزل المقصود.

تنويه: إنّ الإشارة بلفظ «أولئك» التي تفيد البعيد هي من باب تكريم المتّقين؛ كما أنّ تكرارها مع ذكر «واو» العطف هو لبيان استقلاليّة كلّ من الهداية والفلاح في التكريم.


[1]. سورة البقرة، الآية 189.

[2]. سورة الحشر، الآية 9.

تسنيم، جلد 2

247

البحث الروائيّ

معنى الفلاح

ـ «﴿اُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾: الناجون ممّا منه يوجلون، الفائزون بما يؤمّلون»[1].‏

إشارة: إنّ المحور الرئيسيّ للفلاح هو تزكية النفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[2]، وتزكية النفس لابدّ أن تكون مشفوعة ﺑ «أعمال» خاصّة ذُكر بعضها في سورة «المؤمنون»[3]، وبعضها الآخر مذكور في سور أخرى من القرآن؛ كما أنّ تزكية الروح تكون مصحوبة ﺑ «تروك» معيّنة يقال لها موانع الفلاح؛ مثل: الظلم، والافتراء، والكذب، وتكذيب آيات الله، ...الخ.

إنّ الأحاديث، التي ذُكِرت بشكل موسّع في إطار تحليل معنى الفلاح، وعلله وعوامله، وكذلك أسبابه وعلاماته، هي مستنبطة من الأصول القرآنيّة التي قد تمّت الإشارة إلى عناصرها المحوريّة.

لقد ورد ذكر المصداق الأبرز للفلاح (وهو وقاية النفس من الشحّ والتقوى من البخل) في كلام أمير المؤمنين(ص): «من اهتمّ برزق غدٍ لم يفلح أبداً»[4]. ومن الجدير بالذكر هنا أنّه بين السعي في كسب الحلال وتحصيل الرزق وبين الهمّ والقلق على رزق المستقبل بون شاسع، حيث أنّ أحدهما محمود والآخر مذموم.


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص84 .

[2]. سورة الشمس، الآية 9.

[3]. الآيات 1 ـ 11.

[4]. شرح غرر الحكم، ج5، ص447.

تسنيم، جلد 2

248

تنويه: بما أنّ عنوان المتّقين هو صفة مشبهة، وليس اسم فاعل، فإنّ له معنى إيجابيّاً. ومن هذا الباب فإنّ الأوصاف الخمسة التي ذكرت فيهم جاءت على هيئة الفعل المضارع مع الاستمراريّة، ونتيجة لذلك جاء البيان في الخاتمة بعنوان صفة المَلَكة، لا الحال: ﴿اُولـَٰئِكَ عَلَى هُدًى مِن ...﴾، ولا تنافي بين هذا الموضوع وبين ما جاء في نهاية السورة بصيغة الفعل الماضي؛ إذ على الرغم من أنّ البيان في آخر السورة أتى على النحو التالي: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ ... كُلٌّ ءَامَنَ ...﴾[1]، لكنّه في تلك الآية أيضاً يُستنبَط معنى «المَلَكة» وليس «الحال»؛ إذ جاء التعبير بصيغة المضارع في نفس الآية كالتالي: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ...﴾.


[1]. سورة البقرة، الآية 285.

تسنيم، جلد 2

249

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ (6)

خلاصة التفسير

على الرغم من أنّ هداية القرآن عامّة ولا تختصّ بالمتّقين، إلاّ أنّ الكفّار لا يجنون منها ثمرة؛ لأنّهم، وبسبب عنادهم المتعمّد، قد أوصدوا باب الهداية بوجوههم حتّى أصبح الأمر بالنسبة لهم سيّان، اُنذِروا أم لم يُنذَروا.

إنّ للإنذار ـ الذي هو الرسالة المحوريّة للأنبياء، والهدف من النَّفْر الثقافيّ للفقهاء ـ دوراً فاعلاً في هداية الأشخاص المستعدّين، إلاّ أنّ الكفر الذي يكون عن عناد (وليس الكفر البسيط الناشئ عن الغفلة، والذي يزول بالإنذار) هو عائق أمام تأثير الإنذار.

تسنيم، جلد 2

250

التفسير

«أنذرتهم»: الإنذار (الذي هو في مقابل التبشير) هو بمعنى التخويف الذي يحصل من خلال الكلام أو ما شابهه.

لقد ورد الكلام في مطلع هذه السورة عن هدف القرآن الكريم، ألا وهو «هداية المتّقين». وحيث إنّه قد طُرِح هذا التساؤل في تلك الأثناء وهو أنّه: إذا كانت الغاية من نزول القرآن هي هداية البشر كافّة، فما هو سرّ تخصيص الهداية القرآنيّة بالمتّقين؟، فكأنّ الباري عزّ وجلّ يبادر في هذه الآية الكريمة إلى الردّ على التساؤل المشار إليه قائلاً: ذلك لأنّ الأمر سيّان، اُنذِر غير المتّقي (مثل الكافر) أم لم يُنذَر، بل إنّ هؤلاء يقرّون بهذه الحقيقة بلسانهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ ٱلْوَاعِظِينَ﴾[1].

في الآية محلّ البحث استُخدِمت كلمة الكفر في مقابل التقوى، الأمر الذي يدعو إلى هذا الاستنتاج وهو: كما أنّ التقوى هي شرط للانتفاع من هداية القرآن، فإنّ الكفر بالمقابل هو عائق أمامه. وكما أنّ التقوى تنقسم إلى تقوى اعتقاديّة وأخرى عمليّة، وأنّ الأخيرة تنقسم إلى تقوى في العبادة (إقامة الصلاة) وتقوى في المال وغير المال (الإنفاق)، فإنّ للكفر أيضاً مثل هذه التقسيمات؛ ذلك أنّ الكفر لا يقتصر على إنكار الله، والوحي والرسالة، والمعاد، بل لو ترك المرء الصلاة والزكاة عن عمد، لصار أيضاً كافراً عمليّاً. وكما أنّ حُسن الاختيار ضروريّ للتقوى، فإنّ العناد واللجاجة وسوء الاختيار مطروحة أيضاً في موضوع ﴿الَّذِينَ


[1]. سورة الشعراء، الآية 136.

تسنيم، جلد 2

251

كَفَرُوا﴾. إذن، فالكفر المشار إليه في هذه الآية هو الكفر الناشئ عن العناد الذي هو في مقابل التقوى، وليس الكفر البسيط، الناشئ من الغفلة، والذي يزول بإنذار الأنبياء وهدايتهم.

أهميّة الإنذار في التبليغ والهداية

إنّ المقابلة بين الآيات في صدر السورة والتي تحدّثت عن «هداية المتّقين»، والآية محطّ البحث التي تبيّن «عدم تقبُّل الكفّار للهداية» تقتضي الاستبدال بالتعبير: ﴿ءَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم﴾ في هذه الآية تعبيراً آخر فيقول: «أهديتهم أم لم تهدهم».

لعلّ السرّ في تغيير التعبير هو أنّ القرآن الكريم، فيما يتعلّق بهداية الناس، يولي الإنذار والتحذير عناية خاصّة، فمع أنّ القرآن بشير للمؤمنين، وهو نذير لهم في آنٍ معاً: ﴿هُدًىٰ وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[1]، ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾[2]، وأنّ النبيّ الأكرم(ص) كذلك هو بشير، في ذات الوقت الذي هو فيه نذير: ﴿إِنَّا أَرْسَلْْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾[3]، لكنّ النواة المركزيّة للتبليغ والهداية هي الإنذار، ومن هذا المنطلق فإنّ رسالة النبيّ الاكرم(ص) تُطرح في بعض آيات القرآن الكريم على أنّها رسالة إنذار فحسب؛ مثل: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾[4]، و﴿وَاُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلْقُرْآنَ


[1]. سورة البقرة، الآية 97.

[2]. سورة الفرقان، الآية 1.

[3]. سورة الأحزاب، الآية 45.

[4]. سورة هود، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

252

لأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾[1]، ومن أجل تبيين الأساس في هداية الأنبياء فقد جاء الحديث عن الإنذار فقط: ﴿يَا مَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا﴾[2]، كما وقد تمّ تحديد الهدف من وراء النَفْر الثقافيّ للمتفقّهين في الدين على أنّه إنذار للناس: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنْذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾[3].

كذلك فإنّ السرّ في التأكيد على الإنذار هو أنّ معظم الناس لا يستقبلون الهداية من خلال البشارة الصرفة، ومنطقهم في ذلك هو: عدم بيع نقد اليوم بنسيئة الغد. ومن هذا الباب، فإنّ نداء ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾[4] قد طَرَق سمع قلب النبيّ الأعظم(ص) منذ بزوغ شمس الرسالة.

سرّ عدم تقبّل الكفّار للوعظ

إنّ السبب في رفض الدعوة وعدم الاتّعاظ بالمواعظ الإلهيّة ـ على نحو المنفصلة المانعة للخلوّ ـ هي أمور يعود بعضها إلى المسائل النظريّة والعلميّة؛ كالاعتقاد بأصالة الحسّ والتجربة، وأصالة المادّة، ويعود بعضها الآخر إلى المسائل العمليّة والقيَمِيَّة، التي لا تنفكّ عن تلك النظريّة والعلميّة؛ مثل ما نُقِل عن لسان الكفّار المعاندين في زمان نوح(ص):


[1]. سورة الأنعام، الآية 19.

[2]. سورة الأنعام، الآية 130.

[3]. سورة التوبة، الآية 122.

[4]. سورة المدّثر، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

253

﴿قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ﴾[1]، ﴿وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾[2]. طبعاً في الآية الأخيرة، ناهيك عن الاعتماد على نظام قيميّ باطل، فقد تمّت الإشارة إلى النظام العلميّ والنظريّ أيضاً.

والدلـيل عـلى اعتقاد الكفّـار بأصالة المادّة، وأصالة الحسّ والتجربة، هـو كمـا أنّهــم يصـرّون ـ فيما يتعلّق بمبدأ العالم ـ على أنّ ربّ البشر لابدّ وأن يكون محسوساً وقابلاً للخضوع للتجربة الحسّية، فإنّ لهم ما يشبه هذا التصوّر الخاطئ حول المعاد أيضاً حيث يقولون: لو كانت الحياة بعد الموت حقّاً وصدقاً، فلماذا لا يُبعث الموتى ثانية في نفس هذا العالم المادّي المحسوس؟ والآية الشريفة: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[3] لهي شاهد على ذلك؛ لأنّ هؤلاء ما كانوا يفهمون من المعاد سوى الرجوع من جديد إلى الدنيا، ولمّا لم يكونوا يشاهدون ذلك، فهم كانوا يبادرون إلى إنكار الحياة الأخرى. غير أنّ الله سبحانه وتعالى مثلما أعلن أنّ ربوبيّته شاملة لما وراء هذا العالم، فإنّه يبيّن أنّ المعاد أيضاً يحيط بما وراء هذه الدنيا. ومن هذا المنطلق يردّ على هؤلاء بالقول: ﴿قُلِ ٱللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[4].


[1]. سورة الشعراء، الآية 111.

[2]. سورة هود، الآية 27.

[3]. سورة الجاثية، الآية 25.

[4]. سورة الجاثية، الآية 26.

تسنيم، جلد 2

254

لطائف وإشارات

[1] الشرط الصعب للإنذار

مع أنّ كلاًّ من التبشير والإنذار هما من وظائف رُسُل الله وعلماء الدين أيضاً، إلاّ أنّ شروط الإنذار أصعب بكثير من لوازم التبشير. فكلّ إنسان يمكنه ـ إلى حدّ ما ـ أن يكون مبشّراً، لكنّ الذي يستطيع أن يكون منذراً فهو ذلك الشخص الذي يخاف هو نفسه من الخطر المحتمَل، بل وتظهر بوادر هذا الخوف على قوله وفعله؛ بالضبط كما كان لون وجه النبيّ الأكرم(ص) يتغيّر عندما كان يخبر عن القيامة، فقد كان يتحدّث عن الساعة وكأنّه يعلن عن هجوم جيش: «... تحمارّ وجنتاه ويذكر الساعة وقيامها حتّى كأنّه منذرُ جيش»[1].

[2] باب الإيمان مُشرَع أمام الكفّار

يُستفاد من جملة ﴿لاَ يُؤمِنُونَ﴾ أنّ سبيل الإيمان لم يزل مشرعاً أمام الكفّار؛ لأنّ الظاهر من إسناد ترك الإيمان إليهم هو إمكانيّة دخولهم في حضيرة الإيمان إلاّ أنّهم تركوه بإرادتهم، وإذا كانوا قد تجنّبوا الاعتقاد بالعقائد الحقّة، فإنّ ذلك يعود إلى عنادهم وسوء اختيارهم، فالإيمان هو فعل اختياريّ للإنسان، وقد فرّط الكفّار بنعمة الإيمان من خلال تبديدهم لثروة الفطرة عندهم: ﴿ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[2].


[1]. الأمالي للمفيد، ص233.

[2]. سورة الأنعام، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

255

لقد صارت الآية محلّ البحث وآيات أخرى من قبيل: ﴿لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[1] ذريعة بيد الأشاعرة لإثبات جواز التكليف بما لا يُطاق، والتكليف بالمحال، وخلاصة ذلك، طبقاً للوجوه المتعدّدة والتقريبات المختلفة التي أوردها الفخر الرازيّ في مواضع من التفسير الكبير وفي ذيل الآية مورد البحث، هي كالتالي:

إنّ الله قد أخبر عن شخص بعينه أو جماعة بذاتها أنّهم لا يؤمنون؛ وهو عالم أيضاً بأنّهم لن يصبحوا مؤمنين. وفي هذه الحالة، إنْ حصل وآمن هؤلاء، لكان إخبار الله تعالى كذباً وعلمه جهلاً، وبما أنّ كذب الله وجهله أمران مستحيلان، فإنّ إيمان هؤلاء محال أيضاً. لكنّه، بالرغم من ذلك، فإنّ هؤلاء مكلّفون بالإيمان، وإنّ كافّة الدعوات والأوامر والنواهي القرآنيّة تشملهم بالعموم أو الإطلاق، وبناء عليه، فإنّ التكليف بالمحال جائز. ثمّ يُتبِع [الرازيّ] بالقول:

ولقد كان السلف والخلف من المحقّقين معوّلين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم ، ولقد قاموا [المعتزلة] وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع[2].

ومع أنّنا سوف نتطرّق في أثناء البحوث التفسيريّة إلى الردّ التفصيليّ على مثل هذه الأوهام المزعومة، لكنّنا الآن نشير إلى


[1]. سورة يٰس، الآية 7.

[2]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص47 ـ 48.

تسنيم، جلد 2

256

جانب منه: أوّلاً: إنّ الجدال، وليس البرهان، هو ما يشكّل المحور الأساسيّ للقياس الاستثنائيّ المذكور؛ ذلك أنّ الأشاعرة، المنكرين للحسن والقبح العقليّين، لا يفتون بقبح كذب الله تعالى بتاتاً، فإنْ عدُّوه قبيحاً، فذلك وفقاً لأسس الاعتزال، وهذا جدال وليس برهاناً. ثانياً: إنّه كما أخبر الله عزّ وجلّ عن أصل عدم إيمان هؤلاء، وهو يعلم أيضاً بأصل عدم إيمانهم، فقد أخبر كذلك عن كيفيّة عدم إيمانهم، أي عن كونه اختياريّاً، وهو يعلم بذلك أيضاً؛ يعني، أنّ الله قد أخبر بأنّ هؤلاء لا يؤمنون باختيارهم، وأنّه يعلم بعدم إيمانهم الاختياريّ هذا. ثالثاً: إنّ مُمتنِعاً كهذا، والذي يكون امتناعه بالاختيار، هو اختياريّ أيضاً. رابعاً: إنّ التكليف بالمحال الإراديّ هو تكليف بالممكن، وليس تكليفاً بالمحال.

[3] المراد في القرآن من «الذين كفروا» و«الذين آمنوا»

يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره):

قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا﴾، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم، ويدلّ عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم. ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء «الذين كفروا»...، هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى، كفّار مكّة في أوّل البعثة إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه‏... ويؤيّده أنّ هذا التعبير وهو قوله: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لا يمكن

تسنيم، جلد 2

257

استطراده في حقّ جميع الكفّار وإلاّ انسدّ باب الهداية، والقرآن ينادي على خلافه[1].

هذا وإنّ الكثير من الكفّار قد أسلموا بسبب الإنذار فلم تتساو الدعوة وعدمها بالنسبة لهم.

وقد ذكر الطبريّ أقوالاً في تطبيق هذه الآية على مصاديق خاصّة وهو يرى أنّ قول ابن عباس المنقول عن عكرمة أو سعيد بن جبير هو الأَوْلى من بينها وهو:

نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة... توبيخاً لهم في جحودهم نبوّة محمّد(ص) وتكذيبهم به، مع علمهم به، ومعرفتهم بأنّه رسول الله(ص) إليهم وإلى الناس كافّة[2].

لكنّ إطلاق الآية شامل لغيرهم أيضاً.

كما ويقول الأستاذ العلاّمة(ره):

المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فيما اُطلِق في القرآن من غير قرينة، هم السابقون الأوّلون من المسلمين، خُصّوا بهذا الخطاب تشريفاً... واعلم أنّ الكفر كالإيمان وصف قابل للشدّة والضعف، فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان[3].‏

[4] عاملان لتقبّل الحقّ

إنّ «الرؤية التوحيديّة» التي شُيّدت خلقة الإنسان على أساسها،


[1]. الميزان، ج1، ص52 (مع بعض التقديم والتأخير).

[2]. جامع البيان، ج1، ص142.

[3]. الميزان، ج1، ص52.

تسنيم، جلد 2

258

و«الميل الفطريّ» للإنسان إلى الحقّ، هما العاملان (العلميّ والعمليّ) الأساسيّان لقبول الحقّ عنده، وإنّ الهدف من بعثة الأنبياء(ع) هي إثارة وتحفيز هاتين الدفينتين العقليّتين (العقل النظريّ والعقل العمليّ) وذلك بالاستمداد من تعليم الكتاب والحكمة من جانب، والتزكية من جانب آخر.

والناس المتّقون ظافرون بالانتفاع بالوحي بسبب امتلاكهم لهذين الشرطين، أمّا الكفّار فهم محرومون من التوفيق لقبول الحقّ جرّاء «حُلكة جهلهم» و«ظلمة جَحْدهم»؛ إذ أنّ الجاهل الجاحد لن يخرج من فَلَك هوى نفسه قطّ. ولو تعلّم شخص قسماً من العلوم، وصار قسم آخر معلوماً لديه بسبب كونه بيِّن الرُّشْد، وخلّصه ذلك من حُلكة الجهل، لكنّه ظلّ منغمراً في ظلمة الجحد، فإنّه سوف يرفض الحقّ عن علم وعمد، وحتّى لو قَبِله مؤقّتاً، فسيَنْكُل عنه سريعاً، لأنّ الله قد أخبر بنكوصه وارتداده بعد تبيُّن الحقّ له بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾[1].

البحث الروائيّ

أقسام الكفر في القرآن

ـ عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبد الله(ص) قال: قلت له: أخبرني


[1]. سورة محمّد(، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

259

عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّ وجلّ. قال: «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يُقال لهم: الدهريّة، وهم الذين يقولون: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ﴾[1] وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبّت منهم ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون؛ قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾[2] أنّ ذلك كما يقولون، وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[3]؛ يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾[4]، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿وَكَانُواْ مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللهِ عَلَىٰ ٱلْكَافِرِينَ﴾[5]، فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان(ص): ﴿هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا


[1]. سورة الجاثية، الآية 24.

[2]. سورة البقرة، الآية 78.

[3]. سورة البقرة، الآية محلّ البحث.

[4]. سورة النمل، الآية 14.

[5]. سورة البقرة، الآية 89 .

تسنيم، جلد 2

260

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾[1]، وقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[2]، وقال: ﴿فَٱذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾[3].

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزّ وجلّ به، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأتُوكُمْ اُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ﴾[4]، فكَفَّرَهُم بترك ما أمر الله عزّ وجلّ به ونَسَبَهُم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده، فقال: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلْعَذَابِ وَمَا ٱللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[5].

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله عزّ وجلّ يحكي قول إبراهيم(ص): ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللهِ وَحْدَهُ﴾[6]؛ يعني تبرّأنا منكم، وقال:


[1]. سورة النمل، الآية 40.

[2]. سورة إبراهيم، الآية 7.

[3]. سورة البقرة، الآية 152.

[4]. سورة البقرة، الآيتان 84 و85 .

[5]. سورة البقرة، الآية 85 .

[6]. سورة الممتحنة، الآية 4.

تسنيم، جلد 2

261

(يذكر إبليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة) ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾[1]، وقال: ﴿إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ ٱللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾[2]، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض»[3].

إشارة: الكفر هو ـ كالإيمان ـ وصف يحتمل الشدّة والضعف، وإنّ لكلّ مرتبة منه أثراً خاصّاً بها.


[1]. سورة إبراهيم، الآية 22.

[2]. سورة العنكبوت، الآية 25.

[3]. الكافي، ج2، ص389 ـ 391.

تسنيم، جلد 2

262

تسنيم، جلد 2

263

خَتَمَ اللهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَعَلَي سَمْعِهِمْ وَعَلَيٰ أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

خلاصة التفسير

إنّ السرّ وراء عدم قبول الكفّار المعاندين للهداية هو أنّ الله عزّ وجلّ قد ختم على قلوبهم وآذانهم، وأسدل على أعينهم غشاء سميكاً عقاباً لهم على عنادهم وجرائمهم، فهم لهذا لايفهمون الحقّ، ولا يسمعونه، ولا يبصرونه، ولمّا كان العلم هو مقدّمة للإيمان وهم محرومون من الوسيلة لتحصيله، فإنّهم لا يؤمنون أيضاً.

المراد من قلب الكفّار وسمعهم وبصرهم المختوم عليها هو القلب والسمع والبصر الباطنيّ وليس الظاهريّ، وكلّ واحد من هذه الثلاثة له حجابه الخاصّ الذي يتكوّن نتيجة العناد واتّباع الهوى، ومثل هذا الحجاب يمثّل الإضلال الجزائيّ من قبل الله سبحانه وتعالى، وليس الإضلال الابتدائيّ.

تسنيم، جلد 2

264

هؤلاء الكفّار، الذين لهم قلوب منكوسة ومختومة، قد اُصيبوا بالعمى والصمم بسبب كفرهم وعصيانهم، فهم متورّطون بعذاب عظيم.

التفسير

«ختم»: «الخَتْم» هو في مقابل «الفَتْح» (ابتداء الشيء وافتتاحه) وهو بمعنى إكمال الشيء أو بلوغ آخره. أمّا السرّ في استخدام كلمة (الختم والخاتم) للتعبير عن الانتهاء والإقفال فهو أنّ ختم الرسالة علامة على انتهائها، فالرسالة لا تُختَم إلاّ عندما تنتهي؛ كذلك صحيفة روح ابن آدم، فما دام هناك منفذ لنفوذ الهداية إليها، وما دام سبيل التوبة لم يُغلَق أمامها بالكامل، فهي ليست مختومة. أمّا إذا بادر الإنسان بسوء اختياره إلى إيصاد باب التوبة بوجهه متعمداً وأنكره واستهزأ به ـ وهو الذي جعله الله سبحانه وتعالى مفتوحاً ومشرعاً أمامه حتّى آخر لحظة: «أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك وسمّيته التوبة»[1] ـ فستُختَم صحيفة روحه، ولن يبقى فيها محلّ لكتابة الحسنات بيد «الكرام الكاتبين».

«سمعهم»: في القرآن الكريم جاء القلب والبصر بصيغة الجمع، والسمع بصيغة المفرد، كما أنّه قُدّم السمع على البصر. ومن المفيد هنا ذكر بعض الملاحظات في هذا الخصوص:

1. لعلّ السرّ في ذكر لفظتي «القلوب» و«الأبصار» بصيغة الجمع، و«السمع» بصيغة المفرد هو أنّ السمع في الأصل مصدر يتشابه فيه الإفراد والتثنية والجمع، كما يتشابه فيه التذكير والتأنيث، على خلاف


[1]. الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 45؛ ومفاتيح الجنان، مناجاة خمس عشرة، مناجاة التائبين.

تسنيم، جلد 2

265

لفظة «الأذن» فبما أنّها ليست مصدراً[1]، فقد جاءت في الآية: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾[2]، بصورة الجمع. ومن ناحية أخرى فإنّ البعض يعدّ «السمع» اسم جمع وله معنى الجمع.

صاحب تفسير المنار، وبعد نقده ونقضه لكون «السمع» مصدراً، بأنّه لو صحّ ذلك فإنّ لفظة البصر مصدر أيضاً فلماذا جاءت جمعاً؟! يقول:

والذي أراه أنّ العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات،... [وكذا] الأبصار فهي مثل العقول في التشعّب... بخلاف السمع فإنّ أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات... فالحاصل أنّ العقول والأبصار تتصرّف في مدركات كثيرة فكأنّها صارت بذلك كثيرة فجُمعت، وأمّا السمع فلا يدرك إلاّ شيئاً واحداً [هو الصوت] فاُفرِد[3].

لكنّ هذا الكلام غير صائب، لأنّ الكثير من اللطائف يدركها العقل من خلال حاسّة السمع وليس لحاسّة البصر مثل هذا الاستعداد وهذه الإمكانات. من هنا فقد عدّ بعض المحقّقين السمعَ أفضل من البصر. إلاّ أنّ صاحب المنار وبعد إيراده للأفضليّة المذكورة يقول:

أنا لا أتكلّم في التفضيل، ذلك إلى الله ورسوله، وإنّما أشرح موجوداً واُبيّن مناسبة اللفظ له[4].

وفيما إذا اتّضح دليل أفضليّة السمع على البصر بشكل دقيق، فإنّ


[1]. تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، ج1، ص55.

[2]. سورة الأنعام، الآية 25.

[3]. المنار، ج1، ص144 ـ 145 (بتصرّف طفيف).

[4]. المنار، ج1، ص145.

تسنيم، جلد 2

266

ذلك يدعو إلى فهم قرب السمع من العقل أكثر من شَبَه البصر به وهذا له السهم الأوفر في البحث الأدبيّ.

على أيّ تقدير، لابدّ من الفصل بين بحث المعقول والمسموع والمبصَر عن بحث العاقل والسامع والمبصِر. فلا جدال في كون العاقلين والسامعين والمبصرين كثيرين، وأمّا تساوي الأسماع فهو لا يعني وحدتها. لذا، يتعيّن التفتيش عن رمز تعدّد المصاديق وكون اللفظ مفرداً في نكتة أخرى.

2. رجّح البعض الآخر السمع على البصر، ورأوا أنّ فيه تجرّداً أرفع من تجرّد البصر، واعتبروا تقديم ذكر السمع على البصر هو نتيجة لهذه الأرجحيّة، كما قدّموا شاهداً على ذلك وهو: «ولذا لا يغلبه [السمع] النومُ في بعض ما يغلب البصرَ»[1].

في المقابل فقد نقل عن أغلب المتكلّمين أنّ البصر أفضل من السمع؛ ذلك أنّ السمع لا يدرك إلاّ الأصوات والكلمات أمّا البصر فيدرك الأجسام والألوان والهيئات، ولمّا كانت متعلّقاته أكثر من تلك التي للسمع، فهو أفضل منه[2].

3. السمع والبصر هما من جملة المجاري الإدراكيّة، لكن من ناحية أنّه هل للقلب الجسمانيّ دور في الإدراك وسهم في العواطف؟ فذلك سيتّضح في أثناء البحث التفسيريّ. بالطبع إنّ هذا البحث من الأصول الموضوعة، وإنّه لمن المفروغ منه أنّ نفس الإنسان وكذلك الإدراك


[1]. تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، ج1، ص55.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص185؛ والتفسير الكبير، مج1، ج2، ص59.

تسنيم، جلد 2

267

الكلّي هما مجرّدان؛ كما هو الحال بالنسبة لشؤون العقل العمليّ، كالإرادة والمحبّة فهي مجرّدة أيضاً، وإنّ لكلّ واحد من هذه الأمور المذكورة مصاديق جزئيّة ترتبط مع بعض الأجهزة الجسميّة كالدماغ، والقلب، والسمع، والبصر وإنّ من يتولّى جيمع تلك الشؤون هي النفس الإنسانيّة التي لها ظهور بدرجات مختلفة من دون حلول في البدن.

«غشاوة»: الغشاوة ساتر (مادّي أو معنويّ) يستولي على الشيء فيحيط به تماماً. وما يُستظهَر من موارد استخدام مشتقّات هذه الكلمة في القرآن هو التغطية الشاملة المحيطة؛ كما في: ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾[1]، و﴿غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ ٱللهِ﴾[2].

«لهم»: تفيد «اللام» الربح تارة فتُستخدَم في مقابل «على» (بمعنى الخسارة)؛ مثل: ﴿مَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾[3]، وتأتي تارة أخرى لتفيد الاختصاص؛ كما في: ﴿لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ﴾[4]. فكلّ عمل مختصّ بعامله وليس بمنفصل عنه؛ فالحسنات مختصّة بالمحسنين والسيّئات مختصّة بالعاصين، ومن هذا الباب جاءت اللام في الآية الكريمة: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأتُمْ فَلَهَا﴾[5] ـ التي تتحدّث عن الإحسان والإساءة ـ لتخصيص العمل بعامله، ولم تستخدم «اللام» محلّ «على» من باب المشاكلة،


[1]. سورة النور، الآية 40.

[2]. سورة يوسف، الآية 107.

[3]. سورة الإسراء، الآية 15.

[4]. سورة النجم، الآية 39.

[5]. سورة الإسراء، الآية 7.

تسنيم، جلد 2

268

ذلك أنّ المُشاكلة لم يتمّ اللجوء إليها أيضاً في موارد من قبيل: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ﴾[1].

في الآية محطّ البحث جاءت اللام للإختصاص أيضاً فهي بمعنى: أنّ العذاب الموصوف بالعظمة هو مختصّ بالمعاندين والكفّار.

الآية السابقة كانت تتحدّث عن عدم قبول الكفّار للهداية وعدم إيمانهم، وفي الآية الحاليّة بُيِّن سرّ ذلك؛ وهو: بما أنّ الله قد طبع على قلوبهم وآذانهم، وجعل على أبصارهم غشاءً سميكاً، فهم ـ قهراً ـ لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ولمّا كان العلم مقدّمة للإيمان، وهم فاقدون لوسائل تحصيله، فهم لا يؤمنون أيضاً.

التعابير المتنوّعة لعدم قبول الكفّار للهداية

بالإضافة إلى تعبير «الختم» فقد عبّر القرآن الكريم عن عدم قبول الكفّار والمعاندين للهداية وانسداد قلوبهم بتعابير أخرى؛ مثل: «الطبع»: ﴿اُولَٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾[2]، و«الصرف»: ﴿صَرَفَ ٱللهُ قُلُوبَهُمْ﴾[3]، و«الكِنان»: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾[4]، و«الغلاف»: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾[5]، و«الرين»: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾[6]، و«القفل»: ﴿أَمْ عَلَىٰ


[1]. سورة البقرة، الآية 286.

[2]. سورة النحل، الآية 108.

[3]. سورة التوبة، الآية 127.

[4]. سورة الكهف، الآية 57.

[5]. سورة البقرة، الآية 88 .

[6]. سورة المطفّفين، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

269

قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[1]، و«التقليب»: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾[2]، و«القساوة»: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[3]، و«المرض»: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾[4].

القلب الروحانيّ والسمع والبصر الباطنيّان

للإنسان قلبان: قلب جسمانيّ صنوبريّ الشكل، وهو أحد أعضاء الجسد، وقلب روحانيّ ومعنويّ. وفي جميع الآيات التي يتحدّث القرآن الكريم فيها عن القلب «المختوم» و«المطبوع»، أو يطرح فيها «الرين» والصدأ الذي يغلّف القلب ويحجب وجهه الصافي الشبيه بالمرآة، أو يعلّم فيها البشر المعارف المتعلّقة ﺑ «القفل» و«الغلاف» و«الكنان» و«الصرف» و«القساوة» التي تصيب القلب، فإنّ المراد من القلب هو القلب الروحانيّ وليس الجسمانيّ، وإنّ العلاقة بين مرض القلب الجسمانيّ والروحانيّ وسلامتهما هي علاقة «العموم والخصوص من وجه»؛ إذ أنّه من الممكن أن يكون قلب المرء الجسمانيّ سليماً بالكامل، بينما تنعدم السلامة في قلبه الروحانيّ جرّاء كفره وانحرافه. كما أنّه من الممكن أن يشكو القلب الجسمانيّ للإنسان المؤمن العلّة والمرض في الوقت الذي يكون فيه قلبه الروحانيّ سالماً: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[5]. كما قد يكون كلا


[1]. سورة محمّد(، الآية 24.

[2]. سورة الأنعام، الآية 110.

[3]. سورة البقرة، الآية 74.

[4]. سورة البقرة، الآية 10.

[5]. سورة الصافّات، الآية 84 .

تسنيم، جلد 2

270

القلبين مريضاً؛ كالكافر المبتلى بمرض القلب، أو يكون كلاهما سالماً؛ نظير المؤمن ذي القلب الجسمانيّ المعافى.

ومثلما أنّ فعاليّة ونشاط القوى والحواسّ المادّية للإنسان مرتبطة بسلامة قلبه الجسمانيّ، فإنّ فعاليّة ونشاط قواه وحواسّه المعنويّة مرتبطة أيضاً بسلامة قلبه المعنويّ. وفي الآية الشريفة محلّ البحث فالمراد من القلب والسمع والبصر هو القلب والسمع والبصر الباطنيّ للإنسان، وليس قلبه وعينه وأذنه الظاهريّ، أي إنّ المدلول الوحيد الذي يشير إليه القلب هنا هو القوّة الفاهمة للإنسان.

إنّ الإنسان الذي يشمله الغضب الإلهيّ، يُحجَب قلبه، الذي هو مركز الإدراكات، عن الحقّ. عندها، وبالرغم من كون عينه الظاهريّة باصرة, فإنّ قلبه، الذي هو في باطنه وأعماقه، يكون أعمى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ ٱلأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[1]، وما دام باب القلب قد اُوصد، فلا عقائده الباطلة ولا صفاته الرذيلة ستخرج منه، ولا العقائد الحقّة والخصال الفاضلة ستدخل إليه؛ نظير الوعاء المغلقة فوهته بإحكام، فليس بالمستطاع إخراج ما ترسّب فيه من وحل وطين، ولا بالإمكان سكب الماء الزلال فيه.

الكفّار محفوفون بحجابين

في هذه الآية الكريمة ينسب الله سبحانه وتعالى الختم على قلوب وسمع الكفّار إلى نفسه: ﴿خَتَمَ ٱلله﴾، إلاّ أنّه تعالى لا ينسب إلقاء


[1]. سورة الحجّ، الآية 46.

تسنيم، جلد 2

271

الغشاوة على أبصارهم إليه: ﴿وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾[1]. وعلى الرغم من أنّ هذه الثلاثة قد أُسندت إلى الله في بعض الآيات: ﴿اُولـَٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾[2]، إلاّ أنّ التغيير في السياق في الآية محطّ البحث يشير إلى أنّ الكفّار محفوفون بحجابين: حجاب أسدلوه هم على وجوههم بسبب عدم اكتراثهم بالحقّ وإعراضهم عنه، وحجاب ألقاه الله عليهم عقاباً على إعراضهم عن الحقائق، وهو الطبع والختم على قلوبهم وآذانهم، لذا فإنّ أعمال الكافرين واقعة بين هذين الحجابين والظلمتين. وعلى أيّ تقدير، فإنّ تكرار كلمة «على» يبيّن وجود حجاب وغطاء لكلّ من القلب والسمع والبصر فتكرّرت كلمة «على» لتفيد التأكيد.


[1]. يقول بعضهم: قد يكون «الختم» في الآية محلّ البحث مختصّاً بالقلب: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم﴾، فيكون كلّ من السمع والأبصار ضمن دائرة الغشاوة: ﴿وَعَلَى سَمعِهِم وَعَلَى أَبصَارِهِم غِشَاوَةٌ﴾، فيكون تركيب الآية كالتالي: «على سمعهم» و«على أبصارهم» معاً خبر مقدّم و«غشاوة» مبتدأ مؤخّر، ومن هذه الجهة يكون للسمع والبصر حكم مشترك، وللقلب حكم آخر، كما في الآية الشريفة: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ﴾ (سورة الأنعام، الآية 46). (راجع تفسير القرآن الكريم، للشهيد السيّد مصطفى الخمينيّ، ج3، ص174ـ175). إلاّ أنّ الحقّ هو أنّ جملة «على سمعهم» معطوفة على قوله «على قلوبهم» ومتلّعقة بالختم، وأنّ «الأبصار» فقط هي الخبر المقدّم للغشاوة؛ كما في الآية الشريفة: ﴿خَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ (سورة الجاثية، الآية 23)، حيث السمع والقلب كلاهما متعلّق بالختم بينما اختصّت الغشاوة بالبصر؛ هذا وإن تعلّق «الطبع»، الذي هو نفس الختم، بالقلب والسمع والبصر معاً في قسم آخر من الآيات نظير: ﴿اُولـَٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ (سورة النحل، الآية 108).

[2]. سورة النحل، الآية 108.

تسنيم، جلد 2

272

السرّ في كون قلوب الكفّار مختومة

الإنسان عند الولادة يكون محروماً من العلم الحصوليّ: ﴿وَٱللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾[1]، والله سبحانه وتعالى يزوّده بالوسائل لاكتساب العلم الحصوليّ من جانب: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[2]، ويلهم فطرته لينتفع من العلم الحضوريّ من جانب آخر: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[3].

وحيث إنّ الإنسان ـ وبمعونة ما يتمتّع به من ثروة إلهام الفطرة والشعور الباطنيّ ـ له قدرة التمييز بين الخبيث والطيّب، والقبيح والجميل، والفجور والتقوى من ناحية، وهو من ناحية أخرى يمتلك الوسائل المناسبة لاكتساب العلم الحصوليّ، فهو إذا ما نمّى هاتين الثروتين اللتين هما موهبتان إلهيّتان، فسوف يُفيد بشكل صحيح من مجاريه الإدراكيّة، فيصل، في ضوء تنميتها، إلى الفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[4]، وهذا هو عين شكر النعمة الذي اُشير إليه في آخر الآية 78 من سورة النحل: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. لكنّه لو دفن روحه في طامورة شهواته وغرائزه النفسانيّة، وأصبحت مجاريه الإدراكيّة، أي السمع والبصر والقلب ـ التي ينبغي أن يوظّفها لتعلّم المعارف الإلهيّة وأسرار العالم ـ أسيرة لشهوات نفسه وهواها، وتدنّست بالذنوب والآثام، فلا يبقى فيها مجال لسطوع نور الهداية عليه.


[1]. سورة النحل، الآية 78.

[2]. سورة النحل، الآية 78.

[3]. سورة الشمس، الآيتان 7 و8 .

[4]. سورة الشمس، الآية 9.

تسنيم، جلد 2

273

بناءً على ما مرّ، فإنّ لختم القلب عاملين أساسيّين: الأوّل: اتّباع الهوى؛ حيث إنّ المرء بعد اتّضاح الحقّ وعوضاً عن أن يكون إلهيّ المحور، تراه يتّبع هواه فيدور حيث دار، فيصبح حينئذ مشمولاً بالإضلال الجزائيّ لله تعالى فيختم الله على سمعه وقلبه ويسدل حجاباً غليظاً على بصره، فلا يسمع الحقّ بعد ذلك ولا يبصره ولا يفهمه؛ ذلك لأنّ اتّباعه لهواه كان على علم منه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ ٱللهِ﴾[1].

والعامل الآخر لختم القلب هو: المعصية. فقد كان الكفّار يقولون للنبيّ الأكرم(ص): إنّ قلوبنا في غلاف وفي كِنان، وآذاننا ثقيلة فلا نسمع ما تقول، وإنّ بيننا وبينك حجاباً فلا نراك بسببه: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾[2]. إنّ الحجاب الذي ورد في الآية أعلاه هو الذنب، وهو الحجاب المستور، وليس المشهود والمرئيّ: ﴿وَإِذَا قَرَأتَ ٱلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً﴾[3]، ﴿اُولـَٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ﴾[4]. وفي بعض الآيات عُبّر عنه بالرين (صدأ القلب): ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ


[1]. سورة الجاثية، الآية 23.

[2]. سورة فصّلت، الآية 5.

[3]. سورة الإسراء، الآية 45.

[4]. سورة محمّد(، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

274

إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾[1]. فالعقيدة الباطلة، والأخلاق الرذيلة، والعمل الباطل القبيح تصير على شكل حجاب من الغبار والصدأ يغطّي وجه مرآة روح الإنسان، فلا يسطع فيها نور الهداية.

جاء رجل إلى أمير المؤمنين(ص) فقال: يا أمير المؤمنين إنّي قد حُرِمت من أداء نافلة الليل. فقال له أمير المؤمنين(ص): «أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك»[2].

إنّ قلب العاصي والمجرم يُقلَب: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾[3]، ويُصرَف عن فهم الحقّ: ﴿ثُمَّ ٱنْصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللهُ قُلُوبَهُمْ﴾[4]، فيؤول نتيجة ذلك إلى التكذيب بالحقّ: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾[5]، وبهذه الصورة تُختم صحيفة نفس الإنسان بالغضب الإلهيّ، وإلاّ فإنّ الله لا يُضِلّ ابتداءً فيجعل قلب الإنسان منكوساً منذ البدء ويختمه.

يشير القرآن الكريم إلى نماذج من الذنوب التي تكون مدعاة لانصراف قلب الإنسان؛ مثل التكبّر الذي يكون عاملاً لحرمان المتكبّر من فهم الآيات الإلهيّة: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِنْ يَرَواْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَواْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ...﴾[6].


[1]. سورة المطفّفين، الآيتان 14 و15.

[2]. التوحيد، للصدوق، ص97؛ وبحار الأنوار، ج84، ص151 ـ 152.

[3]. سورة الأنعام، الآية 110.

[4]. سورة التوبة، الآية 127.

[5]. سورة المطفّفين، الآية 12.

[6]. سورة الأعراف، الآية 146.

تسنيم، جلد 2

275

كما أنّ الإحجام عن المشاركة في الجهاد في سبيل الله يبعث أيضاً على الحرمان من إدراك حقائق الإيمان: ﴿وَإِذَا مَا اُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنْصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللهُ قُلُوبَهُمْ ...﴾[1]. فعندما كان النبيّ الأكرم(ص) يتلوا آيات الدفاع والحرب كان بعض مخاطَبيه يرقُبون ما حولهم حتّى إذا اطمأنّوا بأنّه لا أحد ينظر إليهم تسلّلوا من المكان لائذين بأحد الأشخاص. وقد قال عزّ من قائل في آية أخرى بحقّ هؤلاء: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ٱللهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً﴾[2]، فالله سبحانه وتعالى يصرف قلوب هؤلاء بسبب تصرّفاتهم القبيحة هذه فلا يدركون الآيات الإلهيّة بعد ذلك.

لطائف وإشارات

[1] الهجوم الشامل للشيطان

إنّ هدف الشيطان من إغواء ابن آدم هو الطبع على قلبه. فهو يصرّ على إبقاء الإنسان في دائرة الرذيلة والخطيئة، وهو لهذا يهاجم الإنسان من كافّة الجهات: من الأمام ومن الخلف وعن اليمين وعن الشمال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَٰتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾[3] كي تحيط الخطايا


[1]. سورة التوبة، الآية 127.

[2]. سورة النور، الآية 63.

[3]. سورة الأعراف، الآيتان 16 و17.

تسنيم، جلد 2

276

بالإنسان: ﴿أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾[1] فلا يعود هناك منفذ لنفوذ المعارف الحقّة إلى قلبه.

[2] تنوّع المدرَكات وأدوات الإنسان الإدراكيّة

مثلما أنّ هناك فرقاً بين القلب والسمع والبصر الظاهريّ من جهة وبين القلب والسمع والبصر الباطنيّ من جهة أخرى، فإنّ هناك فرقاً كذلك بين إدراك القلب الباطنيّ وإدراك السمع والبصر الباطنيّين؛ لأنّ القلب الباطنيّ يدرك المعارف العالية من دون تمثُّل أو تنزُّل إلى عالم المثال، بيد أنّ السمع والبصر الباطنيّين يدركان المراحل المتوسّطة من المعارف عن طريق التمثّل ومع الكمّ والكيف والشكل والصورة؛ فالنبيّ الأكرم(ص) قد تلقّى في المعراج الكمّ الأكبر من المعارف العميقة والمعقولة بقلب روحه، في حين أنّه رأى بعضها الآخر بعين قلبه: ﴿مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * ...لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ﴾[2]. كذلك فإنّ الناس في يوم القيامة يرون ويسمعون بعض الحقائق بأبصارهم وأسماعهم الباطنيّة، لكنّهم يحيطون بالقسم الأعظم من المعارف العميقة والعقليّة عن طريق قلوبهم الباطنيّة. وفي عالم الرؤيا أيضاً فإنّ الإنسان يرى ويسمع بعض الحقائق بواسطة عينه وأذنه المثاليّتين، أمّا المباحث العميقة والمعارف العالية والمعقولة ـ التي تكون أرفع من مستوى عالم المثال ـ فيدركها بقلب هو أسمى من العين والأذن المثاليّتين، إذ أنّه في


[1]. سورة البقرة، الآية 81 .

[2]. سورة النجم، الآيات 11 ـ 18.

تسنيم، جلد 2

277

المُدرَكات القلبيّة لا يجري الحديث عن الشكل والكمّ والكيف ليتيسّر إدراكها بالعين والأذن المثاليّتين.

[3] مراتب ختم القلب

إنّ الطبع على القلب وصيرورته منكوساً ليس مختصّاً بالكفّار والمنافقين، وإنّما قلب المرء يُختم ويُنكَس بمقدار ما يصيبه من صدأ ورين المعاصي، وهو سيُحرَم من فهم الآيات الإلهيّة بنفس تلك النسبة. وينشأ نَكْس القلب هذا من التورّط بالمكروهات في بادئ الأمر ليتطوّر إلى ارتكاب صغائر الذنوب ثمّ كبائرها حتّى يصل الدور إلى أكبر الكبائر ألا وهو الكفر بالله. كما أنّ المعيار لقياس مرض القلب هو مقدار غفلة المرء عن فهم الآيات الإلهيّة أو الاشمئزاز منها.

[4] حرمان القلب المنكوس من البركات السماويّة

إنّ قلب الإنسان وعاء مجرّد وغير مادّي: «إنّ هذه القلوب أوعية»[1] ويكون وجهه في بدء الخلقة متّجهاً نحو الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا﴾[2]، لكنّه بسبب الكفر والانحراف يُنكَس. ومن باب تشبيه المعقول بالمحسوس يمكن القول: إنّ وعاء القلب نظير الأوعية المادّية؛ فإن كانت فوهة الوعاء


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 147.

[2]. سورة الروم، الآية 30.

تسنيم، جلد 2

278

المادّي إلى الأعلى وكان مستقرّاً بشكل طبيعيّ، فإنّه سيستفيد من أشعّة الشمس من ناحية وسيُملأ بماء المطر من ناحية أخرى، أمّا لو قُلب على وجهه، فسوف يسيل ماء المطر عل ظهره ولا ينفذ فيه، ولن تصل أشعّة الشمس إلى باطنه كي ينتفع من نورها وحرارتها.

وكذا الوعاء المجرّد لروح الإنسان؛ فإن اتّجه نحو الله فإنّه ينتفع من إشعاع نور الوحي، ويمتلئ من ماء الحياة، إلاّ أنّه لو نكس رأساً على عقب فأعرض عن الله وأصبح أسفله باتّجاه الباري تعالى وغدت فوهته إلى الأرض واتّجه نحو الأرض؛ كما في قوله تعالى: ﴿ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ ٱلأَرْضِ﴾[1]، و﴿أَخْلَدَ إِلَىٰ ٱلأَرْضِ﴾[2] فسيُحرَم ـ كالوعاء المقلوب ـ من بركات السماء، فلا هو ينتفع من الحرارة والنور: ﴿نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ﴾[3]، ولا هو يُفيد من الوحي الذي هو ماء الحياة الذي تحيَى به القلوب.

[5] الكفّار وموانع السير في آيات الآفاق والأنفس

من جملة الطرق إلى معرفة الله هي معرفة الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة؛ أي معرفة الكون، ومعرفة النفس: ﴿وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبصِرُونَ﴾[4]، والكافرون قد أغلقوا كلا الطريقين في


[1]. سورة التوبة، الآية 38.

[2]. سورة الأعراف، الآية 176.

[3]. سورة النور، الآية 35.

[4]. سورة الذاريات، الآيتان 20 و21.

تسنيم، جلد 2

279

وجوههم. يقول القرآن الكريم في حقّ هؤلاء: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَىٰ ٱلأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[1]. فالأغلال التي هي في أعناق الكفّار قد وصلت حتّى أذقانهم فهم ﴿مُقْمَحُونَ﴾؛ أي اضطرّتهم إلى رفع رؤوسهم إلى الأعلى من شدّة ضيقها، وإنّ هذه الحلقات الحديديّة الباردة المعلّقة في أعناقهم هي تبعات سيّئاتهم. مثل هذا الإنسان ليس باستطاعته أن يطأطئ رأسه كي يلقي نظرة على نفسه فيعرفها ثمّ يجعل من معرفة النفس جسراً يعبر عليه صوب معرفة الله. كما أنّ هناك جدراناً سميكةً من أمامه ومن خلفه بنيت من موادّ قاسية صلبة هي نتاج هوى نفسه، فهذه الجدران والغشاوة الملقاة على عينيه تمنعه من معرفة الكون والسير في آفاق عالم الوجود.

[6] دعاء موسى الكليم( على فرعون

إنّ من أسوأ الأدعية التي دعا بها موسى الكليم(ص) على فرعون مصر وأتباعه هو أنّه سأل الله عزّ وجلّ، مضافاً إلى إفناء أموالهم، أن يجعل قلوبهم قاسية لا تقبل النفوذ كي يُسلبوا التوفيق للإيمان ويُبتلوا بعذاب أليم؛ ذلك أنّهم كانوا يضلّون الناس ويبعدونهم عن سبيل الله بما يمتلكون من أموال وجواهر وإماكانات مادّية: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ


[1]. سورة يٰس، الآيات 8 ـ 10.

تسنيم، جلد 2

280

ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ﴾[1]. كما أنّ هارون كان شريكاً لموسى الكليم(ص) في تلك المناجاة وذلك الدعاء، فقال الله عزّ وجلّ لهما: ﴿قَدْ اُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾[2]، ثمّ بيّن كيفيّة إجابة دعائهما أيضاً.

[7] حجاب الكفّار غير مانع من مشاهدتهم للعذاب

مع أنّ الختم على قلوب وآذان الكفّار وعمى أعينهم ليس مقتصراً على عالم الدنيا: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾[3]، إلاّ أنّ هذا لايعني كونهم لا يشاهدون أيّ حقيقة في عالم الآخرة، بل هم يدركون حقائق جمّة من جملتها العذاب الإلهيّ، وهم يعلمون أنّهم أعموا أبصارهم بأنفسهم جرّاء سوء اختيارهم؛ إذ أنّ جميع الأسرار والسرائر تنكشف في ذلك اليوم: ﴿يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَائِرُ﴾[4]، والمرء عندئذ يدرك الكثير من الأمور ببصر ثاقب: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[5]. إذن، فعماهم هو مانع من مشاهدتهم للجمال الإلهيّ فحسب وإلاّ فهم يشاهدون جلال الله وعذابه وعقابه.


[1]. سورة يونس، الآية 88 .

[2]. سورة يونس، الآية 89 .

[3]. سورة الإسراء، الآية 72.

[4]. سورة الطارق، الآية 9.

[5]. سورة ق، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

281

البحث الروائيّ

إنّ دراسة الروايات التفسيريّة الواردة في هذا المبحث والمباحث الأخرى تبيّن أنّ الكثير من النكات الروائيّة مستنبطة من تبويب الآيات القرآنيّة والجمع بينها؛ وإن عُثِر في النصوص على مباحث مُبتكَرة في مجال التطبيق وما شابه ذلك.

[1] الختم الجزائيّ على قلوب الكفّار

ـ [عن الرضا(ص)] عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿... خَتَمَ ٱللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ﴾، قال: «الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال عزّ وجلّ: ﴿بَلْ طَبَعَ ٱللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[1]»[2].

إشارة: المراد من استثناء القليل ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ هو إمّا ناظر إلى أنّ إمكانيّة إيمانهم باقية حتّى آخر لحظة من أعمارهم، وبالتالي تكون الآية محلّ البحث مقيّدة، وإمّا ناظر إلى تبدّل الكفّر إلى النفاق حيث جاء في بعض النصوص الواردة في الإيمان القليل للمنافقين أنّ إيمانهم هو من أجل الدنيا وفي حضور الناس ومثل هذا الإيمان هو إيمان ضئيل وقليل ولا قيمة له.

إنّ العناوين التي هي من قبيل الختم، والطبع، والإغفال، وما شاكلها والتي تمّ إسنادها إلى الله تعالى في القرآن الكريم تكون مصحوبة بأمور خاصّة لا بأس بالتعرّف عليها في البحوث التفسيريّة:


[1]. سورة النساء، الآية 155.

[2]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص113؛ وبحار الأنوار، ج5، ص11.

تسنيم، جلد 2

282

أ: إنّ العناوين المذكورة هي عدميّة؛ نظير عنوان العمى، والجهل، والعجز، ...الخ، بحيث لو كان أيّ منها محمولاً لقضيّة، لكانت تلك القضية هي من قبيل «الموجَبة المعدولة»، وليست «المحصّلة».

ب: لا تُسنَد العناوين المذكورة إطلاقاً إلى الله ابتداءً بل إنّها من باب العقاب ولا تحصل إلاّ بعد اكتمال نصاب الإمهال.

ج: إنّ المراد من القضايا التي اُسند فيها واحد من تلكم العناوين إلى الله هو إمساك الفيض الخاصّ، وعدم إعطاء النوال المخصوص، لا أنّ الله تعالى يعطي الكفّار أمراً وجوديّاً خاصّاً، يُسمّى الطبع أو الختم على سبيل المثال.

[2] الشهود على القلوب المختومة

ـ إنّ أبا محمّد العسكريّ(ص) قال في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ ٱللهُ ...﴾: «أي وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنّهم‏ الذين لا يؤمنون»[1].

ـ قال الصادق(ص): «... ﴿خَتَمَ ٱللهُ عَلَىٰ‏ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ‏ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ‏ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله محمّد(ص)، ويبصرها خير خلق الله بعده عليّ بن أبي طالب(ص) ...»[2].‏

إشارة: جميع الموجودات المجرّدة والسامية التي تكون حاضرة في تسجيل أعمال الناس قد تطّلع من خلال الإخبار الإلهيّ عـلى خـتم قلوب المختومة قلوبهم، وإنّ الكُمّل من الناس ـ الذين تُعرَض عليهم أعمال العباد ـ مطّلعون على ذلك بواسطة التعليم الإلهيّ، كما وإنّ إمام


[1]. الاحتجاج، ج2، ص505؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص33.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص99؛ وبحار الأنوار، ج42، ص29.

تسنيم، جلد 2

283

كلّ عصر ـ وهو المسؤول الخاصّ عن هداية الأرواح والنفوس المستعدّة ـ يكون على علم بذلك بتعريف الله له، وكذلك المقرّبون، الذين هم شهداء على أعمال الأبرار وقلوبهم، يشهدون ـ من باب الأولويّة ـ أعمال وقلوب الفجّار أيضاً. وبناءً على ذلك، فإنّ ما جاء في الحديث المذكور، هو بيان لبعض مصاديق الشهود وليس جميعها.

[3] علّة الطبع على القلب

ـ [عن العسكريّ(ص) في قوله تعالى]: ﴿وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾: «وذلك بأنّهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وقصّروا فيما اُريد منهم وجهلوا ما لزمهم الإيمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه فإنّ الله عزّ وجلّ يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه فلا يأمرهم بمغالبته ولا بالمصير إلى ما قد صدّهم بالقسر عنه»[1].‏

إشارة: الختم الإلهيّ هو جزائيّ، لا ابتدائيّ، وعلى أساس تجسُّم أو تمثُّل الأعمال، فإنّه من الممكن أن يتمثّل الإعراض عن ذكر الله بصورة الطبع، وإنّ التشبيه هو بلحاظ الأعضاء والجوارح الظاهريّة، وإلاّ فبلحاظ الأعضاء والجوارح الباطنيّة فهو غطاء حقيقةً وليس تشبيهاً. ولمّا كان بعنوان الجزاء وليس ابتدائيّاً، وكان مصحوباً بالإمكان العقليّ للإيمان بدعوى الأنبياء(ع) ودعوتهم، فإنّه ـ من هذه الجهة ـ لن يكون جبراً. والمباحث الأربعة المذكورة أعلاه يمكن استنباطها من الحديث السابق.

إنّ التحليل الدقيق لمعنى القلب وحواسّه الباطنيّة يبيّن بوضوح أنّ


[1]. الاحتجاج، ج2، ص505؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص33.

تسنيم، جلد 2

284

إسناد ختم القلب إلى الله جلّ وعلا يمكن أن يكون حقيقة لا مجازاً ولا ينبغي مقارنته بالغشاوة الحسّية على السمع والبصر الحسّيين، وإنّ ما جاء في تفسير الكشّاف[1] في هذا المضمار ليس صائباً.

[4] إطلاق العذاب العظيم بالنسبة للدنيا والآخرة

ـ [عن العسكريّ(ص) في قوله تعالى]: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: «يعني في الآخرة العذاب المُعدّ للكافرين وفي الدنيا أيضاً لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه لطاعته، أو من عذاب الاصطلام ليصيّره إلى عدله وحكمته‏»[2].

إشارة: إنّ عذاب الآخرة هو عقاب محض وليس فيه أدنى امتحان، أمّا عذاب الدنيا فمن الممكن أن يكون أرضيّة للامتحان، فإن تنبّه الفرد المعذّب (أو الجماعة المعذّبة) فتاب وتضرّع، فسوف يكون ذلك سبباً في رفع بعض الشدائد عنه، وإنّ صدر الآية: ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأسُنَا تَضَرَّعُواْ ...﴾[3] هو شاهد على ذلك.

[5] القلب والسمع والبصر الباطنيّ في كلمات المعصومين(

ـ عن الصادق(ص): «ما من قلب إلاّ وله أذنان على أحدهما ملك مرشد، وعلى الآخر شيطان مغترّ؛ هذا يأمره، وهذا يزجره»[4].


[1]. الكشّاف، ج1، ص51 ـ 52.

[2]. الاحتجاج، ج2، ص505؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص33.

[3]. سورة الأنعام، الآية 43.

[4]. تفسير القمّي، ج1، ص45؛ وبحار الأنوار، ج65، ص274.

تسنيم، جلد 2

285

ـ [عن أمير المؤمنين(ص)]: «ألا إنّ أبصَرَ الأبصار ما نفذ في الخير طرفه، ألا إنّ أسمَعَ الأسماع ما وَعَى التذكير وقَبِلَه»‏[1].

ـ «فلو رميتَ ببصر قلبك نحو ما يُوصَف لك منها [الجنّة] لعزَفَت نفسك عن بدائع ما اُخرِج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها»[2].

ـ «والهوى شريك العمى»[3].

ـ «إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قِبَل شهوتها وإقبالها فإنّ القلب إذا اُكرِه عَمِي»[4].

ـ «وما كلّ ذي قلب بلبيب، ولا كلّ ذي سمع بسميع، ولا كلّ ناظر ببصير»[5].

ـ «ومن عشق شيئاً أعشَى [أعمى] بصره، وأمرض قلبَه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرَقتِ الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه»[6].

ـ «والأمانيّ تُعمي أعين البصائر»[7].

ـ «فإنّي أوصيكم بتقوى الله‏... فإنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 105.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 165، المقطع 30.

[3]. نهج البلاغة، الكتاب 31، المقطع 110.

[4]. نهج البلاغة، الحكمة 193.

[5]. نهج البلاغة، الخطبة 88 ، المقطع 2.

[6]. نهج البلاغة، الخطبة 109، المقطع 14.

[7]. نهج البلاغة، الحكمة 275.

تسنيم، جلد 2

286

عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم [أجسامكم]، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا [غشاء] أبصاركم»‏[1].

ـ «... الحكمة التي هي حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصمّاء»[2].

ـ «وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدى، أو نقصان من عمى‏»[3].

إشارة: مثلما أنّ للإنسان ضمن نطاق بدنه أعضاءً وجوارح إدراكيّة وتحريكيّة تكون تارة سليمة وتارة أخرى مريضة، وحيناً صحيحة وحيناً آخر معيبة، كما قد تكون موجودة وقد لا تكون موجودة أساساً، فإنّ له في حيّز روحه أيضاً أعضاءً وجوارح إدراكيّة وتحريكيّة لها، كأحكام البدن، مستلزمات خاصّة. وكما أنّه من بين الأعضاء الإدراكيّة الظاهريّة يُطرَح عنوانا السمع والبصر أكثر من غيرهما من العناوين، فإنّ نفس هذين العنوانين يُطرحان، من بين الأعضاء الإدراكيّة الباطنيّة، أيضاً أكثر ممّا يُطرح غيرهما، وإلاّ فإنّ لباطن الإنسان شامّة كذلك يقول الباري في استشمامها: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾[4]، وإنّ ما جاء في النصوص أعلاه هو جانب من حياة الروح وسلامة أعضائها وجوارحها الإدراكيّة والتحريكيّة، ممّا سيبيَّن في ذيل الآيات ذات العلاقة بالاستعانة بما يناسبها من الأحاديث.


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 198، المقطع 5.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 133، المقطع 7.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 176، المقطع 8 .

[4]. سورة يوسف، الآية 94.

تسنيم، جلد 2

287

وفي الختام لعلّ في الالتفات إلى المبحث التالي ما يعود بالنفع والفائدة على أصحاب الصفاء وأهل الذوق: فقد روي عن الإمام جعفر الصادق(ص) أنّه قال: «إعراب القلوب على أربعة أنواع؛ رفعٍ، وفتحٍ، وخفضٍ، ووقفٍ (ولا توافق المصطلحات المذكورة ما تعارف عليه الأدباء)؛ فرفع القلب في ذكر الله تعالى، وفتح القلب في الرضا عن الله تعالى، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله، ووقف القلب في الغفلة عن الله تعالى»[1].‏


[1]. مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، ص9.

تسنيم، جلد 2

288

تسنيم، جلد 2

289

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَ بِالْيَوْمِ الأَخِرِ وَمَاهُم بِمُؤْمِنِينَ (8)

خلاصة التفسير

المنافقون ـ الذين هم كفّار في بواطنهم لكنّهم يكتمون ما يضمرونه من الكفر ـ وإنْ اشتركوا مع الكفّار والمشركين في بعض الأحكام، لكنّهم أشدّ انحرافاً وضرراً من الكفّار ولهذا يعدّهم القرآن الكريم أسوأ من الكافرين.

يبادر الباري عزّ وجلّ إلى فضح المنافقين في آيات عديدة من القرآن الكريم ويميط اللثام عن كفرهم بالمبدأ، والرسالة، والمعاد، وعن ريائهم في الصلاة، والإنفاق.

لقد كان الهدف من إظهار المنافقين للإيمان هو التجسّس لصالح الكافرين، أو التمتّع بمزايا اجتماعيّة إضافيّة.

تسنيم، جلد 2

290

التفسير

«الناس»: تعبير «الناس» هو مرادف للإنسان، والإنس، والبشر مع هذا الفارق وهو أنّ «الناس» و«الإنس» هما اسما جنس للجمع ولا يطلقان على المفرد، بينما تُطلق كلمة «البشر» على المفرد والجمع.

جاء تعبير «من الناس» في القرآن الكريم تارة بخصوص المتّقين؛ كما في الآية الشريفة: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاةِ ٱللهِ﴾[1]، وتارة أخرى للتعبير عن الكفّار والمشركين؛ مثل: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ ٱللهِ أَنْدَاداً﴾[2]، وتارة ثالثة اُريدَ منه المنافقون؛ كالآية محلّ البحث، والآية ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ ٱللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ﴾[3]. إذن، فكلمة «الناس» تشمل المتّقين والكافرين والمنافقين.

«مَنْ»: «من» في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ هي إمّا اسم موصول و«يقول» هي صلة له؛ مثل «الذين» في الآية: ﴿وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ﴾[4]، وإمّا موصوف و«يقول» صفته؛ مثل كلمة «رجال» في الآية: ﴿مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ ...﴾[5].

«يقول»: الضمير في يقول جاء مفرداً بسبب لفظة «مَنْ»؛ مثل: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾[6]، وأمّا الضميران في «آمنّا» و«ما هم»، اللذان


[1]. سورة البقرة، الآية 207.

[2]. سورة البقرة، الآية 165.

[3]. سورة الحجّ، الآية 11.

[4]. سورة التوبة، الآية 61.

[5]. سورة الأحزاب، الآية 23.

[6]. سورة الأنعام، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

291

وردا بالجمع، فذلك على اعتبار معناهما؛ كما في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾[1].

في هذه الآية الكريمة جاء «القول» بمعنى التلفّظ باللسان؛ مثل: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾[2], إلاّ أنّها تأتي أحياناً للدلالة على الكلام المطابق للقلب والعقيدة والمنطق؛ كما في: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِٱللهِ وَمَا اُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾[3].

تنويه: قد يناجي المرء ربّه أحياناً فيقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ...﴾[4]، لكنّه أحياناً أخرى يقول «آمنّا» عند لقائه بالمؤمنين. فالقسم الأوّل هو الذي تولّت بيانه الآيات من أواخر سورة آل عمران (من 190 إلى 194)، أمّا القسم الثاني فهو ما جاء في الآية محلّ البحث؛ إذ ليس المراد من الآية أنّ المنافقين يقولون: «آمنّا» في مناجاتهم مع الله عزّ وجلّ، بل إنّ تفسير ذلك ـ حسب الآية 14 من نفس السورة ـ هو أنّهم يقولون: «آمنّا» عند لقائهم بالمؤمنين، وإلاّ لما تحقّق خداع المؤمنين؛ أي إنّهم لو كانوا يقولون آمنّا بشكل سرّي، لحصلت مخادعة الله فحسب، ولما تحقّقت مخادعة المؤمنين حينئذ.

المنافقون أسوأ من الكافرين

ينقسم الناس في مقابل دين الله إلى ثلاث طوائف: فبعض قبلوا بالدين


[1]. سورة يونس، الآية 42.

[2]. سورة المائدة، الآية 41.

[3]. سورة البقرة، الآية 136.

[4]. سورة آل عمران، الآية 193.

تسنيم، جلد 2

292

في الباطن وفي الظاهر وهؤلاء هم المؤمنون والمتّقون، وإن كانوا يضطرّون أحياناً ـ بدافع التقيّة ـ إلى كتمان إيمانهم الباطنيّ ولا تسنح لهم الفرصة لإظهاره، أو حتّى قد يضطرّون إلى إظهار الكفر خلافاً لما يضمرون من الإيمان: ﴿إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ﴾[1]، ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾[2]. وبعضهم الآخر منكر للدين ظاهراً وباطناً وهؤلاء هم الكفّار.

أمّا الطائفة الثالثة فهم المنافقون الذين يُبطِنون الكفر ويُظهِرون الإيمان؛ فمثلهم كمثل الجرذ الصحراويّ الذي يكون لجُحره ثقب يقال له «نافقاء»، وثقب آخر معدّ للهرب يسمّى «قاصعاء»، وهناك تراب رقيق فوق جحره، فإذا أحسّ بالخطر ألقى بهذا التراب القليل عليه بحيث يكون ظاهره تراباً وباطنه جُحراً. لكنّ الكفر الباطنيّ للكافرين يبرز ساعة الامتحان: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾[3].

إذن فالمنافقون هم في الحقيقة كفّار، ومن هنا فإنّهم يشتركون مع الكفّار في بعض الأحكام؛ مثل السقوط في نار قهر الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ ٱللهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾[4]، كما أنّهم شركاء مع المشركين في بعض الأحكام أيضاً، كالحرمان من الغفران الإلهيّ؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في حقّ المشركين: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ


[1]. سورة النحل، الآية 106.

[2]. سورة غافر، الآية 28.

[3]. سورة آل عمران، الآية 167.

[4]. سورة النساء، الآية 140.

تسنيم، جلد 2

293

أَنْ يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾[1]، ويقول أيضاً بخصوص الشرك: ﴿إِنَّ ٱللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾[2]، كما يقول الله تعالى للنبيّ الكريم(ص) في حقّ المنافقين: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ ٱللهُ لَهُمْ﴾[3]. إذن فالمنافقون مثل الكافرين ليس لهم حظّ من المغفرة الإلهيّة.

لقد ذُكرت في بعض الآيات أحكام خاصّة بالمنافقين؛ كالآية التي تبيّن أنّهم أسوأ من الكفّار: ﴿إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ﴾[4]، والسرّ في ذلك هو كون المنافق أشدّ خطراً وضرراً من الكافر والمشرك كما سيتبيّن فيما بعد.

فضح المنافقين

يقول المنافقون: إنّنا نؤمن بالله، والقيامة، والوحي، والنبوّة، ويصرّون على هذا الادّعاء الكاذب، وإنّ ظاهر تعبيرهم هو أنّ إيمانهم بكلّ من المبدأ والمعاد قد حصل من خلال برهان مستقلّ؛ لأنّهم كرّروا حرف الباء في قولهم ﴿وَبِاليَومِ الآخِر﴾ كي يكون إشعاراً باستقلال كلّ واحد منهما. لكنّ الله سبحانه وتعالى سلب منهم الإيمان بالمبدأ والمعاد من جهة: ﴿وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ﴾، وجرّدهم من الاعتقاد بالوحي والرسالة من جهة أخرى: ﴿إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللهِ وَٱللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ


[1]. سورة التوبة، الآية 113.

[2]. سورة النساء، الآية 116.

[3]. سورة «المنافقون»، الآية 6.

[4]. سورة النساء، الآية 145.

تسنيم، جلد 2

294

لَرَسُولُهُ وَٱللهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾[1]، وأزاح الستار عن ريائهم في الصلاة والإنفاق من جهة ثالثة: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾[2]. والسرّ في عدم قبول أعمال المنافقين يكمن في أنّهم كفّار في بواطنهم، وهكذا يكشف الله عزّ وجلّ دواخلهم المستورة ويظهرها للعيان، فيقول: إنّ الأثر السيّئ لكسلهم وكرههم يتّقد في باطنهم، وإن كانوا يتظاهرون بالنشاط العباديّ والسرور بالامتثال للأوامر الإلهيّة.

كانت غاية المنافقين من إظهار الإيمان هي الانخراط في صفوف المؤمنين، والتقرّب أكثر من النبيّ الأكرم(ص) لتتسنّى لهم فرصة جمع كمّ أكبر من المعلومات لصالح الكفّار، أو لكي يحصلوا على مزايا اجتماعيّة أكثر. لكنّ الله تعالى ـ في الآية مورد البحث ـ يميط اللثام عن كذبهم ونفاقهم من خلال التأكيد المتمثّل بالجملة الاسميّة المؤكَّدة بالباء، ويفشي نيّاتهم، ويفشل مساعيهم من أجل نيل هذا الهدف القذر.

لطائف وإشارات

[1] اللطائف التعبيريّة للقرآن في فضح المنافقين

إضافة إلى كشفه الغطاء بصراحة عن الكفر الباطنيّ للمنافقين، فقد أشار


[1]. سورة «المنافقون»، الآية 1.

[2]. سورة التوبة، الآية 54؛ هذه الآية من أكثر الآيات جامعيّة في مسألة فضح المنافقين وإفشاء ما يضمرون؛ لأنّها في الوقت الذي تبيّن فيه كفرهم الاعتقاديّ، فهي تُظهِر كفرهم العمليّ أيضاً.

تسنيم، جلد 2

295

القرآن الكريم إلى هذا الموضوع بلطائفه التعبيريّة عندما قال: تراهم ـ في أحداث كالحرب ـ يميلون إلى الكفّار بسرعة: ﴿فَتَرَىٰ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾[1]. إنّ استعمال القرآن لتعبير ﴿يُسارِعونَ فيهِمْ﴾ بدلاً من «يسارعون إليهم» فيه علامة على أنّ المنافقين هم ضمن جمع الكفّار باطناً ، كما ويقول في ذيل الآية كذلك: إنّهم سيندمون على إضمار الكفر في قلوبهم: ﴿فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾[2]. أي إنّه يُستفاد من جملة ﴿يُسارِعونَ فيهِم﴾ أنّ الميل القلبيّ للمنافقين نحو الكفّار كان موجوداً مسبقاً والآن هم يبادرون بسرعة إلى التواجد فيما بينهم، وليس «يسارعون نحوهم».

[2] الإضلال الجزائيّ للقرآن بالنسبة للمنافقين

في مطلع سورة البقرة المباركة يحصي الله سبحانه وتعالى الشروط الخمسة الواجب امتلاكها للانتفاع من القرآن ألا وهي: الإيمان بالغيب، والإيمان بالوحي والرسالة، واليقين بالآخرة، وإقامة الصلاة، والإنفاق. فالشروط الثلاثة الأولى تمثّل الإيمان بأصول الدين الثلاثة، أمّا الشرطان الأخيران فهما نموذجان لفروع الدين. والمنافقون، الذين لا إيمان لهم بالأصول والأسس الاعتقاديّة للدين من ناحية: ﴿وَما هُم بِمُؤمِنينَ﴾، ولا امتثال عن إخلاص فيما يتعلّق بفروع الدين من ناحية أخرى: ﴿وَلاَ يَأتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُم كُسَالىٰ وَلاَ يُنفِقونَ إِلاَّ وَهُم


[1]. سورة المائدة، الآية 52.

[2]. سورة المائدة، الآية 52.

تسنيم، جلد 2

296

كَارِهونَ﴾[1]، ليسوا هم محرومين من هداية القرآن فحسب، بل إنّهم مشمولون بالإضلال الجزائيّ للقرآن أيضاً: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾[2].

إنّ القرآن بالنسبة لأهل الإيمان هو مظهر لاسم «النافع» من الأسماء الإلهيّة، وبالنسبة لأهل الكفر والنفاق فهو مظهر لاسم «الضارّ» منها، ومن باب تشبيه المعقول بالمحسوس فهو كالشمس التي تكون لأصحاب العين السليمة سبباً للبصيرة، ولمن يعاني من عين مريضة مدعاة للمزيد من العذاب والألم. ففريق من الناس ينتفعون من القرآن بسبب إيمانهم الخالص وعملهم الصالح، وفريق ليس لهم نصيب منه إلاّ الخسران جرّاء كفرهم المُعلَن والخفيّ.

[3] الميزان في تقسيم الناس إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين

إنّ تقسيم الناس إلى ثلاث مجاميع: كفّار ومنافقين ومؤمنين هو تقسيم طوليّ وهو نتيجة لقضيّتين منفصلتين حقيقيّتين، وهما إنّ الإنسان إمّا أن يقبل الدين في الظاهر والباطن (وهو المؤمن) وإمّا أن لا يقبله في الظاهر والباطن بصورة المجموع المركّب، وهذا الأخير إمّا أن ينكر الدين في الظاهر والباطن بصورة مفصّلة (وهو الكافر) أو أن ينكره في الباطن ويقبله في الظاهر (وهو المنافق).

وعلى العكس من القسم الثالث فالإنسان قد يُفرض عليه من باب


[1]. سورة التوبة، الآية 54.

[2]. سورة الإسراء، الآية 82 .

تسنيم، جلد 2

297

التقيّة أن يقبل الدين باطناً وينفيه في الظاهر: ﴿إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ﴾[1]. وهذا القسم من الناس هم في الحقيقة من المؤمنين، كما أنّ القسم الثالث (وهم المنافقون) هم في الحقيقة من الكافرين.

[4] النفي القطعيّ لإيمان المنافقين

كان المنافقون عند لقائهم للمؤمنين يقولون: ﴿آمنّا﴾ وإنّ مقتضى تقابل النفي والإثبات هو أن يكون الردّ: «لم تؤمنوا»، نظير: ﴿قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُواْ﴾[2]، إذن فتعبير ﴿وَمَا هُم بِمُؤمِنينَ﴾ في الآية محلّ البحث، جاء محلّ «لم يؤمنوا»؛ وهو بمعنى أنّ المنافقين لا يُعَدُّون أساساً في عداد المؤمنين لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل؛ لأنّ المُستفاد من التعبير المذكور هو النفي المطلق، وإنّ إطلاق النفي شامل لجميع الأحوال.

[5] لماذا المنافقون أسوأ من الكافرين؟

السرّ في أنّ المنافقين أسوأ من الكافرين وأنّهم في الدرك الأسفل من النار هو ـ علاوة على أنّهم منكرون للدين في الباطن كما هو حال الكفّار، وقد ملأ الكفر باطنهم ـ فهم أهل كتمان، وكذب، وخداع، واستهزاء أيضاً. فمن كان كفره كفراً محضاً، فهو غير مُبتلى بمثل هذه


[1]. سورة النحل، الآية 106.

[2]. سورة الحجرات، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

298

الرذائل النفسانيّة، أمّا كفر المنافق فهو ممزوج مع هذه الرذائل. من ناحية أخرى فإنّ خطر المنافقين على المجتمع الإسلاميّ هو أكبر من خطر الكفّار والمشركين عليه، كما سيتّضح ذلك في البحث الروائيّ.

البحث الروائيّ

[1] تقسيم الآيات الأولى من سورة البقرة

ـ [عن] الباقر(ص): «في سورة البقرة ﴿الم﴾... ثمّ أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين»[1].‏

إشارة: يُستنبَط من أمثال هذه النصوص أنّ الآيات الاُوَل من سورة البقرة (1 ـ 20) جاءت لتخبر عن أحوال هذه الطوائف الثلاث، وليس الأربع كما تخيّل صاحب المنار[2].

[2] خطر المنافقين الكبير

ـ [عن أمير المؤمنين(ص)]: «ولقد قال لي رسول الله(ص): إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافقِ الجَنَان، عالِم اللسان، يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكِرون»[3].


[1]. مناقب آل أبي طالب، ج3، ص100؛ وبحار الأنوار، ج89 ، ص384.

[2]. راجع تفسير المنار، ج1، ص148.

[3]. نهج البلاغة، الكتاب 27، المقطع 16.

تسنيم، جلد 2

299

إشارة: المؤمن هو إنسان صالح في الظاهر وفي الباطن، والكافر هو موجود طالح في الظاهر وفي الباطن، أمّا المنافق فهو في الظاهر إنسان لكنّه في الباطن موجود أشبه ما يكون بالأفعى أو العقرب، ولمّا كان باطنه مخفيّاً، فإنّه سيتمّ الاتّصال به ويكون هذا الاتّصال هو السبب في سريان السمّ إلى الطرف الآخر.

تسنيم، جلد 2

300

تسنيم، جلد 2

301

يُخَدِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ مَايَشْعُرُونَ (9)

خلاصة التفسير

«خداع المنافقين لله» إمّا أنّه تعبير مجازيّ، وإمّا أنّه بلحاظ التصوّر الباطل والخاطئ للمنافقين حيث كانوا يعتقدون بإمكانيّة مثل هذ الخدعة، وإمّا أنّ المراد منه هو خداع رسول الله(ص). على أيّ تقديرن فإنّ خداع المنافقين لله وللمؤمنين هو في الواقع خداع لأنفسهم، لأنّ العمل ليس هو غير منفصل عن عامله فحسب، بل هو موجب لعقابه أو ثوابه.

كذلك فإنّ خداع المنافقين هو نار لا تحرق إلاّ المنافقين أنفسهم. من ناحية أخرى فإنّ تحايلهم على المؤمنين هو ـ بحسب تجسّم الأعمال ـ عين الخداع الجزائيّ لله تعالى بحقّهم، وبما أنّ فهم هذه المعرفة اللطيفة لا تكون من نصيب المنافقين، فإنّ الله يقول: هم لا يشعرون بأنّهم لا يخدعون إلاّ أنفسهم.

تسنيم، جلد 2

302

التفسير

«يخادعون»: «الخدعة» هي إخفاء ما من شأنه الظهور؛ فالمنافقون يحاولون التحايل من خلال ستر حقيقتهم، وبما أنّهم مستمرّون في المخادعة، فقد اُشير إلى ذلك بالفعل المضارع الذي يفيد الاستمراريّة.

هذا الفعل وإن كان من باب المُفاعَلة لكنّه ليس بمعنى خداع كلّ واحد من الطرفين للآخر، بل هو من الموارد التي يستعمل فيها باب المفاعلة للفعل من جانب واحد؛ من قبيل: «عاقبتُ اللصَّ»، و«عافاه اللهُ».

وقد جاء في الله عزّ وجلّ أيضاً أنّه: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾[1]، ولكنّه لم يرد نصّ يفيد أنّ المؤمنين أيضاً يخدعون المنافقين.

«يشعرون»: أصل الشعور من «الشَّعْر»، ومعناه هو الرؤية الحادّة والإدراك الدقيق. وإنّ من يمتلك منتهى الدقّة في الإدراك فهو بمنزلة من لا يرى الشعْرَة الرقيقة فحسب، بل يملك القدرة على شطرها والنظر إلى ما في داخلها، ويقال لمثل هذا التفكّر الدقيق: التمعّن ودقّة النظر. والدليل على أنّ كلمة «الشعور» جاءت لتفيد الإدراك الظريف هو أنّه يُعبَّر في العادة عن اُمنية إدراك المبحث الدقيق المغفول عنه بعبارة «ليتَ شعري» ولا تستخدم هذه العبارة أبداً في إدراك الأمر البديهيّ كحرارة النار، أو برودة الثلج. كما أنّ كلمة «شاعر» تُقال لمن يدرك الظرائف والطرائف من الأمور، سواء الطارف والحديث منها، أو التليد والقديم.

فالله سبحانه وتعالى عالِم بسرّ وعلانية كلّ موجود، وليس هناك من


[1]. سورة النساء، الآية 142.

تسنيم، جلد 2

303

مشهد في عالم الوجود يكون مخفيّاً عنه: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾[1]. إذن فالخداع والإخفاء على الله ليسا ممكنين، ومن هذا المنطلق فإنّ تعبير ﴿يُخادِعونَ ٱللهَ﴾ ليس هو بمعنى الخداع الحقيقيّ. كما أنّ جملة ﴿وَما يَخدَعونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ هي خير شاهد على أنّ خداع الله ليس إلاّ أمراً مجازيّاً، اللهمّ إلاّ أنْ يتخيّل المنافق ـ نتيجة جهله بالعلم المحيط لله عزّ وجلّ من ناحية، واغتراره بسبب الاستدراج والإمهال الإلهيّين من ناحية أخرى ـ أنّ خداع الله أمر ممكن، فيكون إطلاق مثل هذا العنوان هو بلحاظ التصوّر الخاطئ للمنافقين.

إذن فالمراد من خداع المنافقين لله وللمؤمنين هو إمّا أنّهم، وبسبب عدم معرفتهم بالله وبالمؤمنين، يتصوّرون خطأً أنّ بإمكانهم خداعهم، أو إنّ ظاهر أسلوب تصرّفهم مع الله والمؤمنين هو أسلوبٌ خادع، وإمّا أنّ المراد من خداع الله والمؤمنين هو خداع رسول الله(ص) والمؤمنين، وليس خداع الله تعالى؛ فكما أنّ طاعة رسول الله(ص) هي طاعة لله: ﴿مَنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللهَ﴾[2]، وأنّ المبايعة له(ص) هي مبايعة لله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللهَ﴾[3]، فإنّ الخداع والتحايل على الرسول(ص) هو أيضاً خداع وتحايل على الله عزّ وجلّ.

أمّا خداع المنافقين للمؤمنين فهو ما بُيِّن في الآيات اللاحقة: ﴿وَإِذَا


[1]. سورة النحل، الآية 23.

[2]. سورة النساء، الآية 80 .

[3]. سورة الفتح، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

304

لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ﴾[1].

خداع المنافقين لأنفسهم

إنّ خداع المنافقين لله وللمؤمنين هو خداع لأنفسهم؛ وتفسير ذلك هو أنّ عـمل الإنسـان ـ سواء كان خيراً أو شرّاً ـ هو حيّ ولايفنى، وإنّ كلّ موجود في النظام العِلِّيّ والمعلولِيّ للعالم هو مرتبط بمبدأ ما، وليس من مبدأ ومنشأ لعمل المرء سوى روح العامل نفسه. إذن فعمل أيّ إنسان غير منفصل عنه إطلاقاً: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأتُمْ فَلَهَا﴾[2]، وإنّ العامل يشاهد أصل عمله: ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾[3]، وإنّ جزاءه هو عين ذاك العمل، وليس أثراً مترتّباً عليه، كما هو الحال بالنسبة للتصرّف الغصبيّ في مال اليتيم فهو عين أكل النار: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ ٱليَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾[4].

بناءً على ما مرّ، فإنّ ما يصل إلى الآخرين من الضرر الناجم من جرم الإنسان الطالح لا يتعدّى حدّ الرائحة النتنة للكنيف الذي حفَرَه المرء في بيته والتي تؤذي شامّة عابر السبيل، وإنّ ما ينال الآخرين من خير صلاح الإنسان الصالح هو نظير الرائحة الطيّبة للرياحين التي يزرعها الإنسان في


[1]. سورة البقرة، الآية 14.

[2]. سورة الإسراء، الآية 7.

[3]. سورة النجم، الآية 40.

[4]. سورة النساء، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

305

بستانه فتعبق بها مشامّ المارّ بالطريق، وإلاّ فضرر الكنيف النتن وخير البستان المعطّر هما بالأساس لصاحبيهما وليس للآخرين.

على هذا الأساس، فخداع المنافقين وحيلهم لا تحيق إلاّ بهم، وإنّ الضرر الذي يلحق الآخرين من خداعهم لا يتعدّى أثر الرائحة النتنة لكنيف البيت بالنسبة للمارّ بالطريق؛ فالمنافق بخداعه إنّما يحفر في نفسه كنيفاً نتن الرائحة، فهو يقاسي عذابه وأذاه على الدوام، وليس من سبيل لمقارنة ما يعانيه هو من أذى كنيفه الداخليّ بما يصل إلى مشامّ الآخرين منه. من هذا المنطلق فقد قال تعالى في الآية مورد البحث بلسان الحصر: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾، وهذا هو عين خداع الله الجزائيّ لهم: ﴿إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾[1]. إذن فالمنافق هو في الواقع يخدع نفسه، كما أنّ مكر الماكر لا يحيق إلاّ به: ﴿وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾[2]، وأنّ خيانة الخائنين لا تؤثّر إلاّ بأرواحهم الشرّيرة: ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾[3].

خداع النفس من حيث لا يشعر

السرّ في أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية الكريمة: إنّ المنافقين لا يشعرون أنّهم لا يخدعون إلاّ أنفسهم، هو أنّ تلك المعارف هي غاية في الدقّة والظرافة وليس لكلّ أحد القدرة على إدراكها أو الموفقيّة لفهمها.


[1]. سورة النساء، الآية 142.

[2]. سورة فاطر، الآية 43.

[3]. سورة النساء، الآية 107.

تسنيم، جلد 2

306

القرآن الكريم يبيّن بوضوح في آيات عدّة الارتباط والصلة بين العمل والعامل، وحصيلة ذلك أنّ العمل مختصّ وجوديّاً بعامله وغير منفصل عنه أبداً. فإذا كان العمل خيراً، كان سبباً في كرامة الإنسان الخيّر، وإذا كان عملاً سيّئاً, كان مدعاة لعذاب الإنسان المسيء. بناءً على ذلك، فالمنافق عندما يفكّر في خداع الآخرين، فإنّه يعمد إلى إفناء حقيقته الإنسانيّة، ومن ناحية أخرى فإنّ مكره وخديعته للمؤمنين هي ـ على أساس تجسّد الأعمال ـ عين خداع الله الجزائيّ له: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُم﴾؛ ذلك لأنّ الخدعة هي من صفات فعل الله عزّ وجلّ وهي منتزعة من مقام فعله سبحانه، لا من مقام ذاته، فعندما يبادر المنافق إلى خداع المؤمنين يُسْلِمه الله إلى نفسه ويتخلّى عنه عقاباً له كي يقوم بذلك، وعندها سيكون نفس هذا الخداع هو خداع الله الجزائيّ للمنافق المحتال الخدّاع.

والنتيجة هي أنّ خداع المنافقين لأهل الإيمان، هو ـ من جهة ـ عين خداعهم لأنفسهم: ﴿وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾، ومن جهة أخرى هو عين خداع الله الجزائيّ لهم: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُم﴾، وهذه هي المعرفة اللطيفة التي يعجز المنافقون العُمْي القلوب عن إدراكها: ﴿وَمَا يَشعُرُون﴾.

لطائف وإشارات

[1] الغلاف السميك للمكر حجابٌ لأرواح المنافقين

إنّ مكر المنافقين يشكّل غلافاً سميكاً يحيط بمجاريهم الإدراكيّة من كلّ حدب وصوب، ويغمرها بظلمة حالكة، ويكون مانعاً لبصيرتهم. فمن

تسنيم، جلد 2

307

ناحية، يعبّر القرآن الكريم عن رجوع مكر الماكر إلى الماكر نفسه، بكلمة ﴿يَحِيق﴾ التي تعني «يُحيط»، وفي ذلك إشارة إلى الحقيقة القائلة: إنّهم قد وقعوا في فخّ حيلهم وسيّئاتهم بسوء اختيار منهم، وهم يسقطون في دركاتها. أمّا حسنات المؤمنين ـ في المقابل ـ فهي بمثابة السلّم الذي يرفعهم إلى الأعلى ويرَقّيهم ويُبرِزهم.

على هذا الأساس، وكما اُشير إلى ذلك سابقاً، فإنّ هداية المؤمنين تأتي مع الحرف «على»: ﴿اُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾[1]، بينما تأتي ضلالة المجرمين مع الحرف «في»: ﴿ذَهَبَ ٱللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ﴾[2]، ﴿وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ﴾[3].

[2] اهتمام المنافقين بأنفسهم ونسيانهم لها

يتحدّث القرآن الكريم تارة عن اهتمام المجرمين والعاصين بأنفسهم: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾[4]، وتارة أخرى عن نسيانهم لأنفسهم: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾[5].

والسرّ في هذه الازدواجيّة في التعبير هو أنّ الإنسان ليس موجوداً


[1]. سورة البقرة، الآية 5.

[2]. سورة البقرة، الآية 17.

[3]. سورة الأنعام، الآية 39.

[4]. سورة آل عمران، الآية 154.

[5]. سورة الحشر، الآية 19.

تسنيم، جلد 2

308

اُحاديّ البعد، كي يُمضي عمره غارقاً في الشهوة والغضب فقط كالحيوان، أو في التسبيح والتقديس فحسب كالملائكة، بل إنّه في الوقت الذي يمتلك فيه قوى طبيعيّة وحيوانيّة، فإنّ له قوى روحانيّة وإلهيّة كذلك، حيث يقال للاُولى «النفس»[1] وللثانية «العقل»، وإنّ هناك في داخله صراعاً مستمرّاً بين حزبَي العقل والنفس.

العقل والنفس هما مرتبتان من مراتب الحقيقة الآدميّة. فالفسّاق والمنافقون ممّن نسوا «ذاتهم الإلهيّة» هم يفكّرون فقط ﺑ «ذاتهم الحيوانيّة» والنتيجة المشؤومة لذلك هي ما يتّصفون به من شراسة الطبع وضراوته. إذن فالذي يسيطر على المنافقين هو الشهوة والغضب، أمّا عقلهم فهو أسير هواهم: «وكم من عقل أسير تحت هوًى أمير»[2]. فهؤلاء قد دفنوا «ذاتهم الإلهيّة» وحقيقة إنسانيّتهم وهي حيّة، فهم في ذلك بمستوى الحيوان بل وأدنى منه: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[3]. فالذي يناله الضرر من مكر المنافقين وخداعهم هو «ذاتهم الإلهيّة»: ﴿وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾.

[3] سبيل الغلبة في الحرب بين العقل والنفس

السبيل لغلبة العقل على النفس في الحرب بينهما هو «الفكر»، و«الذكر»،


[1]. إذا لم يكن عنوان «النفس» في مقابل «العقل»، فإنّه يشمل المراتب العليا للروح الإنسانيّة أيضاً.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 211.

[3]. سورة الفرقان، الآية 44.

تسنيم، جلد 2

309

و«الشكر»، والطريق لانتصار النفس على العقل في هذه الحرب هو «المكر»، و«الذهول»، و«كفران النعمة». أمّا الأسلوب الذي تتّبعه النفس في هجومها على العقل فهو ـ بادئ ذي بدء ـ الوسوسة له: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾[1]، ومن ثمّ تزيين الباطل في عين الإنسان: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً﴾[2]، إلى حدّ يرى فيه الإنسان، المخدوع بنفسه والمحبّ لها، سيّئاته حسنات: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾[3].

في الحرب الداخليّة، التي لا سبيل للفرار ولا للصلح فيها، تكون نتيجة الصراع والجهاد الأكبر إمّا النصر، أو الأسر، أو الشهادة، ومن هذا المنطلق فإنّ عاقبة الجهاد الأكبر عند أولياء الله هي انتصار العقل؛ وعند الكفّار والمنافقين والفسّاق من المؤمنين هي أسْر العقل؛ وعند المؤمنين المتوسّطين العدول هي استشهاد العقل؛ أي، إنّ الإنسان المؤمن المتوسّط يقضي حياته، حتّى آخر لحظة فيها، في معركة الجهاد الأكبر وفي صراع مستمرّ، فلا يُغلَب فيصبح أسيراً، ولا يَغلِب فيصير أميراً، ويموت وهو على هذه الحال. مثل هذا الموت في الجهاد الأكبر، حيث لا أسْر ولا إمارة، سوف يؤول إلى الشهادة، ولعلّ بعض النصوص الروائيّة التي تعتبر وفاة المؤمن على فراش الموت شهادة ناظر إلى هذا المعنى. قال منهال القصّاب للإمام الصادق(ص): اُدعُ الله أن يرزقني الشهادة. فقال [الإمام(ص)]:


[1]. سورة ق، الآية 16.

[2]. سورة يوسف، الآيتان 18 و83 .

[3]. سورة الكهف، الآية 104.

تسنيم، جلد 2

310

«المؤمن شهيد»[1]، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بٱلله وَرُسُلِهِ أُولـَٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِم﴾[2].

الغنيمة في الحرب الخارجيّة الظاهريّة هي السلاح والمال، أمّا الغنيمة في الحرب الداخليّة الباطنيّة بالنسبة للمقاتل المنتصر فهي أسْر الشيطان ووسائل إغوائه، أي النفس الأمّارة، فالشيطان عندما يصبح أسير العقل فإنّه لن يعود قادراً على الإغواء.

[4] خطر خداع المؤمنين

إنّ خداع المؤمنين هو على جانب من الخطورة بحيث أنّ الله عزّ وجلّ ذكره جنباً إلى جنب مع مخادعة الله؛ كما هو الحال في التوصية ﺑ «الأرحام» التي ذُكرت إلى جانب التوصية بتقوى الله لِما لها من أهمّية ومنزلة رفيعة: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللهَ ٱلَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ﴾[3].

[5] خداع المنافقين للكافرين

مع أنّ باطن النفاق هو الكفر، وأنّ المنافق هو كافر في الباطن، لكنّ المنافق ـ بسبب ضعفه الروحيّ، وعدم ثقته بنفسه، وتلوّنه بشخصيّات مزيّفة متعدّدة ـ فهو عند احتياج الكفّار إلى معونته تراه يحجم عن مساعدتهم، على الرغم من وعده إيّاهم بالمساعدة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ ٱلَّذِينَ


[1]. تأويل الآيات، ص639؛ وبحار الأنوار، ج24، ص38.

[2]. سورة الحديد، الآية 19.

[3]. سورة النساء، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

311

نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكمُ‏ْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَٱللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُواْ لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ‏﴾[1]. نستفيد تماماً من الآيتين الآنفتي الذكر أنّ المنافقين لهم خداع وختال حتّى مع إخوانهم في العقيدة (أيّ الكفّار) وهم يبخلون عليهم حتّى في قول الصدق لهم؛ إذ أنّ هذه هي من صفات تذبذب الروح القذرة.

البحث الروائيّ

[1] العلاقة بين النفاق والرياء والشرك

ـ قال الصادق(ص): «لا تُراءِ بعملك مَن لا يُحيِي ولا يُميت [ويميت] ولا يُغني عنك شيئاً. والرياء شجرة لا تُثمر إلاّ الشرك الخفيّ وأصلها النفاق، يُقال للمُرائي عند الميزان: خُذ ثواباً تعدّ ثواب عملك [ثوابك ممّن عملت له] ممّن أشركته معي، فانظر مَن تعبد وتدعو، ومَن ترجو، ومَن تخاف؟ واعلم أنّك لا تقدر على إخفاء شي‏ء من باطنك عليه تعالى وتصير مخدوعاً بنفسك. قال الله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ ٱللهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏﴾»[2].

إشارة: النفاق هو أحد مصاديق الشرك، ومالم يوجد أصل الشرك في


[1]. سورة الحشر، الآيتان 11 و12.

[2]. مصباح الشريعة، ص208؛ وبحار الأنوار، ج69، ص300.

تسنيم، جلد 2

312

قلب شخص ما، فإنّه لا تصدر منه فتنة النفاق، كما أنّ العمل الذي يصدر على خلفيّة النفاق يكون موطِّئاً لتشديد الشرك الموجود في الباطن. من هنا قِيل: إنّ الرياء، الذي أصله النفاق، هو شجرة لا تُثمِر إلاّ الشرك، وبما أنّ باطن المنافق يكون ظاهراً، ولا يستطيع غير الله فعل شيء (من ناحية أخرى)، فإنّ المنافق المرائي يكون قد خدع نفسه، من غير أن يكون واعياً بذلك.

[2] الرياء شِركٌ

ـ إنّ رسول الله(ص) سُئِل: فيما النجاة غداً؟ فقال: «إنّما النجاة في أن لا تُخادعوا الله فيخدعكم فإنّه من يُخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان، ونفسَه يخدع لو يشعر». فقيل له: وكيف يخادع الله؟ قال: «يعمل بما أمره الله ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الله واجتنبوا الرياء فإنّه شرك بالله»[1].‏

إشارة: للرياء والنفاق كما للكفر والشرك والإلحاد علل وأسباب سيتمّ الإشارة إليها في إطار ما يناسب من تفسير الآيات المختلفة. إنّ من العلل المستورة والخفيّة للنفاق ونظائره هي أنّ الإنسان الغافل والجاهل لا يعلم أنّ الله تعالى خبير بكلّ أعمال جوانحه وجوارحه، وأنّ تدبير جميع أمور الكون هي ـ بواسطة أو من دون واسطة ـ بمشيئته وقدرته عزّ وجلّ: ﴿وَلَٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ ٱللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾[2]. لذا فإنّ مثل هذا الإنسان الغافل الجاهل يعتمد على غير


[1]. الأمالي للصدوق، ص466؛ وبحار الأنوار، ج69، ص259.

[2]. سورة فصّلت، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

313

الله. فلو كان الله تعالى غير خبير ببعض الأمور، فهو قهراً لن يبادر أيضاً إلى إدارتها وتدبيرها.

أمّا السرّ في عدم شعور المنافق المرائي برجوع خدعته عليه فهو أنّ خداعه ومكره معلومان ومشهودان لله عزّ وجلّ، ومن هنا فقبل أن يصيب مكره أو خداعه شيئاً أو أحداً، فإنّ الله قادر على أن يجعل في عين هذا المكر والخديعة مضرّة للمنافق نفسه. وبإمكان الآية الشريفة ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ ٱللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ﴾[1] أن توضّح بعض المباحث المشار إليها. فكما أنّ الجهل بعلم الله المطلق، والذهول عن حضوره المحيط بالباطن والظاهر من شأنهما أن يمهّدا للنفاق والرياء وما شابههما، فإنّ الغفلة عن القدرة الإلهيّة المطلقة، والجهل بعدم محدوديّة اقتدار الله عزّ وجلّ من شأنهما أن يهيّئا أسباب الاستكبار عند الإنسان أيضاً: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ ٱللهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾[2].

وفي الحقيقة فإنّ منشأ كلّ خطيئة هو تسلّط الهوى على العقل وهذا إمّا أن يكون سبباً لجهل المرء بالعلم المطلق لله سبحانه، أو وسيلة لغفلته عن السلطة الغير المحدودة له تعالى. كما من الممكن أيضاً أن يكون العلم المطلق والقدرة المطلقة لله أمرين معلومين لدى الإنسان، إلاّ أنّ سلطة هواه على عقله لا تدع لهذا العلم تأثيراً فيه بحيث يمنعه من ارتكاب الإثم.


[1]. سورة إبراهيم، الآية 46.

[2]. سورة فصّلت، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

314

تسنيم، جلد 2

315

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

خلاصة التفسير

ليس ديدن السنّة الإلهيّة أن تُمرض قلب الإنسان أو تزيد في مرضه ابتداءً، بل إنّها تسهم في الوقاية من مرض القلب أو شفائه من خلال أمره بالإيمان والتقوى. لكنّ مرضى القلوب الذين لا ينتفعون من العلاج الإلهيّ بسوء أختيار منهم، فإنّ الله يزيد في مرضهم.

والسرّ في إسناد زيادة المرض إلى الله هو أنّ جميع أمور العالم مسيّرة بتدبير من الله عزّ وجلّ وحتّى ازدياد مرض القلب فهو مسند إلى الله سبحانه بالواسطة، وإلاّ فلا يفيض من طرف الله السلام إلاّ السلامة.

إنّ العذاب الشديد الذي يحيق بالمنافقين نتيجةً لنفاقهم وكذبهم الاعتقاديّ هو عين ذلك الكذب الاعتقاديّ الذي أمسى منشأ لسيرتهم العمليّة السيّئة.

تسنيم، جلد 2

316

التفسير

«أليم»: المراد من الألم هو الوجع الشديد, و«أليم» بمعنى الشيء الذي فيه الوجع (وهو ما ثبت له الوجع)، وليس المؤلِم (وهو ما صدر منه الوجع). من هنا فإنّ تفسير الأليم بالمؤلم ليس بالمستساغ، إلاّ أن يكون نظيراً لطَهُور الذي هو بمعنى المُطَهِّر. وإنّ السرّ في اتّصاف العذاب بالأليم هو شدّة المبالغة. فالمراد من وصف «العذاب»، أو «الرجز»، أو «اليوم» في القرآن الكريم بالأليم هو شدّة هذه الأمور، وفي مثل هذه الموارد فإنّ «أليم» أبلغ من «مؤلم» في الدلالة على الشدّة[1].

إذا كان عنوان العذاب الأليم مطلقاً ولم يُجعل في مقابل عنوان آخر، فهو شامل لأنواع الآلام والشدائد. وبناءً على ذلك، فإنّ كلّ الآلام والمكاره التي جاءت في مقابل العذاب الأليم في الآية: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً﴾[2] هي مندرجة تحت عنوان العذاب الأليم في الآية مورد البحث؛ إذ لا مقابل للمعنى المذكور في الآية التي هي محلّ البحث.

إلى جانب تبيين أوصاف المنافقين فقد عمد الباري عزّ وجلّ إلى إفشاء دواخلهم المضمَرة وبيّن أحكاماً مناسبة لأوصافهم؛ فعندما يجري الحديث مثلاً عن تظاهرهم بالإيمان، يقول: إنّهم ليسوا من المؤمنين أساساً، وعندما تُطرح قضيّة خداعهم لله وللمؤمنين، فهو يقول: إنّهم يخدعون


[1]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج1، ص126.

[2]. سورة المزّمل، الآيتان 12 و13.

تسنيم، جلد 2

317

أنفسهم، وفي هذه الآية الكريمة أيضاً ـ حيث ينصـبّ الكلام على مرض قلوبهم ـ يقول في المقابل: إنّ الله يزيد في مرضهم (كعقوبة لهم).

المنافقون المتّصفون بمرض القلب

الناس من منظار القرآن الكريم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1. المؤمنون العدول؛ وهم أحياء ولهم قلوب سليمة وسالمة.

2. المؤمنون الذين يتّصفون بضعف الإيمان أو بالفسق؛ وهم أحياء لكنّهم مريضو القلوب.

3. الكفّار والمنافقون؛ الذين هم أموات أو إنّهم يعانون من مرض مزمن وعضال.

الحديث في هذا الآية الكريمة يدور حول مرض قلوب المنافقين؛ فعلاوة على أنّ المنافقين مطبوع على قلوبهم وأنّهم لا يدركون الحقائق: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ‏ قُلُوبِهِِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُون‏َ﴾[1]، فمثلما هم في حكم الأموات، هم في حكم المرضى أيضاً؛ لأنّ قلبهم هو بمثابة الميت فهم لا ينتفعون منه إطلاقاً، ولأنّ قلوبهم مصابة بمرض شديد، فقد سرى إليهم تعفنّها وألمها؛ ذلك أنّ الميت المحض لا يشعر بعذاب الدنيا.

وللمنافقين بالنسبة إلى موت قلوبهم أو مرضها نفس مصير الكفّار: ﴿إِنَّ ٱللهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾[2]. والسرّ في أنّ قلوبهم مريضة في الوقت الذي هي فيه ميتة، هو تفاقم مرضها، الذي


[1]. سورة المنافقون، الآية 3.

[2]. سورة النساء، الآية 140.

تسنيم، جلد 2

318

نشأ قسم منه نتيجة قبائحهم وجرائمهم السابقة، والقسم الآخر اُضيف إلى سابقه كعقوبة. من هذا المنطلق، فإنّ قلباً محتضراً كهذا هو في عداد الأموات.

السنّة الإلهيّة في عقاب مرضى القلوب

عدّ بعض المفسّرين[1] أنّ جملة ﴿فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ هي في مقام الإنشاء لا الإخبار وخالوها لعناً ودعاء إلهيّاً على المنافقين بحيث يشمل الحاضر والمستقبل مضافاً إلى الماضي، واعتبروه على غرار الأنواع الأخرى من الأدعية مثل: ﴿قَاتَلَهُمُ ٱللهُ أَنَّىٰ‏ يُؤْفَكُونَ‏﴾[2]، و﴿ثُمَّ ٱنْصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللهُ قُلُوبَهُمْ‏﴾[3]. إلاّ أنّ الفاء في «فزادهم» لا تتناسب مع هذا التركيب، لذا فالجملة المذكورة خبريّة لا إنشائيّة، وإنّ التعبير بالفعل الماضي «زادَ» لا يدلّ على أنّ الله زاد على مرض المنافقين في الماضي فحسب ولن يزيد عليه في المستقبل، بل بما أنّ المنافقين سيتصرّفون في المستقبل كتصرّفهم في الماضي، فإنّ مرضهم سيزداد أيضاً وسيستمرّ في تزايده حتّى ساعة الموت ولقاء الجلال والقهر الإلهيّين: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاًً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏﴾[4]. إنّ العقاب القاسي للبعض هو ابتلاؤهم بالنفاق المستمرّ. كما أنّ الاستشهاد


[1]. راجع التبيان، ج1، ص72؛ والتفسير الكبير، مج1، ج2، ص72.

[2]. سورة التوبة، الآية 30.

[3]. سورة التوبة، الآية 127.

[4]. سورة التوبة، الآية 77.

تسنيم، جلد 2

319

بالآية: ﴿ثُمَّ ٱنْصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ غير تامّ أيضاً؛ إذ من المحتمل أن يكون المراد فيها أيضاً هو الإخبار، لا الإنشاء واللعن.

مهما كان، فليس من دَيْدَن السنّة الإلهيّة أن تُمرض قلب امرئ ابتداءً أو أن تزيد في مرضه، بل، من أجل الوقاية من إصابة الناس بآفة مرض القلب، فإنّها ابتداءً تأمر بالإيمان والتقوى والتورّع عن بيع الدين: ﴿وَءَامِنُواْ بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ‏﴾[1]، بالضبط كما تأمر نساء النبيّ(ص) بالتزام العفّة والطهارة كي تسحب ذريعة المعصية والاستغلال السيّئ من يد مرضى القلوب: ﴿يَانِسَاءَ ٱلنَّبِي‏ِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ ٱلنِّسَاءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[2]، فإذا أمرضَ أحد نفسه بسوء اختيار منه، ولمّا كانت أمراض القلب مستورة والإنسان في غفلة عنها، فإنّ الله سبحانه وتعالى ينبّه المرء، في المرحلة التالية، إلى أصل مرضه، ويعطيه علامة على هذا المرض؛ إذ أنّه في المسائل الأخلاقيّة يعتبِر سبحانه الطمع في غير المحارم إشعاراً بمرض القلب لدى الإنسان، كما أنّه عزّ وجلّ ـ في المسائل السياسيّة والاجتماعيّة ـ يعدّ الميل إلى الكفّار في زمن الحرب ناشئاً من مرض القلب أيضاً: ﴿فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ...﴾[3].

وفي المرحلة الثالثة، إذا أخذ المرض من قلبهم مأخذاً واحتلّه، فإنّ


[1]. سورة البقرة، الآية 41.

[2]. سورة الأحزاب، الآية 32.

[3]. سورة المائدة، الآية 52.

تسنيم، جلد 2

320

الله سبحانه يدلّهم على طريقة العلاج والعودة إلى السلامة: ﴿وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾[1]، وإن أغفَلوا وصفة القرآن الشافية، هدّدهم بإفشاء أسرارهم، فإنّ المرء لا يخشى من كشف بعض علله الجسديّة، لكنّه يعاني ويتأذّى من افتضاح أمراضه الباطنيّة كالنفاق، فيرجع إلى ذاته، ويقلع عنها: ﴿أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ ٱللهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾[2]، فإن لم ينفع هذا الإنذار، هدّدهم بالنفي أو القتل: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً﴾[3]. فإن لم يؤوبوا رغم ذلك، أوكلهم لأنفسهم، وبما أنّ أوان علاجهم قد فات فهو يقول لهم: ﴿ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ﴾[4].

من هذا المنطلق فإنّ مرض المنافق وجرمه في تزايد متواصل، وليس أنّه لا ينتفع من الكتاب الإلهيّ الشافي فحسب، بل كلّما نزلت آيات أكثر، ازداد مرض القلب عنده؛ كما هو الحال بالنسبة للطعام السليم والفاكهة الحلوة الناضجة إذ تكون سبباً للنموّ والصحّة عند ذوي الجسم السليم، لكنّها تكون مدعاة للآلام والمشاكل لدى المصابين بأمراض الجهاز الهضميّ؛ بحيث إذا لم تكن الفاكهة حلوة المذاق لم تؤدّ إلى ظهور الألم لديه، وبما أنّه لا يمتلك القدرة على هضمها، وأنّ جهازه


[1]. سورة هود، الآية 90.

[2]. سورة محمّد(، الآيتان 29 و30.

[3]. سورة الأحزاب، الآية 60.

[4]. سورة فصّلت، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

321

الهضميّ غير سليم، فإنّ تناوله للفاكهة الطريّة الريّانة يسبّب له الألم والمغص. لقد ورد ما يشبه هذا الموضوع في الآية: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي‏ دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً﴾[1]؛ مع العلم أنّ دعوة نوح(ص) وهدايته لم تكن أبداً عاملاً لفرارهم أو ازدياد فرارهم.

السرّ في إسناد زيادة المرض إلى الله

مثلما أنّ الله تعالى يسند ازدياد الإيمان وهداية المؤمنين لنفسه: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى‏﴾[2]، ﴿وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ زَادَهُمْ هُدًى‏﴾[3], فهو يفعل ذلك أيضاً بخصوص ازدياد مرض قلوب المنافقين. والسرّ في انتساب ازدياد المرض لله هو أنّ جميع أمور العالم خاضعة لتدبيره سبحانه؛ فبعض الأمور، كالهداية، قابلة للإسناد له تعالى بالواسطة ومن دون الواسطة، أمّا البعض الآخر، كالإضلال وازدياد مرض القلوب، فلمّا لم يكن لها محلّ في ما هو «لدى الله»، فلابدّ أنّها تُسنَد إلى الله بالواسطة؛ أي، إنّها تُنفَّذ بواسطة مأموري الإضلال من قبل الله (وهم الشيطان وجنوده)؛ فلا يُفاض من قبل الله السلام: ﴿المَلِكُ ٱلقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ﴾[4] غير السلامة، وهو تعالى لا يدعو إلاّ إلى دار السلام: ﴿وَٱللهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ﴾[5]


[1]. سورة نوح، الآيتان 5 و6.

[2]. سورة الكهف، الآية 13.

[3]. سورة محمّد(، الآية 17.

[4]. سورة الحشر، الآية 23.

[5]. سورة يونس، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

322

التي نموذجها الكامل هو الجنّة، بيد أنّ ذات الدعوة إلى السلامة هذه تتحوّل في وعاء القلب المدنّس والمريض للمنافقين إلى مرض؛ وهذا يشبه بالضبط نزول الآيات القرآنيّة، الذي هو مدعاة لازدياد إيمان المؤمنين، لكنّه لا يؤدّي إلاّ إلى زيادة الرجس لدى المنافقين: ﴿وَإِذَا مَا اُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏﴾[1].

كان المؤمنون الحقيقيّون قبل نزول الآيات يقولون: لماذا لا يأتينا تكليف جديد كي نعمل به ونُثاب عليه، وعندما كانت تنزل آيات الجهاد والدفاع، كان المؤمنون الحقيقيّون ينتفعون منه إنتفاعاً إلهيّاً، إلاّ أنّ مرضى القلوب كانوا يتهرّبون من المشاركة في الجهاد، وكانوا ينظرون إلى النبيّ(ص) نظر المحتضر: ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا اُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ‏﴾[2].

لطائف وإشارات

[1] الكذب الاعتقاديّ للمنافقين وعذابهم الأليم

إنّ العذاب الأليم والموجع الذي يحيق بالمنافقين هو جرّاء كذبهم


[1]. سورة التوبة، الآيتان 124 و125.

[2]. سورة محمّد(، الآية 20.

تسنيم، جلد 2

323

ونفاقهم. وصحيح أنّ الكذب من جملة الكبائر، لكنّه ليس بدرجة تجعله أشنع من الكفر؛ إذ أنّ الكفر هو منشأ جميع المعاصي. لذا يُستنتج من قضيّة ابتلاء المنافقين بالعذاب الأليم نتيجة للكذب، أنّ المراد من الكذب في مثل هذه الموارد ليس هو الكذب اللسانيّ والعاديّ، بل هو النفاق والكذب الاعتقاديّ المبيّن في سورة «المنافقون»: ﴿إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللهِ وَٱللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏﴾[1]. إذن، فالعذاب الأليم الذي يصيب المنافقين هو نتيجة كذبهم الاعتقاديّ، والكذب الاعتقاديّ هذا هو منشأ سيرتهم العمليّة السيّئة.

[2] استقرار المرض في قلوب المنافقين

يعتقد البعض أنّ عبارة ﴿فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ﴾ هي أكثر تأثيراً وإفادة لمعنى عروض المرض واستقراره في قلوب المنافقين من عبارة «قلوبهم مرضى»[2]؛ ذلك لأنّ العبارة الثانية لا تفيد «الاستقرار».


[1]. سورة «المنافقون»، الآية 1.

[2]. تفسير القرآن الكريم، لابن العربيّ، ج1، ص21.

تسنيم، جلد 2

324

تسنيم، جلد 2

325

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لايَشْعُرُونَ (12)

خلاصة التفسير

نتيجة لخداع المنافقين أنفسهم، فإنّ في أذهانهم تصوّراً باطلاً مفاده أنّهم واقعاً مصلحون، ولهذا فإنّ كذبهم في هذا المجال هو كذب «خبريّ» وليس كذباً «مُخبِريّاً»، على خلاف إظهارهم للإيمان فهو كذب «خبريّ» و«مُخبريّ» في آنٍ واحد.

لكنّ الله سبحانه وتعالى أماط اللثام عن كذب المنافقين مؤكّداً أنّهم هم «المفسدون». أمّا السرّ وراء جهل المنافقين بإفسادهم فيرجع إلى كون عقلهم النظريّ أسير الوهم والخيال، وكون عقلهم العمليّ أسير الشهوة والغضب.

تسنيم، جلد 2

326

التفسير

«قيل»: إنّ الإتيان بالفعل «قيل» مبنيّاً للمجهول هو لإفادة العموم، ولا يُراد به هنا قائل أو داعٍ خاصّ؛ فمثلما أنّ دعوة المنافقين لترك الفساد تحصل من خلال تلاوة آيات القرآن وتفسيرها، فهي تحصل أيضاً عن طريق كلام المعصومين(ع)، كما وتحصل كذلك بواسطة النهي عن المنكر من قبل المؤمنين، بَيدَ أنّ كلام المنافقين في مقابل كلّ هذه الدعوات وأنواع الهداية واحد وهو: أنّنا مصلحون وحسب ولسنا مفسدين.

«لا تفسدوا»: الإفساد هو في مقابل الإصلاح، ويعني إيجاد الإخلال في نظم الشيء واعتداله، وهو مُستعمَل في القرآن الكريم بكثرة في مقابل الإصلاح؛ مثل: ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ‏﴾[1]، و﴿إِنَّ ٱللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ‏﴾[2]، و﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾[3]، و﴿وَٱللهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ﴾[4]. والآية محلّ البحث هي من هذا القبيل أيضاً، وهي تؤدّي المعنى الجامع لإفساد الأرض والأرضيّة؛ كما هو الحال بالنسبة للإصلاح، الذي أتى في مقابل الإفساد، فهو بمعناه الجامع أيضاً.

إنّ تبليغ السوء، والتآمر على النظام الإسلاميّ، وإلقاء الشبهات حول صحّة دعوى الوحي والنبوّة، وصحّة الدعوة إلى المبدأ والمعاد وأمثال


[1]. سورة الشعراء، الآية 152.

[2]. سورة يونس، الآية 81 .

[3]. سورة الأعراف، الآية 56.

[4]. سورة البقرة، الآية 220.

تسنيم، جلد 2

327

ذلك، هي من المصاديق البارزة للإفساد في أرض الحياة الاجتماعيّة وأرضيّتها. ومهما كان, فإنّ كلاًّ من صلاح الأرض وطلاحها، وصلاح الأرضيّة وفسادها، لا يتأتّيان إلاّ من قِبل الناس الذين يسكنون هذه الأرض وأولئك الذين يوطِّئون الأرضيّة، ولا وجود لمسألة الصلاح والفساد إطلاقاً من دون العامل الإنسانيّ. ومن هذا المنطلق، فإنّ الله سبحانه وتعالى يدعوا الناس إلى الصلاح والإصلاح.

«ألاَ»: حرف تنبيه يُستعمَل لتنبيه المخاطب إلى تحقُّق خبر مهمّ يأتي بعده. «ألا» هي مركّبة من همزة الاستفهام و«لا» النافية، كما في الآية الشريفة: ﴿أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ ٱلْمَوْتَىٰ‏﴾[1] حيث رُكِّب حرف الاستفهام مع فعل النفي. كما أنّ تركيب الاستفهام والنفي في «ألا» يفيد الحصر أيضاً.

وفي مقابل دعوة المنافقين إلى الإيمان تراهم يُظهِرون الإيمان كذباً: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللهِِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏﴾[2], وفي مقابل نهيهم عن المنكر والفساد فإنّهم يدّعون الإصلاح، الأمر الذي يجعل من مرض نفاقهم، كما هو حال كفر الكافرين، مانعاً من قبول الهداية القرآنيّة، وعلى هذا فإنّ الآيتين الحادية عشرة والثالثة عشرة من هذه السورة ـ اللتين تبيّنان ردّ المنافقين على أمرهم بالمعروف (الأمر بالإيمان) ونهيهم عن المنكر (النهي عن الفساد) ـ تكشفان عن السرّ في حصر هداية القرآن في المتّقين؛ وذلك لأنّ المنافقين أساساً، كما هو


[1]. سورة القيامة، الآية 40.

[2]. سورة البقرة، الآية 8 .

تسنيم، جلد 2

328

حال الكفّار، لا يدركون هداية القرآن جيّداً، وإنّ هذه الرؤية هي التي تسدّ الطريق بوجه نفوذ الهداية القرآنيّة إليهم.

الكذب الخَبَريّ والمُخبِريّ للمنافقين

يدّعي المنافقون، من خلال استخدامهم للفظ «إنّما»، أنّهم ليسوا مبرّأين من الفساد فحسب، بل إنّه لا مُصلح في المجتمع غيرهم، وادّعاء المنافقين هذا بأنّهم مصلحون هو «كذب خبريّ» وليس «كذباً مُخبِريّاً»؛ لأنّهم يعتبرون أنفسهم مصلحين، بل ويحلفون من أجل تأكيد هذا الموضوع: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ‏﴾[1]، ﴿ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً﴾[2]. لقد كانوا، نتيجة تسويل النفس وخداعها لهم، يتصوّرون أنّهم مصلحون حقّاً، وكانوا يخالون أنّ هذا التصوّر ـ الذي لا يعدو كونه جهلاً مركّباً ـ هو حقٌّ. إذن، فكذبهم في مثل هذه الموارد هو «خبريّ » فقط، وليس «مُخبِريّاً».

لكن، عندما يدّعي المنافقون الإيمان، فإنّ إخبارهم هذا هو كذب خبريّ وكذب مُخبريّ في آن معاً. أمّا في مسألة شهادتهم برسالة النبيّ الأكرم(ص) فإنّ كلامهم هو كذب مُخبِريّ ليس غير: ﴿إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللهِ وَٱللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون‏َ﴾[3]؛ وذلك لأنّ الكلام في أنّ محمّداً بن عبد


[1]. سورة التوبة، الآية 107.

[2]. سورة النساء، الآية 62.

[3]. سورة «المنافقون»، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

329

الله(ص) هو رسول الله، هو كلام صادق وحقّ وإن كان قائله لا يعتقد به. إذن فإخبارهم هذا هو صدق خبريّ، وكذب مُخبريّ.

لكن، إذا نوقش إخبارهم هذا بمزيد من الدقّة وبشكل صحيح، فبالإضافة إلى كونه كذباً مُخبريّاً، فهو ينطوي على كذب خبريّ أيضاً؛ وذلك لأنّ خلاصة إخبارهم هي عبارة عن ادّعاء الشهادة برسالة النبيّ(ص)، وليس أصل رسالته، ولمّا لم تكن شهادتهم متحقّقة أصلاً، كان الإخبار بها كذباً خبريّاً، كما أنّهم كانوا عالمين بهذا الكذب الخبريّ، ومن هذا المنطلق فقد كذبوا كذباً مُخبريّاً أيضاً.

في القرآن الكريم يأتي الباري عزّ وجلّ على أسرار المنافقين الذين يدّعون الإصلاح فيفضحها ويزيح الستار عن باطنهم الأسود القاتم. وكمثال على ذلك ما جاء في الآية الثانية من مورد البحث حيث يعتبرهم مفسدين مع التأكيد على ذلك. وفي موضع آخر يتحدّث سبحانه عن فسادهم في الأرض وتقطيع أرحامهم: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُواْ فىِ ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ﴾[1]، أو يعرّفهم على أنّهم مُهلِكون للحرث والنسل: ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ‏ سَعَىٰ‏ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ﴾[2]. بل يقول تعالى: إنّهم يستخدمون دين الله من أجل التفريق بين المسلمين، وإذاعة الكفر، ويتّخذون من المسجد خندقاً لمحاربة الله: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْريقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ ٱللهَ وَرَسُولَهُ


[1]. سورة محمّد(، الآية 22.

[2]. سورة البقرة، الآية 205.

تسنيم، جلد 2

330

مِنْ قَبْلُ‏﴾[1]، ومع كلّ هذا، وكما جاء في الآية مورد البحث، فإنّهم يدّعون الإصلاح، بل ويحلفون أيضاً على ادّعائهم هذا: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ‏﴾[2]، إلاّ أنّهم لا يشعرون أنّ عملهم هو الإفساد بعينه: ﴿وَلَٰكِنَّهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾.

إنّ جهل المنافقين هذا هو نتاج وقوع عقلهم النظريّ في أسر وهمهم وخيالهم، وعقلهم العمليّ في قبضة شهوتهم وغضبهم.

لطائف وإشارات

[1] حرمان المنافقين من العقل النظريّ والعمليّ السليم

إنّ العقل النظريّ السليم، الذي وظيفته الفهم الصحيح للمعارف، والعقل العمليّ السليم الذي شأنه تنفيذ المكتشفات العلميّة على نحو صحيح، هما الركنان الأساسيّان للإيمان، والمنافقون محرومون من كليهما؛ فهم، جرّاء تسويل النفس وتزيينها، لا يميّزون بين الحقّ والباطل، وبين الإصلاح والإفساد الحقيقيّين، بل يتوهّمون الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، والصلاح فساداً والفساد صلاحاً؛ كما هو حال فرعون الذي كان من أكبر عوامل الفساد: ﴿فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ﴾[3]، لكنّه كان يخال نفسه الهادي والمرشد: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾[4]. والسبب في ذلك هو أنّ


[1]. سورة التوبة، الآية 107.

[2]. سورة التوبة، الآية 107.

[3]. سورة الفجر، الآية 12.

[4]. سورة غافر، الآية 29.

تسنيم، جلد 2

331

عمل فرعون القبيح قد زُيِّن له فكان يراه حسناً: ﴿وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾[1]. فالمنافقون، وبسبب فقدانهم للعقل العمليّ السليم، فهم بدلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانوا من أهل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾[2].

[2] حالات المنافقين

للمنافقين حالات ثلاث؛ تتمثّل الأولى في الدراسة والاستقراء النفسانيّ الكاذب لذواتهم، والحالة الثانية هي في تعاملهم مع المؤمنين، والحالة الثالثة هي في تعاملهم مع الكفّار.

ففي الحالة الأولى، يتوهّم المنافقون أنّهم مصلحون وعقلاء، وليسوا مفسدين وسفهاء، والآيات من الحادية عشرة حتّى الثالثة عشرة تعكس هذه الحالة. وفي حالتهم الثانية نرى أن لهم تعاملاً متّصفاً بالتظاهر والخيانة، مع المؤمنين، وإنّ صدر الآية الرابعة عشرة ناظر إلى ذلك. أمّا في حالتهم الثالثة فهناك لهم لقاء سرّي وخلوة مع الكفّار وهو ما يبيّنه ذيل الآية الرابعة عشرة؛ هذا وإن كان تعاملهم الأخير مع الكفّار لا يخلو من المكر والحيلة، كما يُستنبط ذلك من آيات سورة الحشر[3].


[1]. سورة غافر، الآية 37.

[2]. سورة التوبة، الآية 67.

[3]. الآيتان 11 و12.

تسنيم، جلد 2

332

تسنيم، جلد 2

333

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآءَ مَنَ السُّفَهَآءُ أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لايَعْلَمُونَ (13)

خلاصة التفسير

من أجل تكريم المهاجرين والأنصار يقول الله سبحانه وتعالى للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس المسلمون، إلاّ أنّ المنافقين ـ الذين قادتهم نظرتهم المادّية إلى تصوّر أنّ الوحي أسطورة وأنّ الإيمان بالغيب سَفَه ـ كانوا يحسبون أنفسهم مثقّفين وعقلاء ويعتبرون المسلمين عديمي العقل وسفهاء. ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ يقول مؤكّداً: إنّهم هم السفهاء وإن كانوا لا يعلمون بذلك. وإنّ عدم علم المنافقين بسفاهتهم يرجع إلى كون عقلهم مكبّلاً وأسيراً.

تسنيم، جلد 2

334

التفسير

«السفهاء»: «السفه» و«السفاهة» تفيدان الاختلال، و«السفيه» هو من اختلّ عقله، فلا يعرف ما ينفعه أو يضرّه بسبب ضعف رأيه، وضحالة معرفته. ولمّا كان تفسير النفع والضرر يختلف باختلاف المدارس الفكريّة، فإنّ تفسير السفاهة والرشد يختلف أيضاً تبعاً لذلك. من هنا، فإنّ طلاّب الدنيا، الذين يعتبرون أنّ نفع الإنسان وصلاحه هو بالاستمتاع الغير المقيّد باللذّات الفانية للدنيا، يتصوّرون أنّ المجاهدين في طريق الحقّ، وطلاّب الآخرة، ومريدي الله هم من السفهاء، مثلما أنّ طلاّب الدنيا المعرضين عن ديانة التوحيد يُعَدّون سفهاء في نظر التوحيد الأصيل: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[1].

إنّ الله سبحانه وتعالى تارة يأمر نبيّه الكريم(ص) بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء في نهج الهداية الذي اتّبعوه: ﴿أُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰ ٱللهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ﴾[2]، وتارة أخرى يقول للمسلمين، لاسيّما الخواصّ منهم: فلتقتدوا بالنبيّ الكريم(ص) ولتتّخذوا منه أسوة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[3]، وتارة ثالثة يأمر عامّة المسلمين بالتأسّي بالنبيّ إبراهيم(ص) وأصحابه: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ... لَقَدْ كَانَ لَكُم‏ْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللهَ وَ ...﴾[4]، كما أنّه


[1]. سورة البقرة، الآية 130.

[2]. سورة الأنعام، الآية 90.

[3]. سورة الأحزاب، الآية 21.

[4]. سورة الممتحنة، الآيات 4 ـ 6.

تسنيم، جلد 2

335

تعالى يقول للمنافقين في الآية مورد البحث: ﴿ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ ٱلنَّاسُ﴾؛ فإنّه، وإن لم يكن إيمانكم هو من باب التأسّي بإيمان عامّة الناس، لكن آمِنوا كما آمن عامّة المسلمين، ولا تعزلوا أنفسكم من صفوفهم، بل اعملوا وفقاً لما تدّعون به من كونكم من الأمّة وشعبيّين، وفكّروا كما يفكّر الآخرون.

إنّ المراد من «الناس» في الآية محطّ البحث هم المهاجرون والأنصار. فالمهاجرون هم أولئك الذين هجروا بيوتهم ومعيشتهم وأموالهم في مكّة ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهبّوا صادقين لنصرة دينه: ﴿لِلْفُقَرَاءِ ٱلْمُهَاجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ ٱللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ﴾[1]. أمّا الأنصار فهم الذين استقبلوا مهاجري مكّة المجاهدين في المدينة برحابة من صدورهم، وطيب من خواطرهم، وآثروهم على أنفسهم: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّأُواْ الدَّارَ وَٱلإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِْمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كاَنَ بِهِِمْ خَصَاصَةٌ﴾[2]، فالله سبحانه وتعالى، ومن أجل تكريم المهاجرين والأنصار، يقول للمنافقين: كونوا مثل هؤلاء في إيمانهم بالله ورسوله(ص).

سفاهة المنافقين

إنّ السرّ في امتناع المنافقين عن الإيمان بالله ورسوله(ص) هو أنّ معيار


[1]. سورة الحشر، الآية 8 .

[2]. سورة الحشر، الآية 9.

تسنيم، جلد 2

336

معرفتهم في الرؤية الكونيّة هو الحسّ والمادّة، ومن هذا الباب فهم يعتبرون الإيمان بالغيب والأمور الغير المحسوسة إيماناً ينمّ عن سفه، وهم ـ كالكفّار ـ يعتبرون الوحي ضرباً من الأساطير: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ﴾[1]؛ بالضبط كما نسبت جماعةٌ السفاهةَ للنبيّ هود(ص): ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾[2].

كان المنافقون، وبسبب معرفتهم الحسّية ونظرتهم المادّية للكون، يعتبرون أنّ المهاجرين والأنصار ـ الذين كانوا يؤمنون بالمبدأ والمعاد ورسالة النبيّ(ص) ـ هم مجرّدون عن العقل، وأنّ أعمالهم تنطوي على سفاهة، وكانوا، في المقابل، يحسبون أنفسهم مثقّفين ومن أصحاب الفكر الوقّاد، وإنّهم بسبب تصوّرهم الباطل لم يكونوا على استعداد لبيع نقد الدنيا بنسيئة الآخرة.

وفي ردّ الله على المنافقين الحمقى يقول سبحانه وتعالى: إنّ هؤلاء هم السفهاء حتّى وإن خالوا أنفسهم مثقّفين ومصلحين في المجتمع؛ لأنّهم ليسوا فقط لا يميّزون بين الحقّ والباطل وبين الصلاح والفساد، بل إنّهم يحسبون الباطل حقّاً والفساد صلاحاً، وإنّ منشأ سفاهتهم هو الإعراض عن شريعة الحقّ: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[3].

أمّا أنّ المنافقين لا يعلمون بأنّهم هم ـ لا غيرهم ـ الذين يفتقرون إلى العقل وهم السفهاء فذلك عائد إلى أنّ عقلهم، الذي هو مركز


[1]. سورة النحل، الآية 24.

[2]. سورة الأعراف، الآية 66.

[3]. سورة البقرة، الآية 130.

تسنيم، جلد 2

337

الإدراك والوعي، هو أسير الوهم والخيال، وأنّ شهوتهم وغضبهم قد أصبحا أميرين! إذن، فالذي يجب أن يفهم ويتصدّى للكلام هو أسير، والذي لا يدرك ولا ينبغي أن ينبس ببنت شفة هو أمير. فإذا أصبح العقل أسيراً، وصار الوهم والخيال والشهوة والغضب أمراء، فإنّ الأمير الكاذب المزيّف يعتبر نفسه عقلاً، ويعدّ العقل سفيهاً.

لطائف وإشارات

[1] أسر العقل النظريّ والعمليّ للمنافقين

كما قد اُشير إليه في السابق، فإنّ المنافقين فاقدون لكلّ من العقل النظريّ السليم والعقل العمليّ السليم. فعقلهم النظريّ، ونتيجة لكونه مكبّلاً بأغلال الوهم والخيال، هو متورّط في المغالطات في جميع استدلالاته، فهو يتصوّر الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، ويرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، أمّا عقلهم العمليّ، فجرّاء سجنه خلف قضبان الشهوة والغضب، فهو يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف عوضاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾[1]. من هذا المنطلق، فعندما يدور الحديث عن العقل العمليّ، يُنفَى عن المنافقين الشعور، وعندما يكون الكلام عن العقل النظريّ يُنفى عنهم العلم، لذا فإنّ عبارة: ﴿وَلكِن لاَ يَشعُرُون﴾ في ذيل الآية السابقة، هي ناظرة إلى


[1]. سورة التوبة، الآية 67.

تسنيم، جلد 2

338

أسر العقل العمليّ للمنافقين؛ ذلك لأنّ الحديث في تلك الآية دار عن الصلاح والفساد في الأرض والشؤون الاجتماعيّة التي تكون مصالحها ومفاسدها محسوسة إلى حدّ ما، أمّا عبارة: ﴿وَلكِن لاَ يَعلَمُون﴾ في الآية مورد البحث، فناظرة إلى أسر العقل النظريّ لهم؛ وذلك لأنّ الكلام هنا جاء في الإيمان الذي يكون مبنيّاً على المعرفة، وإنّ المعرفة هي نتاج العقل النظريّ.

تنويه: بالرغم من أنّ مصطلح «العقل العمليّ» ينطوي على مدلولين؛ يُعرّف العقـل العمليّ ـ حسب المدلول الأوّل ـ بأنّه قـوّة الفهـم التي وظيفتهـا إدراك الحـكمة العمليّـة، ولا يـكون ـ حسب المدلول الثاني ـ من سنخ الإدراك أساساً، بل هو من سنخ العمل فقط، غير أنّ المدلول الثاني هو المقصود غالباً في مثل هذه المباحث، وليس الأوّل.

[2] ميزة العقل العمليّ السليم

العقل العمليّ السليم هو ما يكون نتاجه عبادة الباري سبحانه وتعالى، وسلوك طريق الجنان: «العقل... ما عُبِد به الرحمٰن واكتُسِب به الجنان‏»[1]. إذن فالقوّة التي لا تقود الإنسان إلى عبادة الله عزّ وجلّ، ولا تدلّه على سبيل الجنّة هي محض سفاهة، ومن هذا المنطلق فإنّ الآية الشريفة: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[2]، تبيّن قضيّة هي عکس نقيض القضيّة التي يبيّنها الحديث الشريف: «العقل... ما عبد به الرحمن


[1]. الكافي، ج1، ص11.

[2]. سورة البقرة، الآية 130.

تسنيم، جلد 2

339

...». وفي هذا الباب لا فرق بين مُنكِر النبوّة العامّة ومُنكِر النبوّة الخاصّة، وإنّ ما جاء في الآية: ﴿سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾[1] فهو نموذج على إطلاق عنوان السفيه على بعض أهل الكتاب الذين أنكروا النبوّة الخاصّة للنبيّ الأكرم(ص).

[3] المنطق المشترك للكفّار والمنافقين

كان الكفّار يقولون في أصل الوحي والنبوّة العامّة: لو كان في منهج الوحي خيراً، لما سبقَنا المؤمنون إلى القبول به: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾[2]. هذا الكلام، وإن نسبه القرآن إلى الكفّار، إلاّ أنّه المنطق الذي يشترك فيه الكفّار مع المنافقين. فجرّاء جهلهم المركّب، تصوّر هؤلاء أنّهم أصحاب الحقّ والمثقّفون، ولا يُنتَظر من أصحاب مثل هذا التفكّر الباطل إلاّ نسبة السفاهة للمؤمنين، والشاهد على ذلك هو ما مرّ من إسناد السفاهة للمؤمنين على لسان المنافقين.


[1]. سورة البقرة، الآية 142.

[2]. سورة الأحقاف، الآية 11.

تسنيم، جلد 2

340

تسنيم، جلد 2

341

وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَيٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

خلاصة التفسير

في هاتين الآيتين تمّ فضح الميل الباطنيّ للمنافقين نحو الكفر بتعابير شتّى، ولمّا كان المراد من «الشيطان» هو الموجود الماكر، الفارّ من الحقّ، فقد اُطلق تعبير «الشيطان» عليهم. لقد كان المنافقون يُظهِرون الإيمان عند لقائهم بالمؤمنين، لكنّهم كانوا يقولون لرفاقهم إذا خلوا إلهيم: نحن معكم، لقد كنّا نستهزئ بالمؤمنين فحسب.

لكنّ الله يقول كذلك: إنّ الله يستهزئ بهم ويدعهم في طغيانهم ليبقوا في حيرة شديدة من أمرهم. هذان النوعان من الاستهزاء مختلفان؛ إذ أنّ استهزاء المنافقين هو من النوع الاعتباريّ ومفتقر لأيّ أثر حقيقيّ،

تسنيم، جلد 2

342

لكنّ استهزاء الباري عزّ وجلّ هو استهزاء تكوينيّ (فهو يجعل عقولهم وقلوبهم خفيفة الوزن).

ومع أنّ إبقاء المنافقين في غيّهم وانحرافهم هو من وظائف مأموري القهر الإلهيّ (الشيطان والمنحرفين) وهو من باب الإضلال الجزائيّ، لكنّه لمّا كانت جميع شؤون العالم هي بيد الله جلّ جلاله، فهو تعالى يسند هذا العمل إلى نفسه.

التفسير

«شياطينهم»: إنّ كلّ موجود ماكر، ومتمرّد، وشرّير، ومنفلت من الحقّ فهو شيطان، وإنّ إطلاق كلمة الشيطان على إبليس هو من هذا المنطلق.

«مستهزؤون»: تحقير الآخرين وإهانتهم، سواء بالقول أو بالفعل، هو استهزاء، وبما أنّ نيّة المستهزئ هي تحقير الطرف المقابل، وأنّ مبتغاه هو صيرورته حقيراً، وذلك من خلال القيام بما يدلّ على الاستخفاف به وإهانته، فقد جاء هنا بصيغة الاستفعال.

«يعمهون»: «العَمَه» هو الحيرة الشديدة، وتأتي ـ من حيث الرتبة ـ بعد الشكّ، والتردّد، والتحيّر. و«العمه» هو الحيرة التي تُعمي بصيرة الإنسان عن أيّ رأي صحيح، أو رؤية صائبة. من هنا يكون «العمه» بمعنى عمى عين القلب، وهو في مقابل «العمى» الذي يطلَق على عمى عين البدن وعين الروح معاً.

كان المنافقون في صدر الإسلام صنفين: فصنف كانوا كافرين منذ

تسنيم، جلد 2

343

البداية لكنّهم كانوا يتظاهرون بالإيمان: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِِمْ﴾[1]، وصنف كانوا قد آمنوا بصدق في بداية الأمر لكنّهم عندما وجدوا أنّ الإسلام لا ينسجم مع مصالحهم وأغراضهم الدنيويّة صاروا قلباً من الكفّار، لكنّهم أبقوا على إيمانهم الظاهريّ، وانبروا لمحاربة الإسلام وهم في ظلّه: ﴿اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ ٱللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾[2].

ولمّا كان الله سبحانه وتعالى مطّلعاً على سرّ جميع الناس وعلنهم؛ حيث يقول: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾[3]، فإنّه يفضح نزوع المنافقين الباطنيّ إلى الكفر في الآيتين مورد البحث وذلك من خلال أربعة تعابير:

1. فهو يعبّر عن اجتماع المنافقين بالمؤمنين بقوله: ﴿إذَا لَقُوا﴾ للدلالة على أنّهم لم يكونوا مصرّين على اللقاء بالمؤمنين، فإن صادف يوماً أن التقوا بهم عرضاً، أظهروا الإيمان، لكنّه يستعمل عبارة ﴿إذَا خَلَوا﴾ للتعبير عن لقائهم بالكفّار. فالمنافقون يتّجهون برغبة إلى بيوت الكفّار الآمنة، ويساهمون في مجالسهم الخاصّة وهم في خلوة بعيدين عن الأنظار. وهذا التنوّع في التعبير: (لقوا، خلوا) علامة على رغبتهم في الكفر، بحيث تحقّق خلوتهم كفراً، وتصوّر جلوَتهم إيماناً.

2. عند لقائهم بالمؤمنين يُظهِر المنافقون الإيمان باستخدامهم للجملة


[1]. سورة آل عمران، الآية 167.

[2]. سورة «المنافقون»، الآيتان 2 و3.

[3]. سورة البقرة، الآية 77.

تسنيم، جلد 2

344

الفعليّة ﴿آمَنَّا﴾ التي تفيد الحدوث، لكنّهم في خلوتهم مع الكفّار يستخدمون الجملة الاسميّة ﴿إنَّا مَعَكُمْ﴾ التي تفيد التأكيد والثبوت، والمصحوبة بحرف التأكيد «إنّ» وذلك للتعبير عن الوفاق والاُلفة معهم.

3. من خلال التقابل بين المنافقين، والمؤمنين، والشياطين يظهر أنّ المراد من الشياطين هم الكفّار، كما ويُفهَم من إضافة الشياطين إلى الضمير «هم» العائد إلى المنافقين: ﴿شَيَاطِينِهِم﴾ أنّ المنافقين والكفّار هم من سنخ واحد.

4. إنّهم يصرّحون بأنفسهم، على نحو الحصر، أنّنا لا نجتمع بالمؤمنين إلاّ من أجل الاستهزاء بهم: ﴿إنَّمَا نَحنُ مُستَهزِءُون﴾. غير أنّ المنافقين في يوم الامتحان يعلنون عن ميلهم وقربهم إلى الكفّار: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾[1].

الاطلاق الحقيقيّ «للشيطنة» على الكفّار والمنافقين

إنّ إطلاق كلمة «الشيطان» على الكفّار والمنافقين هو إطلاق حقيقيّ، وليس من باب المجاز والمسامحة؛ لأنّ الشيطان، كما مرّت الإشارة إليه، يُطلَق على كلّ موجود ماكر، ومتمرّد، وهارب من الحقّ. فالكفّار والمنافقون الذين ينفرون من هداية القادة الإلهيّين، ولا يخضعون في مقابل الحقّ، ويزرعون الميل نحو الباطل في قلوب الآخرين بالوسوسة والطرق الخفيّة الملتوية: ﴿مِنْ شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ * ٱلَّذِي يُوَسْوِسُ


[1]. سورة آل عمران، الآية 167.

تسنيم، جلد 2

345

فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ * مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ﴾[1], ويُضعِفون روحيّة الإيمان لدى الآخرين بالمكر والحيلة، هم من مصاديق الشيطان: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾[2]. بالطبع، إنّ حالة الشيطنة عند أفراد البشر تبدأ على نحو «الحال» ولا يكون لها ثبات، ثمّ تتحوّل إلى «ملَكة»، ومن ثمّ تصير الجزء والفصل المقوّم لهويّة الإنسان، حتّى يصبح الإنسان الخدّاع والمحتال والمكّار ـ حقيقةً ـ شيطاناً.

مراتب استهزاء المنافقين

الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم، وإن كانا غير مشروعين ومحرّمين في جميع الأحوال: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُواْ خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾[3]، إلاّ أنّ مراتب قبحهما تختلف باختلاف مواردهما؛ فالمنافقون كانوا تارة يستهزؤون بالمؤمنين، وتارة أخرى بأولياء الله، وتارة ثالثة بالأئمّة والأنبياء(ع)، وتارة رابعة يسخرون بآيات الله. وعلى الرغم من أنّ الاستهزاء بالمؤمنين هو فسق، إلاّ أنّ الاستهزاء بالله والرسول وآيات الله يعادل الكفر: ﴿قُلْ أَبِٱللهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[4]. بالطبع، من المعلوم أنّه إذا كان الاستهزاء بالمؤمنين هو بسبب وصفهم بالإيمان،


[1]. سورة الناس، الآيات 4 ـ 6.

[2]. سورة آل عمران، الآية 175.

[3]. سورة الحجرات، الآية 11.

[4]. سورة التوبة، الآيتان 65 و66.

تسنيم، جلد 2

346

فهو يعدّ كفراً أيضاً؛ لأنّ فحوى هذا الاستهزاء العمليّ والعمديّ هو استهزاء بالوحي والرسالة، وليس استهزاء بأشخاص بعينهم.

لقد كان هدف المنافقين الوحيد من إظهار الإيمان في حضور المؤمنين هو الاستهزاء بهم ﴿إنّمَا نَحنُ مُستَهزِؤُون﴾، ولم يكن من وراء عملهم هذا أيّ غرض عقلائيّ، لا لهم ولا لغيرهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾[1].

الفارق بين استهزاء المنافقين والاستهزاء الإلهيّ

يقول الله عزّ وجلّ في جوابه للمنافقين: إنّ الله هو الذي يستهزئ بهم ويذرهم في طغيانهم كي يتحيّروا. فإذا اتُّهم المؤمنون بالسفاهة والسُخف، واستُهزئ بهم، وسُخِر منهم من قبل المنافقين، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيستهزئ بالمنافقين أيضاً، مع فارق واحد كبير وهو أنّ استهزاء المنافقين بالمؤمنين ليس له أيّ أثر حقيقيّ أو دور تكوينيّ، بل هو محض اعتبار. ومضافاً إلى ذلك أنّ الله تعالى، في بعض الأحيان، هو الذي يتولّى دفع شرّ المستهزئين ورفعه: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ﴾[2]. لكنّ استهزاء الله جلّ وعلا بالمنافقين هو تكوينيّ وحقيقيّ؛ بمعنى أنّ الله يجعل عقولهم وقلوبهم خفيفة الوزن وخاوية: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾[3]، وفـي القيامة ـ التي هي ظرف ظهور الحقائق، وحيث إنّ الميزان في ذلك اليوم هو الحقيقة: ﴿وَٱلْوَزْنُ


[1]. سورة التوبة، الآية 65.

[2]. سورة الحجر، الآية 95.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 43.

تسنيم، جلد 2

347

يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ﴾[1] ـ تكون أعمالهم على جانب كبير من الخفّة وانعدام الوزن بحيث لا يُقام أيّ ميزان لوزنهم: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً﴾[2].

ظهور الإضلال الجزائيّ على يد مأموري القهر

إنّ الله عزّ وجلّ يذر المنافقين وفتنهم التي أشعلوها في بواطنهم لفترة طويلة، ويُوكلهم إلى أنفسهم كي يقطعوا طريقهم متخبّطين على غير هدى. وهو سبحانه ينسب عمليّة ترك المنافقين في طغيانهم وانحرافهم إلى نفسه، والسرّ في هذه النسبة هو أنّه، على الرغم من كون الشياطين والمجرمين هم الذين يقومون بهذا العمل: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ﴾[3]، لكنّه لمّا كان تدبير جميع أمور العالم بيد الله تعالى، فإنّ العمل المُنجز بواسطة مأموري القهر الإلهيّ، وبإذن تكوينيّ منه سبحانه هو منسوب إليه أيضاً، وإلاّ فلا يكون إسناد مثل هذه الأمور إلى الله من دون واسطة؛ لأنّه لا يصدر من الله، الرحمن الهادي ـ الذي سبقت رحمتُه غضبَه ـ الغضب والضلالة بلا واسطة.

ولا يأخذ مأمورو القهر الإلهيّ على عاتقهم مسؤوليّة الإضلال الجزائيّ للمجرمين والمنحرفين؛ من خلال إثارتهم وأزّهم، كما في التعبير القرآنيّ: ﴿... أَنَّا أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَىٰ ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾[4]


[1]. سورة الأعراف، الآية 8 .

[2]. سورة الكهف، الآية 105.

[3]. سورة الأعراف، الآية 202.

[4]. سورة مريم، الآية 83 .

تسنيم، جلد 2

348

فحسب، بل إنّهم يتولّون، بإذن الله تعالى، الولاية والقيمومة عليهم أيضاً: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[1].

لطائف وإشارات

[1] الإنسان هو النوع المتوسّط وليس النوع الأخير

إنّ الشيطان هو إمّا إنسيّ أو جنّي، وإنّ الكفّار والمنافقين، الذين عبّرت عنهم الآية محطّ البحث بالشياطين، هم من شياطين الإنس. فالخنّاس، الذي ينفذ إلى قلوب الناس بالوسوسة، ويغرس أفكاره في كيانهم بطرق ملتوية وغامضة، هو حقّاً شيطان، وإنّ الفارق بينه وبين الشيطان الأصليّ (إبليس) هو أنّ الأخير من الجنّ: ﴿كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ﴾[2]، وإنْ كان تلامذته خليطاً من الجنّ ومن الإنس؛ ومن هذا المنطلق، يمكننا القول: إنّ المنافقين قد خلوا مع شياطينهم. إذن، فإنّ الكفّار والمنافقين المحتالين والماكرين هم لا يشبهون الشيطان فحسب، بل إنّهم هم الشيطان بعينه.

إنّ حقيقة ابن آدم هي روحه ونفسه، أمّا وجهه، وبدنه، وحديثه المعهود، أو مشيه على قدميه، فكلّ واحد منها عَرَض من أعراض الإنسان، ولا أثر له في حقيقته.

لقد خلق الله سبحانه وتعالى نفس الإنسان مودِعاً فيها رأسماله المتمثّل بمعرفة الفجور والتقوى: ﴿فَأَلْهََمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[3]، وعرّفها ﺑ


[1]. سورة الأعراف، الآية 27.

[2]. سورة الكهف، الآية 50.

[3]. سورة الشمس، الآية 8 .

تسنيم، جلد 2

349

«النجدين»؛ أي سبيلي الخير والشرّ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَيْنِ﴾[1]، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾[2]. فإذا طوى الإنسان طريق الدِين، الذي هو طريق أنبياء الله وأوليائه، فسيصل إلى مستوى الملائكة، ويُحشر معهم. وإذا سلك سبيل الانحراف، فهو إمّا أن يصل إلى حالة البهيميّة والشهوة، فيصير ـ حقيقةً ـ بهيمة، وإمّا أن يبلغ حالة السبعيّة والضراوة، فيصبح ـ حقيقةً ـ إنساناً ضارياً مفترساً، أو أن يهتدي إلى حالة المكر والشيطنة، فيتحوّل حقيقةً إلى إنسان شيطانيّ.

والسرّ في هذه التحوّلات هو أنّه إذا بذل الإنسان كلّ ما بوسعه ووظّف قواه لخدمة العقل، وربط يدَي ورجلَي وهمه وخياله مضافاً لشهوته وغضبه بعقال العقل، وسلّم زمام الوهم والخيال مضافاً للشهوة والغضب بيد العقل، فسيتّصف حينها بصفة الملائكة. لكنّه إذا سلّم زمام أموره الإدراكيّة بيد الوهم والخيال، وشؤونه التحريكيّة بيد الشهوة والغضب، ولبّى متطلّبات نفسه الأمّارة في بُعْد الشهوة، فإنّه وإن كان في بداية الأمر إنساناً مشتهياً، إلاّ أنّه سيتحوّل في نهاية المطاف إلى حيوان شهويّ؛ أي، إنّ نفسه هي بمثابة المادّة للصور المختلفة، وإنّ الصفة اللاحقة ستمتزج بروحه لتكون بمنزلة صورته الجديدة.

كذلك فإنّ الإنسان الذي سلّم زمام أموره كافّة للغضب فإنّه يبتدئ إنساناً عصبيّ المزاج، لتصير «صفة الضراوة» صورة لروحه في النهاية، ويتحوّل في باطنه إلى ذئب كاسر مصّاص للدماء، وفي يوم القيامة ـ


[1]. سورة البلد، الآية 10.

[2]. سورة الإنسان، الآية 3.

تسنيم، جلد 2

350

الذي هو يوم ظهور الحقّ ـ يُحشر على هيئة حيوان مفترس، على الرغم من أنّه لم يكن في الدنيا يختلف عن سائر البشر في الظاهر. كما أنّه إذا صرف الإنسان كلّ جهده وطاقته في المكر والتحايل على الناس، ففي بادئ الأمر ستكون الشيطنة بالنسبة له مجرّد حال، لكنّها ستصبح في النهاية صورة لروحه ويصير ـ حقيقةً ـ شيطاناً؛ أي إنّ فصله الأخير سيكون الشيطنة.

في حوادث إحدى الحروب يستخدم القرآن الكريم كلمة «الشيطان» للتعبير عن المنافق فيقول: ﴿ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾[1]. إذن، مع أنّ «الإنسان» مطروح في المباحث المنطقيّة على أنّه «النوع الأخير» أو «نوع الأنواع»، إلاّ أنّه، وحسب الرؤية القرآنيّة، يُعدّ النوع المتوسّط وليس النوع الأخير، وأنّ له من بعد هذا النوع أربعة أنواع أخرى؛ هي: النوع المتّصف بصفات الملائكة، وذلك المتّصف بالضراوة، وبالشهوة، وبالشيطنة، وإنّ ما أراه الإمام الباقر(ص) لأبي بصير في موسم الحجّ، عندما شاهد الأخير معظم الحجيج ـ ممّن كانوا متمرّدين على ولاية أهل البيت(ع) ـ على هيئة حيوانات، كان إراءةً لهذا الباطن؛ فعندما قال أبو بصير: «ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج»، قال الإمام(ص) له: «بل ما أكثر الضجيج و أقلّ الحجيج»[2].

[2] مُعطيات سير الإنسان في مسير الدرجات أو مسير الدركات

في نظام الوجود إمّا أن يسير الإنسان في مسير «الدرجات» وولاية الله،


[1]. سورة آل عمران، الآية 175.

[2]. مناقب آل أبي طالب، ج4، ص200؛ وبحار الأنوار، ج46، ص261.

تسنيم، جلد 2

351

أو يسلك سبيل «الدركات» وولاية الشيطان والهبوط إلى أسفل السافلين. فإن اتّخذ المرء طريق الولاية الإلهيّة فإنّه سيبلغ محلاًّ يكون فيه ابتداءً مُحبّاً لله عزّ وجلّ، ثمّ يصبح محبوباً له تعالى، حتّى يصير الله جلّ شأنه لسانه، وعينه، وأذنه، وسيسمع مثل هذا الإنسان الملكوتيّ، ويبصر، وينطق، و... بواسطة الباري عزّ وجلّ: «وإنّه ليتقرَّب إليّ بالنافلة حتّى اُحِبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها ...»[1]، وأرفع من ذلك هو المقام الذي يصبح الإنسان فيه «عين الله»، و«يد الله»؛ كما يقول أمير المؤمنين(ص): «أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله‏»[2]. لكنّ البحث المفصّل في قرب النوافل والفرائض، وهو ما جاء في الحديث المعروف بحديث قرب النوافل، فإنّه يُوكَل إلى محلّه.

أمّا الذي يسير في طريق الدركات الشيطانيّة فإنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة تشير إلى أنّه يصل أوّل الأمر في هذا الطريق إلى منزلة يَعشّ فيها الشيطان في قلبه، ومن ثمّ ينطق الشيطان على لسانه، وينظر بعينه؛ أي يصبح هذا الشخص أداة لإدراك الشيطان وإثاراته وما إلى ذلك، حتّى يبلغ حدّاً لا ينطق الإنسان فيه إلاّ بذنب ولا ينظر إلاّ بمعصية؛ كما في الحديث: «اتّخَذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم‏»[3].


[1]. الكافي، ج2، ص352.

[2]. بصائر الدرجات، ص89 ؛ وبحار الأنوار، ج24، ص194.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 7.

تسنيم، جلد 2

352

[3] الكفّار والمنافقون في دوّامة الفساد والطغيان

من خلال إضلال الله الجزائيّ فإنّه سبحانه وتعالى يسلب من المنافقين التوفيق لفهم المعارف الحقّة، فيتيهون في عتمة الضلالة، ويسقطون في البئر التي حفروها لأنفسهم.

وكما يتحدّث القرآن الكريم عن انغماس الكافرين في دوّامة الخطايا: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾[1]، فهو يتحدّث أيضاً عن ارتماء المنافقين في دوّامة الطغيان والعَمَه: ﴿فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُون﴾. حيث إنّه في الصراع بين العقل والوهم إذا سقط العقل أسير الوهم، فإنّ الوهم يصبح سيّد الموقف في المسرح الإدراكيّ للنفس، فيسدّ مجاري الإدراك الصحيح، وعندها لن يجد مثل هذا الإنسان سبيلاً إلى التفكير السليم، فتطغى الأفكار الباطلة على صفحة نفسه، ويسير في غمرات هذه الأفكار الواهية في حالة من العمه وانعدام البصيرة.

[4] ما ينزل في المنافقين الباغين من أصناف العقاب

يشير الله عزّ وجلّ في الآيتين مورد البحث إلى بعض أصناف العقاب التي يُنزلها بالمنافقين؛ فأحدها الاستهزاء التكوينيّ لله بهم، (حيث يبتليهم بالسخف والسفه في عقولهم كاستهزاء جزائيّ نتيجة أعمالهم الغير المشروعة)، والآخر أنّه سبحانه وتعالى يتركهم ويذرهم في طغيانهم وعمَهِهم الباطنيّ.

ومن جملة أصناف العقاب الأخرى التي يتعرّض لها المنافقون هي أنّهم، مثلما كانوا قرناء للشياطين في الحياة الدنيا، فإنّهم يُحشرون في


[1]. سورة البقرة، الآية 81 .

تسنيم، جلد 2

353

الآخرة معهم أيضاً، ويسقطون في جهنّم سويّة: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾[1].

البحث الروائيّ

[1] المراد من الاستهزاء الإلهيّ

ـ عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال عن أبيه، قال: سألت الرضا(ص)... فقال: «إنّ الله تعالى لا يسخر، ولا يستهزئ، ولا يمكر، ولا يخادع، ولكنّه تعالى يجازيهم جزاء السخرية، وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً»[2].

إشارة: الأوصاف المذكورة هي من صفات الله الفعليّة، وليست من صفاته الذاتيّة؛ فالأوصاف الفعليّة تُنتزَع من مقام فعل الله عزّ وجلّ، لا من مقام ذاته سبحانه. فأفعال الله عزّ وجلّ في حقّ المنحرفين من الكفّار والمنافقين هي بعنوان العقاب والجزاء، لا أنّه تعالى يُجيز مثل هذه الأمور في حقّ بعض الناس ابتداءً. وبناءً على ذلك، فإنّ العناوين الآنفة الذكر ستُنتزَع من فعل الله الذي صدر بحقّ الكفّار والمنافقين تحت عنوان «الجزاء».

[2] كيفيّة تسخير القلب على يد الشيطان

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «اتّخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له


[1]. سورة مريم، الآية 68.

[2]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص115؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص35.

تسنيم، جلد 2

354

أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودَرَج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركِب بهم الزلَل، وزيّن لهم الخَطَل، فِعْل مَن قد شَرِكَه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه»[1].

إشارة: يقول أمير المؤمنين(ص) في حقّ المنافقين والكفّار والمجرمين من أتباع الشيطان: «لقد اتّخذ هؤلاء الشيطانَ ملاكاً ومعياراً لتقييم علومهم وأعمالهم، فاتّخذهم هو بدوره شركاء له في أفكاره وأفعاله، وجعل منهم أشراكاً ومصائد للإيقاع بسائر عباد الله. ثمّ بدأ يبيض في صدورهم، ويحتضن البيض حتّى زمان فقسه، فإذا خرجت الفراخ من صدورهم جعلت تدبّ وتتحرّك في حجورهم. إذن، فالشيطان ينظر بأعينهم، وينطق بألسنتهم، فيرتكب الزلاّت والعثرات بمعونتهم، ويزيّن فعل القبائح في أعينهم. ففعالهم تشهد على أنّها مُورست بمعونة الشيطان، وإنّ أعمال أمثال هؤلاء، الواقعين في الفخّ، منسجمة مع أعمال من شاركه الشيطان في نفوذه وسلطانه، ونطق بالباطل على لسانه».

إنّ الطيور إذا أرادت بناء عشّ آمن لها، بادرت في البدء إلى تهيئة موادّ البناء. فإن وجدت المحلّ آمناً لبناء العشّ، وأنّ المنطقة خالية من مصادر المضايقة والإزعاج، فسوف تبتدئ أوّلاً ببناء العشّ بكلّ طمأنينة وراحة بال، ثمّ تبيض فيه، وتحتضن البيض وترعاه، حتّى تفقس الفراخ وتشرع بالحركة. وهذا هو حال الشيطان كذلك، حيث إنّه يجد قلب المنافق المنحرف والكافر محلاًّ آمناً وهادئاً لبناء عشّه؛ على خلاف المتّقين الذين ما إن يقترب الشيطان من حريم قلوبهم


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 7.

تسنيم، جلد 2

355

حتّى يتيقّظوا بسرعة البرق الخاطف، وحينئذ يطردونه من حيّز كبرياء قلوبهم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[1].

فالشيطان كالطير، من حيث إنّه يحتاج إلى مكان آمن لبناء عشّه. فإن وجد أنّ الإنسان لا يُبدي حساسيّة تجاه وسواسه، نقل إليه موادّ بناء عشّه، وهي عبارة عن المكر والحيلة وما شابه ذلك، وبعد بنائه ووضع البيض فيه يشرع في تربية فراخه، ويجعلها تدبّ من قلب الإنسان الخاضع لسلطة الوسواس إلى أعضائه وجوارحه، فيسخّر نظراته ونطقه وسائر أفعاله. بناءً على هذا، فإنّ نظرة الحرام إلى الأجنبيّ أو الأجنبيّة هي فرخ إبليس الذي نبت ريشه، وهبط من عشّ القلب، فحطّ في عيني الإنسان، وإنّ التهمة والكذب هما فرخان شيطانيّان هبطا من قلب الإنسان إلى لسانه الفاسد. فإذا سقطت بلاد قلب هذا الإنسان المخدوع بأسرها في قبضة الشيطان، ومال نحو الكفر أو النفاق، أمسك الشيطان بزمام هذا الإنسان الكافر أو المنافق، وحينئذ لا يعود متورّعاً عن اقتراف أيّ زلل أو ارتكاب أيّ خطيئة.

يتّضح، ممّا تقدّم، المعنى الإجماليّ للآية: ﴿وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾[2]؛ حيث إنّها ترسم صورة عن مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد، وهما اللذان يُعدّان


[1]. سورة الأعراف، الآية 201.

[2]. سورة الإسراء، الآية 64.

تسنيم، جلد 2

356

العاملين المهمّين للإيقاع بعشّاق الدنيا في الفخّ، ولا تُحمَل مثل هذه الأمور على المجاز اللغويّ أو العقليّ إطلاقاً؛ وذلك لأنّ الألفاظ المذكورة تتميّز بمعاني حقيقيّة من جهة، وأنّ إسناد تلك المعاني الحقيقيّة إلى الكافر أو المنافق هو إسناد حقيقيّ وليس مجازيّاً من جهة أخرى.

تسنيم، جلد 2

357

أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَـٰلَةَ بِالْهُدَيٰ فَمَارَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16)

خلاصة التفسير

من وجهة نظر القرآن الكريم فإنّ حياة الإنسان إمّا أن تكون ميدان تجارة رابحة مع الله، أو مقايضة بوار مع الشيطان. وإنّ رأس مال هذه التجارة هو الهداية الباطنيّة (الفطرة) والظاهريّة (الوحي)، والقوى الإدراكيّة والتحريكيّة، وعمر الإنسان. فإن اُنفِق رأس المال هذا في طريق الوصول إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة كانت التجارة رابحة، أمّا إذا صُرِف في أمور أخرى كان تبادلاً خاسراً. وبالرغم من أنّ أركان التجارة الستّة (وهي: البائع، والمشتري، والمبيع، والثمن، والسند، والشاهد) متوفّرة في هذه التجارة، إلاّ أنّه، على خلاف التجارة الشائعة بين البشر، فإنّ البائع هو عين المبيع، والمشتري هو عين الثمن؛ وذلك لأنّ البائع يعطي حقيقته الوجوديّة للمشتري، وأنّ المشتري يجعل لقاءه من نصيب البائع.

تسنيم، جلد 2

358

والمنافقون في سوق الدنيا باعوا رأس مال الهداية ليحصلوا على الضلالة، ولأنّهم خسروا رأس المال، فلا سبيل لهم لجني ربح أو الحصول على رأس مال جديد. فالذي يبيع ـ بسوء اختيارٍ منه ـ رأس مال وجوده، فإنّه لن يكون قابلاً للهداية بعدئذ.

التفسير

في مطلع هذه السورة المباركة، عُرّف القرآن الكريم على أنّه كتاب هداية للمتّقين: ﴿ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[1]، وقد بُيّنت فيها أوصاف أهل التقوى، التي هي في الحقيقة شروط الانتفاع من القرآن، وقد كان آخرها جملة: ﴿أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ‏ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾[2].

المتّقون، الذين يتمتّعون بمقام المعرفة والهداية الإلهيّتين، يمتلكون مقدّمات الانتفاع من القرآن، وهم ينتفعون منه فعلاً. أمّا المنافقون، الذين باعوا ثروة فطرتهم وهدايتهم، واتّخذوا سبيل الضلال، فبما أنّهم كانوا فاقدين لمقام الفكر والهداية ذاك، فهم لا ينتفعون من القرآن الكريم الذي يقول بحقّهم في الآية محطّ البحث: ﴿أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى‏ فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾.

مسرح حياة الإنسان سوقٌ تجاريّة

يعتبِر القرآن الكريم الحياةَ الدنيا مركزاً تجاريّاً تكون رؤوس أموال


[1]. سورة البقرة، الآية 2.

[2]. سورة البقرة، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

359

التجارة فيه هي الهداية الفطريّة، والقدرة على الفهم، والطاقة على العمل، وعمر ابن آدم. فإن استُثمِرت رؤوس الأموال تلك في سبيل نيل العقائد والمعارف الإلهيّة والقيام بالأعمال الصالحة كانت التجارة تجارة رابحة ومن دون خسارة، وإذا صُرِفت في غير هذا الموضع، كانت التجارة خاسرة: ﴿وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَواْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبْرِ﴾[1]. إذن، إذا لم يستغلّ المرء رؤوس أمواله العلميّة والعمليّة في التجارة مع الله تعالى ولم يجنِ ربحاً، ولم يدّخر شيئاً أو يتعلّم علماً، كان حقّاً من الخاسرين.

إنّ استخدام القرآن الكريم لمفردات البيع، والشراء، والاشتراء، والتجارة، والربح، والخسران فيه دلالة على أنّ مسرح الحياة بالنسبة للإنسان هو إمّا ساحة للتجارة مع الله، أو ميدان للتبادل مع الشيطان، وإلاّ لما كان هناك داع لإيراد مثل هذه التعابير. فالمراد من «المبايعة» و«البيعة» في آيات من قبيل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللهَ﴾[2] هو معاملة البيع التي تجري مع الله تعالى والنبيّ(ص)، أمّا مفردات «البيع» و«التجارة» الواردة في آيات مثل: ﴿وَأَحَلَّ ٱللهُ ٱلْبَيْعَ﴾[3]، و﴿لاَ تَأكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾[4] فهي ناظرة إلى صنوف التجارة الدنيويّة، وهي تختلف مصداقاً، وليس


[1]. سورة العصر، الآيات 1 ـ 3.

[2]. سورة الفتح، الآية 10.

[3]. سورة البقرة، الآية 275.

[4]. سورة النساء، الآية 29.

تسنيم، جلد 2

360

مفهوماً، عن معنى «التجارة» الواردة في الآية الكريمة: ﴿هَلْ أَدُلُّكُم‏ْْ عَلَىٰ‏ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[1].

التجارة الوافرة الربح والمقايضة الخاسرة

لقد أعطى القرآن الكريم وصفاً متقناً لتجارة الناس الرابحة مع الله عزّ وجلّ، وتجارتهم الكاسدة الخاسرة مع الشيطان؛ فهو يقول في معرض تبيينه للتجارة مع الله: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ‏ تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تُحْتهَِا ٱلأَنْهَارُ ...﴾[2]؛ أي: هل اُنبئكم عن تجارة تكون فيها نجاتكم من العذاب الإلهيّ الأليم؟ وهي ـ في المرحلة الأولى، التي هي مرحلة «العقيدة» ـ أن تؤمنوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(ص)، وفي المرحلة التالية ـ التي هي مرحلة «العمل» ـ أن تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ومثل هذه التجارة هي خير لكم إن كنتم تعلمون. أمّا ما تدرّه هذه التجارة عليكم فهو مغفرة من الله من ناحية، ونجاة من العذاب الإلهيّ ونيل الخلود في الجنّة من ناحية أخرى.

إنّ الله عزّ وجلّ يشتري من المؤمنين أرواحهم الطاهرة وأموالهم المزكّاة ليعطيهم في مقابل ذلك الجنّة المحسوسة ولقاءه، الذي هو الجنّة


[1]. سورة الصفّ، الآية 10.

[2]. سورة الصفّ، الآيات 10 ـ 12.

تسنيم، جلد 2

361

المعقولة: ﴿إِنَّ ٱللهَ ٱشْتَرَىٰ‏ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ﴾[1]، وينعت هذه التجارة بأنّها تجارة «رابحة» وغير كاسدة بقوله: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾[2].

التجارة، حسب الرؤية القرآنيّة، هي على نوعين: تجارة رابحة ومثمرة، وتجارة كاسدة وخاسرة. فالتجارة الرابحة هي تجارة الإنسان مع الله جلّ وعلا، أمّا البوار فهي تجارته مع غير الله، وقد سمّيت التجارة مع غير الله بالبوار من جهة أنّها تشبه الأرض اليابسة البور في كونها عديمة المحصول والثمر. فالشخص الذي لم يستثمر ثروته الإنسانيّة في المتاجرة مع الله يكون قد أضاع رأس ماله، فهو مغبون، وفي يوم القيامة، الذي هو ظرف ظهور التغابُن، وليس ظرف حدوثه: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ﴾[3]، سينكشف غَبْن رأس مال الخاسرين فيقول الله جلّ جلاله لهم: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً﴾[4]؛ أيّ إنّكم أمّة بائرة لا تعطي ثماراً أبداً.

تنويه: إنّ المطروح في الآية محلّ البحث هو نفي الربح، ولا تلازم بينه وبين بقاء رأس المال إطلاقاً كي يُقال: إنّ المُستفاد من الآيات الأخرى هو الخسران وزوال رأس المال؛ وذلك لأنّه من الممكن الجمع بين نفي الربح وزوال رأس المال.


[1]. سورة التوبة، الآية 111.

[2]. سورة فاطر، الآية 29.

[3]. سورة التغابن، الآية 9.

[4]. سورة الفتح، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

362

لطائف وإشارات

[1] وجه الاشتراك والافتراق بين التجارة البشريّة والإلهيّة

المعاملات التجاريّة المتعارفة بين البشر تشتمل على أربعة أركان: البائع، والمشتري، والمبيع، والثمن (أو البائع، والمشتري، والمثمّن، والثمن) وهذه الأركان الأربعة هي منفصلة عن بعضها ومتمايزة تماماً؛ لأنّ البائع يعرض سلعته للبيع، فيتملّكها المشتري بالثمن الذي يدفعه وفق شروط خاصّة، سواء أصاب البائع الربح من جرّاء المعاملة المذكورة أو كان مغبوناً فيها.

لكنّه في المعاملات المهمّة فإنّه مضافاً إلى الأركان السالفة الذكر هناك ركنان آخران: أحدهما السند (القَبالة) والآخر الشاهد. أمّا متاجرة الإنسان مع الله، والتي بُيّنت في القرآن الكريم، فهي تشترك مع المعاملات التجاريّة الشائعة والمتعارفة في وجه، وتتغاير معها في وجه آخر.

فوجه الاشتراك هو في اشتمالها على الأركان الستّة المذكورة. يقول عزّ من قائل في بيانه للأركان الستّة للتجارة الإلهيّة: ﴿إِنَّ ٱللهَ ٱشْتَرَىٰ‏ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ‏ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾[1]؛ فالمشتري في هذه التجارة هو الله سبحانه وتعالى، والبائع هو الإنسان المؤمن، ومورد المعاملة (السلعة) هو النفس الطاهرة والمال المُزكّى،


[1]. سورة التوبة، الآية 111.

تسنيم، جلد 2

363

والثمن هو الجنّة الأبديّة، والشهود هم أنبياء الله، أمّا القَبالة أو السند الرسميّ الموقَّع فهو كتبهم السماويّة، كالتوراة والإنجيل والقرآن الكريم.

أمّا وجه افتراق التعاملات الإلهيّة مع تلك البشريّة، فهو في أنّ التجارة مع الله لها درجات، وأنّه في بعض درجاتها، وعلى الرغم من توفّر الأركان الأربعة (البائع، والمشتري، والمبيع، والثمن)، يكون البائع عين المبيع، ويكون المشتري عين الثمن، وأنّ الفرق بينهم يكون بالاعتبار فقط (اتّحاد البائع مع المبيع، واتّحاد المشتري مع الثمن)؛ وذلك لأنّ البائع في هذه المعاملة يعطي حقيقته الوجوديّة، مقابل لقاء المشتري.

وتوضيح ذلك: إنّ الاختلاف بين البائع والسلعة (البائع والمبيع)، وكذلك التباين بين المشتري والقيمة (المشتري والثمن) يكون أحياناً حقيقيّاً؛ حيث إنّ البائع يبيع بضاعة خاصّة (هي غير وجوده)، وإنّ المشتري يشتري متاع البائع بدفع ثمن خاصّ (هو غير لقائه). إذن، فالمبيع والثمن هما غير وجود البائع ولقاء المشتري. إلاّ أنّ الاختلاف بين البائع والمبيع وبين المشتري والثمن يكون أحياناً اختلافاً اعتباريّاً؛ حيث إنّ البائع يعطي حقيقة وجوده، وأنّ المشتري ـ وبدلاً من دفع أيّ ثمن آخر ـ يجعل لقاءه من نصيب البائع، فيسمح له بملاقاته.

إنّ الله عزّ وجلّ هو ذلك المولى الذي يقول لعبده المملوك له: إنّ وجودك وكلّ ما لديك هو ملكي أنا، وإنّني أنا الذي أوَكّلك في بيع نفسك لي أو لأيّ أحد آخر (الشيطان، أو غيره). فإن بعتَ وجودك وكيانك لي، فستصبح حينذاك حرّاً، أمّا إذا بعته للأغيار، فستصير عبداً

تسنيم، جلد 2

364

مملوكاً لهم. فهنا يتّحد البائع مع بضاعته التي يبيعها، كما أنّه يتّحد المشتري مع الثمن الذي يجعله تحت تصرّف البائع؛ هذا وإنْ كان إدراك الوحدة والعينيّة بالنسبة للمشتري والثمن أمراً صعباً؛ إذ أنّ «لقاء الله» هو غير ذاته، إلاّ أنّ تحليل مقام الاشتراء يُظهر أنّ «اشتراء الله» هو أيضاً ليس وصفاً لذاته. من هذا المنطلق، إذا ما حُلِّلت مرحلة اشتراء الواجب تحليلاً دقيقاً، لأصبح معلوماً أنّه لا يفصلها عن مرحلة الثمن والقيمة فاصل كبير.

المؤمنون المتوسّطون يبيعون أنفسهم لله عزّ وجلّ كي يحصلوا على الجنّة في المقابل، إلاّ أنّ بعض أهل الإيمان لا يرضون في هذه المتاجرة بثمن أقلّ من لقاء الله، فمضافاً إلى ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ﴾[1] فإنّ هؤلاء طالبون لبلوغ جنّة لقاء الله أيضاً: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[2]، كي يكون حظّهم هو النظر إلى وجه الله، بوجوه ناضرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ‏ رَبهَِّا نَاظِرَةٌ﴾[3].

[2] عينيّة البائع والمبيع في الاتّجار مع الشيطان

إنّ عينيّة البائع والمبيع لا تختصّ بتجارة المرء مع الله، بل تتحقّق أيضاً في الاتّجار مع الشيطان. فالذي يبيع نفسه للشيطان، لا يعود مالكاً لنفسه وليس له مطلق التصرّف في شأنها، والله سبحانه وتعالى يعدّ هذه التجارة


[1]. سورة البقرة، الآية 25؛ وآل عمران، 195؛ والنساء، 13؛ وآيات أخرى عديدة.

[2]. سورة القمر، الآية 55.

[3]. سورة القيامة، الآيتان 22 و23.

تسنيم، جلد 2

365

من أسوأ أنواع المعاملات في قوله: ﴿بِئْسَمَا ٱشْتَرَواْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُواْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللهُ﴾[1]، وقوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾[2].

المنافقون في سوق الدنيا يبيعون ثروة فطرتهم وهدايتهم مقابل الضلالة. وإذا باع امرؤ رأس ماله الظاهريّ، فإنّ الباب يبقى مفتوحاً لجمع رأس مال آخر، لكون البائع هنا غير رأس المال. لكن إذا باع الإنسان نفسه، فلن يعود هناك سبيل للحصول على رأس مال جديد. من هنا فإنّ المنافقين والكفّار الذين باعوا أنفسهم للشيطان قد سدّوا في وجوههم كلّ طرق الكسب وجني الربح: ﴿فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم﴾؛ لأنّهم قد قطعوا سبيل الحصول على رأس مال جديد.

الشيطان، المشتري لحقائق الناس المنافقين والكفّار والمنحرفين، لن يسعى، بعد شراء من اشتراه وتملّكه وأسره، إلى المنّ عليه وتحريره من ربقته، بل إنّه، في الدنيا، يُبقي على الإنسان ـ الذي باع نفسه ـ تحت ولايته، وينطق دوماً بلسانه، وينظر بعينه: «اتّخَذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم‏»[3]، وفي الآخرة أيضاً يكون قريناً له: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ‏ِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ﴾[4]، وإنّ أمثال هؤلاء يكونون في عذاب من حشرهم مع الشيطان. إذن، فالذي يخسر


[1]. سورة البقرة، الآية 90.

[2]. سورة البقرة، الآية 102.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 7.

[4]. سورة الزخرف، الآية 38.

تسنيم، جلد 2

366

رأس مال وجوده لا يعود قابلاً للهداية: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾، وهذا جرّاء سوء اختياره هو.

إنّ التعبير القرآنيّ بخصوص المنافقين، الذين منحوا الهدى مستعيضين عنه بالضلالة، هو تعبير حقيقيّ وليس مجازيّاً؛ لأنّهم قد فرّطوا بفطرتهم التوحيديّة وطينتهم الأصيلة، فأدخلهم الشيطان، الكامن لكلّ تائه ومنحرف عن جادّة الفطرة وصراط الدين، تحت ولايته، وإذا كان بين العناوين المذكورة وبين البيع والشراء والربح والخسارة في البضائع التجاريّة الدنيويّة من تفاوت، فهو فقط بلحاظ المصداق، لا بلحاظ المفهوم الجامع لها.

[3] مكاسب التجارة مع الله

إنّ القرآن الكريم، شأنه شأن الكتب السماويّة السالفة، يدعوا الناس للاتّجار مع الله، ويوضّح بإسهاب ما تدرّه هذه التجارة من مكاسب شتّى؛ تبدأ من الغلبة على العدوّ في سوح الجهاد الأصغر، وتنتهي بلقاء الله، بالإضافة إلى فضائل جمّة في حلقاتها الوسطيّة نذكر منها كنموذج: غفران الذنوب، والنجاة من العذاب الإلهيّ الأليم، ونيل الخلود في الجنان.

وبالرغم من أنّ كافّة المزايا المذكورة هي من مغانم اتّجار الإنسان مع الله، فإنّ هناك تبايناً كبيراً بينها؛ إذ أنّ من أبسط ثمار الاتّجار مع الله هو النصر على الأعداء، ولمّا كانت هذه الثمرة غير قابلة للقياس مع المعطيات الأخرى، نرى أنّ القرآن الكريم، وبعد بيانه للتجارة المعنويّة، لا يبيّن حقيقة هذه الثمرة إلاّ من خلال تغيير السياق وفي آية مستقلّة

تسنيم، جلد 2

367

وذلك عندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ‏ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ... وَأُخْرَىٰ‏ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ ٱللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾[1].

من المكاسب الأخرى للتجارة الإلهيّة هي غفران الذنوب: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾، ومن ثمّ دخول الجنّة: ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾[2]، أمّا السرّ في أنّ الكلام عن غفران الذنوب، في مقام بيان ثمار التجارة مع الله، يأتي قبل الكلام عن دخول الجنّة، فهو أنّ الجنّة هي «دار السلام»، وأنّه ما لم يُصِب الإنسان السلامة التامّة فإنّه لن يحظى بوصال دار السلام.

فالله سبحانه وتعالى يقوم في البدء بغفران معاصي المذنبين والعاصين، ويغسل عنهم الأدران، ومن ثمّ يُدخلهم في جنّة عَدْن[3].

ومع أنّ الله جلّ شأنه يبشّر المؤمنين بالنصر على الأعداء، وغفران الذنوب، ودخول جنّة عَدْن، والسكنى في مساكن طيّبة، إلاّ أنّ أيّاً من هذه الأمور ليس هو الثمرة النهائيّة لهذه التجارة الوافرة الربح، وإنّ الثمرة الأفضل والأسمى للاتّجار مع الله هي بلوغ «جنّة اللقاء»، وملاقاة الله جلّ وعلا.

وتوضيح ذلك: في تراثنا الدينيّ تُعرّف الجنّة أحياناً على أنّها هي الهدف والغاية لسير الإنسان وسفره نحو الله؛ كما جاء على لسان أمير المؤمنين(ص): «ألا حرٌّ يَدَع هذه اللُّماظَة لأهلها؟ إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ


[1]. سورة الصفّ، الآيات 10 ـ 13.

[2]. سورة الصفّ، الآية 12.

[3]. العَدْن هو «القرار»، وقد وُصفت الجنّة بالعَدْن لكونها المقرّ الأبديّ للمؤمنين. كما أنّ «المعدن» سُمّي بهذا الاسم لكونه مقرّاً لمواد معيّنة.

تسنيم، جلد 2

368

الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها»[1]؛ فالذين يبيعون أنفسهم بمظاهر الدنيا الخدّاعة هم ـ في الحقيقة ـ عبيد باعوا أنفسهم ﺑ «لماظة»؛ واللماظة هي جزيئات الطعام العالقة بين الأسنان؛ ذلك لأنّ متاع الدنيا ـ من جهة كونه دنيويّاً ـ لم يصل من نشأة الغيب إلى عالم الشهادة طازجاً، بل إنّه بقايا لذّات الأقدمين التي خلّفوها تذكاراً للأجيال اللاحقة، وإنّ الإنسان الذي قيمته توازي الجنّة لا ينبغي أن يبيع نفسه بأقلّ من الجنّة، كاللماظة، وإلاّ لصار في عداد أهل الخسران. وهنا، ليس المقصود في هذا الكلام الرفيع لأمير المؤمنين(ص)، أن لا يُحرق الإنسان نفسه بنار جهنّم؛ لأنّ الذين لا يحترقون بنار جهنّم كثيرون؛ كالأطفال، والمجانين، والكفّار المستضعفين الذين لم تتوفّر لديهم فرص البحث والتحقيق، بل المراد هو أن لا يقنع المرء بأقلّ من الجنّة أبداً.

وأحياناً أخرى تُطرح مسألة نيل الجنّة في المعارف الدينيّة كهدف متوسّط لسلوك الإنسان؛ وعلّة ذلك هي أنّ الجنّة ثمن يكون في مقابل بدن الإنسان. لذا فإنّ قيمة روح الإنسان هي أعلى من الجنّة: «أما إنّ أبدانكم ليس لها ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها»[2]؛ فإنّ قيمة بدن الإنسان، في ظلّ تربية الروح، لا تقلّ عن الجنّة، ولا ينبغي للبشر أن يبيعوا أنفسهم بأقلّ من ذلك. أمّا قيمة روح الإنسان فهي أعلى من الجنّة، ولابدّ لها أن تشقّ طريقها نحو لقاء الله جلّ وعلا.

هذان التعبيران يقبلان الجمع من باب الإطلاق والتقييد؛ لأنّ كلام


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 456.

[2]. الكافي، ج1، ص19.

تسنيم، جلد 2

369

أمير المؤمنين(ص) في التعبير الأوّل، في أنّ ثمن الإنسان الجنّة، جاء مطلقاً ومُجملاً، أمّا في التعبير الثاني، الذي هو من كلام الإمام الكاظم(ص)، فقد قيّد إطلاق الأوّل ليقول إنّ ما قيمته توازي قيمة الجنّة إنّما هو بدن الإنسان، أمّا روحه فثمنها أغلى من الجنّة.

يقول النبيّ(ص) لعليّ(ص): «الجنّة تشتاق إليك، وإلى عمّار، وسلمان، وأبي ذرّ والمقداد»[1]. هذا الحديث النبويّ يؤيّد هذه الحقيقة أيضاً؛ وذلك لأنّه إذا كانت الجنّة مشتاقة للقاء أولياء الله فإنّ أرواحهم هي أسمى من لقاء الجنّة، ولابدّ لها من بلوغ لقاء الله خالق الجنّة: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[2]. بالطبع إنّ لقاء مظاهر الفيض الخاصّ والرحمة الخاصّة في القيامة يعدّ بحدّ ذاته لقاءً لله، إلاّ أنّ عنوان «لقاء الله» من دون قرينة يكون ناظراً إلى مشاهدة الجمال الإلهيّ بما يتناسب مع وجود السالك الصالح.

[4] بذل المال والنفس في الجهاد المقدّس

إنّ الذي يبيع نفسه وماله لله، لن يعود مالكاً لهما بعد عمليّة البيع والبَيْعة، وهو لا يمتلك حينها حقّ التصرّف بهما إلاّ بإذن من الله عزّ وجلّ؛ لأنّ التصرّف بالمتاع الذي تمّ بيعه من دون إذن مالكه يُصنّف على أنّه غصب. كما وإنّ من أهمّ مواطن بذل المال والنفس هي جبهات القتال بين الحقّ والباطل: ﴿إِنَّ ٱللهَ ٱشْتَرَىٰ‏ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي


[1]. عيون أخبار الرضا، ج2 ، ص72؛ وبحار الأنوار، ج40، ص27.

[2]. سورة القمر، الآية 55.

تسنيم، جلد 2

370

ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ...﴾[1]، وإنّ لزوم القتال والدفاع عن حريم الدين والله، ليس هو كلام القرآن الكريم فقط، بل هو كلام جميع الأنبياء وكتبهم السماويّة. إنّ الله سبحانه وتعالى يبشّر أولئك الذين تعاملوا معه بمثل هذه المعاملة بأنّهم قد أعطوا متاعاً زائلاً، وأخذوا مقابله متاعاً أبديّاً وخالداً، وأنّ الله تعالى سيفي بعهده قطعاً، لأنّه لا أحد يماثله في وفائه بالعهد: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ‏ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾[2].

[5] نموذج من بيع الروح وشراء الرضوان

إنّ التضحية العظيمة التي قام بها أمير المؤمنين(ص) في «ليلة المبيت» عندما ضحّى بوجوده، ووطّن نفسه على استقبال ضربات السيوف التي ستنهال عليه من رجال أربعين قبيلة من قبائل الحجاز[3]، كان أروع أنموذج لبيع النفس ابتغاء نيل الرضوان ولقاء الله، وإنّه من هذا المنطلق نزلت الآية الكريمة: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ٱللهِ ...﴾[4] في حقّه(ص). في هذه المعاملة باع الإمام(ص) روحه الشريفة بثمن لقاء رحمة الله ورضوانه، ولمّا كانت هذه التضحية هي من أفضل عباداته(ص)، وهو نفسه يقول في عبادته: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»[5]، فإنّ الله سبحانه


[1]. سورة التوبة، الآية 111.

[2]. سورة التوبة، الآية 111.

[3]. راجع تفسير القمّي، ج1، ص273 ـ 274.

[4]. سورة البقرة، الآية 207.

[5]. عوالي اللآلي، ج1، ص20.

تسنيم، جلد 2

371

وتعالى عندما يتحدّث عنها لا يتطرّق إطلاقاً إلى نيل الجنّة أو النجاة من النار، بل يعتبر أنّ الهدف منها هو «ابتغاء مرضاة الله».

[6] المعبَد سوق للاتّجار مع الله

إنّ معظم التعابير التي استخدمها القرآن الكريم في الإشارة إلى تجارة الناس المعنويّة مع الله عزّ وجلّ هي البيع، والشراء، والاشتراء، ولعلّ استعمال كلمة «بِيَع» في التعبير عن معابد الرهبان، في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾[1]، ناظر إلى هذا المعنى كذلك. فدُور العبادة هي أسواق يبيع فيها الناس أرواحهم وأموالهم ليشتروا بها لقاء ربّهم، ولولا أنّ هناك قانوناً للدفاع من أجل الوقوف بوجه تعدّي المعتدين لبادر هؤلاء، من خلال تخريب دُور العبادة، إلى استعباد الناس وإخضاعهم؛ وذلك لأنّ المكان الوحيد الذي يحول دون خنوع الناس وخضوعهم للاستعباد والتسلّط هو مركز العبادة.

فإن لم يُصَدّ ويجابَه تعدّي المعتدين، فلن تبقى «صومعة» كي يتفرّغ فيها الراهب المنزوي لرهبانيّته، ولن تظلّ «بيعة» كي يبايع الرهبان فيها الله ويتعاقدون معه.

[7] ثروات الإنسان العلميّة

سبقت الإشارة في البحث التفسيريّ إلى أنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان


[1]. سورة الحجّ، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

372

برؤوس أموال علميّة وعمليّة. فأمّا رؤوس الأموال العلميّة فهي تنقسم إلى قسمين: العلم الحصوليّ والعلم الحضوريّ. فالعلم الحصوليّ هو ذلك العلم الاكتسابيّ الذي يُكتسَب عن طريق أجهزة الإدراك؛ كالعين، والأذن، وباقي الحواسّ الإدراكيّة، بإمامة وقيادة العقل، ولا يمتلك الإنسان عند ولادته إلاّ الأدوات والوسائل لاكتسابه: ﴿وَٱللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1]. أمّا فيما يتعلّق بالعلم الحضوريّ والشهوديّ، فإنّ الله قد خلق الإنسان بثروة نفيسة، ألا وهي تسوية النفس الآدميّة، وإلهامها الفجور والتقوى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[2].

فتسوية بدن ابن آدم تكون بامتلاكه أعضاء من قبيل العين، والأذن، والفم، وما شابه ذلك، وإنّ فقدان أيّ عضو من تلك الأعضاء يصيّره إنساناً معيباً، أمّا تسوية روح الإنسان ونفسه فتكون من خلال اطّلاعه على فجوره وتقواه ومعرفته بهما. والعلم الحضوريّ لا يشبه العلم الحصوليّ، إذ ليس هو وصفاً لروح الإنسان بحيث أنّه ممتاز ومنفصل عنها وأنّ إنسانيّة الإنسان تبقى على حالها مع فقدانه، بل إنّ له دخلاً ودوراً في نظام خلقة الإنسان، بحيث أنّ المرء في حال فقدانه لثروة علمه الحضوريّ يكون قد دفن فطرته في مقبرة أهوائه، فلا يعود ينعم بنعمة الروح والنفس الإنسانيّتين، ولا يصدق عليه المعنى الصحيح للإنسانيّة.


[1]. سورة النحل، الآية 78.

[2]. سورة الشمس، الآيتان 7 و8 .

تسنيم، جلد 2

373

[8] المراد من بيع الهدى وشراء الضلالة

ما يُفهَم من ظاهر الآية محطّ البحث هو أنّ المنافقين قد باعوا الهداية وقبضوا الضلالة ثمناً لها، والحال أنّهم لم يكونوا مالكين للهداية (المبيع) ولا فاقدين للضلالة (الثمن) أصلاً كي يبدّلوا الواحدة بالأخرى.

في تصحيح هذا البيع والشراء ذُكِرت وجوه؛ منها أنّ المراد من شراء الضلالة هو انتخابها واختيارها دون الهداية، على الرغم من أنّ ضلالتهم كانت منذ عهد ما قبل بعثة الرسول الأكرم(ص) واستمرّت إلى ما بعدها. أو إنّهم باعوا الهداية الفطريّة التي وُلِدوا عليها واشتروا الضلالة العارضة، وما إلى ذلك من وجوه تصحيح إطلاق عنوان الاشتراء.

[9] معنى عدم اهتداء المنافقين

إذا كانت جملة ﴿وَمَا كَانُوا مُهتَدِين﴾، الواردة في ذيل آية الاشتراء، ناظرة إلى نفي أصل الهداية، يكون الاشتراء بمعنى «الانتخاب» و«الاستحباب»؛ نظير قوله تعالى: ﴿فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَى‏ٰ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ﴾[1]. أمّا إذا كانت ناظرة إلى نفي الهداية بخصوص قضيّة الاشتراء المذكور؛ بمعنى أنّهم لم يسلكوا السبيل الصواب في عمليّة البيع والشراء الحاليّة، ولم يكونوا من المهتدين فيها، لأمكننا تفسير الاشتراء بمعنى الشراء المتعارف؛ ذلك أنّهم كانوا متمتّعين بالهداية الفطريّة، فاستبدلوا بها الضلالة؛ وإن كانوا في عمليّة الاستبدال هذه ضالّين، غير مهتدين.


[1]. سورة فصّلت، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

374

البحث الروائيّ

[1] مقارنة التجارة المعنويّة بالمقايضة المادّية

ـ قال الإمام العالم موسى بن جعفر ‘: «﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ ٱشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدىٰ﴾؛ باعوا دين الله، واعتاضوا منه الكفر بالله ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾؛ أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة، لأنّهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنّة التي كانت مُعدَّة لهم لو آمنوا ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى الحقّ والصواب.

فلمّا أنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية حضر رسول الله(ص) قوم، فقالوا: يا رسول الله سبحان الرازق، ألم تر فلاناً كان يسير البضاعة، خفيف ذات اليد، خرج مع قوم يخدمهم في البحر فرَعَوا له حقّ خدمته، وحملوه معهم إلى الصين وعيّنوا له يسيراً من مالهم، قسّطوه على أنفسهم له، وجمعوه فاشتروا له [به‏] بضاعة من هناك، فسلمت فربح الواحد عشرة، فهو اليوم من مياسير أهل المدينة؟

وقال قوم آخرون بحضرة رسول الله(ص): يا رسول الله ألم تر فلاناً كانت حسنةً حاله، كثيرةً أمواله، جميلةً أسبابه، وافرةً خيراته، مجتمِعاً شمله، أبى إلاّ طلب الأموال الجمّة، فحمله الحرص على أن تهوّر، فركب البحر في وقت هيجانه، والسفينة غير وثيقة، والملاّحون غير فارهين، إلى أن توسّط البحر حتّى لعبت بسفينته ريح [عاصف‏] فأزعجتْها إلى الشاطئ، وفتقتها في ليل مظلم، وذهبت أمواله، وسلم بحشاشة نفسه فقيراً وقيراً ينظر إلى الدنيا حسرة؟

تسنيم، جلد 2

375

فقال رسول الله(ص): «ألا اُخبركم بأحسن من الأوّل حالاً، وبأسوأ من الثاني حالاً؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال رسول الله(ص): «أمّا أحسن من الأوّل حالاً فرجل اعتقد صدقاً بمحمّد [رسول الله‏]، وصدقاً في إعظام عليّ أخي رسول الله ووليّه، وثمرة قلبه، ومحض طاعته، فشكر له ربّه ونبيّه ووصيُّ نبيّه، فجمع الله تعالى له بذلك خير الدنيا والآخرة، ورزقه لساناً لآلاء الله تعالى ذاكراً، وقلباً لنعمائه شاكراً، وبأحكامه راضياً، وعلى احتمال مكاره أعداء محمّد وآله نفسه موطّناً. لا جرم أنّ الله عزّ وجلّ سمّاه عظيماً في ملكوت أرضه وسماواته، وحباه‏ برضوانه وكراماته، فكانت تجارة هذا أربح، وغنيمته أكثر وأعظم.

وأمّا أسوأ من الثاني حالاً فرجل أعطى أخا محمّد رسول الله بيعته، وأظهر له موافقته، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ثمّ نكث بعد ذلك وخالف ووالى عليه أعداءه، فختم له بسوء أعماله، فصار إلى عذاب لا يبيد ولا ينفد، قد ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾[1]».

ثمّ قال رسول الله(ص): «معاشر عباد الله! عليكم بخدمة من أكرمه الله بالارتضاء، واجتباه بالاصطفاء، وجعله أفضل أهل الأرض والسماء بعد محمّد سيّد الأنبياء عليّ بن أبي طالب(ص)، وبموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وقضاء حقوق إخوانكم الذين هم في موالاته، ومعاداة أعدائه شركاؤكم، فإنّ رعاية عليّ أحسن من رعاية هؤلاء التجّار الخارجين بصاحبكم ـ الذي ذكرتموه ـ إلى الصين، الذين عرّضوه للغناء وأعانوه بالثراء»»[2].


[1]. سورة الحجّ، الآية 11.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص110 ـ 112؛ وبحار الأنوار، ج65، ص106.

تسنيم، جلد 2

376

إشارة: لمّا كانت الدنيا متاعاً قليلاً بالنسبة للآخرة، وأنّ الآخرة خير منها: ﴿قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ﴾[1]، فإنّ التجارة الأخرويّة وربحها خير من التجارة الدنيويّة وغنيمتها؛ كما أنّ خسارة التجارة الأخرويّة أشدّ وأفدح من تلك الخسارة الدنيويّة: ﴿قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ﴾[2]. وبما أنّ الله عزّ وجلّ هو خيرٌ مطلق وليس خيراً نسبيّاً، فإن كانت التجارة من أجل لقائه فإنّ ربحها لا يعادله شيء، وما من مكسب يساوي لقاء الله: ﴿وَٱللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾[3]؛ بمعنى، أنّه وإن كانت الآخرة وجنّتها خيراً، إلاّ أنّ لقاء الله خير مطلق، وبقاء محض، ولمّا كانت التجارة مع الله هي عبارة عن قبول دينه التامّ الكامل، وأنّ كمال دينه وتمام نعمته هما في ظلّ الرسالة والولاية، فقد طُرحت إمامة عليّ بن أبي طالب(ص) جنباً إلى جنب معها.

[2] التجارة المعنويّة في كلام أمير المؤمنين(

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «إنّ الدنيا دار صِدق لمن صدَقَها ... مسجد أحبّاء الله، ومُصلَّى ملائكة الله، ومهبِط وحي الله، ومتْجَر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة»[4].

إشارة: هذا الكلام قاله أمير المؤمنين(ص) ردّاً على رجل كان يذمّ


[1]. سورة النساء، الآية 77.

[2]. سورة الزمر، الآية 15.

[3]. سورة طٰه، الآية 73.

[4]. نهج البلاغة، الحكمة 131.

تسنيم، جلد 2

377

الدنيا. فالدنيا التي تُرينا بكلّ صدق ووضوح مجيء المُلْك وزواله، والسلامة والآلام، والطهارة والقذارة، والولادة والموت، ولا تكتم عنّا أيّاً من الحوادث المرّة، هي دار صدق.

ـ «... وفرض عليكم حجّ بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام... واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته... يُحرِزون الأرباح في مَتْجَر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته»[1].

إشارة: على الرغم من أنّ كلّ عبادة هي تجارة مع الله بحسب حدودها ومستواها، إلاّ أنّ لكلّ منها ميزةً سنتحدّث عنها في الوقت المناسب. فمناسك الحجّ، التي من أركانها المهمّة الطواف حول البيت العتيق، الحرّ، الطاهر، المطهَّر، هي تجارة مربحة ثمرتها الانعتاق من مساوئ الذنب والتطهّر من لوث المعصية وروثها. لذا فإنّ لها ـ من هذه الناحية ـ سهماً وافراً في إحراز الربح التجاريّ.

ـ «صبروا أيّاماً قصيرةً أعقبَتهم راحةً طويلةً، تجارة مُربحة يسَّرَها لهم ربّهم‏»[2].

ـ «ولبئس المَتجَر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وممّا لك عند الله عوضاً»[3].

ـ «واعلموا عباد الله أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة... ثمّ انقلبوا عنها بالزاد المُبَلِّغ والمتجر الرابح‏»[4].


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 50 ـ 52.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 193.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 32.

[4]. نهج البلاغة، الرسالة 27.

تسنيم، جلد 2

378

ـ «ورهينة الأيّام، ورَمِيَّة المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور»[1].

ـ «من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر»[2].

إشارة: إنّ من يغفل عن نفسه فإنّ الشيطان لا يغفل عنه. إذن يتعيّن على المرء أن يكون محاسباً لنفسه، وأن ينتفع من رأس ماله على أحسن وجه.

ـ «ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كالثواب‏»[3].

ـ «وما أخسَرَ المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار»[4].

إشارة: في طريق أمير المؤمنين(ص) إلى الشام، التقى بجماعة من أهالي مدينة «الأنبار»، فترجّلوا له واشتدّوا بين يديه، فقال: «ما هذا الذي صنعتموه؟» فقالوا: خُلُق منّا نعظّم به أمراءنا، فقال: «والله ما ينتفع بهذا اُمراؤكم، وإنّكم لتشُقّون على أنفسكم في دنياكم، وتشْقَون به في آخرتكم، وما أخسرَ المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدَعَة معها الأمان من النار».

ـ «الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ والناس فيها رَجُلان: رجل باع فيها نفسه فأوبَقَها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها»[5].

إشارة: في ممرّ الدنيا يبيع بعض الناس أنفسهم فيهلكون، ويشتري البعض الآخر أنفسهم فيُعتقون. المراد من بيع النفس في كلام أمير المؤمنين(ص) هو بيعها للشيطان، الأمر الذي يجعل البائع، بعد هذه


[1]. نهج البلاغة، الرسالة 31.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 208.

[3]. نهج البلاغة، الحكمة 113.

[4]. نهج البلاغة، الحكمة 37.

[5]. نهج البلاغة، الحكمة 133.

تسنيم، جلد 2

379

المعاملة، عبداً مملوكاً للشيطان. أمّا المراد من شراء النفس وإعتاقها فهو أنّ الإنسان، ومن خلال إيمانه وعمله الصالح، يوقّع سند حريّته وعتقه.

من وجهة النظر الفقهيّة فإنّ الإنسان لا يمتلك نفسه. إذن، بمجرّد أن يشتري الإنسان نفسه فهو يصبح معتوقاً؛ كما هو حال العبد المُكاتَب، فإن اشترى نفسه من مولاه، يصبح معتوقاً بمجرّد تحقّق الشراء.

إنّ الأنبياء والأئمّة(ع)، الذين يسعون إلى تحرير الإنسان من قيود أيّ رقّ أو عبوديّة لغير الله، من خلال تعليمه معارف من قبيل: «عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ»[1]، وتبيين تعاليم مثل: «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً»[2]، هم في الحقيقة مَوالٍ للإنسان؛ ذلك لأنّ: «مولاك هو من يحرّرك»[3]، وإنّ أمير المؤمنين(ص) عندما يتحدّث عن إحسانه إلى الناس ويقول لهم: إنّه قد حرّرهم من قيود كلّ ذلّ، وحلقات سلسلة كلّ عبوديّة وظلم وذلك بقوله: «ولقد أحسنتُ جواركم، وأحطتُ بجُهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق الذلّ وحلَق الضيم‏»[4]، فهو لا يتحدّث عن إصلاح الوضع الماليّ للناس ورفاهيّتهم؛ لأنّه إن لم يكن الكفّار سبّاقين للمسلمين في هذه الأمور الفرعيّة فإنّهم على الأقلّ في مستواهم، بل إنّه يقول: لأنّني قد أعتقتكم من عبوديّة الشيطان الظاهريّ والباطنيّ، فإنّ لي حقّ المولويّة عليكم.


[1]. شرح غرر الحكم، ج4، ص352.

[2]. نهج البلاغة، الرسالة 31، المقطع 87 ؛ وبحار الأنوار، ج100، ص39.

[3]. ديوان «مثنوي معنوي» للشاعر الإيرانيّ جلال الدين مولويّ، ص1082، الدفتر السادس، رقم بيت الشعر 4540، في إشارة إلى شطر بيت يقول: «كيست مولا آنكه آزادت كند» (وهو باللغة الفارسيّة).

[4]. نهج البلاغة، الخطبة 159.

تسنيم، جلد 2

380

استناداً إلى هذا الكلام تتوضّح كيفيّة حصول المجتمعات البشريّة على الحرّية، كما يتّضح الفارق بين الحرّية والانفلات؛ ذلك أنّ الإنسان الحرّ هو تحت ولاية الله، أمّا الناس المنفلتون فهم تحت ولاية الشيطان، وبين هاتين الولايتين فوارق جمّة.

تسنيم، جلد 2

381

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمُّم بُُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لايَرْجِعُونَ (18)

خلاصة التفسير

الإنسان هو مسافر ومتّجه إلى لقاء الحقّ، وهو بحاجة إلى نور لينير له دربه حتّى يتشرّف، في نهاية المطاف، بلقاء عطف الحقّ وجماله. لكنّ المنافق، الذي لا نور له من ذاته، ولا هو منتفع بنور الله، فهو يعيش دوماً في ظلمة، وإنّ مَثَله في ذلك كمَثَل الذي يوقد ناراً في ظلمات متراكمة كي يضيء ما حوله، لكنّ الله يطفئها بريح عاتية ليذره في الظلام. أمّا السرّ في أنّ الله يمنح المنافقين الفرصة لأن يوقدوا النار ثمّ يعمد إلى إطفائها فهو أنّ العذاب الناجم عن البقاء في منتصف الطريق أشدّ، والتحيُّر الناتج عنه أكبر.

تسنيم، جلد 2

382

والمنافقون الذين خسروا الثروات العظيمة المتمثّلة بالسعادة العلميّة والعمليّة (القوى الإدراكيّة والتحريكيّة السليمة) هم صُمّ، وبُكم، وعُمي، وما من سبيل أمامهم للعودة إلى فطرتهم الأصيلة؛ لأنّه ما من رجعة في درب النفاق والكفر، وهو يؤدّي بالشخص إلى الهلاك الأبديّ. كما أنّ القرآن الكريم يعتبر المنافقين شرّ الدوابّ على وجه الأرض.

التفسير

«ظلماتٍ»: التنوين في كلمة «ظلماتٍ» هو للتنكير وللإشارة إلى كثافة الظلمات وتراكمها. وقد اُشير إلى نفس هذا المعنى في موضع آخر باستخدام هذا التعبير: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾[1].

«بنورهم»: الباء في «بنورهم» هي للتعدية. فالفعل اللازم (مثل ذهب) يتعدّى أحياناً بهمزة باب الإفعال (أذهبه)، وأحياناً بحرف الجرّ (ذهب به)، وفي التعدية بحرف الجرّ تأكيد أكثر؛ لأنّه يفيد المباشرة، أمّا التعدية بهمزة باب الإفعال فهي تنسجم أيضاً مع الوساطة. بناءً عليه، فجملة ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم﴾ هي بمعنى أنّ نورهم هو في قبضة قدرة الله عزّ وجلّ، وأنّه تعالى يطفئه متى شاء. أمّا التعبير «أذهَبَ» فلا يفيد مثل هذه الالتفاتة اللطيفة.

بعد تبيين الله لمحروميّة المنافقين من نور معرفة القرآن، يعطي الله سبحانه وتعالى مَثَلين كي تتجلّى صورة المُمثَّل بشكل أفضل؛ المثل


[1]. سورة النور، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

383

الأوّل، الذي جاء في الآيتين محلّ البحث، هو حول رؤية المنافقين ونظرتهم، والثاني، الذي جاء في الآيتين التاليتين لهما (19 و20)، هو في مجال سلوكهم وتصرّفهم، ومن الممكن تطبيق أيّ واحد من هذين المثلين على جماعة معيّنة أو برهة من تاريخ جماعة خاصّة.

حياة المنافقين الفاقدة للنور

الإنسان في عالم الطبيعة هو مسافر متّجه إلى لقاء عطف الله أو قهره، وإذا كان سيره وسفره هذا من دون نور يضيء له دربه، فلن ينتهي به سفره إلى الجمال والعطف الإلهيّين، وإنّ المنافق، الذي هو كافر في الباطن، ليس له نور من ذاته كي يستطيع به طيّ طريق عطف الله ورأفته، ولا هو منتفع من النور الإلهيّ، الذي هو ﴿نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ﴾[1]، وليس له مصدر آخر لتأمين النور: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ ٱللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾[2]. إذن، فهو يعيش في ظلمات، وإذا ما هيّأ نوراً ليضيء به دربه أطفأه الله على الفور، فهو متحيّر باستمرار.

إنّ مَثَل المنافقين كمثل الذي أوقد ناراً ليضيء بنورها ما حوله، بَيْد أنّ الله يطفئها ويسلبه فرصة السير في الطريق. فالله عزّ وجلّ يطفئ النار التي أوقدها المنافقون، ويكِلُهم إلى أنفسهم في ظلمات حالكة. إلاّ أنّ إيكال المنافقين لأنفسهم لا يعني خروجهم من دائرة ربوبيّة الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ خروج الموجود الإمكانيّ من ربوبيّة الله هو بمعنى ترك


[1]. سورة النور، الآية 35.

[2]. سورة النور، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

384

الإمكان، والالتحاق بالوجوب. والحال أنّه محال أن يتجرّد موجود، هو عين الفقر والربط المحض، من ثوب الإمكان ويرتدي جلباب الوجوب.

من هذا المنطلق كذلك، فإنّه ليس المراد من الدعاء المبارك للنبيّ الأعظم(ص): «اللهمّ ولا تكِلني إلى نفسي طرفة عين أبداً»[1]، أو الدعاء: «ولا تكِلنا إلى غيرك، ولا تمنعنا من خيرك»[2] أنّ هناك في عالم الوجود سنداً ومعتمداً غير الله عزّ وجلّ، بل هو بمعنى أنّه: إلهي! لا تحرمنا من لطفك ورحمتك الخاصَّين، لأنّك إن تركتنا وغرائزنا، ولم تُفتِّح عقولنا وفطرتنا بالوحي فإنّنا ساقطون لا محالة.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ المراد من ترك المنافقين في الظلمات: ﴿تَرَكَهُم فِي ...﴾ هو حرمانهم من الفيض الإلهيّ الخاصّ، كما أنّ الآية الشريفة: ﴿نَسُواْ ٱللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ﴾[3] هي بمعنى أنّ الله يحرم المنافقين من لطفه الخاصّ حتّى كأنّهم قد اُلقوا في زاوية النسيان، وليس بمعنى أنّ الله سبحانه ينسى؛ ذلك لأنّه تعالى عِلم محض، ولا سبيل للنسيان إلى حريمه الطاهر: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾[4]. بالطبع إنّ العلم المحيط المطلق لله في مثل هذه الحالات من الترك هو محفوظٌ أيضاً. إنّ جملة ﴿وَتَرَكَهُم فِي ظُلُماتٍ لاَ يُبصِرُون﴾[5] هي


[1]. تفسير القمّي، ج2، ص49؛ وبحار الأنوار، ج14، ص384.

[2]. إقبال الأعمال، ص146؛ وبحار الأنوار، ج95، ص393.

[3]. سورة التوبة، الآية 67.

[4]. سورة مريم، الآية 64.

[5]. سورة البقرة، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

385

منسجمة مع جملة ﴿وَيَمُدُّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُون﴾[1] في الآيات السابقة ومؤيّدة لها، وهي تُظهِر أنّ النسيان الإلهيّ هو بمعنى الترك العمديّ والاختياريّ، وليس بمعنى السهو القهريّ.

تمثيل حدث بحدث آخر في القرآن

في الأمثلة التي يعطيها القرآن الكريم لتبيين أفعال المنافقين والكفّار، يشبّه تارة المفرد بالمفرد؛ كتشبيه المُرائي بصخرة ملساء عليها طبقة من التراب فما إن ينهمل عليها وابل من المطر حتّى يغسلها بلحظات: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ‏ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ ٱلنَّاسِ... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ...﴾[2].

وتارة أخرى يشبّه القرآن الجمعَ بالجمع؛ كتشبيهه المعرضين عن التذكرة بالحُمُر الفارّة من الأسد: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾[3]. وتارة ثالثة يشبّه الجمع بالمفرد؛ كتشبيه المنحرفين من أهل الكتاب بالحمار الذي يحمل مجموعةً من الكتب من دون أن ينتفع منها: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾[4]، أو تشبيه نظرات مرضى القلوب الفارّين من جبهة الدفاع عن الحقّ ودفع الباطل بنظرة المحتضِر: ﴿رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ


[1]. سورة البقرة، الآية 15.

[2]. سورة البقرة، الآية 264.

[3]. سورة المدّثر، الآيات 49 ـ 51.

[4]. سورة الجمعة، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

386

فِي قُلُوبِهِِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ﴾[1]، وكذلك الآية محلّ البحث: ﴿مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي ...﴾.

والمراد في جميع هذه الأقسام هو تمثيل أوصاف الكفّار والمنافقين بالأوصاف الواردة في الأمثلة المذكورة؛ أي، هو تشبيه حدث بحدث آخر، وليس الكلام في الإفراد والجمع كي يستدعي التكلّف الأدبيّ، ويُقال ـ مثلاً ـ : بأنّه في الموارد التي يشبّه فيها الجمع بالمفرد، تكون «الذي» بمعنى «الذين»، نظير: ﴿وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ﴾[2]، أو أنّ كلمة «الحمار» هي بمعنى الجنس لا المفرد.

من هنا، فإنّ الضمائر الراجعة إلى مراجعها تأتي أحياناً مفردة؛ كما في الضمير «هو» في «استوقد» حيث أنّ فاعل الفعل مفرد، وأحياناً أخرى تأتي جمعاً؛ كما في «بنورهم»، و«ترَكَهم»، و«لا يُبصرون» حيث إنّ الضمائر والأفعال أتت بالجمع بلحاظ المعنى. وعلى هذا الأساس، أي عند تمثيل حدث بحدث في القرآن الكريم، فإنّه لم يراعَ الانسجام بين المَثَل والمُمثَّل من حيث الإفراد والجمع، بل روعي التفنُّن في التمثيل عوضاً عنه.

وحصيلة ذلك، إنّه في هذه الأمثلة يجري تشبيه قصّة وحدث معيّنين بقصّة وحدث آخرين، وليس الكلام عن شخص معيّن أو أشخاص معيّنين كي يُعتبَر فيها التطابق بين المشبَّه والمشبَّه به أو بين المَثَل والمُمثَّل من حيث الإفراد والجمع.


[1]. سورة محمّد(، الآية 20.

[2]. سورة التوبة، الآية 69.

تسنيم، جلد 2

387

حرمان المنافقين من نور الهداية التكوينيّة

لقد جعل الله سبحانه وتعالى، وهو نور السماوات والأرض، كلَّ موجود متمتّعاً بنور الوجود، الذي هو نور عامّ شامل: ﴿ٱللهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾[1]. فوجود كلّ موجود، وكلّ ما أوتي من ثروات وجوديّة، هو شعاع من هذا النور التكوينيّ، والمنافقون أيضاً لهم حظّ من نور الوجود هذا. لكنّ الحديث في آخر هذه الآية ذاتها يدور حول نور هو غير متاح للجميع: ﴿يَهْدِي ٱللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾[2].

هذا النور هو غير نور أصل الوجود الذي يستضيء به الجميع، إنّه نور التوفيق والإيمان الذي يخصّص لبعض الناس. بالطبع إنّ النور الإلهيّ العامّ يرسل أشعّته إلى عالم الوجود قاطبة: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللهِ﴾[3]، لكنّ مواضع سطوع النور الإلهيّ الخاصّ هي دور العبادة وبيوت أهل البيت(ع) حيث أعطى الله عزّ وجلّ الإذن التكوينيّ والتشريعيّ لأنْ تكون هذه الدور والمعابد والبيوت رفيعة وسامية: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ﴾[4]، وكلّ من وطأت قدمه تلك المعابد أو البيوت فسوف يضع نفسه في مهبط سطوع هذا النور التكوينيّ الخاصّ، أمّا المنافق، الذي صار أجنبيّاً وبعيداً عن مراكز العبادة وكذلك عن بيوت أهل البيت(ع)، فهو محروم من هذا النور


[1]. سورة النور، الآية 35.

[2]. سورة النور، الآية 35.

[3]. سورة البقرة، الآية 115.

[4]. سورة النور، الآية 36.

تسنيم، جلد 2

388

الذي هو الفيض الإلهيّ الخاصّ، وبسبب حرمانه هذا فهو يعيش في ظلمة متراكمة.

فالمسافر الذي أضاع الطريق والذي يجلس في ليل داج منتظراً برقاً خاطفاً كي يواصل الطريق، لن يصل إلى مقصده أبداً: «وليس في البرق الخاطف مُستَمتَع لمن يخوض في الظلمة»[1]. فمن حرم نفسه من النور الإلهيّ الخاصّ لن يكون بمقدوره، من خلال الدنيا وزخرفها وزبرجها الزائلين، بلوغ المقصد والمقصود في السير الأبديّ.

عاقبة نور الحقّ ونار النفاق

إنّ الله جلّ وعلا يَعِد المؤمنين ويطمئنهم بأن يحفظ نوره ويحرسه لهم، ويهدّد الكافرين ويتوعّدهم بأن يطفئ نيران فتنهم ويتمّ نوره: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ﴾[2]، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأبَىٰ ٱللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾[3]، ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللهُ﴾[4]. ثمّ يقول للمنافق: أنت بأيّ نور تسير؟ فمن المحال أن تكون نار النفاق بديلاً عن النور الإلهيّ. فمَثَلُكم كمثل الذي استوقد ناراً صغيرة في ظلمات حالكة كي يتسنّى له رؤية ما حوله وإبصار طريقه، ولكن بمجرّد أن تضيء له النار ما


[1]. تحف العقول، ص97؛ وبحار الأنوار، ج74، ص286.

[2]. سورة الصفّ، الآية 8 .

[3]. سورة التوبة، الآية 32.

[4]. سورة المائدة، الآية 64.

تسنيم، جلد 2

389

حوله، يخطف الله منه ذلك النور، كي يغرق مرّة أخرى في ظلام دامس فلا يكتشف الصراط المستقيم.

أمّا السرّ من وراء إعطاء الله الفرصة للمنافقين لأن يشعلوا هذا النور ثمّ يعمد إلى إطفائه، فيعود إلى أنّه لو حرمهم فرصة إشعال النور منذ اللحظة الأولى، لتوقّفوا عن المسير في بداية الطريق، ومَن يتوقّف في أوّل مسيرته فلن يتحيّر كثيراً، لكن إذا خُطف منه النور وهو في منتصف الطريق، لغمرته حيرة شديدة[1].

لقد بُيِّنت هذه الحقيقة في الآيات القرآنيّة بصور شتّى؛ كقوله تعالى بخصوص أهل الدنيا: إنّنا نضيّق عليهم لعلّهم يرجعون إلى رشدهم ويعودون عن غيّهم. لكن إذا لم يتنبّهوا، رفعنا عنهم الضيق، ومتّعناهم بأصناف النعم، حتّى إذا فُتحت عليهم أبواب النعم كافّة، أخذناهم بغتة: ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَي‏ْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾[2]. إذن، فإعطاء الله المنافقين والكفّار فرصة ضئيلة ليبصروا موطئ أقدامهم إنّما هو لأجل أن يتقدّموا خطوة، حتّى إذا بلغوا منتصف الطريق، أخذهم فجأة، وتركهم في الظلمة كي يزداد تحيّرهم ويتفاقم عذابهم.


[1]. لعلّ هذه الملاحظة (السرّ في منح الفرصة لإشعال النار) ناظرة إلى حال بعض المنافقين، ممّن حَظُوا بدايةً ببصيصٍ من نور الإيمان والفطرة التوحيديّة، فكان لهم نصيب من الحركة الإيمانيّة، التي بدّلوها فيما بعد بعتمة النفاق. فقصّة مثل هذا الشخص شبيهة بالقصّة التي وردت في الآية محلّ البحث من باب المثل.

[2]. سورة الأنعام، الآيتان 43 و44.

تسنيم، جلد 2

390

ظلمة أهل النفاق وعماهم

إنّ ظلمة المنافقين وحياتهم الخاوية من الضياء، التي صُبّت في الآية مورد البحث في قالب التمثيل، قد بُيّنت في موضع آخر من دون تمثيل. فالقرآن الكريم يقسم الناس يوم القيامة إلى صنفين: الصنف الأوّل هم المؤمنون والمؤمنات الذين يتقدّمهم نورهم ويسطع أمامهم ليضيء لهم طريق الجنّة، ثمّ يبشّرهم في نهاية الطريق كذلك بالخلود في الجنّة: ﴿يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتهَِا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾[1]. أمّا الصنف الثاني فهم المنافقون والمنافقات الذي يغوصون، في ذلك اليوم، في ظلمات ويقولون للمؤمنين: انظروا إلينا أو انتظرونا كي ننتفع من نوركم. لكنّ المؤمنين لا يعيرونهم من الأهمّية الكثير ولا يجيبونهم، إلاّ أنّ هاتفاً يأتي قائلاً لهم: ارجعوا إلى ما وراء نشأة الآخرة، أي إلى الدنيا، فالتمسوا هناك نوراً؛ لأنّ محلّ اكتساب النور كان هو الدنيا: ﴿يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً﴾[2]، ولمّا كان الرجوع من الآخرة إلى الدنيا محالاً؛ لأنّ أساس الدنيا قد مُحي بشكل كامل وطُويت صفحتها وبُدّلت الدنيا بالآخرة، فالمراد من الرجوع هنا هو أنّ تحصيل النور لم يكن ممكناً إلاّ في الدنيا، أمّا الآن فقد فات أوانه.

في الآية الأولى من الآيتين محطّ البحث اُشير إلى قضيّة حرمان


[1]. سورة الحديد، الآية 12.

[2]. سورة الحديد، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

391

المنافقين من النور الإلهيّ الخاصّ بعبارة: ﴿تَرَكَهُم في ظُلُماتٍ لا يُبصِرون﴾، وفي الآية الثانية بعبارة: ﴿صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ﴾ وليست الجملة الثانية تكراراً للأولى؛ إذ أنّ انعدام الرؤية عند الإنسان يكون إمّا بسبب ظلمة المحيط، أو نتيجة للعمى، وإنّ عدم رؤية المنافق للدرب راجع إلى حرمانه من الاثنين؛ من النور الذي ينير له دربه، ومن العين المبصرة. إذن، فحتّى لو وُجِد النور فلن يُبصر طريقه لعمى قلبه، فلا فرق بين النور والعتمة عند الأعمى. فالكلام في الآية الأولى حول ظلمة المحيط، والحديث في الآية الثانية حول عماهم.

طريق الكفر والنفاق الذي لا رجعة فيه

إنّ العين والأذن وسائر الأعضاء الإدراكيّة للإنسان، هي ثرواته العظيمة ورؤوس أمواله الضخمة التي بها ينال السعادة العلميّة والعمليّة: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1]، والمنافقون، الذين فرّطوا برؤوس أموالهم تلك، لا سبيل لهم للرجوع إلى فطرتهم الأصيلة. من هنا، يقول عزّ من قائل في الآية مورد البحث، مستخدماً «فاء التفريع»: ﴿فَهُم لاَ يَرجِعُون﴾. فدليل ابن آدم ومرشده لرجوعه إلى أصالته هو رؤوس أمواله الأوليّة، وإنّ المنافق، الذي أضاعها، لن يعود أبداً إلى فطرته الأوليّة.

النفاق والكفر ليسا أمرين تجريبيّين، متعارفين، قابلين للتكرار كي يكون في نهاية المطاف سبيل للعودة. فعاقبة النفاق والكفر هي الهلاك


[1]. سورة النحل، الآية 78.

تسنيم، جلد 2

392

الأبديّ، وإنّ المهلة القليلة التي تُعطى للمنافقين والكفّار في الدنيا هي لكي يتزوّدوا من الرذائل بالربح المادّي الزائف من أجل أن يغرقوا في آثامهم ومعاصيهم: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً﴾[1].

المنافقون شرّ الدواب على وجه البسيطة

في الآية محلّ البحث، يقدّم الله عزّ وجلّ المنافقين على أنّهم صمّ وبكم وعمي، وفي موضع آخر يعتبر سبحانه وتعالى أنّ أسوأ الدواب هم المبتلون بالصمم والبكم وعدم التعقّل والتفكير: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِنْدَ ٱللهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[2]. وبالجمع بين الآيات المذكورة نصل إلى نتيجة مفادها أنّ المنافقين هم شرّ الدواب على وجه الأرض.

فالمنافقون لا هم يسمعون كلام الحقّ، ولا هم يردّدونه على ألسنتهم، ولا هم من أهل الفكر والتعقّل بمعاني ومفاهيم الحقّ، ومن هذا المنطلق فإنّ الله، إذ لم يرَ فيهم خيراً، فهو لا يُسمِعهم، بل إنّهم يعرضون عن نداء الحقّ في حال سماعه أيضاً: ﴿وَلَوْ عَلِمَ ٱللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[3].


[1]. سورة آل عمران، الآية 178. «اللام» في «ليزدادوا» هي لام العاقبة؛ نظير اللام في الآية: ﴿فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ (سورة القصص، الآية 8)، وليست لام الغاية والهدف؛ أي هي بمعنى: أنّه ما من عاقبة إلاّ ازدياد الإثم، لا أنّ الهدف الأساسيّ من المهلة هو ازدياد الإثم.

[2]. سورة الأنفال، الآية 22.

[3]. سورة الأنفال، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

393

من الجدير بالذكر، أنّ حذف المفعول في جملة ﴿... لا يُبصِرون﴾ يمكن أن يفيد الحرمان المطلق لأهل النفاق من أيّ رؤية صحيحة؛ إذ أنّ حذف المفعول به يدلّ على عمومه وإطلاقه؛ بمعنى أن المنافقين المتروكين في الظلمة، لا يرون أيّ شيء إطلاقاً.

لطائف وإشارات

[1] دور التمثيل في المعرفة

إنّ تبيين المعارف العالية في قالب المثل كان نهج الكتب السماويّة السالفة: ﴿... ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنْجِيلِ ...﴾[1]، وهو كذلك السيرة التعليميّة التي يتبنّاها القرآن الكريم. فالقرآن يستعمل الأمثال بشكل واسع: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ‏ مَثَلٍ﴾[2]، كما أنّه لا يتوانى عن التمثيل بالأمور البسيطة: ﴿إِنَّ ٱللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[3].

وخاصيّة المثل هي أنّه ينزّل المعارف المعقولة العالية إلى مستوى المباحث المتخيّلة والمحسوسة كي تكون بمستوى فهم الجميع. فالمثل هو أشبه بالحبل الذي يتدلّى من أوج المعارف العالية إلى مستوى أفهام عامّة


[1]. سورة الفتح، الآية 29. يقول الفخر الرازيّ إنّ الإنجيل فيه سورة اسمها «سورة الأمثال» (راجع التفسير الكبير، مج1، ج2، ص80). ولعلّ مراد الفخر الرازيّ هو كتاب «أمثال سليمان النبيّ» الذي هو أحد كتب العهد القديم (التوراة)، وليس الإنجيل.

[2]. سورة الإسراء، الآية 89 .

[3]. سورة البقرة، الآية 26.

تسنيم، جلد 2

394

الناس كي يتسنّى لهم، وهم غير قادرين على إدراك المعارف العالية في قالب الممثَّل، التمسّك بالمَثَل والرقيّ بمقدارهم لإدراك الممثَّل في المستوى الذي يناسبهم.

كلّما تدنّى الإنسان في بساطة التفكير، ازدادت حاجته للمثل، وكلّما ازدادت نسبة اُنسه بالمعارف العميقة، قلّ احتياجه للمثل بالنسبة ذاتها.

إنّ دور التمثيل في معرفة الحقائق لا يناظر دور التعاريف الحدّية والرسميّة (الحدّ التامّ والناقص، والرسم التامّ والناقص)؛ لأنّ التمثيل لا هو يشبه التعاريف الحدّية التي تُظهر ذاتيّات الممثَّل، ولا هو مماثل للتعاريف الرسميّة التي تبيّن عوارض الذات، بل هو ضرب من وصف الشيء للتقريب إلى الذهن؛ مثلما يقال: «مَثَل النفس في البدن، كمَثَل الربّان في السفينة، أو السلطان في البلاد». بالطبع، إنّ للتمثيل مدلولاً آخر وهو «بيان الوجود المثاليّ للشيء» ممّا ستأتي الإشارة إليه في اللطيفة الثالثة.

في كلّ مرّة يستعين فيها القرآن الكريم بالمَثَل فهو يستدلّ على الممثَّل بالبراهين العقليّة قبل الإتيان بالمثل أو بعده، ويشفعه بإيراد المثل من أجل إيصال الفكرة إلى الأشخاص المتوسّطي الفهم. فعلى سبيل المثال، هو تارة يبيّن المعرفة العالية للتوحيد الربوبيّ من خلال برهان التمانع وعلى نحو القياس الاستثنائيّ؛ كما في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ ٱللهُ لَفَسَدَتَا﴾[1]، وتارة أخرى يستعين بمَثَل بسيط ليبيّن نفس هذه المعرفة فيقول: إذا قارنّا رجلاً هو عبد مملوك لعدّة مَوالٍ مختلفين في الرأي كلٌّ يأمره بعمل، مع رجل يأتمر بأمر مولى واحد فإنّهما لا


[1]. سورة الأنبياء، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

395

يستويان إطلاقاً: ﴿ضَرَبَ ٱللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاَءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾[1]. فحصيلة ذلك البرهان العقليّ وهذا المثل الحسّي هي واحدة وهي أنّه لو اجتمعت عدّة مبادئ تدبيريّة لإدارة عالَم الخلقة لانفرط نظامه وتبدّد.

كما أنّه يبيّن أحياناً عظمة القرآن في آيات من قبيل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾[2]، أو ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[3]، حيث إنّ مدلولات كون القرآن «قولاً ثقيلاً» وكونه «علماً لدنّياً» ليست سهلة الإدراك بالنسبة إلى عامّة الناس، وأحياناً، ومن أجل استيعاب الناس المتوسّطين لعظمة القرآن، فإنّه يصبّها في قالب المثل فيقول: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ ٱللهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[4].

إنّ غاية القرآن الكريم من التمثيل هي أن تتمكّن الأفهام البسيطة من شقّ طريقها، بوسيلة المثل، إلى الممثَّل، ومن هنا فهو يحذّر من بقاء الناس في مستوى المعارف المتنزِّلة، ويحثّهم على استخدام المثل كجسر للعبور إلى ضفّة الممثَّل؛ ذلك أنّ البقاء في حيّز المثل هو كالعيش على الجسر، ولمّا كان المثل هو بمثابة الحبل الموصل إلى قمّة معرفة الممثَّل، فإنّ التوقّف عند حدّ المثل هو أشبه ما يكون باكتفاء متسلّق الجبال بإمساك الحبل المتدلّي من قمّة الجبل وعدم تسلّقه والارتفاع به.


[1]. سورة الزمر، الآية 29.

[2]. سورة المزّمل، الآية 5.

[3]. سورة النمل، الآية 6.

[4]. سورة الحشر، الآية 21.

تسنيم، جلد 2

396

يرى القرآن الكريم أنّ نيل الممثَّل من خلال المَثَل هو رهن بالسفر من العلم الحسّي إلى العلم الحصوليّ العقليّ, ومن ثمّ من العلم الحصوليّ العقليّ إلى العلم الشهوديّ القلبيّ الذي هو ليس ممّا ينتفع منه الجميع ولا يناله إلى النزر اليسير من الناس: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِنْ دُونِ ٱللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنْكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * ... وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ﴾[1]، ويُفهَم من هذا أنّ الذي لا يستعين بالمثل لبلوغ الممثَّل فهو ليس بعاقل؛ لأنّه ترك الهدف، وانشغل بالوسيلة؛ إذ أنّ ظاهر هذه الآية أنّ النفع الأساسيّ المجنيّ من التمثيل هو من نصيب العلماء الذين جعلوا من العلم سلّماً للعقل، والمراد من العقل في مثل هذه الموارد هو مجموع العلم والعمل الصالح وعصارتهما.

[2] التمثيلات القرآنيّة بخصوص أعمال الكفّار والمنافقين

يضرب الله سبحانه وتعالى في الكفّار والمنافقين[2] أمثلة متنوّعة؛ فهو يقول حيناً: إنّ مثل الكافر والمنافق كمثل الذي يطوي طريقه بيسر وبسرعة نحو هدف كاذب وزائف لكنّه عندما يصل إلى نهايته يدرك أنّه قد ضلّ سبيله ولم يصل إلاّ إلى طريق مسدود: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ


[1]. سورة العنكبوت، الآيتان 41 و43.

[2]. على الرغم من أنّ الكلام في هذه الآية ليس حول المنافقين، إلاّ أنّه لمّا كان المنافق كافراً في الباطن، فإنّه يشترك مع الكافر في الكثير من الأحكام. لذا من الممكن الإفادة من الأمثال المضروبة في الكفّار للتعرّف على أحكام المنافقين أيضاً.

تسنيم، جلد 2

397

كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْئَانُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾[1]. فنتيجة عمل الكافر هي كالسراب، وسعيه هو كاللهث وراء السراب. والسراب هو شيء ظاهره ماء يظهر عند خطّ الأفق نتيجة سطوع أشعّة الشمس على سطح الأرض فيجذب نحوه الإنسان الظمآن الغافل. لكنّ هذا الإنسان مهما واصل المسير فلن يجني إلاّ تفاقماً في العطش، حتّى إذا بذل كلّ ما أوتي من طاقات في هذا السبيل الأعوج المنحرف، وانتهى إلى حيث لا طاقة له على مواصلة المسير، ولا قدرة له على النكوص والإياب، ولا وجد ماء يطفئ به نار عطشه، فإنّه يموت ظمآناً. الكلام في هذا التمثيل يجري حول الحركة والجدّ في السير في الطريق المعوجّة، أمّا في الآية مورد البحث فالحديث عن توقّف المنافقين أو إبطائهم في الحركة.

السرّ في هذه الازدواجيّة في التعبير هو أنّ هناك شرطين لبلوغ المقصد: أوّلهما معرفة الطريق، وثانيهما معرفة الهدف والمقصد. فالذي لا يعرف الهدف، أو الذي يعرفه لكنّه لا يعرف الطريق إليه ويسير في جادّة منحرفة، فإنّه لن يبلغ المقصد أبداً. فإن جَدّ المنافقون في السير، فهم يسيرون في سبيل منحرفة، وإلاّ فهم عاجزون مقعدون عن طيّ الصراط المستقيم. فالقرآن الكريم يبيّن نفي الهدف في جملة ﴿كَسَرابٍ بِقِيعةٍ﴾، ويُظهر فقدان البصيرة اللازمة لمعرفة السبيل في الآية محطّ البحث. إذن، فالمنافقون هم إمّا سائرون صوب شيء هو ليس هدف الخلقة ومقصودها، أو أنّهم عرفوا الهدف والمقصود لكنّهم


[1]. سورة النور، الآية 39.

تسنيم، جلد 2

398

لا يبصرون الصراط القويم الموصل إليه ليسيروا فيه، بل يضلّون طريقهم عامدين.

يقول الله عزّ وجلّ في مَثَل آخر يضربه حول أعمال الكفّار: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ‏ّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ ٱللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾[1]. فأعمال الكفّار هي ظلمات متراكمة حالكة قد تورّطوا فيها؛ فهم كالذي غرق في ليلة ظلماء في بحر لجّي؛ بحر غمرته أمواج متلاطمة عالية، وغشيه الضباب والسحب الكثيفة، بحيث لو أنّه أخرج يده لم يكن بالإمكان رؤيتها، وهذا من منطلق أنّ النور هو من الله وحده، والذي يُحرَم من النور الإلهيّ تحيط به الظلمة من كلّ حدب وصوب.

[3] رأيان أو رؤيتان في تمثيلات القرآن

لأصحاب الرأي في تحليل الأمثال القرآنيّة، فيما يخصّ توضيح مصاديقها، لا تبيين مفاهيمها، رأيان: يقول الأوّل إنّ هذه الأمثال هي تشبيه صرف، وهي تُضرَب فقط لتقريب المعارف العالية والأسرار المستورة لنظام الوجود إلى أذهان الذين يعيشون في أفق عالم المادّة. ويدّعي الثاني أنّ الأمثال تُفصح عن الوجود المثاليّ لتلك الحقائق، وليس هناك من تشبيه أو مَجاز في الأمر على الإطلاق. والاختلاف بين هاتين الرؤيتين يظهر عندما يشبّه الله عزّ وجلّ بعض الناس ـ مثلاً ـ ﺑ «الحمار» أو «الكلب» فإنّ هؤلاء ـ حسب الرؤية الأولى ـ ليسوا حميراً في الواقع،


[1]. سورة النور، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

399

لكنّهم لمّا كانوا كالحمار في محروميّتهم من فهم الحقائق فقد شُبِّهوا بهذا الحيوان. لكن، على أساس الرؤية الثانية فإنّ هذا التمثيل يفصح عن الحقيقة المثاليّة لهؤلاء، وفي الموطن الذي تظهر فيه حقائق الأشياء سوف تظهر الحقيقة المثاليّة أيضاً، ومن هنا فإنّهم سيحشرون يوم القيامة على هيئة حيوانات.

كما ويدّعي أصحاب الرؤية الأولى بخصوص المنافقين: أنّ هؤلاء هم في الحقيقة اُناس مبصرون، وسامعون، وناطقون، لكن لمّا كانوا لايسمعون كلام الحقّ، ولا يقبلونه، ولا ينطقون بالحقّ، فقد شُبِّهوا بالعُمي، والصُمّ، والبُكم. أمّا على أساس الرؤية الثانية فإنّ هذه التمثيلات ناظرة إلى الحقيقة والوجود المثاليّ لهؤلاء، وإنّ المنافقين هم ـ حقيقةً ـ بُكم، وعُمي، وصمّ.

والشاهد على مدّعى أصحاب الرؤية الثانية هو أنّه في يوم القيامة، حيث ظرف ظهور وبروز الحقائق (لا ظرف حدوثها)، يظهر عمى وصمم وبكم المنافقين للعيان، فيقول الواحد منهم: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمًى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً﴾[1]، والمراد من هذا العمى هو عمى عين القلب، لا عمى جارحة العين، وإنّ عيون قلوب هؤلاء هي حقيقةً عمياء: ﴿لاَ تَعْمَىٰ ٱلأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[2]، وعلاوة على العمى، فإنّ هؤلاء الضالّين يُحشرون يوم القيامة صُمّاً، بُكماً، مكبوبين على وجوههم، لا واقفين على أقدامهم: ﴿وَمَنْ يَهْدِ ٱللهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ


[1]. سورة طٰه، الآية 125.

[2]. سورة الحجّ، الآية 46.

تسنيم، جلد 2

400

فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ‏ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾[1]. إذن، فعمى المنافقين ليس هو من باب التشبيه، بل هو بيان لحقيقتهم وتمثّلهم الباطنيّ، وإنّهم، يوم القيامة، سيواجهون باطنهم الذي سيظهر للعيان. ففي محكمة القيامة لا تكون العقوبات اعتباريّة، كما هو الحال في محكمة الدنيا، بل إنّ باطن الإنسان وأعماله ستكون مشهودة في ذلك اليوم.

[4] العذاب الشديد للمنافقين

إنّ عذاب المجرمين والمنحرفين يوم القيامة يوازي عملهم؛ ذلك أنّ عذابهم لن يكون إلاّ أعمالهم القبيحة التي ستظهر، وللتعبير عن هذا التوازي والانسجام يستخدم القرآن الكريم تعبير «جزاءً وفاقاً»: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً﴾[2]. فعقاب إجرام وانحراف الإنسان الطالح لا يفوق عمله الإجراميّ المنحرف بل هو وفاق له، على الرغم من أنّ ثواب أعمال الصالحين الصالحة يفوق عملهم؛ لأنّهم، بعد «توفية الأجر»، يعطون من الرزق ما لا حساب له: ﴿إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ اُجُورَكُمْ﴾[3]، ﴿يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِْ حِسَابٍ﴾[4].

في أجر الحسنة لا لزوم لتوافق مقدار الأجر مع العمل، بل إنّه يكون


[1]. سورة الإسراء، الآية 97.

[2]. سورة النبأ، الآيات 24 ـ 26.

[3]. سورة آل عمران، الآية 185.

[4]. سورة غافر، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

401

خيراً منه حيناً: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾[1]، ويكون أزيد من ذلك حيناً آخر: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾[2]، وقد لا يكون هناك كلام في «خير» أو «عشرة أمثال» حيناً ثالثاً، بل يكون أجر الله الواسع العليم (بالنسبة لبعضهم) ممّا لا يمكن حسابه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[3].

لكنّ عقاب السيّئات لا يكون أزيد من السيّئة أبداً، ولمّا كان المنافقون شرّ الدواب، فلن يكون هناك عذاب أسوأ وأشدّ من عذابهم. ومن هذا المنطلق، فإنّ محلّهم يكون في أسفل دركات جهنّم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[4].

[5] خلود الكافرين والمنافقين في النار

إنّ روح الإنسان مجرّدة ومنزّهة عن المكان والزمان والتاريخ. وبما أنّ


[1]. سورة القصص، الآية 84 .

[2]. سورة الأنعام، الآية 160.

[3]. سورة البقرة، الآية 261. الكلام في بداية هذه الآية الكريمة جرى حول زيادة الحبّة الواحدة إلى 700 ضعف، ثمّ تحوّل الكلام بعده إلى التضاعف، حيث إنّه إذا كان المراد «ضعفين»، لبلغ الواحد 1400، وإذا كان المراد من ﴿يضاعف﴾ أكثر من ضعفين، فلا يكون له حدّ. كما وقد جاء الحديث في ذيل الآية عن كون الله «واسعاً» أي إنّ من شأنه أن يرفع الزيادة إلى أكثر من 1400. وإلى جانب الواسع جاء وصف «العليم»، وهو يعني أنّ الله عالم بمن يشمله بعنايته الواسعة، وهو يتناسب مع إخلاص العامل ومعرفته.

[4]. سورة النساء، الآية 145.

تسنيم، جلد 2

402

الكفر والنفاق ملَكتان نفسانيّتان فهما مجرّدتان عن الزمان والمكان. إذن فالروح المدنّسة بالكفر والنفاق هي مبتلاة بخطر أبديّ، ولمّا كان العذاب الأخرويّ هو ذات تلك العقائد المنحرفة والأعمال الإجراميّة للإنسان المنحرف، التي تظهر يوم القيامة، فهؤلاء متورّطون بعذاب أبديّ، وإنّ ما قاله الإمام الصادق(ص) بعنوان كونه سرّاً للخلود في جهنّم؛ وهو أنّ الكافر لو خُلّد في الدنيا لرغب في ارتكاب المعاصي إلى الأبد: «إنّما خُلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خُلِّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً»[1]، هو كذلك راجع إلى هذا التعليل نفسه.

وسيأتي الحديث عن بحث الخلود في تفسير ما يناسبه من الآيات، وسيُطرح حينها ويُفنّد الاحتمال القائل بأنّ الخلود هو بمعنى «المكث الطويل» وليس «اللبث الأبديّ».

[6] أولوا الأيدي والأبصار

لقد وهب الله سبحانه وتعالى الإنسان أعضاء إدراكيّة كالعين والأذن كي يستعين بها على إدراك الحقائق بشكل صحيح، وأعطاه جوارح تحريكيّة كاليد والرجل كي يستخدمها في إنجاز أعماله على نحو متقن. فإذا لم يصدر من العين والأذن واللسان إلاّ الانحراف والجرم فإنّ الإنسان فاقد لتلك الأعضاء حقيقةً، ومن هنا فهو سيُحشر يوم القيامة أعمى، وأصمّ، وأبكم. وإن انتفع الإنسان بشكل جيّد من هذه الأعضاء الإدراكيّة، فهو ـ بحقّ ـ إنسان مبصر، وسامع، وناطق. ومن هذا المنطلق فإنّ القرآن


[1]. الكافي، ج2، ص85 .

تسنيم، جلد 2

403

الكريم يثني على بعض الأنبياء بوصفهم أنّهم «اُولوا أيدٍ وأبصار»: ﴿وَٱذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ اُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾[1].

على الرغم من أنّ جميع الناس يملكون الأيدي، إلاّ أنّ أيدي صنّاع الأصنام وبائعيها هي في الحقيقة ليست بأيدٍ، أمّا أيدي الفِتية من محطّمي الأصنام، مثل إبراهيم(ص)، فهي أيدٍ حقيقيّة. كذلك فإنّ لكلّ الناس أعيناً، لكنّ العين التي تنظر إلى الصنم نظرة احترام أو التي تُفتح على الخيانة، حتّى توصف ﺑ «خائنة الأعين»: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ‏ِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[2]، فهي عمياء، أمّا العين الحقيقيّة فهي تلك التي تشبه عين إبراهيم(ص) من حيث أنّ لها القدرة على مشاهدة ملكوت السماوات والأرض: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[3]، وإنّ قول الله عزّ وجلّ: «اذكر أولئك الذين كانوا اُولي أيدٍ وأبصار» هو من باب تعليق الحكم على الوصف؛ بمعنى، أنّ هؤلاء لكونهم يمتلكون هذه الأوصاف، فكن في ذكرهم.

البحث الروائيّ

[1] حرمان المنافقين من نور الرسالة والإمامة

ـ عن أبي جعفر(ص) في قول الله عزّ وجلّ ... : «﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ


[1]. سورة ص، الآية 45.

[2]. سورة غافر، الآية 19.

[3]. سورة الأنعام، الآية 75.

تسنيم، جلد 2

404

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾؛ يعني قُبِض محمّد(ص) وظهرت الظلمة فلم يُبصروا فضل أهل بيته»‏[1].

إشارة: التطبيق المذكور هو بيان للمصداق الكامل للآية وليس تفسيراً مفهوميّاً لها. فالرسول الأكرم(ص) هو المصداق البارز للآية ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾[2] وبرحيله قُبض نوره الخاصّ. لكنّ المنافق لا هو أفاد من هذا النور في زمان النبيّ(ص)، ولا هو ينتفع، بعد رحيله(ص)، من القرآن والعترة اللذين هما من الآثار التي خلّفها ذلك الشخص العظيم.

[2] إضلال الله الجزائيّ

ـ عن الرضا(ص): «إنّ الله لا يوصَف بالترك كما يوصَف خلقه، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم‏»[3].

إشارة: هذه الرواية ناظرة إلى ذات المعنى المذكور في أثناء تفسير ﴿تَرَكَهُم﴾، وقد اُشير له أيضاً في شرح اللطائف والإشارات.

[3] آثار سُكْر الخطيئة

ـ عن رسول الله(ص): «يا ابن مسعود! إحذر سُكْر الخطيئة، فإنّ للخطيئة


[1]. الكافي، ج8 ، ص380؛ وبحار الأنوار، ج24، ص368.

[2]. سورة الأنعام، الآية 122.

[3]. تفسير الصافي، ج1، ص85 .

تسنيم، جلد 2

405

سُكراً كسُكر الشراب بل هي أشدّ سُكراً منه، يقول الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾»[1].

إشارة: كما أنّ شرب الخمر يبعث على السكر، وزوال العقل، وتعطيل القوى الإدراكيّة للإنسان، فإنّ الخطيئة تؤدّي إلى سُكر أشدّ بحيث يعزل العقل، ويحرم الإنسان من الإدراك السليم.

[4] تمثُّل وظهور بواطن الكفّار يوم القيامة

ـ عن أبي عبد الله(ص): «فإنّ زَلَق اللسان فيما يكره الله وما ينهى عنه مَرداةٌ للعبد عند الله، ومقت من الله، وصَمّ، وعَمًى، وبَكم يورثه الله إيّاه يوم القيامة، فتصيروا كما قال الله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾؛ يعني ﴿لاَ يَنْطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾[2]»[3].

إشارة: هذه الرواية ناظرة إلى تمثُّل وظهور بواطن الكافرين يوم القيامة؛ أي، إنّ هؤلاء هم ـ حقيقةً ـ فاقدون للجوارح الإدراكيّة، وإنّ التمثيل المذكور ليس هو من سنخ التشبيه.

[5] عمى قلوب المنافقين في كلام أمير المؤمنين(

ـ «ما أصفُ من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء... ومَن أبصرَ بها بصَّرَته، ومن أبصرَ إليها أعْمَته»[4].


[1]. مكارم الأخلاق، ص453؛ وبحار الأنوار، ج74، ص104 ـ 105.

[2]. سورة المرسلات، الآيتان 35 و36.

[3]. الكافي، ج8 ، ص3؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص37.

[4]. نهج البلاغة، الخطبة 82 .

تسنيم، جلد 2

406

إشارة: يقول الشريف الرضيّ & في جملة «ومن أبصَر»: «وإذا تأمّل المتأمِّل قوله(ص) «ومن أبصر بها بصّرته» وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تُبلغ غايته ولا يُدرك غوره‏».

يبيّن أمير المؤمنين(ص) في هذه الجملة القصيرة منشأ إبصار القلب وعماه وهو أنّ نظر الإنسان إلى الدنيا بعنوان كونها «غاية» يعميه، أمّا إبصاره إيّاها على أنّها «وسيلة»، فهو يُبَصِّره، وهو عين الاختلاف المطروح بين المعنيين: «فيه يُنظَر» و«به يُنظَر». فالدنيا وسيلة وليست غاية؛ وإنّ كلّ من عدّها وسيلة واستخدمها على هذا النحو، أعانته على الإبصار، لكنّ من نظر إليها كهدف وغاية فقد أعمته.

ـ «وإنّما الدنيا مُنتهى بصر الأعمى لا يُبصِر ممّا وراءها شيئاً، والبصير يَنفُذُها بصرُه، ويعلم أنّ الدار وراءها؛ فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزوِّد، والأعمى لها متزوِّد»[1].

إشارة: «الأعمى» في هذا الحديث الشريف هو بمعنى «الأكْمَه»، أي الأعشى والذي لا يرى إلاّ القريب والظاهر، ومن لا يرى إلاّ الظاهر فهو أعمى القلب؛ ذلك أنّه يرى الدنيا ولا يرى الآخرة. فالبصير هو من جاوز نظرُه تُخوم الدنيا، ونفذ إلى الآخرة التي هي باطن هذه الدنيا. والأعمى هو من تسمّر نظره على الدنيا، ولم يجاوزها، والقرآن الكريم يأمر بالإعراض عن هؤلاء: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ‏ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 133.

تسنيم، جلد 2

407

ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِنَ الْعِلْمِ﴾[1]، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[2].

ـ «يا أهل الكوفة! مُنيتُ منكم بثلاثٍ واثنتين: صمّ ذوو أسماع، وبُكم ذوو كلام، وعُمي ذوو أبصار، لا أحرارُ صدقٍ عند اللقاء، ولا إخوانُ ثقةٍ عند البلاء»[3].

إشارة: كان سرّ امتناع أهل الكوفة عن نصرة أمير المؤمنين(ص) هو أنّه، بالرغم من امتلاكهم للأذن والعين واللسان الظاهريّ، غير أنّ أعين قلوبهم كانت عمياء، وآذانها صمّاء، وبواطنهم كانت بكماء. فهم ما كانوا أحراراً وذوي شهامة عند اللقاء، ولا إخواناً يُعتمد عليهم عند الامتحان.

ـ «فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يُعْلِمني أنّه وُجِّه إلى الموسِم اُناس من أهل الشام العُميِ القلوب، الصمّ الأسماع، الكُمه الأبصار، الذين يلبِسون الحقّ بالباطل، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق، ويحتَلِبون الدنيا دَرّها بالدِّين»[4].

ـ «ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح... وناظِرة عمياء، وسامعة صمّاء، وناطقة بكماء»[5].

إشارة: بما أنّ المجاري الإدراكيّة المذكورة هي من شؤون الروح الإنسانيّة، فما دامت الروح الإنسانيّة حيّة في المرء فإنّه يمتلك تلك الأمور،


[1]. سورة النجم، الآيتان 29 و30.

[2]. سورة الروم، الآية 7.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 97.

[4]. نهج البلاغة، الرسالة 33.

[5]. نهج البلاغة، الخطبة 108.

تسنيم، جلد 2

408

وإنّ فقدان المرء لمثل هذه المجاري الإدراكيّة يُنبئ بأنّ أصل الروح الإنسانيّة قد رحلت عنه، ومن هذا المنطلق فإنّهم «أشباح بدون أرواح». أمّا كونهم «أرواحاً بدون أشباح» فلعلّه عائد إلى أنّ هناك فجوةً بين أرواحهم وأبدانهم وأنّ أبدانهم لا تأتمر بأوامر أرواحهم إطلاقاً؛ أي، على فرض أنّ لهم روحاً إنسانيّة، فإنّه لا وجود للارتباط بين أرواحهم وأبدانهم.

ـ «طبيب دَوّار بطبّه قد أحكَم مراهِمَه، وأحمى [أمضى] مواسِمَه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُمي، وآذان صُمّ، وألسنة بُكم»[1].

إشارة: إنّ علاج الذين يشكون من العمى الباطنيّ، والصمم الداخليّ، والبكم المعنويّ أمر ممكن في بدايته، لكنّه عندما يستفحل المرض في النهاية فلن يكون حتّى لنزول الآية القرآنيّة الشافية أثر عليهم إلاّ المزيد من الخسران وعمى القلب.


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 108.

تسنيم، جلد 2

409

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (20)

خلاصة التفسير

في الآيتين السابقتين ضُرب مثل عن «حياة المنافقين الخاوية من النور»، أمّا في هاتين الآيتين فيُطرح مثل آخر عن «حياتهم المحفوفة بالرعب».

فالمثال السابق هو في حرمان المنافقين من «الرؤية» الصائبة، والمثال الحاليّ هو في حرمانهم من «الميول» السليمة والسلوك الصحيح. فالمنافقون المتحيّرون المتورّطون هم أشبه بمسافرين تائهين عن الطريق

تسنيم، جلد 2

410

وهائمين على وجوههم ابتُلوا بمطر شديد مصحوب بسحاب كثيف معتم ورعد وبرق يحمل معه الرعب والموت.

إنّهم يضعون أصابعهم في آذانهم حذراً من أن يأتيهم الموت بسبب دويّ الصواعق. أمّا البرق الشديد فيكاد يخطف أبصارهم عندما ينطلق في السماء. إنّهم يتقدّمون بضع خطوات مع كلّ ومضة برق، لكن ما إن يتلاشى ضياؤه ويُغرِقهم في العتمة من جديد فإنّهم يتوقّفون مرّة أخرى وهم في حيرة من أمرهم.

فالمنافقون ـ وبالاستعانة بإيمانهم الشكليّ، وفي ظلّ الهدوء الذي يعيشه المجتمع الإسلاميّ ـ يتقدّمون بضع خطوات إلى الأمام، لكن عندما يُفتضَح أمرهم وتنكشف سرائرهم، فإنّهم يتوقّفون في أماكنهم فاقدين القدرة على فعل أيّ شيء. فلو شاء الله لذهب بنورهم منذ البداية، إلاّ أنّهم اُعطوا مهلة لبضعة أيّام من أجل أن يُمتحنوا.

لقد خُتمت كلّ من الآيتين بتحذير للمنافقين؛ فالآية الأولى ذُيِّلت بالحديث عن «الإحاطة القهريّة» لله عزّ وجلّ بالمنافقين، وفي آخر الآية الثانية جاء الحديث عن «القدرة الفائقة» للحقّ تعالى على تحقيق وعيده على أرض الواقع.

التفسير

«صَيِّب»: الصيّب على وزن فَيْعِل من «صَيْب» وهو بمعنى النزول. ووصف الصيّب بأنّه «من السماء»، مع أنّ المطر ونحوه لا يكون نزوله إلاّ من السماء، هو من باب تبيين سلطة الصيّب من ناحية، وعدم قدرة

تسنيم، جلد 2

411

هؤلاء على التخلّص والنجاة والوقاية منه من ناحية أخرى؛ لأنّ الموجود السماويّ يغمر ويُغرق الموجود الأرضيّ المحدود بالقهر والإحاطة.

«البرق»: ألف ولام «البرق» هي للعهد، والمراد منها: البرق المذكور في الآية السالفة.

«لهم»، «عليهم»: «اللام» في «لهم» هي للنفع، و«على» في «عليهم» هي للضرر؛ فالبرق الخاطف في السماء يضيءُ بمجيئه الفضاءَ لمسافر الصحراء خلال لحظات قصيرة، لكنّه سرعان ما يغمره في الظلام عند ذهابه.

«قاموا»: يعطي القيام، تارةً، معنى الصمود والاستقامة فهو ممدوح؛ مثل: ﴿أَنْ تَقُومُواْ للهِ مَثْنَىٰ‏ وَفُرَادَىٰ﴾[1]، وتارةً أخرى يكون بمعنى التوقّف والسكون فهو مذموم. قيام المنافقين في الآية مورد البحث هو بالمعنى الثاني؛ لأنّه جاء في مقابل السير والسلوك.

إنّ للإنسان بُعدين: الفكر والفعل؛ فهو يفهم بنور الفكر، ويعمل بقوّة البدن. وأولياء الله مثلما أنّهم يمتلكون الرؤية الصائبة، فإنّهم يتمتّعون بالفعل اللائق. من هذا المنطلق، نرى أنّ القرآن الكريم، وفي معرض ذكره للمُخلَصين من أمثال الأنبياء إبراهيم وإسحٰق ويعقوب(ع)، في تعابير من قبيل: ﴿اُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَىٰ الدَّارِ﴾[2]، فإنّه يثني على فهمهم الصحيح وعملهم الصالح معاً؛ إلاّ أنّه في الوقت ذاته يذمّ المنافقين الفاقدين لكلتا الميزتين الإنسانيّتين المذكورتين؛ فلا هم يفهمون بشكل جيّد، ولا هم يعملون بصورة صحيحة.


[1]. سورة سبأ، الآية 46.

[2]. سورة ص، الآيتان 45 و46.

تسنيم، جلد 2

412

الآيتان مورد البحث تقدّمان مثلاً آخر عن المنافقين مع فارق واحد وهو أنّ المثل السابق يُظهِر حرمان المنافقين من الرؤية الصائبة، بينما يصوّر المثل الحالي حرمانهم من التصرّف اللائق وعدم توفيقهم لطيّ الصراط المستقيم.

كلمة «أو» في بداية المثل الثاني هي للدلالة على أنّ تيّار النفاق قابل للوصف بأيّ واحد من المثلين، وأنّ بين المثلين فرقاً سبق الحديث عنه في شرح المثل الأوّل. من هنا، يمكننا تطبيق المثلين المشار إليهما على طائفتين من أهل النفاق.

حياة المنافقين المحفوفة بالرعب

المنافقون المتردّدون والمتحيّرون أشبه بمسافرين قد ابتُلوا وهم في منتصف طريق سفرهم بمطر غزير شديد مصحوب بسحب كثيفة قاتمة. ففي الوقت الذي يُطبِق الظلام الدامس والعتمة الحالكة على المكان بأسره يتورّط هؤلاء بوابل من المطر كأفواه القرب، تضفي عليه السحب أحياناً جوّاً من الرعب والوحشة برعدها المهول وبرقها المميت.

وبسبب الخوف والرعب الذي يقذفه أزيز الرعد وأصوات الصواعق المتتابعة في قلوب هؤلاء المسافرين المُمطَرين، تراهم يغرسون أصابعهم في آذانهم كي لا يصيبهم قصف الرعد بأذى، ولا يشرفوا على الهلاك بسببه.

كما أنّ البرق الذي في السماء هو من الشدّة حتّى ليكاد يخطف نور أبصارهم، وهو كلّما ومض أضاء السماء للحظة، فإذا هم يسيرون لبضع

تسنيم، جلد 2

413

خطوات، وكلّما اختفى ضياؤه الذي يخطف الأبصار مغرقاً إيّاهم في طبقات الظلمة من جديد، فإنّهم يتوقّفون عن المسير وهم في حيرة من أمرهم. فهم، من جهة، مجبرون على مواصلة الطريق تخلّصاً من الأمطار الغزيرة، وأزيز الرعد، وضرر البرق في السماء، ومن جهة أخرى فهم محرومون من النور مع شدّة احتياجهم له.

في تطبيقنا لهذا المثل القرآنيّ الرائع على المُمثَّل بإمكاننا القول: إنّ الإسلام الشكليّ والإيمان الظاهريّ للمنافقين هما أشبه بقطرات المطر التي تمهّد الأرضيّة لنشوء الحياة، لكن لمّا كان باطن المنافق طافحاً بالكفر، ولمّا لم يكن الكفر إلاّ ظُلمة، فإنّ إسلام هؤلاء الشكليّ مع ما في دواخلهم من ظلمة النفاق يُحدِث صخباً وأزيزاً من شأنه أن يُسلِمهم إلى الهلع والخوف. فحينما تكون الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة للمسلمين مستقرّة وليس هناك من حساسيّة لدى النظام الإسلاميّ تجاه المنافقين، يتقدّم المنافقون بإسلامهم الظاهريّ هذا بضع خطوات في جمع المسلمين مستفيدين من هذا الاستقرار، أمّا عندما يُفتضَح أمرهم وتُفشَى سرائرهم، فإنّهم يتسمّرون في أماكنهم فاقدين القدرة على القيام بأيّ فعل. بالطبع لو شاء الله أن يسلبهم نورهم منذ البداية، لسلبهم إيّاه، بيد أنّه عزّ وجلّ يمهلهم بضعة أيّام من أجل أن يمتحنهم كي يعلم ما يُضمرون في بواطنهم.

سلوك المنافقين في مواجهة الخطر

عرض هذا التمثيل القرآنيّ لبضعة أخطار تواجه المنافقين: زخّات المطر

تسنيم، جلد 2

414

المصحوبة بالسحب القاتمة، قصف الرعد، ووميض البرق الذي يأخذ بالأبصار تصحبه الصواعق المميتة. وقد بيّن أيضاً سلوك المنافقين تجاه تلك الأخطار. أوّل خطر يتهدّدهم هو هطول المطر. فهطول المطر يكون أحياناً مدعاة للخير والرحمة؛ كالذي ينتفع منه الزرّاع عندما يهطل في وقته، وأحياناً أخرى يكون سبباً في العذاب؛ كالمطر الذي ينهمر على رؤوس مسافري البيداء وهم في منتصف الطريق.

فالمنافق هو إنسان قد أصابه المطر وهو يحاول الفرار منه لكن ما من سبيل للفرار؛ وقد أظلم عليه الطريق من ناحية، وأحدق به خطر الرعد والبرق والصواعق القاتلة من ناحية أخرى.

تصرُّف المنافقين في مواجهتهم لقصف الرعد، والصواعق التي تصحبه أحياناً، هو أنّهم يجعلون أصابعهم[1] في آذانهم من شدّة الخوف والهلع كي لا يُسلِموا أرواحهم جرّاء القصف المهيب للرعد، أمّا ردّ فعلهم في مقابل خطر برق السماء فهو فقدان أبصارهم عوضاً عن أن يستفيدوا منه في العثور على طريقهم ومشاهدة جادّة سيرهم. فهذا البرق الذي يومض في


[1]. إنّ استعمال تعبير «الأصابع» بدلاً من «الأنامل» (وهي رؤوس الأصابع)، مضافاً إلى كونه أكثر رواجاً، فهو يفيد المبالغة أيضاً؛ لأنّ عبارة ﴿يَجعَلُونَ أصَابِعَهُم في آذانِهِم﴾ فيها إشعار بشدّة خوف الإنسان؛ إذ أنّه يغرس إصبعه بأكمله في أذنه، وليس أنملته فحسب. أمّا الملاحظة الأخرى حول «الأصابع» فهي أنّه، وإن كان المتعارف عند الناس هو وضع سبّابتهم في آذانهم كي تحميهم من الأصوات المهيبة، إلاّ أنّ أدب القرآن الكريم في التعبير كان مانعاً من الإتيان باسم الإصبع هذا؛ لأنّ «السبّ» هو الشتم، و«السبّاب» هو الشاتم. كما أنّ الإسلام، من ناحية أخرى، قد أطلق على السبّابة اسم «المُسبِّحة» و«المُهلِّلة»، من باب أنّه يُستحبّ للإنسان، مراعاةً لأدب المناجاة، في حال تسبيحه للحقّ تعالى وتهليله له أن يشير إلى السماء بسبّابته.

تسنيم، جلد 2

415

ظلمات متواصلة ومطبقة لا يمكنه أن يشكّل نوراً يضيء طريق الإنسان: «وليس في البرق الخاطف مستمتَع لمن يخوض في الظلمة»[1].

بالرغم من أنّه باستطاعة الإنسان في ظروف خاصّة، جرّاء لحظة التفات وساعة اتّخاذ قرار صائب، أن يعرف طريقه إلى الأبد ويطويه، إلاّ أنّ هذا النوع من البرق لا يجعل أهل النفاق يتقدّمون إلاّ لبضع خطوات ثمّ لا يلبث أن يجبرهم على التوقّف مُغرقاً إيّاهم في ظلمات حالكة.

إنّ المهلة التي تُمنح للمنافق هي من أجل أن يشاهد، بشعاع النور هذا، موطئ قدميه فيرجع، وإلاّ فالله عزّ وجلّ باستطاعته أن يذهب، بهذا الرعد والبرق، بسمعه وبصره إلى الأبد: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾؛ ذلك أنّ الرعد والبرق والصاعقة هم من جنود الله سبحانه وتعالى المطيعين: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾[2].

إحاطة الله القهريّة بالكافرين والمنافقين

بعد بيان القرآن الكريم لسلوك المنافقين تجاه قصف الرعد، يشير إلى إحاطة الله بالكافرين: ﴿وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين﴾. وعلى الرغم من أنّ الإحاطة الإلهيّة مطلقة وليس لها حدود، وهي تستوعب كلّ شيء: ﴿بِكُلِّ شَي‏ْءٍ مَحِيطٌ﴾[3]، إلاّ أنّ المراد منها هنا ـ والحديث عن إحاطة الله


[1]. تحف العقول، ص97؛ وبحار الأنوار، ج74، ص286.

[2]. سورة الرعد، الآية 13.

[3]. سورة فصّلت، الآية 54.

تسنيم، جلد 2

416

بالكافرين ـ هو الإحاطة القهريّة الخاصّة. فكما أنّ لله عزّ وجلّ نوعين من «المَعِيَّة»: إحداهما المعيّة المطلقة مع كلّ إنسان (ومع غير الإنسان): ﴿هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[1]، والأخرى المعيّة الخاصّة بالمؤمنين وأهل التقوى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[2]، ﴿إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾[3]، فإنّ له شكلين من الإحاطة أيضاً.

فإنّ لله تعالى إحاطة قهريّة بالكافر الذي أسرته دوّامة خطاياه: ﴿أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾[4]، ولمّا كان المنافق كافراً في باطنه، فإنّ الله ـ من هذا المنطلق ـ يقول في عدّه لصفات المنافقين: ﴿واللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرين﴾؛ بمعنى، أنّ الله محيط بالكفّار، سواء أولئك الكفّار الذين يُظهرون كفرهم، أم الذين يُضمرون الكفر ويظهرون الإسلام.

لقد خُتمت كلّ من الآيتين محطّ البحث بإنذار للمنافقين؛ فالآية الأولى اُنهيت بالحديث عن إحاطة الله بالكافرين: ﴿واللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرين﴾، وفي ختام الآية الثانية، ومن أجل تثبيت التهديدات المذكورة، جاء الكلام عن القدرة الإلهيّة التي ليس لها حدود: ﴿إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾. فكما أنّ باستطاعة الله عزّ وجلّ أن يأخذ المنافقين بقصف رعد السماء المهول، فهو قادر على أن يهلكهم بصواعقها المحرقة، وهو يستطيع أيضاً أن يبتليهم بظلمات بعضها فوق بعض يُسلَبون معها القدرة على مواصلة المسير.


[1]. سورة الحديد، الآية 4.

[2]. سورة النحل، الآية 128.

[3]. سورة التوبة، الآية 40.

[4]. سورة البقرة، الآية 81 .

تسنيم، جلد 2

417

لطائف وإشارات

[1] الماء والنار في الأمثال القرآنيّة

في بعض الأمثال القرآنيّة يضرب الله سبحانه وتعالى تارةً الماءَ مثلاً، وتارة أخرى النار؛ فقد ضرب في سورة الرعد الماء والنار مثلين مقارناً فيما بينهما عندما قال: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ٱبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾[1]. وفي الآيتين مورد البحث كذلك فإنّه تطرّق إلى مطر السماء من جهة، وبرقها وصواعقها من جهة أخرى.

[2] السرّ في اختلاف التعبير بين «كلّما» و«إذا»

لبيان إنارة طريق المنافقين بضياء برق السماء استُخدمت كلمة «كلّما»، وللتعبير عن إظلامها استُعين بكلمة «إذا». والسرّ في هذا التفاوت في التعبير هو أنّ «كُلّما» تفيد الاستمرار، في حين أنّ «إذا» هي وقتيّة وفجائيّة، ولمّا كان انتظار المسافر السائر في الطريق أن تكون طريقه مُنارة على الدوام، فقد عُبِّر عن إنارة البرق بكلّما، وبما أنّه يتملّكه الخوف إذا أظلم عليه المكان، فقد استُعين بإذا الوقتيّة الفجائيّة للتعبير عن انقطاع البرق والذهاب المفاجئ لضيائه.


[1]. سورة الرعد، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

418

[3] سرّ الإحاطة القهريّة لله بالمنافقين

إنّ التعبير ﺑ «الكافر» عن المنافقين، وباستخدام الاسم الظاهر لا الضمير ـ والحال أنّ كلّ ما ورد منذ الآية 17 وحتّى الآية 19 جاء بصورة الضمير لا الاسم الظاهر ـ راجع لبعض الملاحظات التي سبق ذكر بعضها، أمّا البقيّة فهي: أنّ باطن النفاق هو الكفر بعينه، وأنّ التصريح بالاسم الظاهر ﴿الكافرين﴾ عوضاً عن الضمير العائد إلى المنافقين، هو من أجل تفهيم العلّة من وراء الإحاطة الإلهيّة القهريّة بهؤلاء، كما أنّ التصريح بذلك في أثناء المثَل وقبل إتمامه هو لحفظ الارتباط بالمُمثَّل وإحضاره، وكذلك من أجل تطبيق المثال مع الممثّل في الذهن.

إنّ معنى الإحاطة في هذه الآية هو مشابه لمعناها في الآيات: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾[1]، و﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ اُحِيطَ بِهِمْ ...﴾[2]، و﴿وَاُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ‏ مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾[3]، و﴿لَتَأتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾[4]، و﴿إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[5]، وأمثالها، وهي الإحاطة القهريّة والتعذيبيّة.

[4] سرّ استمرار النفاق عند المنافقين

لمّا كانت عيون قلوب المنافقين وآذانها محجوبة ومسدودة، بل مطموسة


[1]. سورة الكهف، الآية 29.

[2]. سورة يونس، الآية 22.

[3]. سورة الكهف، الآية 42.

[4]. سورة يوسف، الآية 66.

[5]. سورة التوبة، الآية 49.

تسنيم، جلد 2

419

وممحيّة، فإنّهم لا يسمعون نداء التبشير من ملائكة الرحمة، ولا صوت الإنذار من ملائكة الغضب، ولا يشاهدون آثاراً للمنادين الغيبيّين، لذا فإنّهم لا يعودون إلى فطرتهم الأصليّة. ولمّا كان لسانهم الباطنيّ ـ من ناحية أخرى ـ أبكمَ فليس في استطاعتهم إخبار صاحب القلب العارف بالداء عن حالهم الفعليّ، ولا المبادرة إلى مداواة مرض روحهم بعرض أنفسهم على طبيب حاذق. من هنا ينكشف السرّ في إشارة الباري عزّ وجلّ إلى عمى المنافقين، وصممهم، وبكمهم في معرض تحليله لاستمراريّة نفاقهم، وإنّه حتّى لو حاول طبيب عارف أن يداوي داءهم من أعماقهم، فإنّ فقدانهم لمجاري الإدراك الباطنيّة يسلبهم القدرة على تلقّي نداء الهاتف الغيبيّ.

[5] المجاميع الثلاث في الآيات الأولى للسورة

في مطلع سورة البقرة، وبعد ذكره للمؤمنين وأوصافهم الخاصّة ضمن خمس آيات، يتعرّض الله سبحانه وتعالى لذكر الكفّار المعاندين وأوصافهم الخاصّة في آيتين، والمنافقين وصفاتهم القبيحة في ثلاث عشرة آية، ثمّ ينتخب في النهاية عنوان «الكافر» الجامع الشامل لكلتا المجموعتين الثانية والثالثة. لذا فإنّه عزّ وجلّ يقول: ﴿وَالله مُحِيطٌ بِالكَافِرِين﴾.

وقد أجهد صاحب تفسير «المنار» نفسه في تقسيم مصاديق الآيات المذكورة إلى أربع مجاميع، لا ثلاث؛ وذلك بأن جعل عنوان «المتّقين» في الآية الثانية شاملاً لفريقين: الأوّل هو «الذين» في الآية الثالثة، والثاني هو «الذين» في الآية الرابعة[1]؛ إلاّ أنّ رأيه ليس بالرأي الصائب.


[1]. راجع تفسير المنار، ج1، ص148.

تسنيم، جلد 2

420

[6] علامة سفاهة المنافقين

إنّ علامة سفاهة المنافقين هي إخفاؤهم لسيّئاتهم عن الناس، مع أنّه ليس للناس إحاطة علميّة، ولا إحاطة اقتداريّة، وما من عمل يصدر من الناس من دون إذن الله تعالى، لكنّهم (المنافقين) لا يُخفون سيّئاتهم عن الله (على الرغم من استحالة إخفاء أمرٍ عن الله) في حين أنّ الأمور كلّها بيده سبحانه، والآية الشريفة: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ‏ مِنَ الْقَوْلِ وَكاَنَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾[1] هي تبيان لإمكانيّة الاستخفاء من الناس وعدم إمكانيّته من الله.

[7] سفاهة المنافقين في قالب المَثَل

لقد تمّت الإشارة إلى سفاهة المنافقين في التمثيل المذكور، حيث انّ غلْق منفذ السمع، وغرْس الأصابع فيه تفادياً لسماع أزيز الرعد المرعب، قابل للتصديق إلى حدّ ما، لكن أيّ أثر يُرتَجى لجعل الأصابع في الأذن للنجاة من الصاعقة؟ فالصاعقة السماويّة إذا صعَقت فإنّها تُحرق وجود الشخص المصعوق دفعة واحدة، وتجعل من يده وأذنه رماداً في آنٍ واحد.

[8] سرّ الإسهاب في البحث بخصوص المنافقين

لعلّ الاكتفاء بآيتين في الشرح الإجماليّ لحال الكافرين، وعدم الاكتفاء بأقلّ من ثلاث عشرة آية في بسط حال المنافقين والتفصيل فيه، بصرف النظر عن أنّه راجع إلى التحذير من خطرهم وكشف كيفيّة ازدواجيّتهم


[1]. سورة النساء، الآية 108.

تسنيم، جلد 2

421

في التعامل مع المؤمنين والكافرين، فإنّه يرجع إلى أنّ الكافرين العنودين والملحدين اللجوجين عصيّون على الرجوع والأوبة سواء اُنذِروا أم لم يُنذَروا، أمّا المنافقون الموصوفون والممَثَّلون، وبسبب تمتّعهم بشيء من النور، فإنّ هناك بصيص أمل في أن يعودوا إلى جادّة الصواب. من هذا المنطلق، فقد بُولِغ في البحث في هذا الموضوع[1].

البحث الروائيّ

[1] أوصاف المنافقين

ـ «أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذّركم أهل النفاق فإنّهم الضالّون المُضِلّون، والزالّون المُزِلّون، يتلوَّنون ألواناً، ويَفتَنُّون افتِناناً، ويَعمِدونَكم بكلّ عِماد، ويرصُدونكم [يسدّونكم] بكلّ مرصاد، قلوبهم دَوِيّة، وصِفاحُهم نَقيّة، يمشون الخفاء، ويدِبّون الضَّراء، وَصفُهُم دواء، وقولهم شِفاء، وفعلهم الدّاء العَيَاء، حَسَدَة الرخاء، ومؤكِّدو [مولّدو] البلاء، ومُقنِطو الرجاء، لهم بكلّ طريق صريع، وإلى كلّ قلب شفيع، ولكلّ شَجوٍ دموع، يتقارضون الثناء، ويتَراقَبون الجزاء، إنْ سألوا [ساقوا] ألحَفوا، وإنْ عذَلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعَدُّوا لكلّ حقّ باطلاً، ولكلّ قائمٍ مائلاً، ولكلّ حيّ قاتلاً، ولكلّ باب مفتاحاً، ولكلّ ليل مصباحاً، يتوَصَّلون إلى الطمع باليأس ليُقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقَهم، يقولون فيشَبِّهون، ويصفون فيمَوِّهون، قد هَوَّنوا الطريق [الدين]، وأضلَعوا المضيق، فهم لُمَة


[1]. راجع تفسير القرآن الكريم، ابن العربيّ، ج1، ص27.

تسنيم، جلد 2

422

الشيطان، وحُمَة النيران ﴿اُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[1]‏»[2].

إشارة: أمير المؤمنين(ص)، الذي يحثّ المفسّرين والباحثين في المعارف القرآنيّة على استنطاق القرآن، ويعتبر نفسه المخبر عن القرآن الصامت، بل إنّه هو القرآن الناطق، ويرى أنّ القرآن الكريم ينطوي على علوم الماضي والآتي وأنّه شفاء لأسقام الإنسان، يقول في المنافقين:

«إنّ هؤلاء ضالّون مضلّون، وزالّون مزلّون. فهم يتلوّنون بألوان شتّى، ويأتون كلّ يوم بحيلة وفنّ جديدين. يتعقّبونكم بكلّ عِماد مُهلِك كي يُبيدوكم، ويكمنون لكم في كلّ مرصد. مريضة قلوبهم، وشرّيرة بواطنهم، لكن لا تبدو على وجوههم أيّ علامة للمرض. يمشون بين الناس خفية ليخدعوهم. ظاهر قولهم فيه الشفاء، أمّا فعلهم فهو الداء المُتعب العصيّ على العلاج. يحسدون الآخرين على رخائهم، ويضاعفون أضعافاً ما ينزل بالمؤمنين من نوازل، ويغلقون منافذ الرجاء. لهم في كلّ طريق صريع وقتيل (فقد ورّطوا الكثيرين بجرّهم إلى مهاوي الردى). يحاولون أن يجدوا إلى كل قلب سبيلاً، ودموعهم على كلّ مصيبة حاضرة. يقرضون بعضهم البعض المديح والثناء، وينتظرون مقابله الأجر والجزاء (يتوقّعون الثناء). يصرّون ويلحفون في السؤال للوصول إلى مآربهم، وإذا ما لاموا الآخرين كشفوا سرّهم وفضحوا أمرهم، وإن تسلّموا مقاليد الحكم ظهر أنّهم أهل جور وظلم وإسراف.


[1]. سورة المجادلة، الآية 19.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 194.

تسنيم، جلد 2

423

لقد أعدّوا لكلّ حقّ باطلاً، ووضعوا في مقابل كلّ عمود قائم عموداً مائلاً (كي يسقط هو ومن يتّخذه متكًى له؛ أي إنّهم هيّأوا لكلّ دليل شبهة). لقد عيّنوا لكلّ حيّ قاتلاً، وأعدّوا لكلّ باب مفتاحاً، وأشعلوا لكلّ ليل مصباحاً (من أجل أن يحتالوا على الناس؛ كالقرآن الذي رفعوه على الأسنّة في صفّين). يسعون إلى نيل مطامعهم من خلال إظهار الزهد بالدنيا واليأس منها كي يعمُروا أسواقهم ويبيعوا بضائعهم. إنّهم يقولون، ولكن ما يشبه الحقّ (وليس الحقّ)، ويصفون، ولكن بتزيين الظاهر وتزويقه، فهم يُلبسون الباطل حلّة الحقّ. يسَهّلون وييسّرون الطريق الضيّقة الصعبة، ويحرفونها في الوقت ذاته كي يزيدوا في حيرة سالكيها. فهؤلاء هم عصبة الشيطان وجماعته، وشرر نار جهنّم المتطاير. ﴿اُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾».

[2] عاقبة منافقي عصر النبيّ الأكرم(

ـ «رجل منافق مُظهر للإيمان، متصنِّع بالإسلام، لا يتأثَّم ولا يتحرَّج، يكذب على رسول الله(ص) متعمّداً، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدّقوا قوله، ولكنّهم قالوا: صاحب رسول الله(ص) رآه، وسمع منه، ولقِف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثمّ بقُوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فوَلَّوهم الأعمال، وجعلوهم حكّاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله‏»[1].


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 210.

تسنيم، جلد 2

424

إشارة: في صدر الإسلام كان جمع يُعتدّ به من المسلمين منافقين، حتّى أنّه في معركة أحُد كان عدد المنافقين يربوا على الثلاثمائة (ما يعادل ثلث جيش المسلمين) وقد قفلوا عند منتصف الطريق راجعين، وكانوا يثبّطون المجاهدين المتوجّهين إلى جبهات القتال عن الحضور في ميدان المعركة. هؤلاء لم يألوا أيّ جهد في إيجاد العراقيل في طريق النبيّ الأكرم(ص) والمسلمين، حتّى انّهم اتّهموا أسرة النبيّ بأفظع التهم، ألا وهي تهمة الفحشاء (قصّة الإفك)؛ لكن بعد رحيل النبيّ الأعظم(ص)، وعندما أصبح أمير المؤمنين(ص) جليس الدار، هدأت الأوضاع فجأة، في حين أنّه لا كلّ هؤلاء المنافقين قد ماتوا، ولا أنّهم جميعاً تحوّلوا إلى التوبة والتقوى. والسرّ في ذلك يعود إلى أنّ هؤلاء قد اصطلحوا مع حكّام ذلك الزمان، فنالوا ما تصبوا إليه قلوبهم.

يقول أمير المؤمنين(ص) في هذه الخطبة في حقّ هؤلاء: «ثمّ بقُوا بعده [بعد رسول الله(ص)] فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فوَلَّوهم الأعمال، وجعلوهم حكّاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله»[1].

وسيتّضح تيار النفاق بشكل متفرّق في غضون السور والآيات الآتية.


[1]. من أحبّ التفصيل في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب «الحماسة والعرفان»، للمؤلّف، ص294 ـ 298.

تسنيم، جلد 2

425

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

خلاصة التفسير

يستخدم القرآن الكريم أسلوب التخاطب في تبيينه للأحكام الإلهيّة كي يشعر الإنسان بالمسؤوليّة، ويتذوّق أيضاً لذّة الحضور في حريم الحقّ. فنداءات القرآن التي تأتي من دون واسطة تحكي العلاقة المباشرة والفعليّة بين الله والإنسان.

لقد تمسّك وثنيّو الحجاز في عبادتهم للأوثان بسنّة آبائهم، والله سبحانه وتعالى ـ أوّلاً ـ يثبّت في هذه الآية الكريمة ضرورة العبادة من خلال ربوبيّة الحقّ وخالقيّته، وكذلك عن طريق كون التقوى كمالاً، وثانياً يجيب الوثنيّين بأنّ آباءكم كانوا أمثالكم في أنّهم مخلوقات الله ولا ينبغي لكم أن تتّبعوا سنّتهم النابعة من الجهالة. فالعبادة (وهي العبوديّة لله في العقيدة، والأخلاق، والعمل) هي المؤمِّنة للحياة الإنسانيّة، ومن دونها يهبط الإنسان إلى مستوى النبات أو الحيوان بل وأخسّ من الحيوان أيضاً.

تسنيم، جلد 2

426

إنّ العبادة هي الموطِّئة للتقوى، والتقوى هي الزاد والمتاع والأرضيّة لنيل الفلاح، وإنّ الفلاح النهائيّ للإنسان هو في لقاء الله عزّ وجلّ. إذن فالتقوى هي غاية العبادة وهي ذاتها المقدّمة لفلاح المتعبّد.

التفسير

«أيُّها»: تُكتب «أيّها» دائماً بالألف ما عدا في ثلاثة موارد هي: ﴿وَتُوبُواْ إِلَىٰ اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾[1]، و﴿يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ﴾[2]، و﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ﴾[3].

«اعبدوا»: يرى القرآن الكريم أنّ العبادة هي الأرضيّة للحصول على التقوى، وأنّ التقوى متبلورة في مجموعة من العقائد، والأخلاق، والأعمال الصالحة التي تظهر في الإنسان المتّقي بصورة ملَكَة. من هذا المنطلق فإنّ للعبادة مدلولاً منبسطاً بحيث يشمل جميع العبادات الفكريّة، والأخلاقيّة، والعمليّة التي تُوصل بمجموعها الإنسان العابد إلى الملَكَة الرفيعة للتقوى.

«خلقكم»: ليس الخلق هنا بمعنى الإيجاد والتكوين الصرف، بل هو بمعنى «إيجاد الشيء بكيفيّة خاصّة وبمقاييس حكيمة». من هذا الباب فقد قال أهل اللغة: «أصل الخلق التقدير».

والتقدير يكون تارة بضمّ شيء إلى شيء آخر؛ كضمّ أجزاء النطفة


[1]. سورة النور، الآية 31.

[2]. سورة الزخرف، الآية 49.

[3]. سورة الرحمٰن، الآية 31.

تسنيم، جلد 2

427

إلى بعضها البعض، أو ضمّ نطفة الذكر إلى نطفة الأنثى، ثمّ ضمّ جزيئات المواد الغذائيّة إليها في ظروف خاصّة ليتشكّل جسم الإنسان أو الحيوان. كما ويكون التقدير تارة أخرى في الأمور البسيطة؛ كقياس ذات الشيء البسيط، وتعيين درجته الوجوديّة، وجعل وتنظيم آثاره الوجوديّة، ثمّ إقامة الأواصر الوجوديّة بينه وبين سائر الأشياء.

هناك فارق بين الخلق بالمعنى المذكور وبين بعض الموادّ التي هي من قبيل الإيجاد، والإبداع، والتقدير، والجعل، والاختراع، والتكوين؛ لأنّه في كلٍّ من هذه الموادّ هناك مراعاة لجانب معيّن عدا التقدير والقياس. بالطبع قد تُستخدم عبارات الخلق والخلقة في عرف الدين والمتديّنين أيضاً للدلالة على الإيجاد والإبداع (بلا اُنموذج سابق)[1].

«لعلّكم»: يُنتزَع الترجّي والرجاء من مقام فعل الله عزّ وجلّ، وليس من مقام ذاته، ولمّا كان «الرجاء» و«الخوف» من خصوصيّات مورد الاستعمال، ولا دور لهما في الموضوع له، فإنّ «لعلّ» هنا هي بالمعنى الجامع بين الرجاء والخوف، ويعني أصل توقّع الظاهرة (سواء كانت نافعة أم ضارّة) التي يكون احتمال تحقّقها أكثر من عدمه. ففي الآية مورد البحث جاءت لعلّ بمعنى: اعبدوا ربّكم الذي هو خالقكم وخالق أسلافكم لعلّكم تنالون ملَكَة التقوى.

بعد تقسيم الناس إلى مجاميع ثلاث (وهم المؤمنون، والمنافقون، والكافرون) وتبيين أوصافهم في الآيات الفائتة، يوجّه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة ـ ومن خلال الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ـ


[1]. راجع الميزان، ج8 ، ص151؛ مجمع البيان؛ ج1 ـ 2، ص153 و172؛ التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج3، ص127.

تسنيم، جلد 2

428

خطابه إلى كافّة الناس (المجاميع الثلاث عدا الصغار والمجانين)، ويدعوهم إلى عبادة ربّهم (الكفّار يدعوهم إلى حدوث العبادة، والمنافقون إلى خلوص العبادة، والمؤمنون إلى دوام العبادة). وهو تعالى ـ وفي سياق تبيينه لربوبيّته في غضون ذكر آيات الأنفس والآفاق ـ يَعدّ «التوحيد العباديّ» متفرّعاً عن «التوحيد الربوبيّ»، والتوحيد الربوبيّ متفرّعاً عن «التوحيد الخالقيّ»، وينظر إلى العبادة على أنّها الموطِّئة لتحقّق التقوى وتكاملها.

تنويه: ما سوف يأتي في الآية 22 هو تبيان لمنطقة ربوبيّة الله وخالقيّته فيما يتعلّق بالعالَم الخارج عن الإنسان؛ مثلما أنّ الآية محطّ البحث ناظرة إلى خلق الناس وتنشئتهم.

النداءات الإلهيّة

الآية مورد البحث هي أوّل آية قرآنيّة تبدأ بخطاب ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ﴾[1].


[1]. يروي الشيخ الطوسيّ & عن علقمة والحسن: «أنّ كلّما في القرآن ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نزل بالمدينة وما فيه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ نزل بمكّة»، (التبيان، ج1، ص98). لكنّ القبول بهذا المدّعى مرهون بالتتبّع التامّ. فالآية محلّ البحث نزلت في المدينة. يقول القرطبيّ بعد النقل المذكور: «وهذا يردّه أنّ هذه السورة والنساء مدنيّتان وفيهما ﴿يَا أَيُّهَا النَّاس‏﴾»، (الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص216). وممّا يجدر الالتفات إليه أنّه قد يُعثَر على آية مكّية في سورة مدنيّة وأنّ السبيل الأساسيّ لإثبات ذلك هو عن طريق النزول. عنوان «الناس» استخدم في القرآن الكريم أكثر من غيره من العناوين مثل «المسلم» و«المؤمن». وعلى فرض أنّ ﴿يا أيّها النّاس﴾ نزلت في مكّة، وأنّ الآية محطّ البحث هي آية مكّية على الرغم من وجودها في سورة مدنيّة، فإنّ الخطاب فيها لا يخصّ المشركين؛ لأنّه كان يوجد في مكّة مسلمون أيضاً. لذا فإنّ تفريع الزمخشريّ غير صائب؛ إذ أنّه بعد أن روى عن علقمة أنّ ﴿يا أيّها النّاس﴾ مكّية قال: «فقوله: ﴿يَا أيُّهَا النَاسُ ٱعبُدُوا رَبَّكُم﴾ خطاب لمشركي مكّة»، (الكشّاف، ج1، ص89).

تسنيم، جلد 2

429

القرآن الكريم جامع لحِكَم وأحكام أكمل الشرائع السماويّة، وإنّ الصفة الغالبة على أسلوبه في تبيين «أحكام» الدين هي صفة الخطاب، وأفضل شاهد على ذلك هو احتواؤه على عدد كبير من النداءات. وعلى العكس من الكتب العلميّة، والفلسفيّة، والقانونيّة البشريّة التي تطرح مباحثها بأسلوب القضايا الخبريّة، أو القضايا الحقيقيّة، من دون اللجوء إلى الخطاب، فإنّنا نعثر في الكثير من الآيات القرآنيّة على خطابات من قبيل: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، و﴿يَا عِبَاد﴾.

ففي القرآن الكريم حتّى إذا صُبّ الحُكم (الواجبات والمحرّمات الفقهيّة والحقوقيّة والأخلاقيّة) في قالب قضيّة أو خبر، فإنّ روحه تكون إنشاءً وخطاباً وليس إخباراً. بالطبع إنّ تعليم المعارف البرهانيّة (ما كان وما لم يكن)، والاحتجاجات العقليّة، أو أنماط الشهود القلبيّ هو في الحقيقة خبر؛ على الرغم من أنّ تبيين محتويات تلك الأمور هو بصورة الخطاب؛ إلاّ أنّ الخطاب قابل للجمع مع الخبر.

إنّ للاستعانة بأسلوب التخاطب هذا ثماراً؛ من جملتها أنّ الله يمنح الناس شخصيّة من خلال مخاطبتهم، ويصنع منهم اُناساً ملتزمين وعلى مستوى المسؤوليّة. كما أنّ الله عزّ وجلّ يذيق المخاطَبين لذّة الحضور في حريمه وحضرته جلّ وعلا كي تستقرّ حقائق المعارف في قلوبهم عند تعليمهم إيّاها، ولا يؤثّر فيهم التعب والنصب في أثناء العبادة العمليّة. من هذا المنطلق يقول الإمام الصادق(ص): «لذّة ما في النداء أزال تعب العبادة والعناء»[1]. كما أنّ الخطاب من دون واسطة له من الجذّابيّة ما


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص490.

تسنيم، جلد 2

430

ليس للخطاب مع الواسطة. بناءً على هذا، هناك فرق بين ﴿قُل يا ...﴾ و﴿يا ...﴾.

إنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وبصورة النداء من دون واسطة، في الآية مورد البحث يمهّد الأرضيّة لدى المخاطَبين، الذين هم عامّة الناس، لقبول العبوديّة.

النداءات الإلهيّة في القرآن الكريم تكون حيناً بواسطة؛ مثل: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾[1]، و﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾[2]، حيث جعل الله سبحانه وتعالى النبيّ الأكرم(ص) هو المخاطب ليُوصل نداءه إلى الناس من خلاله، وتكون حيناً آخر بلا واسطة؛ كالخطاب الذي جاء في الآية محلّ البحث. بالطبع إنّ التعبير اللفظيّ هو الذي يكون من دون واسطة وإلاّ فإنّه في تنزّل الوحي لابدّ أنّه سيكون بواسطة النبيّ الأكرم(ص). كما أنّ قسماً من النداءات الإلهيّة في القرآن الكريم هي نداءات تشريعيّة، أي خاصّة بالناس (من جهة تمتّعهم بالأفعال الإراديّة)، وهناك قسم منها يحكي النداء التكوينيّ الموجّه لمجموعة نظام الخلقة؛ مثل: ﴿ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَىٰ السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾[3]، أو الموجّه إلى كلٍّ من الوحدات الخاصّة لنظام الكون؛ مثل: ﴿يَا أَرْضُ ٱبْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾[4]. والنداءات التكوينيّة العامّة والشاملة تشمل الإنسان أيضاً؛ ذلك أنّ الإنسان هو جزء من مجموعة نظام الخليقة.


[1]. سورة الحجّ، الآية 49.

[2]. سورة آل عمران، الآية 64.

[3]. سورة فصّلت، الآية 11.

[4]. سورة هود، الآية 44.

تسنيم، جلد 2

431

والنداء بلا واسطة يدلّ على أنّ هناك علاقة مباشرة وفعليّة بين الله سبحانه وتعالى والإنسان، وأنّ الله عزّ وجلّ يشمل الإنسان بألطافه على نحو مباشِر؛ إلاّ أنّ الإنسان الغافل والجاهل يقطع الرابطة بينه وبين الله أو يضعفها بسوء اختيار منه فيُحرَم من لطفه جلّ وعلا.

إنّ نداءات القرآن لا تختصّ بزمان محدّد أو أشخاص معيّنين، بل إنّها حيّة وحاضرة لكلّ العصور والأمصار والأجيال. من هذا الباب فإنّ قول «لبّيك» عند سماع خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو من آداب تلاوة القرآن، وهذا إشعار بكون النداءات القرآنيّة مباشِرة وحيّة وفعليّة، وإلاّ فقول لبّيك استجابةً لنداء قد فات زمانه لابدّ أن يكون بلحاظ استرجاع ذكرى الخطاب الماضي في الذهن، ولا يمكن أن يكون جدّياً أو عن حقيقة. إذن فنداء ﴿يَا أيُّها النَّاس﴾، الذي تنعدم فيه الواسطة، هو علامة على العلاقة الوثيقة التي تربط العبد بمولاه، وما لم تُقطَع أو تُضعَّف هذه العلاقة الحسنة من جانب الإنسان، فإنّها تُحفظ وتستمرّ من جانب الله سبحانه وتعالى.

إنّ خطاب ﴿يا أيّها الناس﴾ لا يشبه الخطابات العاديّة؛ إذ أنّ سعة كلّ نداء وخطاب هي بمقدار رؤية المنادِي والمخاطِب، والمنادي إمّا أن يكون هو الإنسان، الذي لا يرى بعينه الظاهريّة إلاّ الحاضرين أمامه فيخاطبهم، وإمّا أن يكون هو الله عزّ وجلّ الذي يرى حتّى الناس في المستقبل فيوجّه الخطاب إليهم أيضاً. يقول أمير المؤمنين(ص) إنّ الله كان عالِماً من قبل تحقّق المعلوم: «عالِمٌ إذ لا معلوم‏»[1]. ويقول بخصوص


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 152.

تسنيم، جلد 2

432

البصر أيضاً: كان شاهداً حينما لم يكن قد تحقّق مشهود: «بصير إذ لا منظور إليه من خلقه‏»[1].

لمّا كان الناس كافّة ـ من الحاليّين والمستقبليّين ـ مشهودين من قبل الله عزّ وجلّ، فإنّ النداء القرآنيّ يستوعبهم جميعاً ولا يعود حينها مجال لطرح البحث الأصوليّ المعروف في أنّه «هل تشمل الخطابات الشفهيّة للقرآن، لفظاً أو ملاكاً، المعدومين في حين الخطاب أم لا؟». بالطبع إذا تنزّل المرء بالخطاب القرآنيّ إلى مستوى المفاهَمة وثقافة المحاورة العرفيّة، أو قال: إنّ القرآن يتكلّم آخذاً المخاطَبين بنظر الاعتبار، أصبح من المناسب طرح مثل هذا البحث.

إنّ خطاب ﴿يا أيّها الناس﴾ هو دعوة عامّة تشمل المؤمنين وأهل الكتاب وحتّى الملحدين أيضاً، بيد أنّ شمول الخطاب بالنسبة للمؤمن، والمنافق، والكافر هو في البُعد المُلكِيّ للآية بينما شموله بالنسبة لخصوص المؤمنين هو في البُعد الملكوتيّ لها؛ ذلك أنّ «الناس» الحقيقيّين هم المؤمنون أنفسهم فحسب، وأنّ غير المؤمنين هم أشبه بالأنعام، بل هم أخسّ منها: ﴿اُوْلَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾[2]. إذن فإنّ لكلّ من المُلك والملكوت مرتبته الخاصّة وإنّ خطاب ﴿يا أيّها الناس﴾ بالنسبة للمؤمنين قابل للتبيين من خلال التقريبين؛ وإن كان بالنسبة لغير المؤمنين فإنّه يكون قابلاً للتبيين على أساس المحاورة المُلكِيّة فحسب.


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 1.

[2]. سورة الأعراف، الآية 179.

تسنيم، جلد 2

433

العبادة وازدهار حقيقة الإنسان

لقد طُرحت في الآية مورد البحث بضعة أصول: الأوّل هو أنّه يتعيّن على الإنسان أن يعبد؛ والثاني أنّه لابدّ أن يكون معبوده هو ربّه، وليس شيئاً أو شخصاً آخر؛ والثالث هو أنّ ربّ الإنسان لا يكون إلاّ خالقه. من هنا فإنّ الآية تقول لعامّة الناس: اعبدوا الربّ الذي خلقكم أنتم والذين من قبلكم.

إنّ القرآن الكريم يدعوا الناس أجمعين إلى «التوحيد العباديّ» وهو جلّ وعلا يسند التوحيد العباديّ إلى «التوحيد الربوبيّ»، ويسند التوحيد الربوبيّ إلى «التوحيد الخالقيّ»، وهو يعتبر أنّ السرّ من وراء هذه الدعوة هو تحقّق «التقوى»، ثمّ يثبّت ـ في آخر الآية اللاحقة ـ نداء الدعوة الإثباتيّة بالنهي عن الشرك.

يرى القرآن الكريم أنّ العبادة والارتباط بالله هما اللذان يمنحان الحياة الإنسانيّة. فالإنسان محتاج إلى الله ليس فقط عند مبدأ خلقته بل في استمراريّتها أيضاً، وإنّه من غير الممكن تحقّق الحياة الإنسانيّة من دون العبادة والارتباط بالحيّ المحض، أي الله عزّ وجلّ؛ فإن انفصمت الآصرة بين العبد والمولى، فلن يكون للإنسان المحتاج من سبيل لتلبية متطلّباته، ولأصبح من الهالكين، ولتحوّل في النهاية إلى حيوان، أو نبات، أو صخرة. وتوضيح ذلك هو أنّ الإنسان إذا كان سعيه مقتصراً على تأمين متطلّباته الجسديّة، فهو «نبات بالفعل» و«حيوان بالقوّة»، وإذا انهمك في تلبية حاجاته العاطفيّة فقط، فهو «حيوان بالفعل» و«إنسان بالقوّة».

فالإنسان الذي يكون أميناً في أعماله ولا تصدر منه الخيانة هو

تسنيم، جلد 2

434

حيوان مروَّض، ككلب الصيد الذي يتحمّل مشاقّ الصيد وألم الجوع، لكنّه لا يخون الأمانة التي لديه (الصيد) لأنّه يلتذّ بكونه أميناً. وعلى هذا الأساس فإنّ الشخص الذي يخون الأمانة هو أدنى وأخسّ من الحيوان المروّض. كذلك فإنّ الإنسان الذي لا يفكّر إلاّ بالمسائل العاطفيّة، وتكون حميّته في الدفاع عن الأسرة والأقارب وضمن نطاق القوميّة والقبيلة فهو حيوان عطوف كالدجاجة التي تحمي فراخها.

إلاّ أنّ الذي تلقّى المعارف التوحيديّة الراقية واستطاع أن يصبح نموذجاً لقوله تعالى: ﴿عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾[1]، وإنّ الذي تمكّن، من خلال عبور كافّة العقبات الكؤود للتعلّق بالدنيا، ليصير أهلاً للإيثار، وأن يسمع نداء ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ‏ رَبِّكِ﴾[2]، هو إنسان بالفعل وهو قد أوصل حقيقة الإنسانيّة لديه إلى الازدهار؛ وهذا يوازي قول أمير المؤمنين(ص) في كتابه إلى معاوية بخصوص شهداء آل الرسالة والإمامة: لقد استُشهِد اُناس كثيرون لكنّهم ليسوا جميعاً مثل شهدائنا؛ كجعفر الطيار وحمزة سيّد الشهداء: «ألا ترى ... أنّ قوماً استُشهِدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلٍّ فضل حتّى إذا استُشهِد شهيدنا قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله(ص) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه. أَوَلا ترى أنّ قوماً قُطِّعت أيديهم في سبيل الله ولكلٍّ فضل حتّى إذا فُعِل بواحدنا ما فُعِل بواحدهم قيل: الطيّار في الجنّة، وذو الجناحين‏»[3].


[1]. سورة البقرة، الآية 31.

[2]. سورة الفجر، الآيتان 27 و28.

[3]. نهج البلاغة، الرسالة 28.

تسنيم، جلد 2

435

البرهان على ضرورة العبادة

في مقام بيان الأحكام الفرعيّة والجزئيّة لا يأتي القرآن الكريم بدليل، اللّهمّ إلاّ من باب إحياء الارتكاز الفطريّ، أو التنويه بالملاحظات الأخلاقيّة، لكنّه يقيم البرهان على اُصول الدين والمسائل النظريّة، التي من جملتها أصل ضرورة العبادة، وانّ العلّة المذكورة في الآية محلّ البحث للزوم العبادة هي برهان حدّه الأوسط هو ربوبيّة الحقّ، وقد اُقيم هذا البرهان من خلال تعليق حكم: ﴿اعبدوا﴾ على الوصف: ﴿ربّكم﴾. فتعليق حكم العبادة على وصف الربوبيّة يُظهِر علّية الوصف المذكور لضرورة العبادة، والتناسب بين هذا الحكم والوصف؛ فعلّة وجوب عبادة الله عزّ وجلّ هي ربوبيّته، وأنّ تدبير جميع الأمور بيده، وأنّ الإنسان عبد، والعبد مربوب في جيمع شؤونه، وهو تحت تدبير الله: ﴿لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾[1]، وأنّ على العبد أن يخضع بين يدي الربّ. تأسيساً على هذا، فإنّ جملة ﴿اعبدوا ربّكم﴾ هي أمر مشفوع بالبرهان.

تنويه: تضاف في بعض الأحيان إلى البرهان المذكور مباحث أخرى ليكون تأثيره جدّياً؛ كقولنا إنّ الرسول الأكرم(ص) يعبد الله مستنداً إلى نفس هذا البرهان، مضافاً إلى أنّ عبادة الربّ هي صراط مستقيم: ﴿وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾[2].

كان وثنيّو الحجاز يقرّون بأنّ الله هو «الخالق» وأنّه «ربّ الأرباب»، لكنّهم كانوا يظنّون أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل أمور العالم المختلفة


[1]. سورة الأعراف، الآية 188.

[2]. سورة مريم، الآية 36.

تسنيم، جلد 2

436

لأرباب صغار، كربّ الأرض، وربّ البحر، وربّ المطر، ...الخ، وأنّ هؤلاء يديرون شؤون عالم الوجود المختلفة، إلى حدّ أنّهم صنعوا تماثيل للأرباب الصغار وطفقوا يعبدونها لتكون شفعاءهم والواسطة في تقرّبهم إلى الحقّ: ﴿هَٰؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾[1]، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ اللهِ زُلْفَىٰ﴾[2]. إذن، فالوثنيّون كانوا مشركين بالربوبيّة وليس بالخالقيّة، ونتيجة لشركهم الربوبيّ فقد ابتُلوا بشرك عباديّ أيضاً فعبدوا أرباباً متفرّقين.

إنّ جملة ﴿الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم‏﴾، التي هي صفة للربّ، هي تبيان للتلازم، الذي لا يقبل الانفكاك، بين الربوبيّة والخالقيّة. وبالإمكان تبيين هذا التلازم، كما مرّ ذكره في تفسير سورة الحمد[3]، من خلال طريقين:

1. على الرغم من التفاوت بين مفهومَي الربوبيّة والخالقيّة، إلاّ أنّ التحليل العقليّ يُظهر أنّ حقيقة الربوبيّة تعود للخالقيّة؛ ذلك لأنّ تربيب أيّ شيء، وتربيته، وإدارته، وتدبيره هو عبارة عن منح الكمالات والأوصاف والأرزاق التي يكون ذلك الشيء بحاجة إليها، وبما أنّ إعطاء الكمـالات للشيء المستكمِل هو أمر تكوينيّ، وليس اعتبـاريّاً وجعليّـاً، فإنّ التكميل والتربيب ـ بناءً على ذلك ـ يتساوى مع إيجاد الربط بين ذلك الشيء المتكامل وكماله الوجوديّ، وإنّ إيجاد الكمال لشيء خاصّ هو بحدّ ذاته نوع من الخِلقة. لذا فإنّ ربّ كلّ الأشياء هو ذات خالقها.


[1]. سورة يونس، الآية 18.

[2]. سورة الزمر، الآية 3.

[3]. تفسير تسنيم، ج1، ص 384 ـ 385.

تسنيم، جلد 2

437

2. هناك تلازم بين الربوبيّة والخالقيّة؛ لأنّ خالق الشيء هو الوحيد الذي يَخبُر هويّة ذلك الشيء وذاته، ويعلم بعلل، وعوامل، وشرائط، بل وبموانع رُقيّ ذلك المخلوق وكماله، وهو قادر على تدبير أموره وتربيته، وليس للموجود الغريب عنه فعل ذلك.

إنّ هذا التلازم الآنف الذكر يُبطل اعتقاد المشركين بالفصل بين الخالقيّة والربوبيّة. فقد كان هؤلاء يعتقدون أنّ الأرباب المتعدّدين والمتفرّقين هم المدبّرون لشؤون العالم الجزئيّة, ومن هذا المنطلق كانوا يعبدون تماثيل تلك الأرباب الجزئيّة بعنوان كونها الشفيع والمقرِّب؛ غافلين عن أنّ الموجود الأوحد الذي يليق بالربوبيّة هو خالق المربوبات، وهو الله وحده وليس غيره.

إنّ جملة ﴿الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم﴾ هي الحدّ الأوسط للبرهان ـ عن طريق العلّة الفاعليّة ـ على ضرورة العبادة؛ بالبيان التالي: وهو أنّ الله هو ذلك الربّ الذي هو خالق، وأنّ كلّ ربّ خالق لابدّ من عبادته؛ إذن فلابدّ من عبادة الله.

والغرض من هذا البيان هو أنّ القرآن الكريم يُثبِت التوحيد العباديّ بالتوحيد الربوبيّ، ويثبت التوحيد الربوبيّ بالتوحيد الخالقيّ ويقول: إذا فكّرتم في الأمر لاكتشفتم أنّه لا أنتم ولا أمثالكم قد خلقتم أنفسكم والذين سبقوكم، بل إنّ الله هو الذي خلقكم أجمعين. وتلخيص ذلك، هو أنّ المحور الأساسيّ للزوم العبادة هو خالقيّة المعبود، ولمّا كان الله هو خالق الأشياء كافّة: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[1]، وأنّ ما سوى الله هو غير خالق لأيّ


[1]. سورة الزمر، الآية 62.

تسنيم، جلد 2

438

شيء، وأنّه لن يستوي الخالق مع غير الخالق: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾[1]، إذن فكون العبادة منحصرةً بالله هو أمر ضروريّ.

التمسّك بسنّة السَلَف

الوثنيّون من أهل الحجاز كانوا أسرى لسنّة التقليد الجاهليّ الأعمى وكانوا يقولون: بما أنّ آباءنا كانوا يتخضّعون للأصنام، فإنّنا ماضون على هذا النهج: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُقْتَدُونَ﴾[2]؛ ويقول الله سبحانه وتعالى في ردّه عليهم: ﴿والَّذِينَ مِن قَبلِكُم﴾. إنّ هذه الجملة، التي تستوعب جميع الأجيال السابقة للبشر، تنطوي على رسالتين:

الرسالة الأولى: إنّ أسلافكم لم يكونوا إلاّ مخلوقات أمثالكم ولا ينبغي لكم أن تعبدوهم، حتّى وإن كانوا أنبياء لله(ع). فتارة يقول الله جلّ شأنه للآباء: إنّ وظيفتكم هي الإمناء وليس الخلق: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾[3]، وتارة أخرى يقول للأبناء: إنّ آباءكم مخلوقات لله مثلكم؛ أي إنّهم لم يخلقوكم، ليس هذا فحسب، بل إنّهم مخلوقون من قِبل الله مثلكم بالضبط.

كلّما جرى الحديث عن إحياء سنّة غير صحيحة، أو تكريمٍ عباديّ لموجود هو غير الله، نرى القرآن يقول: لا تستمرّوا على هذه السُنّة الباطلة، ولا تكرِّموا ذلك الموجود الغير الإلهيّ، الذي هو نفسه عبد لله،


[1]. سورة النحل، الآية 17.

[2]. سورة الزخرف، الآية 23.

[3]. سورة الواقعة، الآيتان 58 و59.

تسنيم، جلد 2

439

تكريماً عباديّاً؛ وهو مشابه لقوله: حذار من أن تدفعكم قداسة المسيح(ص) إلى عبادته: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ﴾[1]، و﴿مَا الْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ﴾[2]، و﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ﴾[3]. بل إنّ المسيح نفسه يقول: أنا مثلكم مربوب لله، وأنتم مثلي كونوا عبيداً لله وعابدين له: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾[4]، وهو بهذا الكلام يغلق كلّ أبواب الشرك وتوهّماته. وقد ورد ذات هذا المعنى في آية أخرى بهذه الصورة: ﴿ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ‏ كُلِّّّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[5].

الرسالة الثانية: إنّ طريقة أسلافكم في عبادتهم لغير الله لم تكن مطابقة لميزان العقل والوحي؛ مثلما قال قوم ثمود لصالح(ص): ﴿أَتَنْهَانَا أَن نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا﴾[6]. فالله عزّ وجلّ يقول في مواجهته لمثل هذا النمط من التفكير: عليكم أن تعبدوا الذي خلقكم وخلق آباءكم، ولا تتّبعوا منهجهم المرتكز إلى الجهل.

ويقول في آية أخرى لعُبّاد الأوثان: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[7]؛ ألم


[1]. سورة المائدة، الآية 17.

[2]. سورة المائدة، الآية 75.

[3]. سورة النساء، الآية 172.

[4]. سورة المائدة، الآية 72.

[5]. سورة الأنعام، الآية 102.

[6]. سورة هود، الآية 62.

[7]. سورة الصافّات، الآية 96.

تسنيم، جلد 2

440

يخلقكم الله أنتم وهذه الأحجار والأخشاب وأدوات نحت الأصنام؟ إذن فاعبدوا الربّ الذي خلقكم أنتم وإيّاها.

كما ويقول أحياناً: ﴿وَٱتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾[1]، أي اتّقوا الربّ الذي خلقكم أنتم وأصحاب الجبلّة الأوّلين. فكلّ فطرة وسرّ يصير راسخاً كالجبل يُقال له «جبلّة». وتعليق الحكم هنا يُظهر هذه القضيّة وهي أنّه لا ينبغي لكم أبداً أن تقولوا: ما دامت هذه السُنّة سنّة قديمة، فإنّها قيّمة وذات شأن! لأنّ واضعي هذه السنّة هم مثلكم أيضاً من مخلوقات الله ويتعيّن عليهم أن يكونوا ـ مثلكم ـ عباداً لخالق العالَم والإنسان.

تنويه: في تحليلنا لمعارف علم المبدأ فإنّه كلّما كان البحث أكثر عموميّة وعقليّة، كان الاختلاف أقلّ وكان أثره العمليّ ـ تبعاً لذلك ـ أقلّ أيضاً. وكلّما كان البحث أكثر عينيّة، كان الاختلاف وكذلك أثره العمليّ أكثر. لقد عدّ القرآن الكريم أصل إثبات المبدأ أمراً مفروغاً منه وبديهيّاً، وليس له في هذا الميدان بحث مبسوط مع الملحدين.

كما أنّ مسألة توحيد ذات واجب الوجود ليست مطروحة أيضاً للمناقشة وإلقاء الشبهات بشكل جدّي (اللهمّ إلاّ الشبهة التي طرحها ابن كمونة[2] وردّ عليها هو بنفسه). لكنّ هناك اختلافاً في توحيد الخالقيّة، وإنّ فرقة كالثنويّة يعتقدون بخالقَين (يزدان وأهريمن). والذين يؤمنون بالتوحيد في الخالقيّة هم كذلك يختلفون في التوحيد الربوبيّ وإنّ


[1]. سورة الشعراء، الآية 184.

[2]. راجع نهاية الحكمة، ص339 ـ 340.

تسنيم، جلد 2

441

بعضهم يقول بالأرباب الثانويّين المستقلّين وهؤلاء هم المشركون، ومن ناحية العبادة فهم يعبدون آلهة شتّى وأرباباً متفرّقين.

وبين تلك الفرق كان البحث يجري حول عقائد المشركين التي هي أكثر عينيّة وأثرها العمليّ أشدّ أيضاً، ومن هذا المنطلق فإنّ معظم بحوث القرآن هي مع المشركين، وليست مع الملحدين والماديّين. والسرّ في هذا الموضوع يعود أوّلاً: إلى أنّ تعامل القرآن في ذلك الزمان كان مع الوثنيّين، وثانياً: لم يكن هناك أدنى فرق بين المشركين والماديّين فيما يتعلّق بالقسم الجوهريّ من معارف الدين؛ لأنّ المشركين أيضاً، كما هو حال المادّيين، لم يكونوا يعترفون بتجرّد الروح، وبالبرزخ، والقيامة، وكلّ ما يتعلّق بالحشر الأكبر، وكذلك بالوحي والرسالة.

وعلى الرغم من اعتقاد المشركين ﺑ «الله»، لكن بما أنّهم كانوا مدنّسين بالشرك الربوبيّ، فإنّ مَآل هذا الشرك هو إنكار الألوهيّة؛ لأنّ الاعتقاد بالله الذي خلق السماء والأرض والإنسان لكنّه لا علاقة له بالإنسان، لا يُلقي على عاتق المرء أيّ مسؤوليّة تجاه هذا الخالق. إذن ففي هذا الجانب أيضاً ليس هناك فرق كبير بين المشرك والملحد.

التقوى هدف الخلقة أم العبادة؟

هل يوحي ظاهر الآية بأنّ التقوى هي هدف «الخلقة» أم هي غاية «العبادة»؟ هناك احتمالان: أحدهما هو أنّ التقوى هي هدف الخلقة؛ أي: اعبدوا الربّ، هذا الربّ الذي خلقكم، كي تنالوا التقوى. والآخر هو أنّ التقوى هي هدف العبادة؛ بمعنى: اعبدوا الله كي تنالوا التقوى. وعلى

تسنيم، جلد 2

442

الرغم من إمكان رجوع كلا المعنيين إلى أصل مشترك، لكن لابدّ من توضيح قضيّة أنّ كلمة ﴿لعلّكم﴾ هل هي غاية لقوله ﴿اعبدوا﴾ أم لقوله ﴿خلقكم﴾؟ وإلى أيٍّ من المعنيين يبدو أنّ ظاهر الآية أقرب؟

ما يؤيّد الوجه الأوّل (وهو أنّ التقوى هي هدف الخلقة) أمران:

1. القرب والمجاورة بين ﴿لعلّكم تتّقون﴾ و﴿خلقكم﴾.

2. الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾[1] التي تجعل من العبادة غاية للخلقة؛ بالتقريب التالي: إنّ روح العبادة هي التقوى ذاتها، وإذا كانت العبادة هي الهدف، فإنّها ستكون هدفاً للخلقة بلحاظ روحها التي هي التقوى. بالطبع إنّ التقوى هي هدف للخلق (بمعنى المخلوق) وليس الخالق؛ أي، إنّ كمال المخلوق هو في عبادته لله عن تقوى، لا أنّه إذا أراد الله أن يكون كاملاً فلابدّ أن يكون معبوداً. فالله سبحانه وتعالى هو عين الكمال، وهو الكمال المحض، والأمر بالنسبة له سيّان إن عبده العابدون أم عزفوا عن عبادته؛ لأنّ الله غير محتاج لعبادة الناس كي يسدّ احتياجه بخلق العابدين.

يقول الله عزّ وجلّ: لو أنّ جميع الناس على وجه الأرض كفروا، فلن يضرّوا الله شيئاً؛ لأنّ الله غنيّ: ﴿إِنْ تَكْفُرُواْ أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾[2]. إذن فالله منزَّه عن أن يكون له هدف؛ إذ أنّه كمال محض وغنيّ محض، بل إنّه هو بذاته هدف. لكن بما أنّ الله حكيم ولا يصدر منه فعل عبثيّ، فإنّ العالَم، الذي هو فعله، له هدف وغاية.


[1]. سورة الذاريات، الآية 56.

[2]. سورة إبراهيم، الآية 8 .

تسنيم، جلد 2

443

أمّا مؤيّدات الوجه الثاني (وهو أنّ التقوى هي هدف العبادة) فهي:

1. لابدّ لآخر الجملة أن يكون في سياق أوّلها، وقد قالوا: إذا تعارض الصدر والذيل فظهور الصدر مُقدَّم؛ لأنّ الكلام سِيق من أجله. كما أنّه إذا لم يُسلَّم بهذا الكلام على إطلاقه، فإنّه بالإمكان قبوله بخصوص الآية محلّ البحث؛ ذلك أنّ القصد الرئيسيّ للآية هو دعوة الناس إلى العبادة، وليس بياناً لمعرفة الخلق، وإذا ورد الحديث عن الخلقة فإنّه بعنوان كونه دليلاً على لزوم العبادة، وليس بعنوان أنّه مبحث مستقلّ.

2. الخالقيّة في الآية مورد البحث هي الحدّ الأوسط للبرهان، من طريق العلّة الفاعليّة، على ضرورة العبادة، (بالتوضيح التالي: وهو أنّ الله خالق، وأنّ كلّ خالق يجب أن يُعبَد، إذن فلابدّ أن يُعبد الله). في حين أنّ المحور الأساسيّ للبحث في الآية هو ضرورة العبادة. من هذه الناحية فإنّ التقوى هي هدف العبادة، وليست هدف الخلقة، اللهمّ إلاّ أن تكون كذلك بالواسطة؛ أي، إنّ هدف الخلقة هو العبادة، وأنّ غاية العبادة هي التقوى.

ولمزيد من التوضيح نقول: إنّ البحث لا يدور حول خالقيّة الله، بل هو في وجوب عبادته. وتأييداً لهذا المدّعى جيء ببرهانين؛ يقول البرهان الأوّل: يتعيّن على الناس عبادة الله؛ ذلك أنّ الله خالق، وأنّه لابدّ لكلّ خالق أن يُعبد. ﻓ «خالقيّة الله» في هذا البرهان هي حدّ وسط. أمّا البرهان الثاني فهو يقول: إنّ التقوى هي كمال، والعبادة هي البيئة لتحقُّق التقوى؛ إذن لابدّ من العبادة. من هنا، فإنّ التقوى هي غاية العبادة، وليست هدف الخلقة. وبعبارة اُخرى نقول: إنّ كلاًّ من قوله تعالى: ﴿لعلّكم تتّقون﴾، وقوله تعالى: ﴿الذي خلقكم﴾ هو دليل مستقلّ على

تسنيم، جلد 2

444

لزوم العبادة؛ مع فارق واحد وهو أنّ أحدهما من طريق المبدأ الفاعليّ، والآخر من طريق المبدأ الغائيّ.

3. إنّ الآيات من أمثال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1]، التي تدور حول واحد من مصاديق العبادة (وهو الصيام)، تشير إلى أنّ الهدف من الصيام هو الحصول على التقوى. مضافاً إلى ذلك أنّ مثل هذه الآيات تؤيّد الحقيقة القائلة بأنّ عجز الآية هو دليل على صدرها.

بالتمعّن في هذه المؤيّدات فإنّ الوجه الثاني يبدو أظهر. وبناءً عليه، فإنّ التقوى هي الهدف والعلّة الغائيّة للعبادة؛ وذلك بالتقرير الآتي: إنّ التقوى هي كمال نفسانيّ وإنّ عبادة الله هي الأرضيّة المناسبة لتحصيل هذا الكمال الوجوديّ. من هذا المنطلق، فإنّه تجب عبادة الله.

بالطبع قد يُقال إنّ الاحتمالين يرجعان إلى أصل مشترك واحد؛ لأنّه، حسب الآية ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، فإنّ العبادة هي هدف الخلقة، وأنّه بناءً على الآية محطّ البحث، فإنّ التقوى هي هدف العبادة. تأسيساً على ذلك, فإنّ التقوى هي علّة غائيّة لكلّ من العبادة والخلقة، ولكن في طول بعضهما؛ أي إنّ هدف الخلقة هو العبادة، وإنّ هدف العبادة هو التقوى.

التعليل بالأمر الارتكازيّ

استناداً إلى البحث السابق فإنّ جملة ﴿لعلّكم تتّقون﴾ هي تعليل آخر


[1]. سورة البقرة، الآية 183.

تسنيم، جلد 2

445

لضرورة العبادة، والتعليل في مثل هذه الموارد لابدّ أن يكون بأمر ارتكازيّ؛ لأنّ ﴿يا أيّها الناس﴾ هي دعوة عامّة تستوعب المؤمنين، والمشركين، والملحدين، وأنّ التقوى أيضاً، التي هي علّة، يجب أن تكون أمراً ارتكازيّاً، وأن تُبيَّن بنحو تكون فيه الحدّ الأوسط وتكون قابلة للاستدلال بالنسبة إلى الطوائف الثلاث.

إنّ بالإمكان قبول التقوى بالنسبة للمؤمنين، كما أنّها قابلة للقبول، إلى حدّ ما، بالنسبة لعُبّاد الأوثان أيضاً. لكن كيف يمكن تعليلها بخصوص الملحدين؟ بمعنى، كيف يمكن أن يُقال للملحد: اعبُد من أجل نيل التقوى؟ من هنا يتحتّم بيان مدلول التقوى في هذه الآية بشكل جامع وشامل.

أصل التقوى من «الوقاية» وهي بمعنى حفظ النفس وتجنّب الخطر، وإنّ تجنّب الخطر هو أمر ارتكازيّ وفطريّ لدى جميع البشر؛ فما من أحد لا يتجنّب الخطر ولا يَعُدّ اجتناب الخطر أمراً لازماً. إذن، من الممكن أن تكون ﴿لعلّكم تتّقون﴾ دليلاً لكلّ إنسان على ضرورة العبادة؛ فبالإمكان القول لكافّة الناس، سواءٌ أكانوا مؤمنين، أم ملحدين، أم مشركين: اعبدوا الله من أجل تجنّب الخطر والنجاة من العذاب. فليس الأمر أنّكم تُعدمون بالموت، بل إنّكم تنتقلون به من عالم الطبيعة إلى عالَم آخر. فالإنسان أشبه بالطائر المحبوس في قفص، فما إن تحين ساعة الوفاة حتى ينفتح باب قفصه الطبيعي فيحلّق إلى العالم الأبديّ.

التقوى هي هدف متوسّط

على الرغم من أنّ العبادة هي بحدّ ذاتها تقوى، لكن بالنظر إلى أنّ

تسنيم، جلد 2

446

التقوى هي ملَكَة نفسانيّة تُكتسب جرّاء التمرّن على الأعمال الصالحة، فإنّ العبادة تكون القاعدة والسبب لحصول التقوى وإنّ بمقدور الإنسان من خلال العبادة أن ينال ملَكَة التقوى.

والأعمال التي يأمر الله سبحانه وتعالى بها هي على نحو أرضيّة المقتضي؛ أي إذا رُوعيت شرائط الأعمال المذكورة ورُفعت موانعها، فسوف تؤتي هذه الأعمال اُكلها وتُظهر آثارها. بناءً على هذا، لابدّ للناس المتعبّدين أن يعيشوا متأرجحين بين الخوف والرجاء إلى حين الموت، وأن لا يتيقّنوا من حُسن عاقبتهم؛ ذلك أنّه لن يحصل اليقين المنطقيّ من المستقبل الغائب إطلاقاً. كما أنّ اليقين النفسيّ ليس بالأمر النافع، ناهيك عن أنّه قد يؤدّي بالإنسان إلى الغرور.

وصحيح أنّ الله عزّ وجلّ في الآية مورد البحث يُعرّف التقوى على أنّها الهدف، والعبادة بأنّها الطريق للوصول إليه، بيد أنّ التقوى ليست هي الهدف النهائيّ والمطلق بل هي هدف نسبيّ وإضافيّ، وهي المقدّمة والقاعدة للانطلاق إلى الأهداف الأخرى؛ لأنّ التقوى هي الزاد والمتاع: ﴿تَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾[1]، وليس الزاد والمتاع مقصداً. كما وقد عُرّفت التقوى في القرآن الكريم بأنّها الوسيلة لنيل «الفلاح»: ﴿وَٱتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون‏ََ﴾[2]. إذن، فإنّ فلاح الإنسان هو في لقاء الله.

والقصد، أنّ الإنسان ما لم يعبد فلن ينال التقوى، وأنّه ما لم ينل التقوى فلن يكون لديه المتاع للسير إلى الله والوصول إلى لقاء الحقّ.


[1]. سورة البقرة، الآية 197.

[2]. سورة آل عمران، الآية 200.

تسنيم، جلد 2

447

والقرآن الكريم يدعوا الإنسان إلى العبادة من خلال طرح براهين متنوّعة؛ فهو يدعوه تارة من خلال آيات الأنفس، وتارة أخرى عن طريق آيات الآفاق؛ كخلقة الإنسان وأسلافه، وخلق السماء والأرض وما بينهما. أمّا الهدف من تلك الاستدلالات فهو حصول الإنسان على التقوى ـ التي هي زاد المسافرين إلى الله ـ عن طريق التحقيق، لا على أساس التقليد.

ويُقدّم القرآن الكريم التقوى على أنّها وسيلة الفوز بالله سبحانه وتعالى ونيله: ﴿وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ﴾[1]، والسبب في قبول الأعمال: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[2]، ومحور كرامة الإنسان: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾[3]، والأرضيّة لحصول ميزان تمييز الحقّ عن الباطل: ﴿إِنْ تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾[4]، والمخرج من المتاهات الفكريّة والعمليّة والأخلاقيّة: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾[5]، وستُبحث كلّ من هذه الميزات في محلّها المناسب.

إنّ الرسالة التي تحملها الآية محطّ البحث هي أنّ الله يجب أن يُعبد بصورة تكون ثمارها التقوى، وهي العبادة الخالصة: ﴿ألاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[6]، وإنّ أرقى درجات الخلوص هي أن لا يكون في قلب الإنسان العابد أحد إلاّ الله، وإنّ مثل هذا القلب هو القلب السليم: ﴿إِلاَّ


[1]. سورة الحجّ، الآية 37.

[2]. سورة المائدة، الآية 27.

[3]. سورة الحجرات، الآية 13.

[4]. سورة الأنفال، الآية 29.

[5]. سورة الطلاق، الآية 2.

[6]. سورة الزمر، الآية 3.

تسنيم، جلد 2

448

مَنْ أَتَىٰ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1]، فقد جاء في الخبر عن أهل البيت(ع): «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه»[2]. من هنا فقد نُهي في آخر الآية التالية عن اتّخاذ «الأنداد» والشركاء لله عزّ وجلّ.

تنويه: لمّا كان للعبادة درجات، فإنّ للتقوى الحاصلة منها مراتب أيضاً؛ أدناها هو ما اُشير إليه في الآية 131 من سورة آل عمران بقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، وستُطرح آيات أخرى لمراتبها الأعلى.

لطائف وإشارات

[1] النداءات الإلهيّة في القرآن الكريم

يوجّه الباري عزّ وجلّ في القرآن الكريم الخطابَ للناس أو يتحدّث عنهم مستخدماً عدّة عناوين: أوّلها العنوان «العامّ»؛ مثل: ﴿يَا أيُّهَا النَّاس﴾، وثانيها العنوان «الخاصّ»؛ مثل: ﴿يَا أَهْلَ الكِتَاب﴾، وثالثها النداء «الأخصّ»؛ مثل: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ورابعها عنوان «خاصّ الخاصّ»؛ مثل: ﴿اُولِي الألبَاب﴾، و﴿اُولِي الأبصَار﴾، وخامسها عنوان «خلاصة خاصّ الخاصّ»؛ مثل: ﴿يَا أيُّهَا الرُّسُل﴾، وسادسها عنوان «صفاء خلاصة خاصّ الخاصّ»؛ مثل: ﴿اُولُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُل﴾، وأخيراً آخر وأكمل عنوان خطاب يوجّهه إلى شخص الرسول الأكرم(ص) والذي لا يرجح على الأنبياء والمرسلين فحسب، بل إنّه يسمو بالميزة حتّى على أولي


[1]. سورة الشعراء، الآية 89 .

[2]. الكافي، ج2، ص16؛ وبحار الأنوار، ج67، ص239.

تسنيم، جلد 2

449

العزم منهم؛ مثل: ﴿يَا أيُّهَا النَّبِيّ﴾، و﴿يَا أيُّهَا الرَّسُول﴾. بالطبع بمقدورنا استنباط عناوين تفصيليّة أخرى، وإنّه بسبب التفاوت في درجات قرب المخاطَب، فإنّ تعابير النداء تختلف أيضاً تبعاً لذلك.

كذلك في مناجاة المرء مع الله جلّ شأنه، فهو يقول تارة: «يا الله» و«ياربّ»، وتارة أخرى يقتضي الأدب أن يقول، بعد خطاب «يا الله» و«يا ربّ»، وعندما يشاهد المناجي نفسَه في محضر مولاه: «ربِّ»[1]؛ ذلك أنّ الإنسان في هذه الحال لا يعود بعيداً عن الله كي يتّبع أسلوب «المناداة»، بل إنّ الوقت يكون قد حان «للمناجاة». هذا على الرغم من أنّ لفظة «يا» تُستخدم أحياناً لتشريف وتعظيم مقام المخاطَب الحاضر أيضاً، وليست هي دائماً دليلاً على بعد المنادَى.

فالله سبحانه وتعالى قريب منّا على الدوام: ﴿نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[2]، لكنّ الإنسان هو الذي يكون تارة قريباً من الله، وتارة بعيداً عنه.

[2] الأمر بالسبب والمُسبَّب

في الكتاب الكريم يأمر الله عزّ وجلّ بالسبب حيناً، على غرار الأمر ﴿اعبدوا﴾ الذي هو سبب، ومُسبَّبه التقوى، والأمر بالوضوء والغسل والتيمّم ممّا تحصل الطهارة به: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَىٰ الصَّلاَةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ الْمَرَافِقِ﴾[3]، ويأمر أيضاً بالمسبَّب حيناً آخر؛


[1]. راجع كشف الغمّة، ج2، ص160؛ وبحار الأنوار، ج47، ص142.

[2]. سورة ق، الآية 16.

[3]. سورة المائدة، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

450

مثل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ﴾[1]، و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ﴾[2]. وإن كان ذلك المسبَّب أيضاً هو بحدّ ذاته وسيلة لنيل كمال أسمى بالنسبة إلى ذلك السبب.

كذلك فإنّ القرآن في ترتيبه بين ذكر الأصل والفرع يذكر أحياناً الفرع أوّلاً ومن ثمّ الأصل؛ كما في الآية محلّ البحث التي يشير فيها إلى الفرع (العبادة) ابتداءً ثمّ يعرّج على الدليل والأصل ﴿الذي خلقكم﴾ بعنوان أنّه سند لذلك. وأحياناً أخرى يبيّن الأصل ومن ثمّ الفرع؛ مثل: ﴿ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ﴾[3].

تنويه: إذا كانت العبادة المطروحة في الآية محطّ البحث مخصّصة للأعمال المعهودة وغير شاملة للعقائد، ولمّا كانت العبادة من دون إيمان هي أساساً غير صحيحة، وأنّ الأمر بذي المقدّمة يستلزم عقلاً وجوب المقدّمة، إذن يجب على الكفّار والمنافقين تحصيل الإيمان الخالص أوّلاً، ومن ثمّ الانهماك في العبادة.

[3] الاستدلال على ضرورة العبادة

استُدلّ في القرآن الكريم على ضرورة العبادة عبر ثلاثة طرق: فتارة عن طريق المبدأ الفاعليّ، وتارة أخرى عن طريق المبدأ الغائيّ، وتارة ثالثة عن كلا الطريقين. فالمثال على الاستدلال عن طريق المبدأ الفاعليّ هو ما جاء


[1]. سورة المائدة، الآية 6.

[2]. سورة الحجّ، الآية 1.

[3]. سورة الأنعام، الآية 102.

تسنيم، جلد 2

451

في الآية مورد البحث: ﴿الذي خلقكم﴾؛ يعني: يتعيّن عليكم أن تعبدوا الله، لأنّه خالقكم ومبدأ وجودكم. والمثال على الاستدلال عن طريق المبدأ الغائيّ هو: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَٰكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾[1]؛ لأنّ الحديث في هذه الآية يدور حول عبادة الربّ الذي يتوفّى الناس. وتعليق حكم العبادة على وصف ﴿الَّذِي يَتَوَفَّاكُم﴾ فيه إشعار بالعلّية، وهو علامة على إمكانيّة جعل الوصف المذكور الحدّ الأوسط للبرهان على ضرورة العبادة؛ أي: لابدّ من عبادة الله؛ لأنّ رجوع جميع الخلائق إليه.

أمّا المثال على الاستدلال عن طريق المبدأين الفاعليّ والغائيّ معاً فهو الآية التي تتحدّث عن كلام وموقف مؤمن آل فرعون، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم: ﴿وَمَا لِي‏َ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[2]. ففي الآية الأخيرة استُدلّ على لزوم العبادة بكون الله سبحانه «فاطراً» من جهة، وبكونه عزّ وجلّ «مرجعاً» من جهة أخرى. فتقرير البرهان الأوّل هو أنّ الله فاطر، وأنّه لابدّ للفاطر من أن يُعبَد، وتقرير البرهان الثاني هو أنّ الله مرجع (رجوع الناس إليه)، وأنّه تتعيّن عبادة المرجع.

كما ويقول في محلّ آخر: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[3]. ففي صدر هذه الآية يجري


[1]. سورة يونس، الآية 104.

[2]. سورة يٰس، الآية 22.

[3]. سورة العنكبوت، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

452

الكلام عن الربّ الذي يرزق الإنسان (رزقاً مادّياً ومعنويّاً)، (المبدأ الفاعليّ)، كما أنّ الحديث يدور في نهايتها عن الربّ الذي يكون رجوع الناس إليه (المبدأ الغائيّ).

كذلك فقد استُدِلّ بكلا المبدأين في أواخر سورة هود: ﴿وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[1]؛ فجملة ﴿للهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ ...﴾ ناظرة للمبدأ الفاعليّ، وجملة ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ...﴾ ناظرة إلى المبدأ الغائيّ، والرسالة التي تحملها هذه الآية هي أنّه إذا كان مبدأ جميع الموجودات ومنتهاها بيد الله، فلابدّ من عبادته. في الآية المذكورة جاء الأمر بالتوكّل أيضاً؛ فالإنسان الذي يدرك أنّه عاجز عن إنجاز أعماله، ولا مفرّ له من اتّخاذ وكيل من أجل تلبية حاجاته، لابدّ أن يتّخذ الوكيل الذي يكون بمقدوره الوفاء بكلّ مقتضيات الوكالة أفضل من غيره.

تنويه: إنّ أفضل البراهين من وجهة نظر علم المنطق هي تلك التي تتضمّن العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة معاً بالإضافة إلى اهتمامها بالنظام الداخليّ لذات الشيء وعلّة قوامه.

[4] استمرار العبوديّة نتيجة لداوم الربوبيّة

إنّ حدوث المعلول وبقاءه هو نتيجة لدوام العلّة؛ بمعنى أنّه لمّا كانت ضرورة عبادة الله هي على خلفيّة ربوبيّته، وأنّ ربوبيّته مستمرّة بشكل دائم، فما دام المربوب يعيش في نشأة التكليف، التي هي الدنيا، فإنّه تجب عليه العبادة.


[1]. سورة هود، الآية 123.

تسنيم، جلد 2

453

[5] الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار

يقول أبو جعفر الطبريّ:

وهذه الآية [البقرة 21] من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أنّ تكليف ما لا يُطاق إلاّ بمعونة الله غير جائز إلاّ بعد إعطاء الله المكلّف المعونة على ما كلّفه. وذلك أنّ الله أمر مَن وصفْنا بعبادته و التوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنّهم لا يؤمنون[1]‏.

وهذا كلام غير صائب؛ لأنّ للممتنع أقسام؛ أ: الممتنع بالذات، ب: والممتنع بالعادة الذي لاتكون مبادئه باختيار المكلّف، ﺟ : والممتنع بالعادة الذي تكون مبادئه باختيار المكلّف؛ كالمورد محلّ البحث. وعدم جواز التكليف بما لا يطاق لا ينطبق على هذا القسم الأخير؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

[6] إطلاق «الخالق» على الله

يقول الآلوسيّ:

ومن العجب أنّ أبا عبد الله البصريّ ـ أستاذ القاضي عبد الجبار ـ قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال؛ لأنّ التقدير [المعتبر في الخلقة] يستدعي الفكر والحسبان، وهي مسألة خلافيّة بينه [أبو عبد الله البصريّ] وبين الله تعالى القائل: ﴿هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ﴾[2]، وبقول الله تعالى أقول[3]‏.


[1]. جامع البيان، ج1، ص210 ـ 211.

[2]. سورة الحشر، الآية 24.

[3]. روح المعاني، ج1، ص297.

تسنيم، جلد 2

454

في مواطن كثيرة يسند القرآن الكريم الخلقة إلى الله؛ بصورة الفعل حيناً، وبنحو الاسم حيناً آخر، وإذا كان التقدير المأخوذ في الخلق مصحوباً في بعض الموارد بالفكر والمحاسبة، فهو على أساس خصوصيّة المورد، وإلاّ فإنّ ما يُعتبر في التقدير هو العلم، حصوليّاً كان أم حضوريّاً، ذاتيّاً كان أم اكتسابيّاً. وبناءً عليه إذا كان للتقدير اعتبار في الخلق فإنّما هو تقدير وحساب الله جلّ شأنه على أساسٍ من علمه الحضوريّ والذاتيّ، ولا محذور في ذلك على الإطلاق.

[7] آيات الآفاق والأنفس

إنّ عبارة ﴿الذي خلقكم﴾ هي من آيات الأنفس، أمّا عبارة ﴿والذين من قبلكم﴾ فهي من آيات الآفاق؛ إذ أنّ كلّ ما انفصل عن نفس المتفكّر فهو من آيات الآفاق، وإن كان ذلك الشيء الخارج عن المتفكّر يُعدّ من آيات الأنفس بالنسبة للآخرين. ولمّا كان تأثير آيات الأنفس أشدّ من تأثير آيات الآفاق، على الرغم من أنّ الأخيرة قد تسبق الأولى زماناً، فقد ذكر خَلق المخاطَبين قبل خلق آبائهم وأجدادهم؛ مع أنّ خلق أجدادهم سابق لخلقهم من الناحية الزمانيّة. وعلى أيّ تقدير، فإنّ تفكّر الإنسان بخلق نفسه والذين من قبله، بما في ذلك خلق آبائه وغيرهم، يوجب اعترافه بالتوحيد الخالقيّ.

بالطبع من الممكن عدّ التفكّر في خلقة الآباء والسلف من آيات

تسنيم، جلد 2

455

الأنفس بالنسبة للإنسان، من جهة كونه تفكّراً في المبادئ الوجوديّة له، إلاّ أنّ عنوان ﴿الذين من قبلكم﴾ شامل لغير السلف أيضاً.

والتعليل الآخر لتقدّم آيات الأنفس على آيات الآفاق هو أنّ على الإنسان أن يتفرّغ لنفسه قبل تفرّغه لغيره، وأن يتأمّل في ذاته من أجل أن يعرف الله.

تنويه: إنّ الجمع بين خلق المخاطَبين وخلق الماضين يستبطن أيضاً أصل التشابه بين الحياة والممات وهو، من هذه الناحية، يفيد الموعظة أيضاً.

[8] علّية الماضين الإعداديّة بالنسبة للآتين

بما أنّ الماضين هم علل إعداديّة للآتين، وليسوا عللاً فاعليّة لهم، وأنّ أثرهم يقتصر على الجنبة الإعداديّة وليس أكثر، فإنّ الباري جلّ شأنه يقول: ﴿خَلَقَكُم والذِينَ مِن قَبلِكُم﴾، ولم يقل: «خلقكم بالذين من قبلكم». فالسلف، إذن، ليسوا واسطة في العلّة الفاعليّة للمعاصرين؛ أي إنّهم ليسوا غير فاعلين بالذات فحسب، بل إنّهم ليسوا واسطة في الفاعليّة أيضاً، ولا يتعدّى سهمهم في ذلك حدّ الإعداد. وبهذا البيان يصبح جليّاً أنّ قوله في الآية اللاحقة بخصوص المطر: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾[1] لا يرمي إلاّ إلى الجنبة الآليّة للمطر وكونه وسيلة، وليس إلى علّيته الفاعليّة.


[1]. سورة البقرة، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

456

البحث الروائيّ

[1] سعة مفهوم العبادة ومصاديقها

أ: المعرفة

ـ [عن الرضا(ص)]: «أوّل عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كلّ صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث‏»[1].

ب: الاعتقاد

ـ [عن العسكريّ(ص) في قوله] ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾: «أي أطيعوا ربّكم من حيث أمركم، من أن تعتقدوا أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ولا شبيه ولا مثل [له‏]، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم لا يخطل، وأنّ محمّداً عبده ورسوله(ص)، وأنّ آل محمّد أفضل آل النبيّين، وأنّ عليّاً أفضل آل محمّد، وأنّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين، وأنّ أمّة محمّد أفضل أمم المرسلين»[2].

ﺟ : التفكّر

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته»[3].‏


[1]. التوحيد، ص34 ـ 35؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص39.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص118؛ وبحار الأنوار، ج65، ص286.

[3]. الكافي، ج2، ص55؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

تسنيم، جلد 2

457

ـ [عن الرضا(ص):] «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ‏»[1].

د: الفرائض

ـ [عن أمير المؤمنين(ص):] «لا عبادة كأداء الفرائض»[2].‏

ـ عن عليّ بن الحسين ‘ قال: «من عمل بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس‏»[3].

ـ [في وصيّة النبيّ(ص) لعليّ(ص):] «يا عليّ! ... من أتى الله بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس»[4].

ﻫ : الورع والصمت

ـ قال أبو جعفر(ص): «إنّ أشدّ العبادة الورع»[5].

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «ما عُبِد الله بشي‏ء أفضل من الصمت والمشي الى بيته‏»[6].

و: تكريم أهل البيت(

ـ قال رسول الله(ص) [لبريدة] ... : «يا بريدة! إنّ من يدخل النار ببغض


[1]. الكافي، ج2، ص55؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 113.

[3]. الكافي، ج2، ص84 ؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

[4]. كتاب الخصال، ج1 ـ 2، ص125؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص41.

[5]. الكافي، ج2، ص77؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

[6]. كتاب الخصال، ج1 ـ 2، ص35؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

تسنيم، جلد 2

458

عليّ أكثر من حصى الخذف التي يُرمى بها عند الجمرات، فإيّاك أن تكون منهم. فذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أي اعبدوه بتعظيم محمّد(ص) وعليّ بن أبي طالب(ص) ...‏»[1].

ـ عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا ‘ قال: «النظر الى ذرّيتنا عبادة. فقيل له: يا بن رسول الله! النظر الى الأئمّة منكم عبادة أو النظر الى جميع ذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بل النظر الى جميع ذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عبادة ما لم يفارقوا منهاجه، ولم يتلوّثوا بالمعاصي»[2].

ز: كسب الحلال وإنفاقه

ـ قال رسول الله(ص): «العبادة سبعون جزءاً، أفضلها جزءاً طلب الحلال‏»[3].

ـ عن النبيّ(ص): «يا أبا ذرّ! ليكن لك في كلّ شي‏ء نيّة صالحة حتّى في النوم والأكل‏»[4].

إشارة: العبادة هي من شؤون الحكمة العمليّة؛ فهي تُطلق تارة على مجموع الاعتقاد والتخلُّق والعمل، وتارة أخرى تُطلق على جزء معيّن من الدين، وإنّه غالباً ما يُقال للأعمال التقليديّة، الواجبة منها والمندوبة، عبادة. أمّا إطلاق العبادة على المعرفة، بمعنى الحكمة النظريّة والعلم الخاصّ، فهو على اعتبار وجوب أو استحباب تحصيلها، وإلاّ فلا يُطلق عنوان


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص121؛ وبحار الأنوار، ج38، ص69.

[2]. عيون أخبار الرضا، ج2، ص55؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

[3]. معاني الأخبار، ص367؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

[4]. مكارم الأخلاق، ص464؛ وبحار الأنوار، ج74، ص82 .

تسنيم، جلد 2

459

العبادة على نفس العلم من دون قرينة. أمّا ما جاء في الأحاديث المذكورة فهو تبيان لبعض مصاديق العنوان العامّ للعبادة ذُكرت في مناسبات خاصّة.

إنّ ما جاء به المرسلون(ع) ابتداءً لم يكن إلاّ العبادة بمدلولها الجامع بين العقيدة، والأخلاق، والأعمال، التي تكون في مقابل التمرّد والطغيان؛ ذلك أنّ العبادة هي عين الخضوع بتواضع بين يدي الله جلّ شأنه، على العكس من الطغيان في فِناء وساحة الباري عزّ وجلّ، وإنّ الآية ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ اللهَ وَٱجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[1] ناظرة إلى هذا المعنى الجامع. وسنعرض فيما بعد بحثاً عن التفكّر العباديّ.

إنّ بمقدور الإنسان المؤمن أن يُضفي صبغة عباديّة على كلّ أعماله وشؤونه؛ لأنّ روح العمل بالنيّة: «لا عمل إلاّ بالنيّة»[2]. فالنظر إلى أولاد النبيّ الأكرم(ص)، كما جاء في الخبر، هو عبادة من باب أنّه مذكِّر برسالة رسول الله(ص) وبذلك البيت الرفيع، مثلما أنّ النظر إلى العالِم أو النظر إلى باب بيت الله سبحانه عبادة؛ لأنّه يذكّر المرء بالله تعالى.

[2] أركان العبادة

أ: الإخلاص

ـ عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ص) عن حدّ العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤَدّياً فقال: «حسن النيّة بالطاعة»[3].


[1]. سورة النحل، الآية 36.

[2]. الأمالي للطوسيّ، ص590؛ وبحار الأنوار، ج66، ص404.

[3]. الكافي، ج2، ص85 ؛ وبحار الأنوار، ج67، ص199.

تسنيم، جلد 2

460

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «من لم يختلف سرّه وعلانيته، وفعله ومقالته فقد أدّى الأمانة، وأخلص العبادة»[1].

ب: الانقطاع عن الخلق

ـ عن الباقر(ص): «لا يكون العبد عابداً لله حقّ عبادته حتّى ينقطع عن الخلق كلّهم إليه فحينئذٍ يقول: هذا خالص لي، فيقبله بكرمه»[2].

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً، ولا أكِلك إلى طلبك، وعليّ أن أسدّ فاقتك، وأملأ قلبك خوفاً منّي. وإنْ لا تَفَرَّغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا، ثمّ لا أسدّ فاقتك، وأكلك إلى طلبك»[3].

ﺟ : التفقُّه

ـ عن عليّ بن الحسين ‘: «لا عبادة إلا بتفقُّه»[4].

د: الاستمرار

ـ قال رسول الله(ص): «ما أقبح الفقر بعد الغنى، ... وأقبح من ذلك العابد لله ثمّ يدع عبادته‏»[5].


[1]. نهج البلاغة، الرسالة 26، المقطع 2.

[2]. عدّة الداعي، ص267؛ وبحار الأنوار، ج67، ص111.

[3]. الكافي، ج2، ص83 ؛ وبحار الأنوار، ج67، ص252.

[4]. تفسير نور الثقلين، ج1، ص41.

[5]. الكافي، ج2، ص84 ؛ وبحار الأنوار، ج67، ص256.

تسنيم، جلد 2

461

إشارة: ليست الأمور المذكورة على نحو واحد في تأثيرها في العبادة؛ ذلك أنّ لبعضها أثراً في أصل صحّة العبادة؛ كالنصاب اللازم من الإخلاص ومجانَبة الشرك الجليّ والخفيّ، مثل الرياء، أمّا بعضها فله أثر في كمال العبادة لا في أصل صحّتها؛ كالمرتبة الأعلى من الإخلاص؛ مثل الانقطاع أو كمال الانقطاع عمّا سوى الله. وإنّ للتفقّه ـ كالإخلاص ـ قسمين: فقسم منه له دخل في أصل صحّة العبادة؛ لأنّ الشروع الجدّي بالعبادة من دون العلم بأركانها، وأجزائها، وشرائطها، وموانعها، وما يُخلّ بها ليس ميسوراً، كما أنّ قسماً منه مُعتبر في كمال العبادة، وليس في أصل صحّتها.

إنّ الغرض من استمرار العبادة هو الخلاص من الأذى المتواصل لوساوس الشيطان ودسائسه وإغواءاته من جهة، والانتفاع من الفيض الإلهيّ الدائم والخالد من جهة أخرى.

وترك العبادة هو أمر مطلق وشامل لكلّ أنواع العبادات؛ أيّ إنّه يشمل ترك العبادة الخاصّة أيضاً. وبناءً عليه، فإنّ من كان لهم برنامج عباديّ خاصّ ثمّ يقومون بإهماله، فهم مشمولون أيضاً بهذا الكلام.

[3] سرّ تشريع العبادة

ـ عن الرضا(ص): «فإن قال قائل: فلِمَ تعَبُّدُهم؟ قيل: لئلاّ يكونوا ناسين لذكره، ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تركوا بغير تعبُّد لطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم»[1].‏


[1]. عيون أخبار الرضا، ج2، ص110؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص39.

تسنيم، جلد 2

462

إشارة: الغاية من العبادة، التي هي شكل من أشكال التأدّب في حضرة الباري عزّ وجلّ، هي بقاء ذكر الحقّ حيّاً في قلب الإنسان، وعدم إعراض المرء عن أوامر الله ونواهيه، وعدم اشتغاله باللهو. فإنّ عزوف الإنسان عن العبادة يؤدّي به، شيئاً فشيئاً، إلى قسوة القلب وصيرورته كالحجر من رواسب الذنوب؛ إذ يقول عزّ من قائل في سورة الحديد: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[1].

في المنتجعات ومناطق الاصطياف التي تكثر ينابيع المياه المعدنيّة فيها فإنّ الأرض تكون عند الينابيع، أوّل ما يفور الماء من العيون، مغطاة بالخضرة والكلأ. لكن لا يلبث هذا الماء، جرّاء تشبّعه بالرسوبات، أن يسدّ منافذ العيون الفوّارة بعد فترة من الزمن فيجرّد الأرض من خضرتها. فتوجّه القلب يشبه ماء العين الزلال الصافي، والمعاصي هي بمثابة الرسوبات التي تسدّ طريق توجّه الإنسان إلى الله.

[4] العبادة عن عشق

ـ عن أبي عبد الله(ص) قال: «إنّ العُبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاُجَراء، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة»[2].

ـ قال رسول الله(ص): «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها،


[1]. سورة الحديد، الآية 16.

[2]. الكافي، ج2، ص84 ؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص40.

تسنيم، جلد 2

463

وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا؛ على عسر أم على يُسر»[1].

إشارة: إنّ العبادة المرتكزة على محبّة الله هي أفضل العبادات. ويُستفاد من سياق الرواية الأولى ومن عبارتها الأخيرة أنّ الأقسام الأخرى للعبادة هي صحيحة أيضاً، إلاّ أنّ أفضلها هي العبادة عن محبّة وعشق. بالطبع إنّ الذي لا يبغي إلاّ الخلاص من جهنّم، أو دخول الجنّة، أي إنّ مطلوبه بالذات هي تلك الأمور وهو يتّخذ من الله وسيلة لها، فهو لم يعبد الله أساساً.

أمّا ما جاء في أمثال هذه الروايات من العبادة طلباً للجنّة، فهو يعني أنّ الإنسان يعبد الله، لكن لعدم علم الإنسان بما يسأل، فهو يسأل الله الجنّة. هذا النمط من العبادة صحيح إلاّ أنّها عبادة متوسّطة. فعلى الإنسان أن يعشق العبادة، بل المعبود، لا أن يمارسها في سبيل نيل الجنّة أو الخلاص من النار. والقصد هو أنّه لو وضع الإنسان نفسه في مستوى الله تعالى، واعتبر العبادة ضرباً من التعامل والتعاطي المتماثل بين المؤجّر والمستأجر، فإذا لم يحصل المستأجر على شيء، لم يعبد أبداً، فإنّ مثل هذه العبادة باطلة. لكنّه إذا عدّ العبادة نمطاً من أنماط تخضّع العبد وتذلّله وطاعته في فِناء المولى وساحته، لكنّه ـ على خلفيّة ضعف المعرفة من جهة، ودنوّ الهمّة من جهة أخرى ـ لا يعلم ما يطلب من المُطاع، والمتبوع، ووليّ النعمة، فإنّ عبادته صحيحة، إلاّ أنّها قليلة الثواب.

مفردة العشق التي وردت في الحديث الثاني مأخوذة من «العَشَقَة».


[1]. الكافي، ج2، ص83 ؛ وبحار الأنوار، ج67، ص253.

تسنيم، جلد 2

464

والعَشَقَة هي شجرة اللبلاب، التي إذا ما نبتت بجوار شجرة مخضرّة أحاطت بها، واتّخذتها متكأ لها، وتسلّقت فوقها، وسدّت عليها منافذ تنفّسها، وأحالت أوراقها صفراء ذابلة كوجه العاشق.

فأفضل الناس هو من يعشق العبادة، بل يعشق المعبود، فيباشر ببدنه ظاهر العبادة، ويفرّغ باله لها. فالإنسان، حتّى وإن تمتّع بزهد سلمان وتمكُّن سليمان، لابدّ أن يكون عاشقاً للعبادة، أو بالأحرى للمعبود؛ مثلما أنّ سليمان(ص)، مع ما لديه من أسباب الرفاهيّة المعيشيّة، كان يعيش كسلمان بل وأكمل منه.

يقول المرحوم المولى صالح المازندرانيّ في ذيل هذا الحديث، بعد تفسيره للعشق بأنّه «الافراط في المحبّة»:

قيل ذكرت الحكماء في كتبهم الطبّية أنّ العشق ضرب من الماليخوليا والجنون والأمراض السوداويّة، وقرّروا في كتبهم الإلهيّة أنّه من أعظم الكمالات وأتمّ السعادات. وربّما يُظنّ أنّ بين الكلامين تخالفاً وهو من واهي الظنون؛ فإنّ المذموم هو العشق الجسمانيّ الحيوانيّ الشهوانيّ، والممدوح هو الروحانيّ الإنسانيّ النفسانيّ؛ والأوّل يزول ويفنى بمجرّد الوصال والاتّصال، والثاني يبقى ويسمو أبد الآباد على كلّ حال[1].

[5] التفكّر في خلق الإنسان

ـ [عن العسكريّ(ص) في قوله تعالى]: «﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [اعبدوا الذي


[1]. شرح الكافي، ج8 ، ص250.

تسنيم، جلد 2

465

خلقكم‏] من نطفة ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏﴾[1]، فجعله ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَىٰ‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾[2]، فقدره، فنعم القادر الله ربّ العالمين»[3].

إشارة: مع أنّ التفكّر العباديّ شامل لكافّة المعارف الدينيّة، إلاّ أنّه قد ورد في بعض أنماطه أحاديث خاصّة بحسب تناسب الحكم والموضوع. فما جاء حول هذه الآية هو ناظر إلى التفكّر في خلقة الإنسان بما يتعلّق بالجانب البدنيّ لا الروحيّ؛ أي إنّه يعادل قسماً من الآية 12 من سورة «المؤمنون»، والآية 5 من سورة الحجّ حيث إنّه، بصرف النظر عن ذيل الآية: ﴿ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ...﴾، يشير إلى تكامل بدن الإنسان في ظلّ الربوبيّة والتدبير الإلهيّين.

[6] مدلول «لعلّ»

ـ قال عليّ بن الحسين ‘ في قوله تعالى... ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾... : و﴿لَعَلَّ﴾ من الله واجب لأنّه أكرم من أن يُعني عبده بلا منفعة، ويطمعه في فضله ثمّ يخيّبه. ألا تراه كيف قبّح من عبد من عباده إذا قال لرجل: اخدمني لعلّك تنتفع بي وبخدمتي، ولعلّي أنفعك بها. فيخدمه، ثمّ يخيّبه ولا ينفعه، فإنّ الله عزّ وجلّ أكرم في أفعاله، وأبعد من القبيح في أعماله من عباده‏»[4].


[1]. سورة المرسلات، الآية 20.

[2]. سورة المرسلات، الآيتان 21 و22.

[3]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص118؛ وبحار الأنوار، ج57، ص260.

[4]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص121 ـ 122؛ وبحار الأنوار، ج65، ص287.

تسنيم، جلد 2

466

إشارة: أ: إذا كان الوعد هو الذي يُستظهَر من الآية المذكورة وما شابهها، فإنّ الوفاء به واجب من الله، وإنّ وجوبه هو من باب يجب «عن الله»، لا «على الله».

ب: ﴿لَعَلَّ﴾ ليست للترجّي أو الإشفاق، وإن ادّعى الزمخشريّ ذلك[1]؛ لأنّ الرجاء أو الخوف هما من خصوصيّات مورد الاستعمال، وليسا دخيلين في الموضوع له أو المستعمل فيه. إذن، إذا قال أحدهم: لعلّ زيداً يكرمني أو يهينني، فهو ليس من باب استعمال «لعلّ» في ترجّي الإكرام أو الخوف من الإهانة، بل هو بخصوص توقُّع ظاهرة، (نافعة كانت أم ضارّة) بحيث يكون احتمال تحقّقها غالباً على عدمه؛ وذلك لأنّ الرجاء هنا ليس هو مع الشكّ المحض، بل هو مع ترجيح جانب التحقّق.

ﺟ : إنّ مورد استعمال «لعلّ» هو أساس الاقتضاء، لا العلّة التامّة. فتارة يقطع القائل أو السامع بالوجود، وتارة أخرى يقطعان بالعدم، وتارة ثالثة يكونان شاكَّين، كما قد يكون قطعهما أو شكّهما منطقيّاً حيناً، ونفسيّاً حيناً آخر، وإنّ كلّ قائل فهو يستخدم الألفاظ وفقاً لما يقتضيه قطعه أو شكّه، وإنّ انتخاب الكلمات يكون متناسباً مع تشخيص مستعملها، من دون أن يكون المعيار هو السلامة أو الغثاثة. على أيّ تقدير، فعلى الرغم من أنّ الله يعلم، على نحو القطع، من سيكون من أهل التقوى بحسن اختياره، ومن سيصير من أهل الطغوى بسوء انتخابه، وأنّه ما من سبيل على الإطلاق للشكّ، أو الجهل، أو السهو، أو النسيان، أو الخطأ، أو أمثالها إلى حريم كبريائه جلّ شأنه، بيد أنّ مقام الفعل هو نفس مقام


[1]. الكشّاف، ج1، ص91.

تسنيم، جلد 2

467

الاقتضاء، وليس هو السبب التامّ، وأنّ استعمال كلمة «لعلّ» يأتي بلحاظ مقام الفعل، وليس بلحاظ المتكلّم.

[7] هل التقوى غاية الخلقة، أم العبادة؟

ـ قال عليّ بن الحسين‘ ... : ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قال: «لها وجهان: أحدهما خلقكم، وخلق الذين من قبلكم لعلّكم ـ كلّكم ـ تتّقون؛ أي لتتّقوا كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾. والوجه الآخر: اعبدوا [ربّكم‏] الذي خلقكم، والذين من قبلكم، أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النار»[1].

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «فاتّقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له، واحذروا منه كُنْه ما حذّركم من نفسه‏»[2].

إشارة: يقول المجلسيّ( في ذيل الحديث الأوّل:

«لها وجهان»، أقول: الفرق بينهما أنّه على الأوّل علّة الخلق، وعلى الثاني علّة العبادة، والقاضي ذَكَر الأوّل، وضعّفه بأنّه لم يرد في اللغة واختار أنّه حال عن الضمير في «اعبدوا» أو عن مفعول «خلقكم».‏

ما روي عن القاضي هو ذات ما تعرّض الآلوسيّ لنقله ونقده عن أستاذ القاضي عبد الجبّار ولا حاجة لتكراره. وكما مرّ في البحث التفسيريّ، فإنّ اتّصال التقوى بالعبادة أشدّ من ارتباطها بالخلقة. وتأسيساً على ذلك، تصبح التقوى غاية العبادة.


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص121؛ وبحار الأنوار، ج65، ص287.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 83 ، المقطع 23.

تسنيم، جلد 2

468

تسنيم، جلد 2

469

الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالْسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

خلاصة التفسير

في صدر هذه الآية، التي هي تتمّة للآية السابقة، يُلفت الله سبحانه وتعالى نظر الإنسان إلى التوحيد الربوبيّ من خلال تبيين ربوبيّته عزّ اسمه في إطار ذكر بعض آيات الآفاق كنموذج على مجموعة نظام الخلقة، ثمّ ينهاه في آخرها عن أيّ شرك، جليّ كان أو خفيّ، كي يكون بمقدور الإنسان، الذي هو مسافر إلى الله، أن يتزوّد ـ في ظلّ العبادة ـ بزاد المسير الذي هو التقوى.

إنّ إدارة شؤون العالم، الكلّية والجزئيّة هي مباشرةً بيد الله، وإنّ حلقات سلسلة عِلل كلّ شيء ما هي إلاّ مجاري فيض الله وآياته. ومن هذا المنطلق، فإنّه لا وجود لدور مستقلّ على الإطلاق للأسباب والعلل

تسنيم، جلد 2

470

الدخيلة في خلق الأشياء وتنميتها. إذن لا شريك لله في الخالقيّة والربوبيّة أبداً.

إذا آب الإنسان، الذي جُبِل على فطرة التوحيد، إلى فطرته فسيسمع ذات النداء التوحيديّ ينطلق من باطنه، وسيجده منسجماً ومتناغماً مع نداء الآفاق الكونيّة.

التفسير

«الذي»: هذا الاسم الموصول مع صلته ﴿جَعَل لَكُم ...﴾ هو صفة ثانية ﻟ «ربّكم» (في الآية السابقة)، وهو بمعنى أنّه يتعيّن على الناس أن يعبدوا الربّ الذي ليس هو خالقهم وخالق آبائهم فحسب، بل إنّ آياته وعلاماته الأخرى في الأرض، والسماء، والمطر، والثمر لتأمين أرزاق البشر ظاهرة جليّة.

«جَعَل»: المراد من «جعل» هنا هو جعْل الشيء في حالة خاصّة (الجعل التركيبيّ) وهو لذلك يأخذ مفعولين.

تنويه: 1. يأتي الجعل حيناً بمعنى الصيرورة، وعندئذ لا يكون متعدّياً، ويأتي حيناً آخر للدلالة على الإيجاد، فيتعدّى لمفعول واحد؛ مثل: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾[1]، وحيناً ثالثاً بمعنى التصيير والتحويل؛ نظير الآية محلّ البحث حيث يتعدّى إلى مفعولين. 2. تقديم ذكر خلق الإنسان على خلقة النظام الكونيّ هو من قبيل تقديم


[1]. سورة الأنعام، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

471

آيات الأنفس على آيات الآفاق، ناهيك عن أنّ الهدف في الآية محطّ البحث هو ذكر منافع الإنسان ومصالحه، التي هي متأخّرة قهراً عن وجود الإنسان نفسه.

«لكم»: اللام في لكم هي لام الغاية والفائدة (وليست لام العلّة الغائيّة)؛ أي إنّ التدابير المذكورة نماذجها في هذه الآية هي من أجل تأمين مصالحكم أيّها البشر.

«الأرض»: الأرض اسم جنس وتُطلَق على كلّ ما يقابل «السماء»، ولها في القرآن الكريم إطلاقات بعضها أوسع من الآخر؛ فهي تُطلق أحياناً على منطقة معيّنة من الأرض؛ مثل: ﴿يَا قَوْمِ ٱدْخُلُواْ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾[1]، و﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ﴾[2]، ويُراد منها، أحياناً، الكرة الأرضيّة بأجمعها؛ مثل: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسيَ﴾[3]، و﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً﴾[4]، كما وتُستعمل أحياناً للدلالة على مجموع عالم المُلك في مقابل عالم الملكوت؛ مثل: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[5]، و﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَىٰ‏ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[6].

«السماء»: العلّة في تكرار كلمة السماء في جملة ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ وعدم إيراد الضمير محلّ اسمها الظاهر، هي أنّ


[1]. سورة المائدة، الآية 21.

[2]. سورة الأحزاب، الآية 27.

[3]. سورة الحجر، الآية 19.

[4]. سورة المرسلات، الآية 25.

[5]. سورة النور، الآية 35.

[6]. سورة الروم، الآية 27. راجع التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج1، ص75 ـ 76.

تسنيم، جلد 2

472

السماء التي تُظلّل الأرض كالخيمة والمبنيّة فوقها كالسقف[1]، تختلف عن تلك التي هي محلّ هطول المطر. فالسماء الاُولى هي محلّ نظام الكون والنجوم الثابتة والسيّارة التي تسير في مدارات رياضيّة، لا طبيعيّة؛ كما هو موروث عن الأقدمين وقد توصّل إليه المتأخّرون، وليس في أجرام فلكيّة وأجسام سماويّة مستقرّة في محاور طبيعيّة كما كان يتصوّر القدماء، أمّا السماء الثانية فهي هذا الجوّ المتراكم فوق الأرض الذي هو محلّ السحب.

تنويه: إنّ التعبير عن السماء الحسّية بالسقف في الآية ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾[2] هو وفقاً للنظرة الظاهريّة للبشر؛ كما أنّ التعبير عنها بالبناء هو في هذا السياق أيضاً.

«به»: «الباء» في «به» في جملة ﴿وَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾، هي سببيّة، والله جلّ وعلا يقرّ بهذا الكلام نظام السبب والمسبّب في العالم العينيّ. فعلى الرغم من أنّ للعلل والعوامل المادّية الحظّ الوافر في إنبات النباتات وتنمية الثمار المختلفة، فإنّه بصرف النظر عن أنّها جميعاً مخلوقات الله، فإنّ أثرها في الإيجاد والإنماء أثر إعداديّ، وليس فاعليّاً.

«الثمرات»: الثمر هو كلّ ما ينتج عن شيء آخر ويتولّد منه؛ سواء كان مطلوباً أو غير مطلوب، مادّياً كان أو معنويّاً، وفي الأمور المادّية مأكولاً كان أو غير مأكول. وفي القرآن الكريم اُطلق الثمر على أنواع فواكه الشجر ومحاصيل الشجيرات، أي مجموع محاصيل البستنة


[1]. سقف البيت هو سماؤه (راجع جامع البيان، ج1، ص212؛ والتبيان، ج1، ص100).

[2]. سورة الأنبياء، الآية 32.

تسنيم، جلد 2

473

والزراعة؛ مثل: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾[1]، و﴿وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾[2]. وإنّ المراد من «الثمرات» في الآية مورد البحث هو هذا المعنى أيضاً[3].

تنويه: لمّا كان الرزق شاملاً للمأكول والملبوس و ...الخ، فإنّ كلّ ما كان ذا فائدة للبشر، سواء بالواسطة أو من دون واسطة، فهو رزق. من هذا المنطلق يقول القرآن الكريم: ﴿مَتَاعاً لَكمُ‏ْ وَلأَِنْعَامِكُمْ﴾[4]، ﴿كُلُواْ وَٱرْعَواْ أَنْعَامَكُمْ﴾[5].

«أنداداً»: «الأنداد» جمع «نِدّ»، وليس «الندّ» هنا بمعنى المثل والشبيه، بل المراد منه هو الشيء المقابل للشيء الآخر، والمخالف له، والمدّعي مماثلته في الأعمال والأمور أيضاً. إذن فقد لوحظت في معنى الندّ ثلاثة عناصر: المقابَلة، والمخالَفة، وادّعاء المماثَلة، وإنّ عدم ملاحظة القيود الثلاثة في مورد من الموارد، يجعل من استعمال لفظة الندّ مَجازاً. على هذا الأساس، فإنّ ندّ الله يشمل كلّ ما جُعل في مقابل الله، والمخالف لإرادته، والمدّعي أيضاً كونه معبوداً ومطاعاً، ولهذا المعنى الجامع مصاديق شتّى؛ مثل الهوى المتّبَع، والأمير المُطاع، والمال المحبوب، وكذلك الأصنام التي يعتقد عُبّاد الأوثان بتأثيرها في الأمور[6].


[1]. سورة النحل، الآية 69.

[2]. سورة البقرة، الآية 155.

[3]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2، ص34.

[4]. سورة النازعات، الآية 33.

[5]. سورة طٰه، الآية 54.

[6]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج12، ص72 ـ 73.

تسنيم، جلد 2

474

«وأنتم»: إنّ جملة ﴿وَأنتُم تَعلَمُون﴾ هي حال للفاعل ﴿فَلا تَجعَلُوا﴾ وإنّ متعلَّقه محذوف. وحذف المتعلّق يفيد العموم؛ أي: لا تجعلوا شيئاً من الأشياء أو شخصاً من الأشخاص (فرداً كان أم جماعة) شريكاً لله وندّاً له، في حين أنّكم جميعاً تتمتّعون بالوعي التوحيديّ. إنّ علل وعوامل الوعي متعدّدة: فبعضها مشترَك؛ مثل الفطرة التوحيديّة، وكذلك القدرة على الاستدلال في الجملة، وليس بالجملة، وبعضها يختصّ بأهل الكتاب؛ كالذي ثُبِّت في آثار مَنْ مضى مِنَ النبيّين وكتبهم السماويّة السابقة. بناءً على ذلك، فإذا اُطيعت شخصيّة حقيقيّة أو حقوقيّة على نحو الاستقلال رجاءً للمنفعة المادّية أو المعنويّة، فإنّ مثل هذا العمل المذموم سيكون شركاً، وهو لا يتلاءم على الإطلاق مع العلم التوحيديّ. فالقرآن الكريم، مع كلّ ما يكنّه من احترام لجميع علل الاقتصاد وعوامله، يعتبر أنّ المصدر الوحيد والمستقلّ للرزق هو الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[1]، ﴿فَٱبْتَغُواْ عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[2].

درجات النِعَم والمتنعّمين

في الآية السابقة خاطب الله سبحانه وتعالى جميع الناس ودعاهم إلى عبادة الربّ الخالق المدبّر بقوله: ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ﴾، وفي هذه الآية الكريمة يذكر جلّ اسمه النِعم والآلاء التي أسبغها على الناس. وتبيين


[1]. سورة الذاريات، الآية 58.

[2]. سورة العنكبوت، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

475

النعم في القرآن الكريم يتناسب مع مستوى المخاطَبين الذين يوجّه الله الكلامَ إليهم.

فعندما يكون مخاطَبوه عامّة الناس يبيّن الله عزّ وجلّ ربوبيّته من خلال ذكر النعم الظاهريّة؛ تلك النعم التي تشترك حتّى الحيوانات مع الإنسان في التمتّع بها، فيصوغها بتعابير لطيفة من قبيل: ﴿مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ﴾[1]، أو ﴿كُلُواْ وَٱرْعَواْ أَنْعَامَكُمْ﴾[2]. أمّا إذا كان مخاطَبوه من المؤمنين فتراه يستعرض ربوبيّته في إطار ذكر النعم الباطنيّة، كإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وجعل النبوّة والإمامة والخلافة حيث يكون الإنسان في هذه المرحلة في مستوى الملائكة؛ كما أنّ الإنسان قد جُعل فعلاً في صفّ الملائكة في الآية الشريفة ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾[3]، حيث يدور الحديث عن الشهادة على وحدانيّة الحقّ.

في مطلع الآية مورد البحث جاء الكلام عن الأرض التي هي البيئة المناسبة للحياة. ولمّا لم يكن في الأرض وحدها الكفاية لظهور وتنشئة الإنسان، والحيوانات، والنباتات، والجمادات، تطرّقت الآية أيضاً إلى ذكر السماء، ذلك البناء الشامخ. فبسطوع أشعّة الشمس يتحوّل الماء إلى بخار، وبتشكّل السحب وهطول المطر ينمو النبات ويزدهر، ويرتوي الحيوان والإنسان، وبحركة الأرض ونجوم السماء


[1]. سورة عبس، الآية 32.

[2]. سورة طٰه، الآية 54.

[3]. سورة آل عمران، الآية 18.

تسنيم، جلد 2

476

تنتظم فصول السنة المختلفة، الأمر الذي يضمن الحياة للإنسان والحيوان والنبات على سطح الأرض.

التوحيد الربوبيّ

عندما يكون الله عزّ وجلّ في صدد تبيين كيفيّة الإدارة الحكيمة للعالم فهو ينسب الأعمال إلى الفاعلين القريبين، ثمّ يقول في الختام: هذه المجموعة هي من صنعي الذي ينمّ عن الحكمة. ومن هذا الجانب تراه جلّ شأنه ينسب هطول المطر إلى السحاب تارة، وإلى الريح تارة أخرى، ثمّ ينسبه في النهاية إلى نفسه؛ كما في قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[1]، لكنّه عندما يكون في صدد تبيان التوحيد الربوبيّ، كما في الآية محطّ البحث، فهو ينسب الظواهر ومتغيّراتها إلى نفسه مباشرة فيقول: ﴿إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ﴾[2]، ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾[3]؛ فأنتم ترمون البذر على الأرض، لكنّكم لا تعلمون كيف أنّنا نُحييه. فالله عزّ وجلّ ينسب «الحرث» إلى المُزارع، ويسند «الزرع» إلى نفسه.

فكلّ العوامل الدخيلة في إيجاد وتنشئة الظواهر المختلفة ما هي إلاّ مجارٍ للفيض الإلهيّ وتُعدّ من جنود الله: ﴿وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[4]. فليست القضيّة أنّ الله عزّ وجلّ هو الحلقة الاُولى ورأس


[1]. سورة الحجر، الآية 22.

[2]. سورة الأنعام، الآية 95.

[3]. سورة الواقعة، الآيتان 63 و64.

[4]. سورة الفتح، الآية 4.

تسنيم، جلد 2

477

سلسلة العلل فحسب، بل إنّ ربوبيّته غير محدودة، وإنّ بالإمكان مشاهدة بصماته حتّى في الأمور الجزئيّة الظاهريّة: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[1]. من هنا تكون الغاية من البحوث التي تتناول وتثبت بطلان الدَور والتسلسل والتي تتطرّق إلى سلسلة العلل، هي لإفهام الذهن وتنويره، وليس لإثبات أنّ الله هو الحلقة الأصليّة في سلسلة العلل فقط، وأنّ الحلقات الوسطى والقريبة منفصلة عن الله؛ ذلك أنّ لله إحاطة بكلّ شيء، وأنّ الإنسان السالك الصالح إذا بلغ ووصل إلى رأس السلسلة، فسوف يدرك حينها أنّ الذي يحيط بالكلّ هو الله. فعندما يشاهد سالك كهذا أيّ شيء فإنّ بمقدوره، في نفس اللحظة، مشاهدة الله عزّ وجلّ بباصرة قلبه وذلك من منطلق أنّ ذلك الشيء هو آية الحقّ ومُحاط من قبله سبحانه.

والمحصّلة، إنّه بالالتفات إلى مفاد الآية مورد البحث وهو التوحيد الربوبيّ، فإنّ تدبير جميع الشؤون الكلّية والجزئيّة للعالم هو بيد الله بشكل مباشر، وما عالَم الإمكان بأسره إلاّ مجاري فيضه وآياته. من هنا فإنّ جعل الله سبحانه وتعالى في رأس سلسلة حلقات العلّة والمعلول هو فقط لتفهيم الذهن، وإلاّ فإنّ لله حضوراً مباشراً في جميع الحلقات من دون امتزاج، أو اتّحاد، أو حُلول.

دفع الآفات عن التوحيد العباديّ

بعد تبيينه للبعد الإيجابيّ للتوحيد العباديّ في ﴿اعبدوا﴾، يبيّن الله عزّ


[1]. سورة البقرة، الآية 115.

تسنيم، جلد 2

478

وجلّ البعد السلبيّ له في جملة ﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾. وقد ورد هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم باختلاف بسيط؛ كما في قوله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[1].

مادّة «جَعَل» في هذا القسم من الآية الكريمة هي بمعنى الجعل والوضع الباطل؛ أي إنّ عمل المشركين بجعلهم مِثْلاً وشريكاً لله هو عمل باطل.

أمّا السرّ في إطلاق عنوان الأنداد على الأصنام فهو أنّه، حتّى وإن اعتقد المشركون بعدم وجود المِثل لله، لا في ذاته ولا في مقام الخالقيّة، لكن في مقام الربوبيّة فإنّهم كانوا يعتقدون بربوبيّة الأصنام وضرورة محبّتها وعبادتها. فكان المشركون ينسبون لغير الله من الأفعال ما يجب أن يُسنَد إلى الله، ويطلبون من سوى الله ما يتعيّن عليهم طلبه من الله، وهذا هو بعينه الجعْل للندّ والمِثل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ﴾[2]. إذن فقد جعل هؤلاء الأصنام أنداداً لله، على الرغم من ادّعائهم في الظاهر: ﴿هَٰؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾[3]؛ لأنّهم كانوا يتصوّرون أنّ الأصنام مستقلّة في شفاعتها وتقريبها للإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، ولابدّ أن يكون هذا الاستقلال مشفوعاً بالربوبيّة. يقول عزّ من قائل: «إذا كان هؤلاء ينسبون اليوم تلك الآثار للأصنام فإنّهم


[1]. سورة فصّلت، الآية 9.

[2]. سورة البقرة، الآية 165.

[3]. سورة يونس، الآية 18.

تسنيم، جلد 2

479

سيدركون فيما بعد أنّ كلّ هذه القوى والطاقات هي لله، وما العالم بأسره إلاّ آيات الله وجنوده قهراً، ولا يملك أيّ شيء قدرة مستقلّة من ذاته تُمكّنه من إنجاز عملٍ بحيث يستحقّ معه أن يُعبد: ﴿وَلَوْ يَرَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾[1].

وكما أسلفنا فإنّ عبارة ﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾ هي تبيان للبعد السلبيّ للتوحيد العباديّ، وقد ذُكر بُعده الإيجابيّ في صدر الآية السابقة ﴿اعبدوا ...﴾. والعلّة في تقدُّم البعد الإثباتيّ على السلبيّ هو أنّ الأصل في فطرة الإنسان هو التوحيد، أمّا الشرك فهو أمر مفروض على فطرة ابن آدم فرضاً. من هذا المنطلق، يتعيّن على الإنسان في المرحلة الأولى أن يجعل من التوحيد الفطريّ المبرهَن قاعدة لانطلاقته الفكريّة، ثمّ يبادر ببركتها إلى نبذ أيّ شرك أو طاغوت.

وكذا الحال في الكلمة الطيّبة «لا إله إلاّ الله» فإنّ البعد الإيجابيّ مقدَّم على البعد السلبيّ، وإن اعتقد البعض بتقدّم البعد السلبيّ على الإيجابيّ فيها؛ لأنّ كلمة «إلاّ» هي بمعنى «غير» وهي صفة لما قبلها. من هنا يكون المراد من العبارة أعلاه هو: الله الذي تقبله الفطرة لا وجود لمعبود غيره، وهناك آيات من قبيل الآية محلّ البحث كالآية: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ اللهَ وَٱجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[2] تكون متطابقة مع روح الكلمة الطيّبة «لا إله إلاّ الله»، وليس مع لفظها؛ وذلك لأنّ هذه الكلمة الطيّبة لا تمثّل قضيّتين، إحداهما إيجابيّة والأخرى سلبيّة، كي تقوم بنفي الآلهة


[1]. سورة البقرة، الآية 165.

[2]. سورة النحل، الآية 36.

تسنيم، جلد 2

480

الباطلة أوّلاً ثمّ بإثبات الله ثانياً. فكلمة «لا إله إلاّ الله»، وإن كانت غير قابلة للتحليل إلى قضيّتين، إلاّ أنّها تنطوي على مبحثين، إيجابيّ وسلبيّ، وتوحي بتقدّم المبحث الإيجابيّ على السلبيّ.

إنّ جعل المِثْل والندّ لله عزّ وجلّ قد يتمثّل أحياناً في قالب الشرك الجليّ والمشهود، وقد يكون أحياناً في إطار الشرك الخفيّ والمستور، وقد تمّ النهي عن كلا الصنفين بدليل وقوع النكرة ﴿أنداداً﴾ في سياق النفي ﴿فلا تجعلوا﴾ وهو ما يفيد العموم.

فالهدف من نهي الكفّار والمنافقين عن الشرك هو تناهيهم عن شركهم الفعليّ، أمّا النهي بالنسبة للمؤمنين فهو من أجل تناهيهم عن الابتلاء بالشرك الجليّ والخفيّ.

وبما أنّ كلّ عالَم الإمكان هو وجه الله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[1]، فليس هناك، في الحقيقة، إلاّ مدبّر واحد تكون في يده إدارة الكون بأسره ولا يلعب الآخرون إلاّ دور المظهريّة. فمقولة: إنّ الله حقّ لكنّه لابدّ من الوسيلة، لا تنسجم مع التوحيد. فالله حقّ وهو ذاته مسبِّب الأسباب، ومن هذا المنطلق فإنّنا نطلب من هذا الربّ، الذي هو مسبّب الأسباب، أن يهيّئ لنا وسائلنا: «وقرّب وسيلتي إليك من بين الوسائل‏»[2]. بناءً على ما مرّ، فالشرك، جليّاً كان أم خفيّاً، لا ينسجم مع العبادة، والتقوى، وهدف الخلقة.

وقد جاءت كلمة «أنداداً» بصيغة الجمع، والحال أنّ كلّ فرد مشرك


[1]. سورة البقرة، الآية 115.

[2]. إقبال الأعمال، ص530؛ وبحار الأنوار، ج95، ص66.

تسنيم، جلد 2

481

لم يكن يعبد إلاّ صنماً واحداً، وكذا القبائل فقد كان لكلّ منها صنم خاصّ بها كانت تعكف على عبادته. تأسيساً على ذلك، فإنّ هناك تبريرين لورود كلمة «أنداداً» بصيغة الجمع:

1. لمّا كان الخطاب موجّهاً للمشركين كافّة، فقد جاء المجموع في مقابل المجموع؛ أي، اُريد منه مجموع المشركين في مقابل مجموع الأصنام التي كانوا يعبدونها، لا أنّ هناك بضعة أصنام لكلّ مشرك وقد نُهي عن عبادتها؛ وهذا نظير: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾[1]، التي تعني: يجب على كلّ شخص الوفاء بعقده وميثاقه هو، لا أنّه يجب على كلّ امرئ الوفاء بعقود الآخرين، أو أن تكون الآية ناظرة فقط إلى الأمثلة التي يكون كلّ شخص فيها قد أبرم عدّة عقود.

2. بما أنّ للإنسان ارتباطاً مع كلّ الموجودات وهو بحاجة لها جميعها، فإنّه لابدّ للشخص الوثنيّ ـ الذي يعتقد بربّ منفصل لكلّ من الأرض، والسماء، والبحر، والصحراء، وما إلى ذلك وهو بحاجة لها جميعاً ـ أن يخضع ويطيع آلهة متفرّقة؛ كما جاء في دعوة يوسف الصدّيق(ص) لصاحِبَي السجن إلى التوحيد عندما قال: ﴿ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[2]، وهذا لا يتنافى مع كونها إشارة إلى الصنم الخاصّ لكلّ قبيلة؛ لأنّ الأصل في نحت التماثيل هو من أجل تجسيم المعبود وحضوره المادّي، سواء كان معبوداً واحداً أم معبودات متعدّدة.


[1]. سورة المائدة، الآية 1.

[2]. سورة يوسف، الآية 39.

تسنيم، جلد 2

482

الفطرة التوحيديّة

من وجهة نظر القرآن الكريم فإنّ للإنسان عِلمين؛ أحدهما فطريّ، والآخر اكتسابيّ. وهو يقول في العلم الفطريّ، وهو الأصيل بينهما: لقد خلقكم الله برأسمال الفطرة التوحيديّة: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَْا﴾[1]. كما ويقول أمير المؤمنين(ص): «وجابِلَ القلوب على فطرتها، شقيّها وسعيدها»[2]؛ أي إنّ الله تعالى قد خلق قلوب جميع أهل السعادة وأهل الشقاء على الفطرة الجِبِلِّية. أمّا بخصوص العلم الاكتسابيّ، وهو التَبَعْ، فيقول: لقد جعل الله لكم بصراً وسمعاً كي تتعلّموا العلم من خارج وجودكم؛ ولكن حاذروا من أن تزاحم ذخائرُ هذا السمع وهذا البصر العِلمَ الفطريّ الأصيل: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[3].

إنّه ما من إنسان خُلق محايداً بالنسبة للتوحيد والشرك، بل خُلق البشر برأسمال علميّ ألا وهو الفطرة التوحيديّة، وما الشرك إلاّ أمر مفروض يأتي ليغتصب بلاد الفطرة التوحيديّة، وإنّ هذا الفرض للشرك على الفطرة التوحيديّة لظلم عظيم: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[4]. يقول القرآن الكريم بخصوص المشركين والكفّار: ﴿وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[5]؛ وذلك لأنّهم يدفنون فطرتهم التوحيديّة بين أغراضهم وغرائزهم، ويَبذُرون بذر الشرك في قلوبهم، وهذا ظلم في حقّ الفطرة.


[1]. سورة الروم، الآية 30.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 72.

[3]. سورة النحل، الآية 78.

[4]. سورة لقمان، الآية 13.

[5]. سورة آل عمران، الآية 117.

تسنيم، جلد 2

483

من هذا المنطلق فقد بُعث الأنبياء لكي يوقظوا الفطرة التوحيديّة عند الإنسان ويوصلوها إلى مرحلة الازدهار. لهذا نجد أنّ القرآن الكريم يقول في عَبَدة الأوثان الذين حطّم إبراهيم الخليل(ص) أصنامهم: ﴿فَرَجَعُواْ إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ﴾[1]؛ فثمرة تحطيم إبراهيم(ص) للأصنام هي رجوع الناس إلى فطرتهم التوحيديّة، ولمّا كانت عبادة أيّ شيء عدا الله والميل نحوه هي عبادة أصنام، وإن كانت مستورة وخفيّة، فإنّه يتعيّن على الإنسان أن يحطّم أصنام الهوى، والجاه، والألقاب، وأمثالها بفأس العبادة الخالصة لله، حتّى لا يشمله قوله تعالى: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾[2].

يقول الله عزّ وجلّ في آخر الآية مورد البحث: ﴿وَأنتُم تَعلَمُون﴾؛ أي: هذا وإنّكم تنالون التوحيد الربوبيّ وتدركون ضرورة عبادة الربّ الخالق من خلال نداء التوحيد. هذه الجملة إمّا أن تكون خطاباً للمشركين فهو يقول لهم: «إنّكم تعلمون أنّ خالق هذا النظام الكونيّ هو الله، فلماذا تعبدون غيره؟» فالتوحيد في الخلقة يستلزم التوحيد في العبادة أيضاً. وإمّا أنّه خطاب موجّه لجميع البشر؛ ومعناه: إنّ البشر أجمع إذا رجعوا إلى فطرتهم فسوف يدركون أنّ لهم خالقاً، وأنّ عليهم عبادة الخالق.

تنويه: إنّ مفاد الآية محطّ البحث والآية السابقة لها هو توحيد الله في العبادة، والربوبيّة، والخالقيّة. هاتان الآيتان هما بمثابة «موعظة» للمؤمنين المعتقدين بهذه العقائد، لكنّهم قد يقصّرون أحياناً في الالتفات إليها، وهي من قبيل «الجدال بالتي هي أحسن» بالنسبة للمشركين المنكرين


[1]. سورة الأنبياء، الآية 64.

[2]. سورة الأنبياء، الآية 67.

تسنيم، جلد 2

484

للتوحيد الربوبيّ والمبتلين بالشرك العباديّ فحسب، وإن كانوا يقبلون بالتوحيد الخالقيّ، وهي «برهان» للملحدين؛ لأنّ الملحدين إذا تمعّنوا في معاني الآيتين المذكورتين فسوف لا يكون أمامهم إلاّ التصديق بخالقيّة الله، فيتعيّن عليهم، تبعاً لذلك، الاعتراف بالربوبيّة المطلقة للخالق وأن يعبدوه هو وحده.

وعلى الرغم من أنّ مفاد هاتين الآيتين هو البرهان على التوحيد الربوبيّ؛ إذ أنّ مخاطَبيهما الأوائل كانوا جماعة لم يكن لديهم شكّ في أصل وجود الخالق، إلاّ أنّه من الممكن لمثل هذه البراهين، من خلال تقريبها الخاصّ، أن تشكّل دليلاً متقناً لإثبات أصل الخالق أيضاً.

لطائف وإشارات

[1] العبادة الخالصة والتقوى

إنّ الباري عزّ وجلّ يقبل العبادة الخالصة، ويردّ تلك العبادة المشوبة والغير الخالصة. والقرآن الكريم يشير أحياناً إلى العبادة والخلوص فيها في جملة واحدة، فيقول: ﴿أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[1]؛ فالدين الذي يكون لله لابدّ أن يكون خالصاً له ولا يكون لغيره موطئ قدم فيه. إذن، لو تسرّب الشرك ـ جليّه أو خفيّه ـ إلى العبادة فلن تُمهَّد الأرضيّة للتقوى على الإطلاق.

وأحياناً أخرى يشخّص القرآن هذا المعنى من خلال جملتَي النفي


[1]. سورة الزمر، الآية 3.

تسنيم، جلد 2

485

والإثبات؛ فيقول: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لِهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ٱرْتَضَىٰ‏ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾[1]؛ فالذين وعدهم الله سبحانه وتعالى بحكومة الاستخلاف في الأرض إذا استلموا مقاليد هذه الحكومة، أقاموا الدين الخالص؛ أي إنّهم سوف يعبدون الله ولا يجعلون له من شريك. وكلمة ﴿شيئاً﴾ هي نكرة، والنكرة بعد النفي تفيد العموم وتنفي كلّ شريك.

في الحقيقة لا يشكّل مضمون هاتين الجملتين مبحثين منفصلين كي يكون أحدهما حول اجتناب الشرك، والثاني بخصوص أصل العبادة. ولهذا السبب فقد جاءت جملة ﴿لا يُشرِكُونَ بي شَيئاً﴾ من دون حرف عطف لتكون متمّمة لجملة ﴿يَعبُدُونَني﴾. إذن، فمن ناحيةٍ نرى أنّ النكرة جاءت في سياق النفي، فهي تنفي جميع الشركاء، ومن ناحية أخرى لم يأت حرف العطف بين الجملتين، لذا يصبح من الجليّ أنّ نفي الشرك ليس منفصلاً عن العبادة، بل يدخل في قوامها؛ بمعنى أنّ العبادة هي تلك التي لا سبيل للشرك إليها.

فبنفس النسبة التي تكون العبادة فيها خالصة تزداد ثمارها، وإنّ أرقى مراتب الخلوص هي أن لا يكون في قلب العابد أحد سوى الله؛ فالإمام جعفر الصادق(ص) يقول في القلب السليم: هو القلب الذي ليس فيه إلاّ ذكر الله: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه‏»[2]،


[1]. سورة النور، الآية 55.

[2]. الكافي، ج2، ص16؛ وبحار الأنوار، ج67، ص239.

تسنيم، جلد 2

486

وهذه أسمى درجات الخلوص. كما ويقول هذا الإمام(ص) نفسه: «ما أنعم الله عزّ وجلّ على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله تعالى غيره‏»[1].

[2] الخلوص في التوحيد

إنّ الخلوص من الشرك الجليّ والخفيّ لا يقتصر على العبادة الاصطلاحيّة كالصلاة والصيام، بل هو يظهر في كلّ شؤون حياة الإنسان الموحِّد. فالشخص الذي يرى ـ حين الانتفاع من شيء أو اجتناب شيء آخر ـ أنّ ما سوى الله هو حقيقةً نافع أو ضارّ، وهو في نظره يتجاوز حدّ كونه مظهراً وآيةً إلهيّة، فإنّ هذا الاعتقاد الخاطئ لا ينسجم مع الخلوص في التوحيد، وسيتّضح هذا البحث بالتفصيل مستعينين بالأحاديث التفسيريّة أثناء دراستنا للآية الكريمة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[2].

البحث الروائيّ

[1] خَلْق الأرض

ـ [عن أمير المؤمنين(ص)]: «فسبحان من أمسكها بعد مَوَجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً فوق


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص262؛ وبحار الأنوار، ج67، ص198.

[2]. سورة يوسف، الآية 106.

تسنيم، جلد 2

487

بحر لُجّيٍّ راكد لا يجري، وقائم لا يسري، تُكَركِره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ﴾[1]»[2].

ـ «وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأَوَد والاعوجاج، ومنعها من التهافُت والانْفراج، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخَدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعُف ما قوّاه، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كلّ شي‏ء منها بجلاله وعزّته»[3].

[2] الانسجام بين عالَم الخلقة وانتفاع الإنسان

ـ عن عليّ بن الحسين ‘ في قول الله عزّ وجلّ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَ ...﴾ قال: «جعلها ملائمة لطبائعكم، موافقة لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدّع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتُعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتُغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنّه عزّ وجلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم. فلذلك جعل


[1]. سورة النازعات، الآية 26.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 211، المقطع 7.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 19.

تسنيم، جلد 2

488

الأرض فراشاً لكم. ثمّ قال عزّ وجلّ: ﴿وَالسَّمَاءَ بِناءً﴾ سقفاً من فوقكم محفوظاً يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. ثمّ قال عزّ وجلّ: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً﴾ يعني المطر ينزله من عَلٍ ليبلغ قُلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثمّ فرّقه رُذاذاً، ووابلاً، وهطلاً لتنشفه أرضوكم‏، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم، وأشجاركم، وزروعكم، وثماركم ...‏»[1].

[3] المراد من «السماء»

ـ [عن أمير المؤمنين(ص) في جواب يهوديّ سأله عن مسائل]: «وسُمّيت السماء سماءً لأنّها وسْم الماء، يعني معدن الماء ...»[2].

[4] خلْق المطر ورسالة الملائكة

ـ [عن الباقر(ص)]: «كان عليّ(ص) يقوم في المطر أوّل مطر يمطر حتّى يبتلّ رأسه ولحيته وثيابه، فيُقال له: يا أمير المؤمنين! الكنّ الكنّ. قال: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش. ثمّ أنشأ يحدّث فقال: إنّ تحت العرش بحراً فيه ماء ينبت به أرزاق الحيوان. وإذا أراد الله أن ينبت ما يشاء لهم رحمة منه أوحى الله تعالى فمطر منه ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى سماء الدنيا فيلقيه السحاب، والسحاب بمنزلة الغربال، ثمّ يوحي الله عزّ وجلّ إلى السحاب،: اطحنيه وأذيبيه ذوبان الملح في الماء، ثمّ انطلقي به


[1]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص125ـ126؛ وبحار الأنوار، ج57، ص82 .

[2]. علل الشرايع، ج1، ص12؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص46.

تسنيم، جلد 2

489

إلى موضع كذا وكذا، عباب أو غير عباب، فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به، فليس من قطرة تقطر إلاّ ومعها ملَك يضعها موضعها، ولم ينزل من السماء قطرة من مطر إلاّ بقدر معدود ووزن معلوم، إلاّ ما كان يوم الطوفان على عهد نوح فإنّه نزل منها منهمر بلا عدد ولا وزن»[1].

ـ [عن النبيّ(ص)]: «﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ يعني المطر ينزل مع كلّ قطرة ملَك يضعها في موضعها الذي يأمره به ربّه عزّ وجلّ»[2].

ـ «ما من ساعة من ليل ولا نهار الاّ والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء»[3].

إشارة: 1. ما جاء في القرآن الكريم وسنّة المعصومين(ع) بخصوص خلق الأرض سيُوضع ـ بعد تقييم السند، وتفسير النصوص النقليّة بعضها بالبعض الآخر ـ في بودقة اختبار التجارب القطعيّة المنزّهة عن الفرضيّات، وسيتمّ بحثه والتحقيق فيه بالاستعانة بالعلوم المتعارفة، والأصول البديهيّة. حينئذ سيتّضح أنّ قسماً من العلوم التجريبيّة قد جاء ذكره في النصـوص النقليّة، وإذا لم تكـن التجربة القطعيّة منسجمـة مع ظـاهر النصّ المنقول فستكون ـ باعتبارها دليلاً لبّياً ـ قرينة على صَرف الظاهر. والغرض من هذا الكلام هو أنّه يمكن لِما يستخلصه العقل أو التجربة أو الحسّ، وكذلك ما يأتي به الشهود القطعيّ ـ المحرَزة صيانته من الهواجس النفسانيّة، ونزاهته من الوساوس الشيطانيّة، والدسائس الإبليسيّة ـ أن يكون شاهداً تفسيريّاً


[1]. علل الشرايع، ج2، ص173؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص42.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص127؛ وبحار الأنوار، ج27، ص99.

[3]. الدرّ المنثور، ج1، ص87 .

تسنيم، جلد 2

490

للنصّ المنقول، ولا فرق في هذا المضمار بين مسائل الحكمة العمليّة؛ كالفقه، والأخلاق، والحقوق، وأبحاث الحكمة النظريّة؛ كالحكمة، والكلام، وعلم طبقات الأرض، وعلم النجوم.

2. ما هو مشهود من ظاهر النصوص النقليّة، وهو أنّ للأرض قراراً: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً﴾[1]، فهو بمعنى الفراش والبيئة المناسبة للحياة، وليس المراد منه المعنى المقابل للحركة؛ كما إنّ التعابير من أمثال الفراش والمهاد لا تتنافى مع كرويّة الأرض.

3. إنّ كرويّة الأرض، التي هي مبحث حسّي تجريبيّ، ليست قابلة للإثبات أو النفي من خلال الطريق العقليّ المحض؛ كما أنّه لا يمكن الاكتفاء بظاهر النصّ النقليّ الغير القطعيّ[2].

4. وشبيه بكرويّة الأرض فإنّ حركتها هي أيضاً مبحث حسّي ولابدّ لنفيها أو إثباتها من سلوك الطريق التجريبيّ، وليس سلوك طريق العقل المحض؛ إذ أنّه لا سبيل للبرهان العقليّ إلى الموجود الخارجيّ الجزئيّ، ولا سلوك طريق ظاهر النصّ النقليّ الغير القطعيّ. فبعض المفسّرين يذهب إلى أنّ الآيات القرآنيّة غير صريحة في موافقتها للهيئة القديمة، كما أنّها غير صريحة في مخالفتها للهيئة الجديدة أيضاً، وأنّه لا يعلم حقيقة الأمر إلاّ الله عزّ وجلّ، وأنّ الأوضاع المذكورة في الهيئتين لا أساس لها إلاّ الحدس الذي تدفعه الشكوك والردود[3].


[1]. سورة النمل، الآية 61.

[2]. راجع تفسير البحر المحيط، ج1، ص237.

[3]. آلاء الرحمن، ص160 ـ 161.

تسنيم، جلد 2

491

5. ما حصل القطع فيه طبقاً للبرهان المنطقيّ، لا على أساس المسائل النفسيّة ـ سواءٌ كان القطع عن طريق المبادئ التجريبيّة، أو من خلال المبادئ العقليّة المحضة ـ فإنّ بالإمكان إسناده إلى صنع الله أوّلاً، والتصديق به ثانياً، وإخضاعه للاستخدام العمليّ إذا كان له أثر عمليّ ثالثاً، وأن يُعتبر البرهان العقليّ في مقابل البرهان النقليّ، وليس في مواجهة الدين والشرع رابعاً؛ لأنّ العقل البرهانيّ ـ كما قد تمّ إثباته في أصول الفقه ـ هو حجّة دينيّة؛ أي، إنّه مصدر من مصادر الدين، لا أنّه في مقابلها؛ ذلك أنّ العقل هو في مقابل النقل، وليس في مقابل دين الله؛ كما مرّ ذكره في مقدّمة التفسير[1].


[1]. تفسير تسنيم، ج1، ص213.

تسنيم، جلد 2

492

تسنيم، جلد 2

493

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

خلاصة التفسير

المراد من نفي الريب (الشكّ المشفوع بالافتراء) عن القرآن هنا هو إمّا أنّه «لا ينبغي» الشكّ في القرآن، وإمّا أنّه «ليس» من منشأ للشكّ في القرآن على الإطلاق، ولا يتأتّى الشكّ إلاّ من طرف الناظر الذي ينظر إليه من دافع الكفر والنفاق، أو الجهل العلميّ.

الآية محطّ البحث، التي هي في عداد آيات التحدّي، تقوم بإثبات إعجاز القرآن وصدق دعوى النبيّ الأكرم(ص) من ناحية، وإثبات كذب المخالفين من ناحية أخرى. فالتحدّي يكون تارة بكلّ القرآن، وتارة أخرى بعشر سوَر منه، وتارة ثالثة بسورة واحدة، ولمّا كان القرآن الكريم يستند إلى حقيقة أسمى (وهي الكتاب المكنون)، فإنّه لا طاقة لأحد أن

تسنيم، جلد 2

494

يأتي ولو بسورة صغيرة من مثله. فإعجاز القرآن ذاتاً مرتبط بمحتواه، على الرغم من أنّ كون النبيّ(ص) أمّياً هو مدعاة لتأكيد إعجازه أيضاً.

المتلقّي لهذا الكتاب هو عبد مطلق ومحض لله تعالى. ومن هذا المنطلق جاء التعبير عنه في هذه الآية الكريمة ﺑ «عبدنا» على نحو الإطلاق ومن دون أيّ قيد.

التفسير

«ريب»: الفرق بين الشكّ والريب هو أنّ الريب شكّ مع التهمة. فشكّ المرء الذي يكون مصحوباً بشبهة الاتّهام والافتراء يُقال له ريب. وجملة ﴿وَإِن كُنتُم فِي رَيبٍ﴾ هي بمعنى: إذا كنتم شاكّين في أنّ هذا القرآن هو كلام الله، وتتّهمون رسول الله(ص) بأنّه افتراه على الله، وأنّ كلماته هي اختلاق وتقوُّل، فأتوا بكتاب مثله.

«بسورة»: السورة ـ اصطلاحاً ـ هي مقطع من كلام الله يضمّ محتوى منسجماً. أمّا لغةً فإنّ المعنى المحوريّ للمادّة «سور» هو الثوران والهيجان مع الارتفاع والاعتلاء؛ إذ عندما يثور غضب إنسان أو حيوان، ويصل ذروته حتّى يبين أثره، يُقال: «سار غضبه»، وعندما تغضب الحيّة فتهجم يُقال: «سارت الحيّة»، وفي السياق ذاته فإنّه يُقال للجدار المحيط بالقرية أو المدينة، والذي يقف سدّاً منيعاً بوجه نفوذ الغرباء، «سوراً».

وبهذا التناسب فقد اُطلق على كلّ مقطع من المقاطع المختلفة من كتاب الله اسم «السورة»؛ فهي، كسور المدينة أو القرية، تصدّ هجمات المخالفين، وإنّ كلّ سورة ـ في الحقيقة ـ هي بمثابة السور

تسنيم، جلد 2

495

الذي يفصل بين المؤمنين والكافرين، وهي أمنع زادٍ معنويّ يُدفع ويُرفع به تعدّي المخالفين المشوب بالإغواء والوَسوسة، وإنّ كلّ واحدة منها هي مظهر لهيجان وغضب الله عزّ وجلّ واعتلائه وظهوره في مقابل المعاندين.

يُستخلص من هذا التحليل اللغويّ أنّ كلّ طائفة من آيات القرآن الكريم تتمتّع بهذه الصفة فهي تمثّل «سورة». بالطبع إنّ المصداق الكامل للسورة هو ذلك الجزء المحدّد والمشهور من القرآن الذي يُصطلح عليه باسم السورة. في بعض الآيات اُطلقت لفظة «السورة» على سورة كاملة؛ مثل: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ...﴾[1]؛ ويُراد منها سورة النور، أو ﴿أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[2]. وفي بعض الموارد أيضاً سُمّيت مجموعة من الآيات سورة (وإن كانت أقلّ من السورة المصطلحة)؛ مثل: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾[3]، ﴿وَإِذَا اُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾[4]، ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا اُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ...﴾[5]. من الواضح أنّ المراد في مثل هذه الموارد ليس هو السورة الكاملة؛ لأنّ خوف المنافقين وانتظار المؤمنين لم يكن من أجل نزول سورة تامّة وكاملة. فالمراد من


[1]. سورة النور، الآية 1.

[2]. سورة هود، الآية 13.

[3]. سورة التوبة، الآية 64.

[4]. سورة التوبة، الآية 86 .

[5]. سورة محمّد(، الآية 20.

تسنيم، جلد 2

496

«السورة» في هذه الأمثلة هي تلك الطائفة من الآيات التي تمتلك الميزة المذكورة[1].

ومن المحتمل أيضاً أنّه لا يُراد من لفظة «سورة» في الآية مورد البحث السورة المصطلحة. وبناءً عليه، فقد اُقيم التحدّي بكلّ مجموعة من الآيات القرآنيّة التي يكون لها مضمون منسجم. فمن حيث المحتوى يشتمل القرآن الكريم على معارف راقية، وحِكَم جامعة، ومن حيث القالب فقد صِيغ كلامه في أحسن بيان، وأفصح منطق، وأكمل تأليف، ومن هذا المنطلق فإنّ كلاًّ من السور (الاصطلاحيّة) للقرآن وكذلك أقسامها وطوائف آياتها التي تشكّل مع بعضها سوراً (لغويّة) لا تقبل المعارض والمتحدّي.

وقد عدّ البعض كلّ منزلة رفيعة سورة. إذن فكلّ سورة من القرآن هي بمنزلة درجة رفيعة، ومنزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أعلى إلى أن يبلغ كمال القرآن‏[2].

التنوين في ﴿بِسُورَةٍ﴾ هو تنوين الوحدة؛ أي سورة واحدة، في مقابل الآيات التي تحدّت بعشر سور: ﴿فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[3].

«شهداءكم»: ليس المراد من الشهيد هنا «الشاهد أو الخبير المتخصّص»، بل يُراد منه «النصير والمعين»؛ لأنّه في ميدان البراز


[1]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج5، ص313 ـ 315.

[2]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص156.

[3]. سورة هود، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

497

والمعارضة فإنّ وجود المعاون والنصير هو الذي يكون ذا تأثير، ولا ينفع الشاهد أو الخبير والمتخصّص إلاّ في المحكمة وأمام القضاء. فإنّ ما يؤَمّن العنصر الأساسيّ لمحتوى آية التحدّي هو البراز، وليس المحاكمة. إذن فالذي يعود بالنفع هو وجود الشهيد بمعنى المعاون والمعين، وليس الذي يعطي معنى الشاهد والخبير.

من أهمّ الأصول بعد التوحيد العباديّ لله سبحانه وتعالى، هو الوحي، والنبوّة، والرسالة، والشريعة، وما إلى ذلك. من هنا فقد أَولى الله عزّ وجلّ اهتمامه بالنبوّة بعد تبيينه للتوحيد. ففي الآية السابقة يبرهن سبحانه على لزوم العبادة، وفي الآية الحاليّة يشير إلى الطريق التي تُعرّف الإنسان بالحامل للمراسم العباديّة التي تؤدّي ممارستها إلى تنمية الإنسانيّة؛ أي إذا كان الشكّ يساوركم حول التوحيد الربوبيّ، فإنّ الحدّ الأوسط لبرهانه هو الخلقة والربوبيّة وأمثال ذلك، وإن كنتم في شكّ من الوحي والنبوّة، فحدّه الأوسط هي المعجزة.

يدور البحث في هذه الآية الكريمة حول الإعجاز، وحقّانيّة القرآن الكريم، ورسالة النبيّ الأعظم(ص)، وإظهار عجز أولئك الذين هبّوا لمقارعة القرآن الكريم. وقد بيّن القرآن هذا المبحث من خلال جملة شرطيّة.

إنّ التلازم بين المقدّم والتالي في كلّ جملة شرطيّة متّصلة لزوميّة ضروريّ، والمقدّم والتالي إمّا أن يكون كلاهما مشكوك الوجود، وإمّا أن يكون كلاهما يقينيّ العدم؛ كما في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾[1]، كما ويمكن أن يكون كلاهما يقينيّ الوجود أيضاً. إذن لا يلزم


[1]. سورة الأنبياء، الآية 22.

تسنيم، جلد 2

498

في القضايا الشرطيّة أن يكون القائل شاكّاً في المقدّم والتالي؛ لأنّه قد يكون القائل أيضاً متيقّناً من وجود أو عدم المقدّم والتالي، وهو يبيّن مقصوده بصورة القضيّة الشرطيّة.

يطرح القرآن الكريم، في الآية مورد البحث والآية التي تليها، مخاطِباً المخالفين، مبحثاً على نحو القياس الاستثنائيّ قائلاً: إذا كان لديكم شكّ في حقّانيّة القرآن، وتخالون أنّه من مبتدعات أفكار البشر، فإنّ الإتيان بمثله لابدّ أن يكون ممكناً بالنسبة لكم أيضاً؛ والحال أنّكم لو بذلتم بأجمعكم كلّ ما اُوتيتم من وسع وجهد فلن تقدروا على الإتيان بمثله قطعاً، وإنّ عدم قدرتكم هذه لدليل على أنّ القرآن هو كلام الله.

تنويه: القضيّة الشرطيّة لا تستلزم جهل القائل أو شكّه، لأنّه في القضيّة الشرطيّة المتّصلة اللزوميّة يكون هناك جزم بالتلازم، وفي المنفصلة العناديّة يكون هناك جزم بالتعاند، وإلاّ فبالإمكان أن يكون كلّ واحد من خصوص المقدّم والتالي قطعيّ الوجود أو قطعيّ العدم؛ كما ويمكن أن يكون مشكوكاً أيضاً. فالله عزّ وجلّ له علم قطعيّ بريب الكافرين، لكنّ ثقافة الحوار اقتضت الليونة في التعبير؛ إذ أنّ العبارة الليّنة لها جاذبيّة خاصّة.

نزاهة القرآن من الريب

يدّعي القرآن الكريم في بعض آياته ـ من ناحية ـ أنّه لا يحتمل الريب على الإطلاق، ويقول بأسلوب نفي الجنس: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[1]،


[1]. سورة البقرة، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

499

ومن ناحية أخرى يقول في الآية محلّ البحث: ﴿وَإِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنا﴾. ويذهب المفسّرون مذهبَين في الجمع بين هذين التعبيرين[1]:

أوّلهما: إنّ جملة ﴿لا رَيبَ فِيهِ﴾ هي في مقام النهي وليست في مقام النفي؛ لأنّها لو كانت في مقام النفي لأفادت أنّه ما من ريب في هذا الكتاب، والحال أنّ الكثير مرتابون فيه. أمّا إذا كانت في مقام النهي، فهي بمعنى أنّه لا ينبغي للمنافقين والكفّار، الذين يساورهم الشكّ في القرآن، أن يرتابوا فيه؛ وهو شبيه بقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[2] الذي هو في مقام النهي، وليس النفي، والمراد منه: أنّ هذه الأمور منهيّ عنها وممنوعة في الحجّ، وإنّ بالإمكان الجمع بين النهي عن الشيء وتحقّقه جرّاء ارتكاب المعصية.

وثانيهما: إنّ جملة ﴿لا رَيب فِيه﴾ هي في مقام النفي حيث تعني أنّه ما من منشأ للريب في القرآن الكريم على الإطلاق، وإذا وُجد الشكّ فهو من طرف الناظر الذي ينظر إلى القرآن بكفر أو بنفاق أو بجهل. وتوضيح ذلك: إنّه لو لم تكن العلاقة بين المحمول والموضوع في قضيّةٍ ما ضروريّة لكانت تلك القضيّة قابلة للشكّ والريب؛ إذ أنّه من الممكن أن يكون للموضوع مثل هذا المحمول؛ كما أنّه من الممكن أن لا يكون له مثله. لكن لو كانت العلاقة بين المحمول والموضوع في قضيّة ضروريّة؛ أي إنّ الموضوع ينطوي على المحمول بالضرورة، وإنّ المحمول ثابت


[1]. راجع نفس هذا الكتاب، ص 158ـ159.

[2]. سورة البقرة، الآية 197.

تسنيم، جلد 2

500

للموضوع بالضرورة كذلك، فإنّ قضيّة كهذه «لا ريب فيها» ذاتاً ولا مجال للشكّ فيها، وإذا شكّ أحد فيها فمرجع ذلك إلى عدم معرفته لهذه القضيّة أو لموضوعها أو لمحمولها بشكل كامل، أو أنّ ريبه فيها هو من دافع عناده.

إذن فقول القرآن الكريم في مطلع سورة البقرة: ﴿ذٰلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فِيه﴾ ثمّ إتْباعه بالقول في الآية محطّ البحث: ﴿إن كُنتُم فِي رَيبٍ مِمَّا نَزّلنا عَلَى عَبدِنا﴾ هو بمعنى أنّكم أنتم الذين أخذ منكم الريب مأخذاً، وإلاّ فما من سبيل للريب إلى حريم الكتاب الإلهيّ. من هذا المنطلق، فإنّه عزّ وجلّ، ومن خلال كلمة ﴿كنتم﴾، ينسب الشكّ إلى الكفار والمنافقين، لا إلى ذات القرآن الكريم الذي هو كتاب الهداية، والشفاء، والرحمة: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[1]، وإنّ كلّ الصفات السلبيّة التي اُسندت إلى القرآن الكريم، مثل: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً﴾[2] إنّما ترجع في الحقيقة إلى الكفّار والمنافقين ذاتهم.

يَعتبر القرآن الكريم أنّ أصول المعارف الدينيّة، ومسألة كونها حقّاً هي من البديهيّات، ولا ينبغي الشكّ والريب في الأمر البديهيّ. فهو يقول في بداهة المبدأ: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[3]، كما ويقول في كون الوحي والرسالة حقّاً: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[4]. وفي أنّ


[1]. سورة الإسراء، الآية 82 .

[2]. سورة فصّلت، الآية 44.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 10. الشكّ في الله هو بحدّ ذاته دليل على وجود الله تعالى؛ ذلك لأنّ الشكّ هو أمر وجوديّ، وكلّ أمر وجوديّ لابدّ أن يكون مرتبطاً بمبدأ يكون الوجود عين ذاته.

[4]. سورة البقرة، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

501

القيامة حقّ يقول أيضاً: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[1]، ﴿ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾[2]. لكنّ القرآن الكريم ـ من ناحية أخرى ـ يقول في شكّ الكفّار والمنافقين في هذه الأمور: إنّ جماعة يقولون بخصوص التوحيد الربوبيّ: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٌ﴾[3]، كما ويقولون في الوحي: ﴿ءَاُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾[4]، ويقول القرآن حول المعاد: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾[5].

لكن إذا كان للكفّار والمنافقين شكّ في أصول الدين، فإنّ شكّهم لا يعود إلى كون هذه الحقائق تقبل الريب، بل هو نتيجة لعمى المنكرين. من هنا فإنّه عزّ وجلّ يقول في بعض آيات كتابه: ﴿بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾[6]. فالذي فقد القدرة على التعقّل فهو أعمى؛ ذلك أنّ السراج المنير للعقل والقلب موجود في باطن الإنسان وبانطفائه يصبح الإنسان أعمى القلب: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[7].

تنويه: 1. عندما لا يكون في المعارف الإلهيّة مجال للشكّ، فلن


[1]. سورة النساء، الآية 87 .

[2]. سورة النبأ، الآية 39.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 9.

[4]. سورة ص، الآية 8 .

[5]. سورة سبأ، الآية 21.

[6]. سورة النمل، الآية 66.

[7]. سورة الحجّ، الآية 46.

تسنيم، جلد 2

502

يكون فيها قطعاً مجال للإنكار، وبما أنّ المعاندين ذكروا إنكارهم بصورة الشكّ، فقد تحدّث الله حول هذا الشكّ بعينه.

2. تعبير القرآن الكريم بخصوص الله جلّ وعلا، وكذلك بخصوص القرآن نفسه هو أنّ كلاًّ منهما نور. فهو يقول في الله عزّ وجلّ: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[1]، ويقول في القرآن نفسه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾[2]. ومن البديهيّ أنّ النور لا يقبل الشكّ، إلاّ أن يكون الناظر أعمى.

يُقسَم الريب والشكّ إلى قسمين؛ كما ويُقسم العمى إلى قسمين أيضاً: فبعض أشكال الشكّ قابل للعلاج، لكن بعضها الآخر غير قابل للعلاج. فالبعض يشكّون في أوّل الأمر في كون القرآن كلام الله، لكنّهم يدركون بعد توخّي الدقّة أنّه كلام الله فيؤمنون به، إلاّ أنّ البعض الآخر يصرّون على شكّهم عن عناد ولا يدركون هذه الميزة في القرآن حتّى النهاية. إنّ عمى الطائفة الثانية، الناشئ عن شكّهم، عصيّ على العلاج، والقرآن الكريم يقول في هؤلاء: ﴿وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[3]؛ فهؤلاء متورّطون دوماً في ريبهم وشكّهم. والتردّد هنا هو الرفض المتكرّر من غير هدف، ويقول عزّ من قائل حول علاج عُمْي القلوب هؤلاء: ﴿إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُم‏﴾[4]؛ فعلاج أمثال هؤلاء هو في تقطّع وتشقّق قلوبهم الأمر الذي سيحصل يوم القيامة.


[1]. سورة النور، الآية 35.

[2]. سورة المائدة، الآية 15.

[3]. سورة التوبة، الآية 45.

[4]. سورة التوبة، الآية 110.

تسنيم، جلد 2

503

إنّ السرّ في عدم إيمان الكفّار والمنافقين بالآيات الإلهيّة على الرغم من رؤيتهم إيّاها وسماعهم لها هو أنّ إرادة الإنسان تفصل بين نفسه والإيمان الذي هو فعل اختياريّ له. و«العِلم» هو أمر بديهيّ أو نظريّ، وكلّما تحقّقت مقدّماته، حصلت النتيجة التي هي الاطّلاع. فمقابل الدليل لا يتسنّى للمرء أن يقول: لا أريد أن أفهم، بل إنّه سيفهمه شاء أم أبى. أمّا «الإيمان» فهو فعل اختياريّ للنفس. فبإمكان المرء بعد الاطّلاع على حقيقةٍ ما أن يؤمن بها أو لا يؤمن.

الريب الذي كان يساور الكفّار والمنافقين بخصوص القرآن الكريم كان يتعلّق أحياناً بمبدئه الفاعليّ مباشرة، وأحياناً بمبدئه القابليّ مباشرة؛ فقد كانوا يقولون حيناً: هذا الكلام ليس كلام الله ونحن نستطيع أن نأتي بمثله: ﴿وَمَنْ قَالَ سَاُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾[1]، وكانوا يقولون حيناً آخر: إذا كان كلام الله قد نزل على هذا المدّعي للرسالة، فلماذا لا ينزل علينا نحن أيضاً: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَىٰ‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً﴾[2]. يقول القرآن الكريم في ردّه على الجماعة الاُولى: إذا كان لديكم شكّ في كون القرآن هو كلام الله وتدّعون أنّه: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا﴾[3]، فلماذا لا تأتون بمثله؟! وجواباً على الجماعة الثانية يقول: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[4]؛ فليس لكلّ أحد اللياقة لتلقّي كلام الله، ومن خلال جملة: ﴿فَأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِه﴾ يقوم القرآن الكريم في الآية مورد البحث


[1]. سورة الأنعام، الآية 93.

[2]. سورة المدّثر، الآية 52.

[3]. سورة الأنفال، الآية 31.

[4]. سورة الأنعام، الآية 124.

تسنيم، جلد 2

504

بإثبات إعجاز القرآن وصدق دعوى النبيّ(ص) من جهة، وكذب المخالفين من جهة اُخرى.

على الرغم من أنّ الطريق الفكريّ والاكتسابيّ إلى المعجزة مسدود ولا يتسنّى لأيّ أحد الادّعاء بإمكانيّة الإتيان بها من خلال الدرس والفكر، لكنّه من الممكن إراءة الطريق الموصل إلى مقام الولاية إلى الجميع والقول بأنّ الأنبياء قد بلغوا هذه المنزلة عن طريق العبوديّة وقداسة النفس، وإذا صار أحد عبداً محضاً، تمكّن من اقتفاء أثر النبيّ(ص)، لا من أجل أن يصبح نبيّاً أو أن يأتي بالمعجزة، بل لكي يكون مقام الكرامة والولاية من نصيبه؛ كما قد حصلت مثل هذه الكرامات والولايات للكثير من الصحابة.

العبد المحض لله

وفقاً لقول عظماء التفسير فإنّ القرآن الكريم إذا استخدم كلمة «عبد» بشكل مطلق ومن دون ذكر الاسم فهو يريد النبيّ الأكرم(ص) خصوصاً[1]؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى كلّما عبّر عن سائر الأنبياء(ع) بتعبير العبد أتى باسم النبيّ الخاصّ قبله أو بعده؛ مثل: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾[2]، و﴿وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾[3]، ولم يأت بكلمة العبد في أيّ موضع من دون اسم أو قيد إلاّ بخصوص نبيّ


[1]. تفسير القرآن الكريم لصدر المتألّهين، ج2، ص124.

[2]. سورة القمر، الآية 9.

[3]. سورة ص، الآية 41.

تسنيم، جلد 2

505

الإسلام(ص)؛ لأنّ مَن كان حرّاً مطلقاً بالنسبة لغير الله، فإنّ بإمكانه أن يكون عبداً مطلقاً ومحضاً بالنسبة لله. فالله سبحانه وتعالى يعدّ الرسول الأعظم(ص) العبد المطلق في جميع العصور، والعبد المطلق لا حاجة له بالقيد؛ لأنّ علامة المطلق هي عين إطلاق وسِعة وجوده. من هذا المنطلق، فإنّ آدم(ص) وكلّ من تبعه هم تحت لواء هذا العبد المطلق: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة»[1].

فكافّة الأنبياء والمعصومين(ع) هم تحت لواء العبد المحض والعبد المطلق لله، ألا وهو الرسول الأكرم(ص)، ومن هنا فقد صار الآخرون «عباد الرحمن»، أو «عباد الرحيم» أو حتّى «عباد الله»، إلاّ أنّ النبيّ(ص) بلغ مقاماً حصل فيه على لقب «عبده»؛ أي عبد الهويّة المطلقة التي هي منشأ جميع الأسماء الإلهيّة الحُسنى، ولهذا السبب نحن نقول في تشهّد الصلاة: «وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله».

فليس المقصود من إطلاق تعبير «عبدنا» هو أنّ المراد من هذا المطلق كان معلوماً أثناء نزول القرآن ولم تكن هناك حاجة لذكر الاسم أو تقييد «العبد»، بل هو من ناحية أنّ ذكر اسم الإنسان المطلق هو غير ضروريّ؛ ذلك لأنّ الاسم هو علامة، وأنّ علامة الإنسان الكامل هي إطلاقه من حيث السعة؛ بالضبط مثل ما أنّه عندما تكون السيادة المطلقة على منطقة هي لشخص معيّن، فإنّ قول كلمة «السيّد» في الإشارة إليه تكون كافية. رسول الله(ص) هو سيّد الأوّلين والآخرين؛ كما يقول(ص): «أنا سيّد وُلد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيّين، وإمام المتّقين،


[1]. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، ج1، ص267؛ وبحار الأنوار، ج39، ص213.

تسنيم، جلد 2

506

ورسول ربّ العالمين‏»[1]، وهذه السيادة المطلقة لم تكن لتصبح من نصيبه إلاّ ببركة عبوديّته المطلقة، ولا ينال هذا المقام إلاّ الذي تحرّر من كلّ قيد.

من هنا يرى القرآن الكريم أنّ معراج الرسول الأعظم(ص) هو رهن ببلوغه مقام العبوديّة المطلقة حين يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىٰ الْمَسْجِدِ الأَقْصَىٰ﴾[2].

تحدّي القرآن وإعجازه

كلمة «فأتوا» هي أمر تعجيزيّ وهي من أجل إظهار إعجاز القرآن، وعجز الكفّار والمنافقين عن الإتيان بمثله. والأمر التعجيزيّ بخصوص الإعجاز هو نظير الأمر التعجيزيّ بالنسبة للربوبيّة. فقد قيل لمن يرتاب في ربوبيّة الله عزّ وجلّ، ويخال نفسه أنّه هو الربّ: ﴿فَأتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾[3]؛ أي فاجعل الشمس تطلع من المغرب.

والمراد من السورة في هذه الآية هو الجنس، وليس السورة التي تقع فيها هذه الآية. بناءً على ذلك، فإنّ كلّ آيات التحدّي، كالآية مورد البحث، تفيد إعجاز أصغر سور القرآن مثل «الكوثر» و«العصر» أيضاً. إذن، فليس المراد من التحدّي هنا هو أن يأتي المعارضون بسورة من قبيل سورة البقرة، بل المراد هو أن يأتوا بسورة تشبه أيّ سورة في


[1]. الأمالي للصدوق، ص157؛ وبحار الأنوار، ج9، ص294.

[2]. سورة الإسراء، الآية 1.

[3]. سورة البقرة، الآية 258.

تسنيم، جلد 2

507

القرآن الكريم، وإن كانت تماثل أقصر سور القرآن؛ فإنّ المراد من قوله عزّ اسمه في سورة هود: ﴿فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾[1]، أو قوله في سورة يونس: ﴿فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾[2] هو جنس السورة؛ إذ لا ينبغي الاقتراح على من يساوره الشكّ والريب في سورة صغيرة أن يأتي بسورة كالبقرة؛ فالتحدّي في مقابل من يرتاب في سور القرآن القصار إنّما يكون في أن يطلب الله منه الإتيان بسورة مشابهة لإحدى سور القرآن، طالت أم قصرت.

ويكون التحدّي أحياناً بأصل القرآن الكريم، كما في قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ‏ ٱجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ﴾[3]، وهذه الآية تنطوي على التعجيز وعلى الإخبار بالغيب معاً؛ بمعنى، تأييد وتصديق إعجازٍ بواسطة إعجازٍ آخر يكون إخباراً بالغيب، ويأتي التحدّي أحياناً أخرى بعشر سور؛ مثل: ﴿أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[4]، وفي الآية محلّ البحث جاء التحدّي بسورة واحدة؛ إذ أنّ التنوين في ﴿بسورةٍ﴾ يفيد الوحدة.

فالقرآن الكريم ليس بالكتاب الذي يتسنّى للمرء جعله من عنده ونسبته إلى الله؛ ذلك لأنّ القرآن لا نظير له، وما لا يكون له نظيرٌ فإنّه لا يكون قابلاً للافتراء. فالقرآن كتابُ وكلامُ إلهٍ لا مثيل له: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ


[1]. سورة هود، الآية 13.

[2]. سورة يونس، الآية 38.

[3]. سورة الإسراء، الآية 88 .

[4]. سورة هود، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

508

شَيْءٌ﴾[1]، ولمّا كان المتكلّم الذي لا مثيل له يظهر في كلامه بنفس تلك الصفة، فإنّ كلامه يكون أيضاً بلا مثيل.

يقول المرحوم الشيخ الطوسيّ: إنّ المجموعة القرآنيّة لا مثيل لها، وإنّ سياق الآية ﴿فَأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِه﴾ بخصوص القرآن يناظر سياق الآية ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾[2] فيما يخصّ الشرك، حيث أراد به نفي الموضوع (البرهان)؛ بمعنى أنّ الشرك لا يقبل البرهان أصلاً، لا أنّ له برهاناً، لكنّ المشركين لا يقدرون على إقامته[3]. وهذا يماثل قول الباري سبحانه في موضع آخر: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلـَٰهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾[4]. فعبارة «لا برهان له» هي صفة لقوله «إلهاً آخر»؛ وهذا يعني أنّ الشرك لا برهان له أصلاً؛ لأنّ الممتنع بالذات، لا ذات له كي يُقام البرهان عليها. فالله عزّ وجلّ يقول في مقام التحدّي القرآنيّ: إنّ القرآن لا مثيل له، وليس أنّه له مثيل، ولكنّ الآخرين عاجزون عن الإتيان بمثله.

إذا كان التحدّي بخصوص القرآن، لأمكن ـ إلى حدّ ما ـ قبول هذا الكلام، وهو أنّ القرآن بمجموعه لا نظير له، إلاّ أنّ التحدّي قد حصل بسورة وبعشر سور أيضاً مع أنّ كلّ سورة هي مثل السور الأخرى في كونها كلام الله وكلّ السور والآيات تشترك فيما بينها ببعض المزايا. ومن هنا فإنّ لكلّ سورة هناك مِثل.


[1]. سورة الشورى، الآية 11.

[2]. سورة البقرة، الآية 111.

[3]. راجع تفسير التبيان، ج1، ص104.

[4]. سورة «المؤمنون»، الآية 117.

تسنيم، جلد 2

509

يقول المرحوم الكلينيّ بعد نقله لخطبة توحيديّة لأمير المؤمنين(ص):

فلو اجتمع ألسنة الجنّ والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به ـ بأبي وأمّي ـ ما قدروا عليه[1]. ‏

وقد أضاف صدر المتألّهين في شرح جملة المرحوم الكلينيّ: أن لا يكون بينهم أعاظم الأنبياء، كنوح، وإبراهيم، وإدريس، وشيث، وداود، وموسى، وعيسى(ع)[2]؛ والمراد أنّ محتوى هذا الكلام هو رسالة قرآنيّة وليس بمستطاع أحد الإتيان بمثل الرسالة القرآنيّة، لكنّ هذا الأمر لا يُستبعد من هؤلاء العظام.

إنّ إعجاز القرآن الكريم عائد إلى أنّه مستند إلى حقيقة أسمى؛ وهي تلك الحقيقة التي يعبّر عنها الله عزّ وجلّ بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾[3], ولمّا لم يكن للكفّار والمنافقين اطّلاع على تلك الحقيقة الأسمى، فإنّهم ينكرون أنّ القرآن الكريم حقّ: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأتِهِمْ تَأوِيلُهُ﴾[4]، فبما أنّ هؤلاء لا يحيطون علماً بتأويل القرآن أو حقيقته الأسمى فقد نهضوا بعزيمة لمقارعته متصوّرين أنّ القرآن ما هو إلاّ سلسلة من العلوم البشريّة نُظّمت على هيئة كتاب[5]، الأمر


[1]. الكافي، ج1، ص136.

[2]. شرح أصول الكافي للملاّ صدرا، مج4، ص47.

[3]. سورة الواقعة، الآيات 77 ـ 79.

[4]. سورة يونس، الآية 39.

[5]. لقد ورد البحث المفصّل في إعجاز القرآن في التفسير الموضوعيّ، ج1، ص87 ـ 177، تحت عنوان «قرآن در قرآن» (وهو باللغة الفارسيّة)، وإنّ ما يُبحث هنا يقتصر على جانب تفسير المفاهيم القرآنيّة، وليس تفسيراً موضوعيّاً أو علوم القرآن.

تسنيم، جلد 2

510

الذي حدا بهم إلى الهزيمة. وهذا الاحتجاج والتحدّي ما زال باقياً بقوّته وحيّاً إلى يومنا هذا، حيث لا يزال الجنّ والإنس إلى الآن عاجزين عن الإتيان بسورة من مثله.

مرجع الضمير في «مثله»

تمتاز هذه الآية بخصوصيّة تفتقدها سائر آيات التحدّي وهي أنّ كلمة «مِن» لم تأت في الآيات الأخرى، ممّا دفع البعض إلى الاعتقاد بأنّ مرجع الضمير في «مثله» هو كلمة «عبدنا»؛ بمعنى أنّ رسول الله(ص) كان اُمّياً، ولم يتلقّ دروساً، وما كان يجيد الكتابة ومع ذلك فقد أتى بالقرآن، فأتوا أنتم أيضاً على يد إنسان اُمّي بسورة تشبه سور قرآن هذا الرسول.

لقد طرح الشيخ الطوسيّ & هذا الاحتمال وضعّفه[1]؛ وذلك بالبيان التالي: إذا كان الضمير في «مثله» عائداً إلى العبد لاستوجب ذلك انعدام الدليل المتين على إعجاز القرآن؛ إذ على فرضٍ كهذا فإنّ إعجاز القرآن وعدم توفّر النظير له سينحصر في جهة واحدة وهي أنّ الذي أتى به هو بشر اُمّي، وهذا التعبير يقلّل من عظمة القرآن الكريم. في حين أنّ عظمة القرآن هي في أنّه لا مثيل لمحتواه ولا يمكن الإتيان به، لا أنّ إعجازه في أنّ الذي أتى به اُمّي. ومن هذا المنطلق فإنّ الله سبحانه يقول في موضع آخر: ﴿قُلْ لَئِنِ ٱجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ‏ أَنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ﴾[2]. بالطبع إنّ هذا الكلام حقّ وإنّ الإتيان بسورة من القرآن


[1]. راجع تفسير التبيان، ج1، ص104.

[2]. سورة الإسراء، الآية 88 .

تسنيم، جلد 2

511

من قِبل شخص اُمّي ليزيد في الإعجاز عمقاً، ولقد اُشير إلى ذلك في الأخبار التفسيريّة، إلاّ أنّ التحدّي العالميّ للقرآن لا يكتفي بذلك.

يقول المرحوم أمين الإسلام الطبرسيّ مؤيّداً كلام المرحوم الشيخ الطوسيّ: في أغلب الموارد المشابهة يعود ضمير «مثله» إلى القرآن؛ كقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[1]، أو ﴿أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾[2]، أو ﴿فَلْيَأتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾[3]. إذن فمن المناسب أن يرجع ضمير ﴿مثله﴾ في هذه الآية أيضاً إلى القرآن، وليس إلى العبد[4]. وقد جاء الزمخشريّ أيضاً بكلا الوجهين وقال مستشهداً بسائر الآيات: ضمير ﴿مِن مِثلِه﴾ يعود إلى ﴿مِمّا نَزّلنَا﴾[5]. ولابدّ من القول ردّاً على ذلك: إذا كان ضمير «مثله» يعود، في سائر الموارد، إلى القرآن فذلك راجع إلى أنّ كلمة «عبد» لم تأت في أيٍّ من تلك المواضع وأنّها ذُكرت فقط في الآية محطّ البحث، ومثلما أنّ كلمة «عبد» قد ذُكرت عندما اُريدَ تفهيم ميزة في أصل التنزيل، فإنّ لرعاية هذه الملاحظة في التحدّي ميزة خاصّة أيضاً. إذن فاحتمال رجوع الضمير إلى العبد ليس بالضعيف.

بالالتفات إلى النقاط الآتية الذكر فإنّ رجوع الضمير إلى ﴿مِمَّا نَزَّلنَا﴾ راجح:


[1]. سورة هود، الآية 13.

[2]. سورة يونس، الآية 38.

[3]. سورة الطور، الآية 34.

[4]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص157.

[5]. الكشّاف، ج1، ص98.

تسنيم، جلد 2

512

1. الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَئِنِ‏ِ ٱجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾[1]، التي نزلت في مكّة، تدعوا جميع المكلّفين، اُميّهم وغير اُميّهم، إلى التحدّي ولا داعي لأن يُقال بعد ذلك في المدينة: فلتأتوا على يد شخص اُمّي بكتاب يناظر القرآن أو بسورة شبيهة بسوَره. فعندما يُقال في سورة مكّية: لو اجتمع الإنس والجن لما استطاعوا الإتيان بمثل القرآن، فكيف يمكن أن يُقال في سورة البقرة، التي هي مدنيّة: فلتعثروا أنتم أيضاً على شخص اُمّي يأتي بمثل القرآن!

2. ما يُستشفّ من آيات التحدّي أنّ محور التحدّي هو ذات القرآن وليس العبد؛ خصوصاً وإنّ جماعة كانت تتّهم رسول الله(ص) بأنّ هذا القرآن ما هو إلاّ أساطير القدماء تُملى على النبيّ(ص) كلّ صباح ومساء وهو بدوره يقرأها على الناس: ﴿وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾[2]. إذن فمع وجود مثل هذا الاتّهام لا يمكن القول: إذا كنتم شاكّين في حقّانيّة القرآن فأتوا برجل اُمّي كي يأتي بسورة كهذا النبيّ.

3. بالنظر إلى ورود جملة ﴿وَٱدْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللهِ﴾ تتمّةً للآية محلّ البحث وأنّ كلمة «شهيد» لا تعني الحَكَم والخبير بل تفيد الناصر والمعين، فإنّ سياق الآية الحاليّة، كما في الآيات الأخرى، هو التحدّي وهي تقول: لو اجتمعتم أنتم وكلّ من يوافقكم الرأي فلن تستطيعوا أن تأتوا بمثل القرآن. والحال إنّه لو كان الضمير في «مثله»


[1]. سورة الإسراء، الآية 88 .

[2]. سورة الفرقان، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

513

يعود إلى العبد، لكان المعنى: فلتعثروا أنتم أيضاً على شخص اُمّي يتكلّم بكلمات تشبه كلمات النبيّ.

4. إنّ إعجاز القرآن الكريم مرتبط ذاتاً بمحتوى القرآن نفسه وإنّ كون الذي جاء به اُمّياً ليس شرطاً في إعجازه؛ كما أنّ كونه عالماً لا يُعدّ مانعاً له أيضاً. فكلّ من أتى بالقرآن الإعجازيّ فهو رسول الله؛ سواء كان اُمّياً أو غير اُمّي. فإذا كان النبيّ من روّاد الدرس ومن أهل البحث وكان قد قضى كلّ عمره في المدرسة ثمّ جاء بمثل هذا الكتاب لكان أيضاً كلام الله؛ لأنّ كلاماً كهذا ليس كلام بشر، سواء أكان عالماً أم اُمّياً. مع أنّه على فرض كونه عالماً لكان المُبطِلون والمترصّدون للذرائع قد ارتابوا فيه أيضاً: ﴿مَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[1]؛ مثلما أنّهم قد شكّوا فيه على الرغم من كونه اُمّياً واتّهموه بأنّ هذا القرآن هو كلام بشر. إذن فكلّ من أتى بكلام الله هذا فهو رسول الله، سواء كان اُمّياً أو غير اُمّي.

فعندما تكون خصوصيّة الحامل للرسالة هي محطّ الاهتمام والالتفات يقول سبحانه: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[2]؛ بمعنى، قل: لو اقتضت مشيئة الله أن لا أتلوا عليكم هذا الكتاب ولا اُعلمكم بفحواه، لَما كنتُ قرأته عليكم، أو أطلعتكم على ما فيه. لقد قضيتُ بين ظهرانيكم عمراً كاملاً قبله؛ أي، إنّني لم أدّعِ أيّ ادّعاء من غير وحي إلهيّ.


[1]. سورة العنكبوت، الآية 48.

[2]. سورة يونس، الآية 16.

تسنيم، جلد 2

514

يقول الأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ(ره) في مرجع الضمير: يمكن إرجاع الضمير في ﴿مثله﴾ إلى كلّ من ﴿ممّا نزّلنا﴾ و﴿عبدنا﴾ فيكون المعنى: لو استطعتم أن تأتوا بمثل هذا الكتاب، بكلّ ما فيه من حِكَم ومعارف، بواسطة شخص اُمّي فافعلوا[1]. وفي هذه الحالة يكون قد جمع بين الوجهين من جهة، وزاد إعجاز القرآن وضوحاً وثباتاً من جهة أخرى؛ لأنّه قد تمّ التحدّي بكلّ من القرآن نفسه، وبالرسول الذي يؤكّد القرآن الكريم على كونه اُمّياً: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾[2].

إذن فرجوع ضمير «مثله» إلى العبد لا يقلّل من مقام القرآن الكريم ودرجة إعجازه، بل إنّ فيه تأكيداً على أنّ القرآن بحدّ ذاته فيه حدّ نصاب للإعجاز، خصوصاً وإنّ الذي جاء به اُمّي أيضاً؛ لأنّ الإشارة إلى كون الآتي بالقرآن اُمّياً فيها أمارة على أنّ الأمر في مقام الإعجاز سيّان، تعلّم الشخص أم لم يتعلّم، وليست المعجزة من نتاجات المدارس البشريّة كي يتمكّن الشخص المتعلّم من الإتيان بها. والغرض هو: إنّ الأمر الخارق للعادة، سواء كان بصورة شيء خارق للعادة؛ كالقرآن نفسه، أو على هيئة شخص خارق للعادة؛ كالرسول الاُمّي(ص)، فهو معجزة[3].

«معين» أم «شاهد»؟

إنّ الصدق أو الكذب الخبريّ ناظر إلى انطباق أو عدم انطباق فحوى


[1]. الميزان، ج1، ص58.

[2]. سورة الجمعة، الآية 2.

[3]. وقد اشتهر البحث حول مرجع الضمير في ﴿مثله﴾ شهرة كبيرة وأدّى تضارب الآراء حوله إلى تأليف رسائل عديدة في هذا الموضوع (روح المعاني، ج1، ص312).

تسنيم، جلد 2

515

القضيّة مع الواقع، وإنّ الصدق أو الكذب المُخبريّ ناظر إلى علم المُخبر بانطباق أو عدم انطباق مضمون القضيّة مع الواقع. وأحياناً يجتمع الصدق الخبريّ مع الصدق المُخبريّ أو يجتمع كذبهما معاً، وأحياناً أخرى يكونان مفترقين عن بعضهما. إنّما يتحقّق صدق المخبر أو كذبه في حالة إخباره؛ فإذا لم يخبر الشخص عن شيء ما فلا هو بصادق ولا بكاذب؛ لأنّ هذين المتقابلَين هما من سنخ الملكة والعدم، وليسا من سنخ النقيضين. من هنا فإنّ ارتفاع كليهما أمر ممكن؛ نظير البصير والأعمى حيث أنّهما منفيّان عن الحائط. تأسيساً على هذا, فما لم يكن هناك خبر أو ادّعاء، فلا مجال لنسبة الصدق أو الكذب إلى الشخص.

فبالنسبة للذين كانوا في ريب وشكّ من نبوّة الرسول الأعظم(ص)، فإذا كانوا ـ حقيقةً ـ شاكّين فيها، ولم يصدر منهم أيّ إخبار عن القرآن إيجاباً أو سلباً، لم يكن هناك مجال لنعتهم بالصدق أو الكذب بالنسبة للواقع؛ لأنّ الشكّ المحض هو من سنخ التصوّر وهو مفرد، وليس تصديقاً وقضيّة. أمّا إذا كانوا قد أفصحوا عن خصوصيّاتهم النفسانيّة وقالوا: نحن شاكّون في إعجاز القرآن، فسيصبح صدقهم أو كذبهم متصوَّراً في هذه الحالة؛ ذلك أنّهم قد أخبروا عن حقيقة يَحتمِل الإخبارُ عنها الصدق أو الكذب؛ بمعنى انّهم إن كانوا ـ واقعاً ـ مرتابين ولم يكن إعجاز القرآن قد ثبت لديهم، كان ادّعاؤهم بالشكّ صحيحاً والإخبار عنه صدقاً، وإذا كانوا قد أدركوا حقيقة أنّ القرآن معجزة، وكتموا ما في قلوبهم من علم مدّعين الشكّ والريب، كان ادّعاؤهم باطلاً، والإخبار عنه كذباً.

تسنيم، جلد 2

516

ولمّا كان الريب شكّاً ممزوجاً بالافتراء والتهمة فهو قابل للتحليل من جهتين من حيث احتماله للصدق والكذب وقابليّته للإثبات والإبطال؛ أ: فالتهمة والافتراء هما إخبار عن واقع وهما يحتملان الصدق والكذب، وقابلان للإثبات أو النفي، ب: والشكّ هو حقيقة نفسانيّة والإخبار عنها يحتمل الصدق والكذب وبالإمكان مجابهته ـ حين إظهاره ـ بالتصديق أو التكذيب. بناءً على ذلك، لابدّ أن يكون هناك إخبار يَحتمل الصدق أو الكذب أوّلاً، ويكون من المتيسّر إثباته أو نفيه ثانياً. من هنا فإنّ بالإمكان تفسير «شهداء»، وهي جمع «شهيد»، بمعنى الشاهد على صدق المدّعى؛ لأنّ هؤلاء قد أخبروا عن الواقع أيضاً (بالافتراء والتهمة). فهم من هذا المنطلق كانوا يقولون: إنّنا لو شئنا لأتينا بمثل هذا الكتاب: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا﴾[1]، وهم يخالون أنفسهم صادقين في هذا الإخبار؛ كما ويمكن اعتبار أنّها جمع «شهيد» بمعنى الناصر والمعاون.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ كلمة «شهيد» في الآية محلّ البحث هي بمعنى «الشاهد» وليس «المعين»[2]، وبناءً على المعنى المذكور تصبح هذه الآية في مقابل الآيات التي تقول: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[3]؛ فردّاً على الكفّار الذين يقولون: لست مرسلاً، قل: إنّ لديّ شاهدَين على ذلك:


[1]. سورة الأنفال، الآية 31.

[2]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص130.

[3]. سورة الرعد، الآية 43.

تسنيم، جلد 2

517

الأوّل هو الله، والثاني هو الشخص الذي عنده علم كلّ الكتاب (وهو، وفقاً للروايات المستفيضة، عليّ بن أبي طالب(ص))[1].

فالمفسّرون المذكورون يقولون في معنى الآية: النبيّ الأكرم(ص) يدّعي الرسالة الإلهيّة وإنّ الشاهد على رسالته كتاب الله الذي تلقّاه؛ فإن كنتم تقولون: إنّ هذا كلام بشر فأتوا بشاهد ليشهد على أنّ هذا الكتاب كلام بشر وليس كلام الله.

وجواباً على هؤلاء المفسّرين يتعيّن القول: إنّ المعنى الأوّل للشهيد (الناصر والمعين) مطابق لآيات التحدّي الأخرى، كما انّه منسجم مع الواقع القائم في عصر نزول القرآن؛ لأنّ الناس في ذلك الزمان كانوا إمّا مؤمنين؛ وهم الذين قبلوا بدعوى الرسالة، وإمّا كفّاراً؛ وهم أنفسهم من كان يدّعي الافتراء، لا الشهادة، وإمّا منافقين؛ وهم وإن كانوا كفّاراً في الباطن إلاّ أنّهم لم يكونوا في الظاهر يشهدون بالاختلاق والافتراء، ومن هذه النقطة ينشب الخلاف بين العرب أنفسهم؛ لأنّ العرب المؤمنين وحتّى المنافقين قد أذعنوا بأنّ هذا الكتاب هو معجزة، وإذا كان الكافر يشهد بأنّ للقرآن نظيراً فإنّ شهادته لم تكن مسموعة لأنّها تمسي من باب اتّحاد الشاهد والمدّعي من ناحية، وتنازع الشهداء من ناحية اُخرى[2].

تنويه: إنّ إقامة الشاهد بمعنى الشاهد في سوق عكاظ أو في غيره من ميادين المفاخرة هو، بحدّ ذاته، إظهار للناصر والمعين. المعنى الثاني للشهيد (الشاهد) له تناسب داخليّ من جانب من الجوانب؛ أي إنّه أكثر


[1]. بحار الأنوار، ج35، ص429 ـ 435.

[2]. لمزيد من التفصيل في هذا البحث يمكن الرجوع إلى جامع البيان، ج1، ص219.

تسنيم، جلد 2

518

انسجاماً مع نصّ الآية محطّ البحث؛ والسبب هو انّه إذا كانت الدعوة للنصرة فإنّها تُذكر قبل إنجاز الفعل المعهـود؛ مثل: ﴿فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾[1]، ﴿... قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ﴾[2]، ﴿قُلِ ٱدْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً﴾[3] فبما أنّ الإعانة في هذه الموارد مطلوبة في أصل الفعل فإنّ الدعوة تُذكر قبل القيام بالفعل، أمّا إذا ذُكرت الدعوة بعد القيام بالفعل فسوف تكون دعوة للإدلاء بالشهادة، وليس المساعدة في أصل الفعل.

بطبيعة الحال إنّ الشهادة على صدق مدّعٍ هي بحدّ ذاتها تأييد ونصرة له، ولمّا كانت الدعوة في الآية مورد البحث قد جاءت بعد إيراد أصل الفعل الذي هو الإتيان بسورة تماثل القرآن، فإنّ المناسب هنا هو الشهادة، وليس النصرة. بالطبع إنّ هذا الوجه أيضاً يستحقّ التأمّل من باب النقد؛ ذلك لأنّه في الآية: ﴿قُلْ فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[4]، والآية: ﴿قُلْ فَأتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللهِ﴾[5] وعلى الرغم من أنّ الدعوة جاءت بعد بيان أصل الفعل، فهي مع ذلك بمعنى النصرة، إلاّ أنْ يُقال إنّ المدعوّين، في خصوص مورد البحث، هم الشهداء، وإنّ أصل شهادتهم هي بمعنى الشهادة وليست النصرة.


[1]. سورة الأعراف، الآية 194.

[2]. سورة الأعراف، الآية 195.

[3]. سورة الإسراء، الآية 56.

[4]. سورة يونس، الآية 38.

[5]. سورة هود، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

519

لطائف وإشارات

[1] انغمار مخالفي القرآن في الريب

إنّ تحجّر صناديد الحجاز، وجمودهم، ولجاجتهم، وعنادهم، ولَدَدهم، وأخيراً طغواهم كانت مدعاة لأن يستخدم القرآن في حقّهم تعابير خشنة كقوله: ﴿إن كُنتُم في رَيب﴾، حيث تُلاحظ فيه دلالة على انغمارهم في مستنقع الريب، بدلاً عن التعابير اللطيفة والمخفّفة من قبيل: «إن ارتبتم» أو «إن شككتم». ومشابه لهذا التعبير قد ورد أيضاً بخصوص ريبهم في القيامة[1].

[2] سبيل التقوى العلميّة

تبيّن الآية محلّ البحث للناس طريق التقوى العلميّة. والتقوى العلميّة هي أن لا يقبل الإنسان أمراً من دون برهان، وأن لا يكذّب رأياً من دون دليل؛ لأنّ التصديق بلا تحقيق والتكذيب من غير دليل كلاهما منهيّ عنه. فالذي يتمتّع بالتقوى العلميّة، يساوره الشكّ في أمر ما قبل التحقيق فيه، لكن سرعان ما يحصل له الجزم بأحد الطرفين بعد التحقيق، وإذا بقيت حالة الشكّ عنده حتّى بعد التحقيق، فذلك علامة على أنّه يفتقر إلى البنيان الفكريّ المرصوص.

يقول الله عزّ وجلّ في هذه الآية لمخالفي القرآن: إنّ المعيار لرفع الشكّ هو أنّه إذا كان هذا الكتاب كلام الله فإنّ الإتيان بمثله محال، أمّا


[1]. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾،(سورة الحجّ، الآية 5).

تسنيم، جلد 2

520

إذا كان كلام بشر فإنّ المجيء بنظير له ممكن؛ إذن فلتختبروا أنفسكم، وهذا هو طريق التقوى العلميّة التي يضعها القرآن نصب أعين الباحثين، وسوف تصلون إلى هذه النتيجة وهي أنّ القرآن فوق مستوى الباحثين.

[3] تبيين طريق التماثل

إنّ مع التحدّي بالمثل يبيّن القرآن الكريم طريق التماثل أيضاً. فإذا كان لفردين من نوع واحد أوصاف مشتركة، فإنّهما مثل بعضهما. والمرء ليس بمقدوره أن يأتي بمِثل الشيء إلاّ إذا كان يعرف ذلك الشيء حقّ معرفته. فالله سبحانه وتعالى يعرّف القرآن الكريم في البدء ويقول في تعريفه: إنّه كتاب يرسم الخطوط العامّة للمعارف العلميّة ولسعادة البشر كذلك، وإنّ مباحثه منسجمة مع بعضها ولا يوجد فيه ـ من أوّله إلى آخره ـ أدنى اختلاف على الرغم من استغراقه لعدّة أعوام في عمليّة نزوله. فإذا شئتم أن تأتوا بمثله فإنّ سبيل الإتيان بمثل القرآن هي هذه.

[4] سعة التحدّي

لابدّ لسعة تحدّي القرآن الكريم أن تكون موازية لنطاق دعوته، وبما أنّ نطاق دعوة القرآن يستوعب جميع البشر على مدى التاريخ، فإنّ ميدان تحدّيه هو ميدان عامّ ودائميّ كذلك. فمثلما أنّ دعوة القرآن لم تكن محصورة بصدر الإسلام ولا بالقوميّة العربيّة ، فإنّ تحدّيه أيضاً لا يقتصر على عصر النبيّ الكريم(ص) ولا على المتحدّثين باللغة العربيّة. لذلك

تسنيم، جلد 2

521

يقول عزّ من قائل: ﴿قُلْ لَئِنِ ٱجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾[1].

بناءً على ما مرّ، فليس محور التحدّي الذي طرحه الرسول الأكرم(ص) هو فصاحة القرآن وبلاغته فحسب؛ إذ من غير المستساغ أن يتمّ تحدّي مَن لا يفهم اللغة العربيّة ولا يجيد النطق بها بالفصاحة والبلاغة. من هنا فمن أجل تبيين التحدّي القرآنيّ يتعيّن علينا القول: لقد عرض القرآن من العلوم، سواء في حقل العلوم العقليّة أو في ميدان العلوم النقليّة، مستوىً يفوق ما يمكن أن يعرضه أيّ امرئ مهما بلغ من العلم؛ كما أنّه من الممكن أن يطرح التحدّي بحامل القرآن إلى جانب التحدّي بالقرآن نفسه.

من المحتمل أن يكون العنصر المحوريّ للتحدّي في الآية مورد البحث هو الفصاحة والبلاغة والذَرابة بمعيّة التحدّي بالرسول الذي أتى به، وإنّ مدّعي مناهضة القرآن كانوا أيضاً يفهمون من هذا البيان تحدّياً في العلوم الأدبيّة، ولمّا كان للناس سهم في ركن من الأركان الثلاثة للفصاحة والبلاغة ـ أي إنّهم يعلمون فقط لأيّ غرض وضعت تلك الألفاظ، لكنّهم لا يحيطون علماً بتلكم المعاني الراقية، ولا بكيفيّة التعبير عن المعاني الراقية باستخدام الألفاظ الموضوعة السائغة للفهم ـ فإنّ من الممكن أن تكون الموادّ الخام والثروات الأوليّة (أي الألفاظ الدالّة على المعاني) هي من صنع البشر أنفسهم، لكنّهم ـ في الوقت ذاته ـ يفتقدون القدرة على صياغة كلام فصيح وبليغ كالقرآن الكريم. وتأسيساً على


[1]. سورة الإسراء، الآية 88 .

تسنيم، جلد 2

522

ذلك فالقول بأنّ الإعجاز البلاغيّ للقرآن الكريم هو من باب «الصَرْف» وليس على أرضيّة خصوصيّات الآيات والسور ذاتها (أي إنّ الإتيان بمثل القرآن ممكن ومقدور عليه، وكلّ ما في الأمر هو أنّ الله يصرف المنكِرين عن الإتيان بمثله ويمنعهم)، هو كلام ناقص وغير تامّ. فالقرآن ـ حقيقةً ـ ليس له مِثل عاديّ كي يرغبوا أساساً بالإتيان بمثله، وإنّ الأمر بالإتيان بمثله هو أمر تعجيزيّ.

[5] الشموليّة العالميّة للإعجاز

إنّ أيّ إعجاز من أيّ نبيّ فهو إعجاز عالميّ، سواء كان النبيّ الخاتم أم لم يكن، وسواء كان ـ في حال عدم خاتميّته ـ من اُولي العزم أم لم يكن، وسواء كانت معجزته باقية أم أنّها تلاشت؛ وذلك لأنّ المراد من المعجزة هو العمل الخارق للعادة الذي ما من سبيل فكريّ أو علميّ عاديّ إليه بحيث يتسنّى للأشخاص العاديّين، من خلال الإفادة من الطرق والوسائل العاديّة العلميّة أو العمليّة، الإتيان بمثله. فإن عُدّ أمر من الأمور خارقاً للعادة في عصر ما ثمّ صار في عصر آخر، جرّاء التقدّم العلميّ وحصول التمكّن المادّي، أمراً عاديّاً فإنّه منذ نشأته لم يكن معجزة. والنتيجة، إنّ كلّ معجزة هي عالميّة، حتّى وإن لم يكن الرسول الذي أتى بها عالميّاً، وإذا كان قد عُبِّر عن سفينة نوح(ص) في التنزيل العزيز بتعبير: ﴿وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[1]، وكان قد جاء في حقّ المسيح(ص) ومريم ÷ قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهَا


[1]. سورة العنكبوت، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

523

وَٱبْنَهَا ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[1]، فهو من باب بيان المصداق الكامل والمعروف، وإلاّ فإنّ كلّ معجزة هي عالميّة؛ بمعنى أنّها أساساً غير قابلة للتحقّق من خلال الطريق العاديّ لا قبلها، ولا في زمانها، ولا بعدها.

[6] إثبات دعوى النبيّ ودعوته بالإعجاز

المعجزة هي الحدّ الأوسط لبرهان النبوّة وبها تثبت رسالة المدّعي للنبوّة. فبالإتيان بها يثبت صدق دعوة النبيّ وصحّتها مثلما يثبت صدق دعواه؛ وبعبارة أخرى، إنّ المدّعي للرسالة «يدّعي» النبوّة من ناحية، و«يدعو» إلى التوحيد والمعاد و... الخ من ناحية أخرى، وبثبوت الإعجاز يثبت كلّ ما يترتّب على صدق مدّعي النبوّة أو ما هو من لوازمها. على هذا الأساس فإنّه بثبوت إعجاز القرآن ـ وعلى الرغم من عدم ثبوت أصل وجود مبدأ الوجود لمن يشكّ فيه ـ تثبت الأوصاف الذاتيّة والفعليّة لله سبحانه وتعالى، كما ويثبت صدق دعوى الرسالة لمدّعي النبوّة.

وبناءً على ذلك، فبالنسبة لأهل الحجاز وأولئك الذين لم يكن لديهم شكّ في أصل وجود الواجب والخالق بل كان شكّهم في التوحيد وكذلك في النبوّة، فإنّ المعجزة تُعدّ برهاناً مفيداً، أمّا بالنسبة لأولئك الذين كانوا في ارتياب من أصل وجود المبدأ، أو أنكروه إلحاداً منهم فإنّ الإعجاز لا يكون ذا أثر وفائدة. من هنا فإنّه من الممكن عدّ الآية محلّ البحث برهاناً على التوحيد مضافاً إلى كونها دليلاً على النبوّة؛ لأنّه


[1]. سورة الأنبياء، الآية 91.

تسنيم، جلد 2

524

بثبوت إعجاز القرآن وأنّ هذا الكتاب هو كلام الله، فناهيك عن إثبات رسالة النبيّ المبعوث به، فإنّه يثبت صحّة مضمونه، ألا وهو توحيد الله في الذات والصفات، أيضاً. ومن هذا المنطلق فإنّ الانسجام بين آية الإعجاز (23) وآيتَي التوحيد (21 و22) يثبت من هذا الوجه أيضاً حتّى وإن قطعنا النظر عن البيان السالف الذكر.

[7] محور ريب المخالفين

على الرغم من أنّ التنزيل (بمعنى النزول التدريجيّ) يُستخدم أحياناً في مقابل الإنزال (بمعنى النزول الدفعيّ)، ويرى الزمخشريّ أنّ السرّ في انتخاب لفظ «التنزيل» هو تناسبه مع التحدّي[1]، إلاّ أنّه بصرف النظر عن أنّ مثل هذا الفارق كان عرضة لنقد بعض المفسّرين[2] أوّلاً، وأنّه غير منسجم مع بعض آيات القرآن مثل: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾[3]، ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ﴾[4]، ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً﴾[5] ثانياً، فإنّ هذا المعنى لم يُلاحَظ في الآية مورد البحث؛ لأنّ المعاندين للوحي، على


[1]. الكشّاف، ج1، ص96.

[2]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص244؛ وروح المعاني، ج1، ص308 ـ 309.

[3]. سورة الفرقان، الآية 32.

[4]. سورة الأنعام، الآية 37.

[5]. سورة الإسراء، الآية 95. في هذه الأمثلة إذا فُهِم التنزيل التدريجيّ من هذه الآية ﴿جُملَةً وَاحِدَةً﴾، (الفرقان، الآية 32) بينما هذا التعبير يدلّ على كون التنزيل دفعيّاً فإنّ هذا يؤدّي إلى عدم التناسب بين الصدر والعجز؛ كما أنّ الآية الواحدة لا تدريج فيها ولا ينزلها الملَك بشكل متدرّج.

تسنيم، جلد 2

525

الرغم من أنّهم كانوا يتذرّعون أحياناً بكيفيّة نزوله بلحاظ التدريج، أو نزوله على شخص غير معروف، أو غير ثريّ، وأمثال ذلك، إلاّ أنّ محور ارتيابهم في المورد محطّ البحث هو أصل نزول القرآن، وليس كيفيّته؛ بمعنى، أنّهم كانوا يخالون كتاب الله فرية، وكونه نزل بشكل تدريجيّ أو دفعيّ لم يكن ليشكّل فارقاً في تصوّرهم الباطل.

[8] ادّعاء المقابَلة مع القرآن وداعية الربوبيّة

إنّ كلّ إنسان ـ سواء كان متنبّئاً أو غير متنبّئ ـ يشارك في تحدّي النبيّ الإلهيّ ويكون في صدد الإتيان بما يشبه معجزته فإنّه يضمر في باطنه داعية الربوبيّة، مع أنّه من الممكن أن يكون ذاهلاً عنها حيناً، ومائلاً إليها حيناً آخر؛ لأنّ النبوّة هي وصف كماليّ وجوديّ ليس بمقدور أيّ أحد، سوى الله عزّ وجلّ، أن يمنحه للشخص.

فإذا ادّعى شخص النبوّة ورأى بزعمه الفاسد ووهمه الكاسد أنّ ادّعاءه صائب، فهو إمّا أن يظنّ أن تحقّق هذا الوصف صدفة ومن دون عامل وعلّة، ومثل هذا الظنّ لا ينسجم مع نظام العلّة والمعلول للكون، وإمّا أن يسنده إلى شخصه هو ويتصوّر أنّ مبدأ تحقّق هذا الوصف الوجوديّ هو ذاته، فيكون مردّ هذا الادّعاء إلى دعوى الربوبيّة؛ أي بصرف النظر عن ادّعاء النبوّة فإنّ الإنسان المتنبّئ يدّعي أنّه هو المنشأ الفاعليّ لهذا المقام أيضاً. وهذا المعنى، ناهيك عن استلزامه الابتلاء بمحذور الجمع بين الفاعل والقابل (بمعنى المنفعل)، فإنّه يكون مستلزماً لدعوى الربوبيّة أيضاً؛ سواء أتى بالمعجزة أم لم يأت بها.

تسنيم، جلد 2

526

أمّا الذي لا يدّعي النبوّة ولكنّه يشارك في نزال التحدّي مع النبيّ وهو عازم على الإتيان بما يشابه معجزة النبيّ، فإنّه مدّعٍ للربوبيّة في باطنه؛ لأنّه على الرغم من كون المعجزة تظهر على يد النبيّ، إلاّ أنّ مبدأها الفاعليّ هو الله جلّ وعلا؛ كما أنّ عنوان تنزيل القرآن في الآية محلّ البحث قد اُسند إلى الله تبارك وتعالى، وهو في مجال تحوّل عصى موسى الكليم(ص) إلى أفعى يقول: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَىٰ﴾[1]، وإذا لم تُسند المعجزات الأخرى إلى الله بصريح القول، فممّا لا شكّ فيه أنّ الإذن والإرادة الإلهيّة كانت مؤثّرة فيها، ناهيك عن أنّ الإنسان الكامل إنّما يفهم ويعمل بواسطة المجاري الإدراكيّة والتحريكيّة لله سبحانه وتعالى على أساس قرب النوافل. والنتيجة هي أنّه إذا انبرى شخص إلى الإتيان بالمعجزة فإنّه في صدد الإتيان بما يماثل فعل الله، والذي يكون في صدد الإتيان بمثل فعل الله فإنّه يضمر في باطنه ادّعاء ربوبيّة تشبه ربوبيّة الباري جلّ شأنه، وهذا هو نفس المبحث المستنتَج من تحليل التنبّؤ أو المشاركة في ميدان التحدّي. والحاصل، إذا شارك الشخص المتنبّئ في ساحة التحدّي فهو يدّعي الربوبيّة من جهتين.

[9] الأشكال المختلفة للمقابَلة مع الإعجاز

مثلما يُستدلّ ـ على أساس التلازم بين كون الموجود معبوداً وخالقاً ـ بنفي خالقيّة موجود ما على عدم صلاحيّته لأن يكون معبوداً: ﴿أَفَمَنْ


[1]. سورة طٰه، الآية 21.

تسنيم، جلد 2

527

يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ﴾[1]، ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكاَئِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾[2]، فإنّه يُستدلّ ـ على محور التلازم بين كون الشخص نبيّاً وبين إتيانه بالمعجزة ـ بنفي قدرة الشخص على الإعجاز على عدم صلاحيّته لمقام الرسالة؛ وبعبارة أخرى: إنّ قضيّة رسالة الإنسان الكامل، الذي هو خليفة الله ومظهره، هي قضيّة ربوبيّة الله تعالى الذي هو الخالق والمعبود، وبما أنّ الأشخاص العاديّين قد انهزموا في ساحة التحدّي، فإنّه لا أحد منهم يتمتّع بصلاحيّة حمل الرسالة الإلهيّة.

ما يهمّ هنا هو الالتفات إلى هذا الأصل الكلاميّ الرصين وهو أنّه كما يخضع الاستدلال الفكريّ لأصحاب الرأي للطرد والرفع عن ثلاثة طرق (هي المنع، والنقض، والمعارضة)، فلعلّ بالإمكان التكهّن بطرق متعدّدة يُستعان بها لطرد معجزات أصحاب البصيرة حيث قد يتسنّى لكلّ منها الوقوف بوجه تأثير الإعجاز.

فكلّما أظهر شخص، في مواجهته لتحدّي صاحب الإعجاز، ما يشابه معجزته؛ كأن يأتي بسورة مشابهة لإحدى سور القرآن، فإنّ مثل هذه المقابَلة ستصطدم ـ كما هو الحال مع المنع أو النقض الذي يتمّ من خلال الدليل الحصوليّ ـ مع الدليل الحضوريّ لصاحب الإعجاز. لكن إذا أتى هذا الشخص مقابل ما ذُكر بمعجزة أخرى؛ أي فعل ما يتمتّع بالقيود المأخوذة في تحديد الإعجاز، ولم يستطع أحد الإتيان بمثل ذلك، فإنّ مثل هذه المقابلة ـ كما هو الحال مع معارضة الاستدلال


[1]. سورة النحل، الآية 17.

[2]. سورة يونس، الآية 34.

تسنيم، جلد 2

528

الفكريّ ـ تكون معجزة في عرض إعجاز صاحب التحدّي، لا أنّها تصطدم مع صلب المعجزة السابقة؛ كما أنّ الدليل الثاني ـ في المعارضة ـ يتقاطع مع الدليل الأوّل في عرضه، لا أنّه يصطدم مع جزء من أجزائه الداخليّة؛ بيد أنّه في فرض كهذا، فإنّ الشخص الثاني سيكون مصدِّقاً للشخص الأوّل بلا ريب، وكلّ منهما سيصدّق الآخر وسيكونان كموسى وهارون ‘ ولن يكون أحدهما في مقابل الآخر على الإطلاق؛ ذلك أنّ حدّ الإعجاز صادق على عمل أيّ واحد منهما.

إنّ ما يلزم في صاحب مقام الرسالة هو أصل الإعجاز، وكما أنّ النبيّين لا يستوُون فيما بينهم؛ إذ: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ‏ بَعْضٍ﴾[1]، وأنّ المرسلين أيضاً متفاوتون مع بعضهم البعض؛ حيث: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ‏ بَعْضٍ﴾[2]، فإنّ معاجزهم أيضاً لن تكون متشابهة ومتماثلة فيما بينها. إنّ ما يُطرح بمعيّة النبوّة العامّة والرسالة العامّة هو أصل الإعجاز، وليس معجزة معيّنة. وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ مثل هذا الشخص لن يُوقِع أبداً أيّ ضرر من نوع المنع أو النقض بمعجزة مدّعي الرسالة.

البحث الروائيّ

[1] انسجام المعجزة مع ظروف زمانها

ـ قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضا(ص): «لماذا بعث الله عزّ وجلّ


[1]. سورة الإسراء، الآية 55.

[2]. سورة البقرة، الآية 253.

تسنيم، جلد 2

529

موسى بن عمران(ص) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى(ص) بالطبّ، وبعث محمّداً(ص) بالكلام والخطب‏؟» فقال له أبو الحسن(ص): «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى(ص) كان الأغلب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عند القوم، وفي وسعهم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى(ص) في وقت ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً(ص) في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال: ـ والشعر فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم» فقال ابن السكّيت: «تالله ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال(ص): «العقل تعرف به الصادق على الله فتصدّقه، والكاذب على الله فتكذّبه» فقال ابن السكّيت: «هذا والله الجواب»[1].

إشارة: لقد سُلب عنوان الإعجاز من البشر في آيات كثيرة؛ أي إنّه ليس بمقدور أيّ أحد أن يُعجز الله: ﴿وٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ﴾[2]، إلاّ أنّه لم يُسنَد في أيّ آية إلى الله؛ بمعنى أنّه لم يُستخدم في القرآن اصطلاح المعجزة بمدلوله الكلاميّ المعهود، وقد اُشير إليها فقط بعنوان الآية، أي علامة الإرادة الإلهيّة.


[1]. عيون أخبار الرضا، ج2، ص85 ـ 86 ؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص43.

[2]. سورة التوبة، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

530

تُقسم الآية (حسب الاصطلاح القرآنيّ) والمعجزة (وفقاً لاصطلاح الكلام) إلى عدّة أقسام: أ: الاقتراح الذي يتحقّق طبقاً لما تشيره أمّة النبيّ عليه؛ نظير ناقة صالح. ب: ما يظهر نتيجة لعطف الله أو قهره المقطعيّ. ج: البرهان والحجّة على النبوّة الذي يُمنح للنبيّ متزامناً مع بعثه بالنبوّة. وما جاء في هذا الحديث ناظر إلى القسم الثالث من المعجزة، ودليله سهولة تشخيص الإعجاز عن فروع العلم القريبة أو الغريبة؛ إذ لو لم يكن هناك توافق وانسجام بين المعجزة وأكثر العلوم القريبة تطوّراً كالطبّ، أو أكثر العلوم الغريبة تقدّماً، كالسحر، لكان تشخيص المعجزة أمراً عسيراً، لكنّ وجود الخبراء المَهَرة في فروع العلم الخاصّة، لن يجعل تمييزها عن العلوم العاديّة أمراً صعباً.

[2] إشارات رمزيّة بخصوص كلمة «عبد»

ـ عن الصادق(ص): «حروف العبد ثلاثة: العين، والباء، والدال؛ فالعين علمه بالله، والباء بَونه عمّن سواه، والدال دنوّه من الله تعالى بلا كيف ولا حجاب‏»[1].

إشارة: بالرغم من انعدام السهولة في إثبات أو نفي العلاقة الرمزيّة للحروف، إلاّ أنّ الانتفاع من هذا الحديث بعنوان كونه أمراً وليس بعنوان أنّه وصف (بصرف النظر عن السند) أمر ميسور، بمعنى أنّه على الإنسان السالك الصالح أن يعتبر أنّ أفضل منصب له هو منصب العبوديّة لله، وإنّ معنى العبوديّة الكاملة هو أن يرى العبد نفسه في مشهد الله تعالى: ﴿أَلَمْ


[1]. مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، ص355؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص43.

تسنيم، جلد 2

531

يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَىٰ﴾[1]، وأن يعي أوصافه وأفعاله وآثاره، وأن ينأى بنفسه عمّا سواه، ويتقرّب منه. وإذا أدّت لغة أخرى بمفرداتها المناسبة عنوان «العبد» مع فقدانها للحروف الثلاثة المذكورة، فإنّ عين هذه المعارف المعهودة تكون قابلة للطرح بخصوصها. والغرض من هذا الكلام هو أنّ بُعد «التزكية الأمريّة» للحديث يفوق بُعد «التعليم الوصفيّ» له.

[3] مرجع الضمير في «مثله»

ـ عن العسكريّ(ص): «﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ من مثل محمّد(ص)، رجل منكم لا يقرأ، ولا يكتب، ولم‏ يدرس كتاباً، ولا اختلف إلى عالِم، ولا تعلّم من أحد، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره، بقي كذلك أربعين سنة، ثمّ أوتي جوامع العلم [حتّى علِم‏] علم الأوّلين والآخرين. فإن كنتم في ريب من هذه الآيات ﴿فأتوا﴾ من مثل هذا الكلام ليبين أنّه كاذب كمّا تزعمون، لأنّ كلّ ما كان من عند غير الله فسيوجد له نظير في سائر خلق الله... ﴿فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ يعني من مثل [هذا] القرآن من التوراة والإنجيل و... فإنّكم ‏لا تجدون في سائر كتب الله سورة كسورة من هذا القرآن‏»[2].

ـ عن عليّ بن الحسين ‘ «﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ مثل محمّد أمّي لم يختلف قطّ إلى أصحاب كتب وعلم، ولا تتلمذ لأحد، ولا تعلّم منه...‏ فإن كان كاذباً فاللغة لغتكم، وجنسه جنسكم، وطبعه طبعكم‏»[3].


[1]. سورة العلق، الآية 14.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص129؛ وبحار الأنوار، ج9، ص175.

[3]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص164 ـ 165؛ وبحار الأنوار، ج17 ، ص217.

تسنيم، جلد 2

532

إشارة: يقول المجلسيّ( في ذيل حديث الإمام السجّاد(ص):

اعلم أنّ هذا الخبر يدلّ على أنّ إرجاع الضمير في مثله إلى النبيّ وإلى القرآن كليهما مراد الله تعالى بحسب بطون الآية الكريمة.

وكما تمّ بيانه سابقاً فإنّ رجوع الضمير في «مثله» إلى كلّ من «عبد» و«ما نزّلنا» أمر ممكن وإن كان رجوعه إلى القرآن أولى. وما يُستشفّ من الحديث المأثور عن الإمام العسكريّ(ص) هو أنّه إذا كان رجوع الضمير إلى الرسول الأكرم(ص) فإنّ مضمون الآية يكون بيان أصل المعجزة، وإذا كان عَوده إلى القرآن فإنّ مضمونها ليس هو إثبات أصل الإعجاز والوحي وكونه كلام الله، بل إنّ الرسالة التي تحملها الآية عندئذ ستكون الإيحاء بهيمنة القرآن على الكتب السماويّة الأخرى؛ بمعنى، أنّ القرآن الكريم ليس فقط لا نظير له قياساً بالكتب العاديّة، بل إنّه لا مثيل له حتّى بين الكتب الإلهيّة الأخرى.

تسنيم، جلد 2

533

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

خلاصة التفسير

لمّا كان القرآن الكريم كتاباً معدّاً لهداية وتربية الإنسان العالِم، والعاقل، والمتديّن، فهو مفعم بالإنذار والتحذير على خلاف الكتب العلميّة والعقليّة البشريّة، وفي هذه الآية الكريمة أيضاً تراه يُنذر المعاندين من عذاب تكون موادّه المحترقة، الوقود والقَدّاح، هي الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها، اُعدّ للكفّار، والمنافقين، والفاسقين؛ تلك النار التي تستعر من باطن الإنسان، والتي ـ لهذا السبب ـ لا مفرّ منها على الإطلاق، بل إنّها تحرق جسم الإنسان المجرم والمنحرف وروحه على السواء.

يُستشفّ من التعبير بقوله: ﴿اُعدّت﴾ أنّ جهنّم، كالجنّة، موجودة في الوقت الحاضر، وأنّ الكافرين، الذين يشكّلون موادّ اشتعالها، من قدّاح ووقود، يشتعلون فيها الآن من قمّة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم وإن

تسنيم، جلد 2

534

كانوا لا يعلمون بذلك. إنّ إثبات العذاب للكفّار في هذه الآية الكريمة لا يتنافى مع إثباته بالنسبة للمنافقين والفسقة من المسلمين. فبالإضافة إلى الكفّار فإنّ عذاب جهنّم الأليم يحيق بالمنافقين والمؤمنين العاصين أيضاً؛ وإن وُجد اختلاف بين دركاتها وطول مدّة العذاب وقصرها.

التفسير

«إنْ»: التعبير ﺑ «إنْ» وهي حرف شرط مشكوك بدلاً من «إذا» وهي حرف شرط مقطوع، بالرغم من أنّ الشرط في محلّ البحث هو مقطوع العدم بدليل قوله: ﴿ولن تفعلوا﴾، هو من منطلق إنشاء الكلام طبقاً لظنّ المعاندين أوّلاً، وانطوائه على البُعد التهكّمي ثانياً.

«لن»: حرف «لن» هو لتأكيد النفي، وليس لتأبيده؛ لأنّ الشيء المُغَيّا والذي يكون له حدّ وغاية لا يكون أبديّاً، وإنّ حرف «لن» في: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىٰ‏ يَأذَنَ لِي أَبِي﴾[1]، و﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ‏ نَرَىٰ اللهَ جَهْرَةً﴾[2] قد استُخدم في الموارد التي تكون لها غاية ونهاية.

«النار»: يقول أغلب المفسّرين: بما أنّ كلمة ﴿نار﴾ قد وردت في سورة التحريم التي نزلت قبل سورة البقرة[3]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ


[1]. سورة يوسف، الآية 80 .

[2]. سورة البقرة، الآية 55.

[3]. لم يجزم الآلوسيّ في كون سورة التحريم سابقة على سورة البقرة وترك المقال مفتوحاً في هذا الصدد (روح المعاني، ج1، ص318).

تسنيم، جلد 2

535

أَنْفُسَكُم‏ْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[1] وأنّ المسلمين قد سبق لهم العلم بها فقد جاءت كلمة «نار» في الآية محلّ البحث مُعرّفة بالألف واللام؛ كما يُلاحظ ذلك أيضاً في قضيّة النبيّ إبراهيم(ص) عندما جاء بزوجه وأطفاله إلى أرض الحجاز الغير الصالحة للزراعة حيث قال مخاطباً الله عزّ وجلّ: ﴿رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَداً ءَامِناً﴾[2] فقد ذكر كلمة «بلداً» نكرة، لكن عندما عُمّر هذا المكان وأصبح مأهولاً قال لربّه: ﴿رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ ءَامِناً﴾[3] حيث نزلت الآية الثانية بعد الأولى، ومن هنا جاءت كلمة «البلد» فيها معرّفة بالألف واللام.

«وَقُود»: الوقود هو ما تُوقَد به النار؛ كعود الثقاب والصاعق في المتفجّرات، وهي تُستعمل لإيقاد النار وجعل غيرها من المواد يشتعل[4]، كما أنّه يشمل أيضاً الحطب، والفحم الحجريّ، والنفط، والغاز وكلّ مادّة تُستعمل كوقود للاحتراق. أحياناً يُراد من الوقود شعلة النار وألسنتها؛ كما في الآية ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾[5] حيث إنّ تفسيرها بالنار ذات الحطب (كناية عن وفرة المواد المحترقة فيها) غير مناسب؛ لأنّ ظاهر عبارة ﴿ذَاتِ الوَقُودِ﴾ يوازي معنى ﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾ الذي جاء في سورة المسد (الآية 3) وسيأتي تفصيله في تفسير الآيات.

ولا تختـصّ مـادّة وُقود ووَقود بإيقاد «النار»، بل إنّها تُستخدم في


[1]. سورة التحريم، الآية 6.

[2]. سورة البقرة، الآية 126.

[3]. سورة إبراهيم، الآية 35.

[4]. جاء في كتاب «المستخلص في ترجمان القرآن، ص19»: الوقود يعني ما يلهب النار.

[5]. سورة البروج، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

536

تألّق «النور» أيضاً؛ فهي ـ لذلك ـ تُستعمل في حالة الغضب والقهر، كما تُستخدم في مواطن الرحمة والعطف أيضاً؛ كما في قوله: ﴿... يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾[1]. ومن هذا الباب فقد أوصى أمير المؤمنين(ص) بالإبقاء على التوحيد والرسالة موقَدَين في قوله(ص): «وصيّتي لكم ألاّ تُشركوا بالله شيئاً، ومحمّد(ص) فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين»[2]، كما أشار أيضاً إلى كون القرآن سراجاً لا ينطفئ: «ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقُّده‏»[3].

«الناس»: ليس المراد من «الناس» في جملة ﴿وَقُودُها النَّاسُ﴾ ما يقابل الجنّ والشيطان، بل ما يقابل ﴿الحجارة﴾. وبناءً عليه، فإنّ إطلاق الآيات الأخرى، مثل: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾[4]، و﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾[5]، يبقى محفوظاً؛ لأنّ إبليس ذاته، فضلاً عن كونه حطب جهنّم، فإنّه من الممكن أن يكون مادّة الوقود التي تستعر بها جهنّم، بل وحجر الزناد المُشعل لها أيضاً.

«للكافرين»: بالنظر إلى عدم اختصاص جهنّم بالكافرين، فإنّ «اللام» في ﴿لِلكَافِرين﴾ هي بمعنى الارتباط؛ أي، إنّ كلّ عمل مرتبط بعامله؛ نظير قوله: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَِنْفُسِكمُ‏ْ وَإِنْ أَسَأتُمْ فَلَهَا﴾[6]، أو ﴿إِنَّ


[1]. سورة النور، الآية 35.

[2]. نهج البلاغة، الرسالة 23.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 198، المقطع 25.

[4]. سورة الأنبياء، الآية 98.

[5]. سورة الجنّ، الآية 15.

[6]. سورة الإسراء، الآية 7.

تسنيم، جلد 2

537

جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مََآباً﴾[1]. لكن إذا كانت «اللام» بمعنى الربح والنفع، كما في قوله تبارك وتعالى في أهل الجنّة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾[2]، فهي ستفيد الاستهزاء والتهكّم؛ إذ ليس في جهنّم أيّ نفع للكفّار. بالطبع إنّ هناك مرتبة في جهنّم خاصّة بالكافرين، وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون «اللام» للاختصاص.

هذه الآية الكريمة تخاطب الكفّار ووثنيّي الحجاز، ولما كان مضمونها ينطوي على إخبار عن الغيب، فهي بحدّ ذاتها نوع من الإعجاز. تأسيساً على هذا، فقد ضمّن القرآن الكريم إعجازه في هذه الآية بإعجاز آخر. فجملة ﴿فَإِنْ لَم تَفعَلُوا﴾ هي بمثابة نتيجة القياس وجواب الشرط الذي نُظّم في مستهلّ الآية السابقة على هيئة قياس استثنائيّ؛ أمّا جملة ﴿وَلَن تَفعَلُوا﴾ فهي إخبار عن الغيب وهذا بحدّ ذاته معجزة أخرى.

القرآن ورسالة الإنذار

القرآن الكريم ليس من قبيل الكتب الاستدلاليّة العقليّة حتّى يكتفي باستخلاص النتيجة من القياس والبرهان؛ ذلك أنّ لسان القرآن ليس مثل لسان العلوم من أمثال الحكمة والكلام، وإنّ هدفه لا يقتصر على جعل المخاطَبين علماء، بل هو لسان الوحي، والهداية، والنور، وهو يسعى


[1]. سورة النبأ، الآيتان 21 و22.

[2]. سورة البقرة، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

538

لتربية إنسان عالم وعاقل ومتديّن؛ بمعنى، أنّ عمليّة تعليم الكتاب والحكمة تسير جنباً إلى جنب مع تزكية النفوس. فهو، من هذا المنطلق، يعلن تحذيراً مفاده: أنّكم إذا لم تستطيعوا الإتيان بمثل القرآن، ولن تستطيعوا ذلك أبداً، فاتّقوا النار التي اُعدّت للكافرين.

هذه الآية الشريفة تطرح مسألة الخوف من جهنّم؛ لأنّ ثبات أغلب الناس على صراط الإيمان والتقوى يعود إلى الخوف من جهنّم. من هذه الجهة، فإنّ القرآن الكريم، فضلاً عن تقديمه النبيّ بصفته «البشير والنذير»، فهو لم يُعرّف النبيّ(ص) في أيّ موضع من المواضع بأنّه «المبشّر» وحسب، في حين أنّه تعالى يذكره أحياناً بلقب «المنذر» حصراً، كما في قوله: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾[1]. كما أنّ رسالة علماء الدين هي إنذار الناس من القهر الإلهيّ: ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾[2].

بالنسبة لعوامّ الناس فإنّ أوّل خطوة يخطونها هي الخوف من جهنّم. بالطبع إذا تقدّم الإنسان في طريقه وعبد الله على أساس هذه الخشية فإنّ الشوق إلى الجنّة سوف يتولّد في داخله شيئاً فشيئاً، بل ومن الممكن أيضاً أن ينال الدرجات العالية من محبّة الله عزّ وجلّ. حينئذ سيعبد الله عارفاً عاشقاً متحرّراً من الخوف من ناره ورجاء جنّته.

المادّة المحترقة لجهنّم ووقودها

يَعتبر القرآن الكريم أنّ الإنسان هو وقود جهنّم، أي مادّتها المحترقة،


[1]. سورة فاطر، الآية 23.

[2]. سورة التوبة، الآية 122.

تسنيم، جلد 2

539

ووقودها، وقَدّاحها. فالقدّاح هو كعود الثقاب الذي يشتعل باحتكاكه بمادّة معيّنة، والوقود هو كأخشاب الحطب السميكة الضخمة التي تبقى في الموقد لأمد بعيد وتتحوّل إلى رماد بعد مدّة طويلة فتحرق معها أعواد الحطب الناعمة الصغيرة.

فالإنسان ذاته من شأنه أن يوقد النار؛ كما جاء في الآية محلّ البحث أو الآية: ﴿اُوْلـَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾[1]، وهو أيضاً حطبها فهو يُسجَر؛ أي يشتعل فيها: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾[2]، ﴿إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾[3]. وتأسيساً على هذا الكلام، فإنّه لا سبيل للفرار من العذاب؛ لأنّه لو كان الحطب بمعزل عن الإنسان والإنسان يُحرق به لكان احتمال الفرار وارداً، وفي حال الاحتراق والاشتعال فإنّ جسمه فقط هو الذي سيشتعل، وليس روحه. أمّا إذا احترق الإنسان نفسه فلا مفرّ من العذاب؛ بل إنّ جسمه سيحترق: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾[4]، كما ستنصهر روحه أيضاً: ﴿ نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَىٰ الأَفْئِدَةِ﴾[5].

إنّ النار التي باستطاعتها إحراق روح الإنسان لابدّ أن يكون لها منشأ روحيّ؛ أي، إنّها تنبثق من الفؤاد والروح. فالحطب الخارجيّ ليس


[1]. سورة آل عمران، الآية 10.

[2]. سورة الجنّ، الآية 15. إطلاق هذه الآية يشمل كلّ قاسط وظالم، سواء كان من الجنّ أو من الإنس.

[3]. سورة غافر، الآيتان 71 و72.

[4]. سورة النساء، الآية 56.

[5]. سورة الهُمَزة، الآيتان 6 و7.

تسنيم، جلد 2

540

بمقدوره إحراق الفؤاد (وهو مرحلة تجرّد الروح). بل إنّ روح الإنسان لا تحترق حتّى وإن اُودع المرء في بودقة صهر المعادن، ومن هنا فإنّه عندما ألقى أصحابُ الاُخدود المؤمنين في حفرة اللهب، لم تحترق إلاّ أجساد هؤلاء المؤمنين؛ أمّا أرواحهم فكانت متنعّمة، بل وكانوا ملتذّين بأنّ أبدانهم تحترق في سبيل الدين.

إنّ بمستطاع الإنسان تحمّل العذاب الجسمانيّ، أمّا العذاب الروحيّ فإنّه ممّا لا يُطاق. فأهل المعنى يقولون في استعاذتهم من جهنّم: إلهي! لا تحرقنا في نار جهنّم؛ إذ أنّ دخول النار مدعاة لفضيحة الإنسان وخزيه: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾[1]؛ لأنّ السقوط في جهنّم هو علامة على الكفر والنفاق، أو ـ على الأقلّ ـ دليل على الانحراف، ونتيجة لذلك يكون الحرمان من رحمة الله الخاصّة وهذه الفضيحة هي أشدّ إيلاماً من احتراق البدن في النار.

يقول جماعة من المفسّرين مستندين إلى بعض الأحاديث: إنّ المراد من الحجارة المُشار إليها بأنّها وقود هي حجر الكبريت الأسود[2]. وقد عدّوا أنّ ما تمتاز به هذه الحجارة عن غيرها هي سرعة الاشتعال والاتّقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدّة الالتصاق بالأبدان، وشدّة حرّها[3]. لكنّ ما ينبغي الالتفات إليه هو أنّ حجر الكبريت قابل للإشتعال في الدنيا أيضاً وليس لهذه المسألة بالغُ أهمّية كي تستدعي


[1]. سورة آل عمران، الآية 192.

[2]. جامع البيان، ج1، ص221.

[3]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص225.

تسنيم، جلد 2

541

التخويف والإنذار الشديدين، ولا يمكن اعتبار أنّ حجر الكبريت هو المراد القطعيّ من الحجارة المذكورة. كما وذهب بعض المفسّرين أيضاً إلى أنّ المراد من تلك الحجارة هي الجواهر والذهب والفضّة التي كان يكنزها أصحابها ويُفتتنون ويغترّون بها[1]؛ كما في قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ‏ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ‏ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكمُ‏ْ فَذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[2]. هذا المعنى كذلك لا يمكنه أن يشكّل المصداق اليقينيّ للحجارة في الآية مورد البحث؛ لأنّ الآية أعلاه ناظرة إلى مطلق كانزي الذهب والفضّة، سواء من الكفّار أو من غيرهم، والحال أنّ الآية محطّ البحث تقول: ﴿اُعدّت للكافرين﴾.

الاحتمال الآخر في تفسير الحجارة، والذي يتّصف بالصحّة أكثر من غيره على ما يبدو، هو أنّ هذه الآية ناظرة إلى الآية الشريفة: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾[3]؛ أي: إنّكم وما تعبدون من غير الله حطب جهنّم ووقودها[4]. بناءً على هذا، فإنّ المراد من الحجارة المذكورة هنا هي الأصنام والأوثان المنحوتة من الحجر، حيث إنّ في الإعلان عن كونها وقوداً أثراً تبليغيّاً يساعد على اجتنابها، وهو ذو تأثير في الإنذار؛ إذ الإنسان إذا علم بأنّ ما يعبد في الدنيا، وما عقد الآمال على شفاعته


[1]. راجع تفسير البيضاويّ (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، ج1، ص40.

[2]. سورة التوبة، الآيتان 34 و35.

[3]. سورة الأنبياء، الآية 98.

[4]. راجع الميزان، ج1، ص90.

تسنيم، جلد 2

542

سوف يظهر في القيامة على هيئة جمر مُحرق، فإنّ ذلك سيزيد من معاناته النفسيّة وعذابه الروحيّ.

تنويه: إنّ أكثر الموجودات المركّبة المادّية دنوّاً هي الحجارة، وأرقاها هو الإنسان، وكلاهما في المعاد هو وقود للنار. ولعلّ شجرة جهنّم والحيوانات المناسبة لها؛ نظير الأفعى والعقرب، حيث إنّهما الحدّ المتوسّط بين الجماد والإنسان، متضَمَّنان في الآية؛ أي إنّ الآية محلّ البحث جامعة لجميع المراتب، لكنّها اكتفت بذكر الأدنى والأعلى منها ولم تتطرّق إلى ذكر سائر التركيبات.

جهنّم موجودة حاليّاً

بما أنّ تعبير ﴿اُعِدَّت للكافرين﴾ جاء بصيغة الماضي، فإنّه يصبح معلوماً أنّ جهنّم موجودة في الوقت الحاضر؛ كما أنّ الجنّة أيضاً هي موجودة حاليّاً والقرآن يصرّح بخصوصها أيضاً بقوله: ﴿اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[1].

إنّ ظاهر مادّة «إعداد» وكذلك ظاهر هيئة «اُعدّت»، وهي فعل ماض، فيه دلالة على تحقّق جهنّم في الوقت الحاليّ، وأمّا حمله على أنّه لمّا كان المستقبل المحقّق الوقوع هو بحكم الماضي وأنّ مجيئه بالفعل الماضي هو من هذا الباب، هو خلاف الظاهر؛ لأنّ أصل الفعل الماضي دليل على تحقّق الوقوع، وإنّ حمله على المستقبل القطعيّ يختصّ بالموارد التي يُقام فيها الدليل اليقينيّ على عدم تحقّقها حاليّاً، ولا يتوفّر دليل كهذا في المورد محلّ البحث.


[1]. سورة آل عمران، الآية 133.

تسنيم، جلد 2

543

مضافاً إلى ذلك فإنّه بالإمكان أيضاً استنباط المبحث المُشار إليه من آيات أخرى من قبيل: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[1]؛ إذ أنّ ظاهر المشتقّ (أي كلمة محيط) هو متلبّس بالفعل، وليس متلبّساً بالمستقبل. كما أنّ الروايات أيضاً تؤيّد ظاهر القرآن في أنّ الجنّة وجهنّم موجودتان حاليّاً. يقول عليّ بن موسى الرضا ‘ فيمن يقول بأنّ الجنّة والنار غير مخلوقتين: «ما أولئك منّا، ولا نحن منهم مَن أنكر خلق الجنّة والنار ...» ثمّ يستشهد بأسلوب لطيف بآية شريفة بقوله: «قال الله عزّ وجلّ: ﴿هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾[2]»[3].

كما أنّ النبيّ الأكرم(ص) ـ ذلك الوجود المبارك ـ قد دخل إلى الجنّة عندما عُرج به إلى السماء وقابل المتنعّمين في الجنّة، وشاهد جهنّم والمعذّبين فيها عن كثب. فالباحثون المحقّقون من الإماميّة يجزمون بأنّ الجنّة والنار موجودتان في الوقت الحاضر[4]. كما أنّ الأدلّة العقليّة لا تنقض هذا الرأي، ليس هذا فحسب بل إنّها تؤيّده أيضاً. بناءً على ذلك، فإنّ ظاهر الآيات المذكورة، كما هو حال ظاهر الآيات الأخرى، هو حجّة ولا تحتاج إلى التأويل أو التقدير. هذا على الرغم من أنّ الجنّة والنار غير ظاهرَين للأعمّ الأغلب من الناس إلى أن يغمضوا أعينهم عن مظاهر هذه الدنيا، ويموتوا موتاً طبيعيّاً.


[1]. سورة التوبة، الآية 49.

[2]. سورة الرحمٰن، الآية 44.

[3]. الأمالي للصدوق، ص373؛ وبحار الأنوار، ج8 ، ص119.

[4]. راجع كشف المراد، ص453، المقصد 6، المسألة 14؛ وتفسير صدر المتألّهين، ج2، ص170.

تسنيم، جلد 2

544

من أجل توليد النار يلزم عنصران: أحدهما القَدّاح المُوقِد للنار، والآخر الوقود القابل للاحتراق، وبتصريح القرآن الكريم فإنّ كلاًّ من القدّاح الموقِد: ﴿وَاُوْلَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾[1]، والوقود: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾[2] موجودان في الوقت الحاليّ. لذلك، فإنّ الكافر ـ الذي هو القدّاح المُوقِد للنار ووقودها المشتعل في آن معاً ـ هو الآن في حال اشتعال من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه؛ حتّى وإن لم تشاهد عينه ـ التي لا تشاهد إلاّ الظواهر ـ اشتعاله الحاليّ؛ مثلما أنّ اشتعالهم البرزخيّ غير مشهود كذلك.

روي أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفّان في زمان خلافته وبيده جمجمة إنسان ميّت فقال: إنّكم تزعمون أنّ النار تُعرض على هذا وإنّه يعذَّب في القبر، وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسّ منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضى(ص) يستحضره. فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثمّ قال عثمان بن عفّان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن. فقال عليّ(ص): «إيتوني بزند وحجر»، والرجل السائل والناس ينظرون إليه. فاُتِيَ بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثمّ قال للرجل: «ضع يدك على الحجر». فوضعها عليه ثمّ قال: «ضع يدك على الزند». فوضعها عليه فقال: «هل أحسست منهما حرارة النار» فبُهت الرجل، فقال عثمان: لولا عليّ لهلك عثمان[3].


[1]. سورة آل عمران، الآية 10.

[2]. سورة الجنّ، الآية 15.

[3]. الغدير، ج8 ، ص214 (ببعض التصرّف).

تسنيم، جلد 2

545

عذاب المؤمنين الفاسقين

استنتج بعض المفسّرين[1] والمتكلّمين من جملة ﴿اُعدّت للكافرين﴾ أنّ عذاب جهنّم مختصّ بالكفّار ولا يشمل الفسّاق من المؤمنين وهذا التصوّر ليس بصائب. إنّ عذاب جهنّم شامل للمنافقين والمؤمنين الفاسقين معاً. أمّا شموله للمنافقين، فلأنّ المراد من الكفر في هذه الآية هو الكفر في مقابل الإيمان، وليس الكفر في مقابل الإيمان والنفاق؛ بمعنى، أنّه ليس بناظر إلى تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام؛ مؤمن، وكافر، ومنافق، بل هو ناظر إلى الآية الشريفة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2] التي يُقسم الناس على أساسها في مقابل الأمر بعبادة الله تعالى إلى طائفتين: مؤمنين وغير مؤمنين، حيث تشمل طائفة غير المؤمنين، حسب هذا التقسيم، الكافرين والمنافقين.

إذن فالكفّار في الآية مورد البحث هم أولئك الذين ليسوا هم من أهل التوحيد العباديّ، ومن هذه الجهة يقول سبحانه وتعالى في الآية اللاحقة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾[3]. وبالنسبة للمنافقين فإنّ مسألة أنّ جهنّم تحيط بهم لا تستوجب البحث أساساً؛ كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾[4]، ناهيك عن أنّ المنافقين والكفّار قد ذُكروا سويّة في موضع


[1]. راجع تفسير كنز الدقائق، ج1، ص187؛ و ج2، ص224.

[2]. سورة البقرة، الآية 21.

[3]. سورة البقرة، الآية 25.

[4]. سورة البقرة، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

546

آخر في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾[1]، بل إنّ وعيد المنافقين يكون أحياناً أشدّ من تهديد الكافرين؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[2].

أمّا البحث المهمّ هنا فهو أنّه كيف يمكن لجهنّم، حسب الآية مورد البحث، أن تشمل المؤمن الفاسق أيضاً. وهناك ثلاثة آراء تُطرح في هذا المضمار:

1. إنّ معنى الكفر المُشار إليه في الآية مورد البحث أعمّ من الكفر الاعتقاديّ، حيث يشمل الكفر العمليّ أيضاً؛ كما في الآية ﴿وَللهِ عَلَىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[3] حيث عُبّر عن ترك الحجّ بالكفر؛ والمراد منه أنّه إذا ترك المستطيع المعتقد المؤمن الحجّ عمداً، فإنّه كافر في العمل، لا في العقيدة.

وهذا التبرير مستبعد؛ ذلك أنّ الآية مورد البحث هي في مقام بيان عاقبة مكذّبي الوحي، وعلى الرغم من شمولها اللفظيّ؛ من باب أنّ «للكافرين» هو جمع محلّى بالألف واللام وهو عامّ، إلاّ أنّ سياق الآية هو حول الكفر الاعتقاديّ، وشموله للكفر غير الاعتقاديّ بعيد.

2. على الرغم من أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: «هذه النار مُعدّة للكافرين»، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّر المؤمنين أيضاً من نفس هذه النار بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُم‏ْْ نَاراً


[1]. سورة النساء، الآية 140.

[2]. سورة النساء، الآية 145.

[3]. سورة آل عمران، الآية 97.

تسنيم، جلد 2

547

وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِْجَارَةُ﴾[1]. من هنا يصبح معلوماً أنّ المؤمن إذا لم يراقب نفسه وأهله، فسوف يُبتلى بذات النار. إذن فالواقع ليس بهذه الصورة: حيث تكون النار هذه مختصّة بالكافرين وإنّ الله عزّ وجلّ قد توعّد المؤمنين الفاسقين بعذاب آخر. بالطبع إنّ الفارق بين المؤمن العاصي والكافر هو في الخلود في النار وفي دركات العذاب، وإلاّ فإنّ أصل العذاب لكليهما ثابت.

3. لا تدلّ جملة ﴿اُعدّت للكافرين﴾ على أنّ جهنّم لم تُعدّ لغير الكافرين. وباصطلاح الأصوليّين فإنّ هذه الآية، وإن افتقدت الإطلاق الذي يصيّرها شاملة للفاسقين أيضاً، إلاّ أنّها كذلك غير مقيَّدة بعدم فسق المؤمن كي تحصر دخول جهنّم بالكفّار. وبناءً عليه, إذا صرّحت آية اُخرى بأنّ النار مُعدّة للمؤمنين العاصين فلا تعارُض بين الآيتين؛ لأنّ كلتيهما مثبتة. وبالنتيجة فإنّ آيات من قبيل: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾[2]، و﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾[3]، التي لا ترى أن جهنّم مختصّة بالكافرين، هي ليست مقيِّدة للآية محلّ البحث، وبناءً على هذا فإنّ جهنّم تحيط بالمؤمن الفاسق أيضاً.

في القرآن الكريم فإنّه حتّى الميل نحو المعصية يقدَّم باعتباره من دواعي الاحتراق بنار جهنّم؛ كما يقول الله جلّ شأنه للمسلمين: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾[4].


[1]. سورة التحريم، الآية 6.

[2]. سورة الجنّ، الآية 23.

[3]. سورة النساء، الآية 93.

[4]. سورة هود، الآية 113.

تسنيم، جلد 2

548

يستدلّ المحقّق الطوسيّ & في بحث الصراط بهذه الآية ومثيلاتها فيقول: «إنّ سبب ضيق الصراط هو أنّه إذا حصل أدنى ميل إلى إحدى جهتَي التضادّ فإنّه سيوجب الهلاك»[1]؛ ومعناه أنّه ليس الظلم وإعانة الظالمين وحدهما يُلقيان الإنسان في جهنّم بل الميل نحو هذه الأمور كذلك.

لطائف وإشارات

[1] الاختلاف بين النار المُلكيّة والملكوتيّة

النار ـ سواء النار الملكيّة المحسوسة أو الملكوتيّة الغير المحسوسة ـ حالها حال الموجودات الإمكانيّة الأخرى، يكون إيجادها بإرادة الله سبحانه وتعالى. فالاختلاف بين النار المحسوسة والغير المحسوسة هو في الحاجة إلى المبدأ القابليّ، كالحطب، وليس في الاحتياج إلى المبدأ الفاعليّ، أي الله؛ لأنّ المصوِّر الوحيد هو الله. فإذا أراد شيء أن تكون له صورة ناريّة فلن يتحقّق ذلك بغير إرادة الله، وإذا قيل إنّ الكافر نفسه هو مبدأ الاشتعال، فالمراد منه أنّه لا حاجة إلى مبدأ قابليّ آخر لذلك. طبقاً للآيات من قبيل: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾[2]، و﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾[3]؛ فإنّ حصَب وحطب جهنّم هو


[1]. آغاز وانجام (وهو باللغة الفارسيّة)، ص33.

[2]. سورة الأنبياء، الآية 98.

[3]. سورة الجنّ، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

549

الإنسان الكافر ذاته إلاّ أنّ المصوّر الذي يصوّر الإنسان على هيئة نار هو الله عزّ وجلّ. وإذا تحدّثنا بلغة الحركة الجوهريّة، فإنّ محرّك الإنسان ـ مع المحافظة على اختياره ـ هو ربّه.

[2] المبدأ الفاعليّ والقابليّ، والعلل الإعداديّة للنار المحسوسة

تستند النار الغير المحسوسة إلى المبدأ الفاعليّ فقط، وكما في سائر الموجودات الغير المادّية فهي لا تحتاج إلى مبدأ قابليّ ولا إلى سبب إعداديّ. أمّا النار المحسوسة، فناهيك عن احتياجها الحتميّ إلى المبدأ الفاعليّ، وحاجتها الماسّة إلى المبدأ القابليّ، فإنّها غالباً ما تكون منوطة بسبب إمداديّ وعلّة إعداديّة؛ حيث الأوّل سبب في الإمداد، والثانية أساس للإعداد، ووظيفتهما التمهيد لاشتعال المبدأ القابليّ المفروض، كالحطب. إنّ من جملة أسباب الإمداد هو القَدّاح الموقِد للنار، وإنّ من بين علل الإعداد هو الوقود. فالقدّاح، كما قد مرّت الإشارة إليه، هو ذلك الشيء الذي يؤدّي إلى توليد النار من خلال احتكاكه أو اصطدامه الفنّي اللازم؛ نظير مادّة عود الثقاب. أمّا الوقود فهو تلك المادّة التي تحافظ على اشتعالها لمدّة طويلة بسبب سمكها ودوامها، وفي الوقت الذي تتحوّل فيه المواد المشتعلة الأخرى إلى رماد فهي تبقى مشتعلة حتّى تصل كمّية أخرى من المواد القابلة للاشتعال التي ستحترق بملاقاتها. فقطع الحطب الضخمة التي تبقى مدّة طويلة في المواقد يُقال لها وقود. فكلّ من القدّاح والوقود هما سبب إمداديّ وعلّة إعداديّة لإشعال الحطب الجديد أو المادّة الجديدة القابلة للاشتعال.

تسنيم، جلد 2

550

[3] القدّاح والوقود في إحراق الكفّار

النار الغير المحسوسة هي تلك المُعبّر عنها ﺑ ﴿الحُطَمَة﴾ والموسومة بأنّها ﴿نَارُ اللهِ﴾ والتي قد اُخبر عن اطّلاعها وإشرافها على أفئدة الكفّار[1]. طبعاً من الممكن أن تكون لهذه النار أيضاً ظروفها ولوازمها الخاصّة.

بالنسبة للنار المحسوسة التي تحرق الأبدان فإنّ وقودها، أي حصبها وحطبها، هو الإنسان الكافر ذاته؛ كما قد مرّ، لكنّه من الممكن أن نتصوّر لها وقوداً من نفس الإنسان؛ ذلك أنّه طبقاً للآية ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾[2] فإنّ جلود الكفّار تحترق وتصبح رماداً، بيد أنّ العظام والعناصر المحوريّة في مجال اللحوم والشحوم تبقى كي تحترق الجلود الجديدة بنيران تلك العظام واللحوم والشحوم. في هذه الحالة فإنّ الجلد الذي ينمو فيما بعد يستمدّ النار والاحتراق من تلك العناصر المحوريّة التي كانت موجودة مسبقاً؛ بمعنى، أنّ الأجزاء المحوريّة السابقة تقوم مقام الوقود نتيجة لدوامها، وأنّ الجلود الطريّة الجديدة هي بمثابة أعواد الحطب المتدنّية الصغيرة التي تشتعل ـ وفقاً لإرادة الله ـ آخذةً اللهب من موادّ الوقود المتبقّية تلك. أمّا كون الإنسان الكافر هو ذاته القدّاح الذي توقَد به النار فهو إنّما يُستظهر من الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين(ص) الذي سبق نقله[3].


[1]. ﴿كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَىٰ الأَفْئِدَةِ﴾، (سـورة الهُمَزة، الآيات 4 ـ 7).

[2]. سورة النساء، الآية 56.

[3]. الغدير، ج8 ، ص214.

تسنيم، جلد 2

551

تنويه: ما يمكن فهمه من الآية: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾[1] أنّ الإنسان نفسه هو الذي يشتعل، وإلاّ لكان قد قال: «زدناها سعيراً»؛ أي إنّ الاشتعال في الآية قد اُسند لذات الإنسان، وليس إلى النار (فلتُستعملْ الدقّة).

[4] المراد من «وقود» في القرآن

على الرغم من أنّ جماعة من المخلوقات قد عُرّفوا في القرآن الكريم بأنّهم «حَصَب» و«حَطَب» جهنّم، إلاّ أنّه لا يتسنّى لأيّ من هذين العنوانين أن يحصر عنوان الوقود في حجارة جهنّم (حصبها) أو حطبها؛ لأنّه لا تنافي بين الأدلّة الإثباتيّة للعناوين المذكورة؛ إذ كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد من «الوقود» هو المادّة المحترقة، نظير الحطب، فإنّه من المحتمل أيضاً أن يكون المراد منه هو القدّاح أو الوقود الذي تضطرم به النار؛ كما أنّ جمع العناوين الثلاثة (الوقود، والحصب، والحطب) في إنسان واحد في أحوال مختلفة أمر ممكن، وكذلك توزيع هذه العناوين على أشخاص شتّى هو أمر ممكن أيضاً؛ وبعبارة أخرى: إنّ بعض صناديد الشرك، ورؤوس الإلحاد هم «وقود» بمعنى القدّاح، وإنّ جماعة من أئمّتهم وأسيادهم هم «وقود» بمعنى الوقود (المتعارف)، وطائفة من الكفّار كذلك هم «وقود» بمعنى الحطب لجهنّم. وعلى خلفيّة تناسب الحكم والموضوع فإنّ بالإمكان الحدس بأنّ أئمّة الكفر الذين كانوا يدعون الناس إلى النار: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَىٰ النَّارِ﴾[2] هم بمثابة القدّاح والوقود


[1]. سورة الإسراء، الآية 97.

[2]. سورة القصص، الآية 41.

تسنيم، جلد 2

552

(المتعارف)، وأنّ أتباعهم المقصّرين هم بمنزلة الحطب. وسرّ هذا التناسب هو أنّ إمام الإلحاد الذي كان يدعوا الناس في الدنيا إلى الكفر والارتداد، وبتعبير القرآن الكريم: كان يجرّ المجتمع صوب جهنّم، ويقوم في القيامة قبل الآخرين، ويتقدّمهم، ويورِد أتباعه النار: ﴿... فَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾[1] بإمكانه أن يشكّل يوم القيامة وقوداً ـ بمعنى القدّاح والوقود المتعارف ـ لأتباعه المقصّرين. وقد جاء في الآيتين التاليتين نموذجٌ لوقود النار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللهِ شَيْئاً وَاُوْلَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[2].

[5] سرّ تقديم «الناس» على «الحجارة»

أحياناً يفرض المعبود الباطل، من أمثال فرعون، على عابده عوامله النفسيّة، أو السياسيّة، أو الاقتصاديّة، أو ما شابهها من خلال الإغواء، والإضلال، والإرعاب، والتهديد، والتحديد، والتجبيب، والتطميع من أجل أن يشتري منه بضاعة عبادته بثمن بخس. في مثل هذه الحالة فإنّ المعبود الباطل هو أسوأ حالاً من العابد وأسرع في ولوجه إلى جهنّم؛ كما قد مرّ ذكره بخصوص فرعون. وأحياناً أخرى فإنّ العابد نفسه، جرّاء جهله العلميّ أو جهالته العمليّة، هو الذي يبادر، عن جهل، إلى عبادة


[1]. سورة هود، الآيتان 97 و98.

[2]. سورة آل عمران، الآيتان 10 و11.

تسنيم، جلد 2

553

المعبود؛ كما هو الحال في عبادة الأصنام والأوثان المعهودة. ففي مثل هذه الحالة يكون العابد أسوأ من المعبود وأكثر عرضة للعذاب منه. من هذا المنطلق فقد قُدّمت كلمة ﴿الناس﴾ على ﴿الحجارة﴾ في الآية مورد البحث؛ كما ورد في الآية ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏ ...﴾[1]، وكذلك الآية ﴿اُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ ...﴾[2]، فقد ذُكر العابدون قبل المعبود؛ وإن كان التقدّم اللفظيّ غير ذي تأثير كبير، لكنّه في الجملة إشعار بالاهتمام بالموضوع. من هنا يمكننا الاستظهار بأنّ آثار الإنسان المتوقِّد أشدّ من آثار الكبريت الأسود المتَّقد كما مرّ ذكره في الإشارة الخامسة.

[6] الدعوة إلى الإيمان والامتثال عن خوف

رسالة الآية محطّ البحث هي بعد التنزّل من الحدّ الأعلى؛ أي إذا وصلتم إلى قناعة، وفقاً للبرهان العلميّ والعدل والإنصاف العمليّ، وأدركتم إعجاز القرآن الكريم، وقبلتم برسالة الرسول الأكرم(ص) عن تحرّر ومعرفة، استناداً إلى الدليل العقليّ من ناحية، واعتماداً على كرامتكم الإنسانيّة من ناحية أخرى، فقد قمتم بما اقتضته كرامتكم الفطريّة وطبقاً لفتوى البرهان العقليّ. أمّا إذا خرجتم عن نطاق البرهان العلميّ والعدل العمليّ، ولم تتحرّكوا ضمن محور الحرّية والكرامة، فاقبلوا برسالة الرسول الأعظم(ص) وآمنوا بكون القرآن كتاباً سماويّاً من باب الخوف ـ على أقلّ تقديرـ وهذا هو أدنى مراحل الإيمان والامتثال.


[1]. سورة الأنبياء، الآية 98.

[2]. سورة الأنبياء، الآية 67.

تسنيم، جلد 2

554

[7] منزلة المنسوجات العنكبوتيّة لمسيلمة

ليس هناك من تناف بين ما ذُكر في الآية محطّ البحث بعنوانه خبراً غيبيّاً: ﴿... فَإن لَم تَفعَلُوا وَلَن تَفعَلُوا﴾ وبين ما نُقل عن أشخاص من أمثال مسيلمة الكذّاب؛ لأنّ مثل هذه المنسوجات العنكبوتيّة لم تُطرح بعنوان المشاركة في ساحة التحدّي ومسرح السجال والمقابلة والإتيان بالمثل، بل إنّ داعية أمثال هؤلاء كانت تتضمّن أنّ هذه الأباطيل هي وحي مُنزل، ولمّا لم تكن لأيّ وضيع شنيع القدرة على التحدّي والمقابلة مع الرفيع السنيع، فإنّه لم تبلغ خرافات مسيلمة أبداً طراز المعلّقات السبع وسائر أشعار أسياد الفصاحة وفطاحل البلاغة في الحجاز، فضلاً عن بلوغها حدّ المماثلة لكلام الله جلّ اسمه والمشابهة لكتابه. وبالإمكان العثور على مضمون هذا المبحث في تفسير أبي حيّان الأندلسيّ[1].

البحث الروائيّ

[1] وقود النار

ـ عن العسكريّ(ص): «﴿فَٱتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا﴾ حطبها ﴿النَّاسُ وَالْحِجارَةُ﴾»[2].

إشارة: بعد إحراز عنصرين محوريّين فإنّ في الحديث المذكور دلالة على أنّ المراد من الوقود هو الحطب، وليس القدّاح، الذي هو نظير


[1]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص249.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص129؛ وبحار الأنوار، ج9، ص176.

تسنيم، جلد 2

555

الزناد والحجر المسعار. العنصر المحوريّ الأوّل هو صحّة السند، والثاني هو إفادة الحصر، وإلاّ فإنّه لا يعدم الإنسجام مع ما سبق من البحث التفسيريّ. إنّ بعض أخشاب الحطب الغير القابلة للاحتراق تبقى مشتعلة لأمد بعيد جرّاء قوّتها وصلابتها فتجعل أعواد الحطب الأخرى تحترق وتلتهب لكنّها هي ذاتها تبقى كمصدر ثابت للشرر فتكون مشمولة بالحديث الآنف الذكر.

[2] حجارة النار

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «ولقد مررنا معه [مع رسول الله(ص)] بجبل وإذا الدموع تخرج من بعضه، فقال له النبيّ(ص): «ما يُبكيك يا جبل؟» فقال: يا رسول الله كان المسيح مرّ بِي وهو يخوّف الناس من نار ﴿وَقُودُها النّاسُ وَالحِجَارَةُ﴾ وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة. قال له: «لا تخف تلك الحجارة الكبريت» فقرّ الجبل، وسكن، وهدأ، وأجاب‏»[1].

ـ عن ابن مسعود قال: «إنّ الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ﴾ حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء»[2].

ـ عن عليّ بن الحسين ‘: «﴿... وَالْحِجَارَةُ﴾ حجارة الكبريت أشدّ الأشياء حرّاً ﴿اُعِدَّتْ﴾ تلك النار ﴿لِلْكافِرِينَ﴾»[3].


[1]. الاحتجاج، ج1، ص520؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص43؛ وتفسير الصافي، ج1، ص89 .

[2]. الدرّ المنثور، ج1، ص90؛ وراجع جامع البيان، ج1، ص121.

[3]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص165؛ والبرهان، ج1، ص69.

تسنيم، جلد 2

556

إشارة: الحجارة ـ حالها حال الاشياء الأخرى ـ ذاتُ تسبيح، وسجود، وإسلام ، وامتثال عن طاعة، وما إلى ذلك، كما وأنّه في أحداث ترجيع الجبال للتسبيح مع نبيّ الله داود(ص): ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾[1]، ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾[2]، فإنّ شعور الصخور مطروح بقوّة أيضاً. بناءً على ذلك، فإنّه ما من محذور عقليّ أو نقليّ بالنسبة لمثل هذه النصوص على الإطلاق. بالطبع إنّ اعتبار السند حسب الضوابط الخاصّة أمر ضروريّ.

[3] وصف نار جهنّم

ـ عن أنس: تلا رسول الله(ص) ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ﴾ فقال: «أوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت، وألف عام حتّى ابيضّت، وألف عام حتّى اسودّت، فهي سوداء مظلمة لا يُطفأ لهبها»[3].

ـ عن أمير المؤمنين(ص) في قوله تعالى: ﴿اتّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُها النّاسُ وَالحِجَارةُ﴾ «يا معاشر شيعتنا اتّقوا الله، واحذروا أن تكونوا لتلك النار حطباً، وإن لم تكونوا بالله كافرين، فتوقّوها بتوقّي ظلم إخوانكم المؤمنين‏ ...»[4].

ـ «... ونار شديدٍ كَلَبُها، عالٍ لَجَبُها، ساطعٍ لهبها، متغيِّظٍ زفيرها،


[1]. سورة سبأ، الآية 10.

[2]. سورة الأنبياء، الآية 79.

[3]. الدرّ المنثور، ج1، ص90.

[4]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص166 ـ 167؛ وبحار الأنوار، ج72، ص316.

تسنيم، جلد 2

557

متأجّجٍ سعيرها، بعيدٍ خمودها، ذاكٍ وقودها، مَخُوفٍ وعيدها، عمٍ قرارُها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها»[1].

ـ «واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تُدميه، والرمضاء تُحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ضجيعَ حجر، وقرينَ شيطان. أعلمتم أنّ مالكاً إذا غضب على النار حَطَم بعضُها بعضاً لغضبه، وإذا زَجَرَها توثَّبت بين أبوابها جزَعاً من زَجرَته؟»[2].‏

إشارة: من باب أنّ جهنّم هي مظهر لغضب الله المحض، وليس فيها أدنى رحمة: «دار ليس فيها رحمة»[3] فإنّ عذابها مستنزِف للطاقات، وإنّ التحليل الإجماليّ لشدّة العذاب خلاصته: إنّ العذاب يكون تارة في مكان معيّن، بحيث أنّ الأمل بالنجاة وتمنّيه يكون متصوَّراً بالنسبة للشخص المحبوس في ذلك المكان، وتارة أخرى يظهر على شكل «خرقة تعذيب»؛ كما في قوله: ﴿قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾[4]، أو أشدّ من ذلك فيظهر على هيئة «سربال تعذيب»؛ مثل: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾[5]. فالشخص المبتلى بمثل هذه الخرقة أو هذا السربال من الممكن أن تخطر في باله النجاة من العذاب، لكن إذا أمسى الإنسان نفسه وقود النار، فلا يُتصوَّر الفرار من سيطرة القهر الإلهيّ؛ ذلك أنّ العذاب


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 190، المقطع 10.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 183.

[3]. نهج البلاغة، الرسالة 27.

[4]. سورة الحجّ، الآية 19.

[5]. سورة إبراهيم، الآية 50.

تسنيم، جلد 2

558

والمعذَّب يكونان متّحدين في هذه الحالة، وإنّ الطموح في الفرار والنجاة هو أشبه بالفرض المحال، لا أنّه من قبيل فرضِ المحال.

[4] النار الملكوتيّة

يقول أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاريّ القرطبيّ:

ـ روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كنّا مع رسول الله إذ سمع وجبة[1] فقال النبيّ(ص): «تدرون ما هذا؟» قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتّى انتهى إلى قعرها»[2].

إشارة: يمكننا أن نفهم من هذا الحديث أنّ الحياة مع الإلحاد والنفاق يرافقها ضرب من النار الملكوتيّة ونمط ممّا يناسب من الوقود والحصب والحطب، ولا منافاة لذلك مع سائر الآيات أو مع غيره من أصناف العذاب الحسّي؛ إذ أنّ من الممكن أن تكون جميعها حقّاً، وما دامت النار الظاهريّة، وجهنّم الحسّية، وما دام التعذيب البدنيّ، والوقود الجسمانيّ محفوظاً، فإنّ إثبات المعارف الأسمى والمدارج الأرقى هو غير ممنوع، ليس هذا فحسب بل إنّها منسجمة مع درجات القرآن؛ إلاّ أنّ القضيّة المهمّة هنا هي أنّ سعي الناس للخلاص من النار هو أقلّ من جهدهم الذي يبذلونه لفهم كيفيّة العذاب. والغرض، هو أنّ ما يتعيّن عيلنا فعله هو الخلاص من النار التي وجودها حتميّ، وإنّ ما يثير التأسّف هو انعدام السعي الحثيث للخلاص منها.


[1]. صوت الشيء يسقط فيُسمع له ما يشبه الهدّة.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص226.

تسنيم، جلد 2

559

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوْا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِيْ رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

خلاصة التفسير

خطوة بخطوة مع تبيين أحكام الدين وحِكَمه يخبر القرآن الكريم أيضاً عن آثار وثمرات الإيمان والكفر؛ فهو قد بيّن في الآية السالفة عقاب المجرمين المنحرفين، وفي الآية محلّ البحث فإنّه يبشّر المؤمنين بجنّات تجري من تحتها الأنهار، وبرزق متواصل من ثمار متشابهة، وبأزواج مطهّرة، وكذلك بالخلود فيها. إنّ بشارة القرآن هي لأولئك الذين جمعوا

تسنيم، جلد 2

560

الحُسن الفاعليّ (الإيمان والنيّة الخالصة)، والحُسن الفعليّ (العمل الصالح)؛ إذ أنّ اجتماع الحسن الفعليّ والفاعليّ ضروريّ لدخول الجنّة، على الرغم من أنّه يكفي، من أجل السقوط في جهنّم، فقدان واحد منهما فقط.

كلّما حظي المؤمنون الصالحون في الجنّة بنعمة ما فإنّهم يقولون: لقد رُزقنا من قبل هذا الرزق، ومرادهم الموفقيّة للإيمان والعمل الصالح التي كانت من نصيبهم في الدنيا وقد تجسّدت الآن وظهرت على صورة نعم فردوسيّة. وعلاوة على سائر نعم الجنّة فإنّ المؤمنين من أهل الجنّة يحصلون على أزواج مطهّرة من كلّ رجس ورجز وإنّ حياتهم وحياة أزواجهم في الجنّة خالدة وأبديّة. أمّا سرّ الخلود في الجنّة فيعود إلى أنّ محور الجزاء الاُخرويّ يستند إلى الطراز الاعتقاديّ والرؤية الكونيّة للإنسان الموحّد، ولمّا كان أهل الجنّة قد عقدوا العزم في الدنيا على البقاء على الإيمان والصلاح إلى الأبد، فهم ينعمون بالأبديّة في جنّة خالدة.

التفسير

«بَشّر»: البشارة حسب العرف العامّ هي الإخبار بما يسُرّ، إلاّ أنّها اُطلقت في القرآن الكريم على خبر السوء أيضاً؛ مثل قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[1]؛ وذلك لأنّ البشارة هي الخبر الذي يترك أثراً على بشرة الوجه، سواء كان ممّا يسرّ أو يحزن. ولعلّ المسرّة عامّة أيضاً؛ إذ أنّ الخبر الذي


[1]. سورة آل عمران، الآية 21.

تسنيم، جلد 2

561

يترك بصماته على خطوط الوجه وأساريره هو مدعاة للسرور. والخبر السعيد إذا لم يكن ممّا سبق الاطّلاع عليه، فهو سارّ، وهو بشارة بالفعل، أمّا إذا كان المرء مسبوقاً به من قبل، فلأنّه لا يكون مصحوباً بالحيويّة والنشاط، فهو بشارة بالقوّة؛ أي، إنّه لو كان قد اُخبر به من قبل لكان سارّاً. من هذا المنطلق، فإنّ هناك فرقاً بين الإخبار والتبشير؛ ففي الإخبار لا يشترط جهل المخاطَب والمستمع، بينما يكون هذا الشرط الضمنيّ معهوداً في التبشير.

تنويه: التبشير هو من باب التفعيل وهو للكثرة. وهذا التكثير هو إمّا بلحاظ أنواع النعم المختلفة التي اُسبغت على المصدّقين بالإعجاز والرسالة اعتقاداً وعملاً، وإمّا بلحاظ كثرة المؤمنين المتلقّين للبشرى والمخاطَبين بالبشارة، وإلاّ فإنّ تكرار الإخبار ليس مدعاة لتكرار البشارة؛ لأنّ البشارة الواحدة ليست قابلة للتكرار والتكثير؛ مثلما تُسمّى طلائع الفجر بشكل خاصّ ﺑ «التباشير».

«لهم»: لمـدلـول الـلام في «لـهم» أربـعة احتمـالات قـد تـكـون جـميعها صـحيـحـة: 1. «الاختصاص»؛ ويعني، أنّ الجنّة خاصّة بأهل الإيمان والعمل الصالح. 2. «الارتباط»؛ ومعناه أنّ الجنّة مرتبطة بهؤلاء. 3. «المنفعة»؛ أي إنّ الجنّة في صالحهم. 4. «المالكيّة»؛ بمعنى، أنّ الجنّة مملوكة لهم. أمّا الاحتمالات الأخرى فمنتفية.

«جنّات»: إنّ المعنى المحوريّ لجميع مشتقّات المادّة «جنّ» هو التغطية والمواراة والاستتار؛ ﻓ «الجنين» سُمّي جنيناً لكونه موارًى ومستوراً في رحم الأم، والتُرس سُمّي «جُنّة» من باب أنّ المقاتل يتغطّى

تسنيم، جلد 2

562

به ويتوارى خلفه وقاية لنفسه من أذى أسلحة العدوّ، والشخص الذي لم يتفتّح عقله وينضج بل بقي ضامراً وخفيّاً يُقال له «مجنون»، وظلمة الليل التي فيها تختفي وتستتر الأشياء سُمّيت «جانّ» كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّليْلُ ...﴾[1]، والقلب يُسمّى «الجَنان» لكونه مستوراً، سواء القلب الجسمانيّ المختفي في داخل القفص الصدريّ، أو القلب الروحانيّ (الروح المجرّدة) المستور عن العين الظاهريّة. و«الجنّ» كذلك هي الموجودات الغير المرئيّة والمستورة عن الأعيُن الظاهريّة. كما أنّ «الجنّة» هي الحديقة المغطّاة بالأشجار الكثيفة الملتفّة[2]؛ حيث إنّ أهلها مستورون عن أنظار الأغيار.

والسرّ في تسمية الجنّة بهذا الاسم هو أنّ أغصان أشجارها متشابكة إلى درجة تشكّل هي وأوراقها الوافرة سقفاً أخضر اللون يغطّي أرض الجنّة. بناءً على هذا فإنّه يتسنّى لنا القول: «تجري من تحت هذه الحدائق أنهار»، ولا تعود هناك حاجة لتقديرها بكلمة أشجار والقول: إنّ المراد منها هو «من تحت أشجارها»، بحيث أنّ الأشجار تحفّ بضفّة النهر؛ بمعنى، أنّ المُستفاد هو ذات المقصود من التعبير الحاليّ من دون تقدير. بالطبع إنّ المراد هو هذا، وإلاّ فأيّ نفع يجلبه على البستان وأي ربح يدرّه على صاحبه ذلك النهر الذي يجري تحت سطح الأرض. فلربّما لا تعود المياه الجوفيّة على الأرض بغير اليبس والجفاف، ولا على صاحبها بشيء سوى الفقر والفاقة.


[1]. سورة الأنعام، الآية 76.

[2]. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2، ص144 ـ 146.

تسنيم، جلد 2

563

على أيّ تقدير، فإنّ فضاء الجنّة مغطّى بالأشجار ومع هذا فهو منوَّر؛ لأنّ نور الجنّة ليس من الشمس؛ فالشمس والقمر يكونان قد جُمعا يوم القيامة: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾[1]، وما من شمس هناك في الجنّة: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾[2]، بل إنّ منبع النور هو تلك الأرواح الطاهرة النورانيّة للمؤمنين الوادعة في سكون في أحضان نعم الجنّة وآلائها: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَىٰ‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِِمْ﴾[3].

«تجري»: إسناد الجريان للنهر أمر مجازيّ؛ لأنّ النهر هو قناة الماء الجاري وليس له هو جريان. ولا يكون هذا الإسناد صحيحاً إلاّ أن يكون ماء النهر من الوفرة بحيث يملأ مجرى النهر بالكامل.

«الأنهار»: النهر أكبر من الجدول وأصغر من البحر. ومن هنا فإنّه يقال لبَرَدى دمشق «نهر دمشق»، ولنيل مصر «نهر مصر»[4]. ومن المحتمل أن يكون المراد من «الأنهار» هو تلك الأنواع الأربعة من الأنهار المذكورة في الآية 15 من سورة محمّد(ص)؛ كما أنّه من المحتمل أيضاً أن يكون المراد منها هو جنس النهر. ومن الممكن أن يكون جريان النهر على سطح الجنّة هو بإرادة أهلها من دون قناة. وإذا كان الأمر كذلك فإنّ سطح الجنّة بأجمعه سيكون نهراً بشكل قهريّ، ولمّا كان جريانه بمشيئة ساكن الجنّة، فسيجري في الموضع وبالمقدار الذي يريده هو. من هذا المنطلق، فلا يُتصوَّر أيّ محذور أو أيّ تزاحم في هذه المسألة.


[1]. سورة القيامة، الآية 9.

[2]. سورة الإنسان، الآية 13.

[3]. سورة التحريم، الآية 8 .

[4]. الكشّاف، ج1، ص107.

تسنيم، جلد 2

564

«اُتوا»: لمّا كان فعل «أتى» لازم فإنّه في صيغة المبنيّ للمجهول يكون بحاجة إلى حرف جرّ في حالة التعدية. وبما أنّ الذي يتغيّر في الصيغ المختلفة للأفعال المتعدّية بحرف جرّ هو مدخول حرف الجرّ، وليس الفعل ذاته، مثل: «مرّ به»، و«مرّ بهما»، و«مرّ بهم»، فإنّه يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: كيف يمكن صياغة المبنيّ للمجهول من الفعل «أتى»؟ ولماذا جُمع نفس الفعل هنا؟ وجواباً على ذلك نقول: استُعملت كلمة أتى في القرآن الكريم ـ وهو أفصح الكلمات ـ لازمة تارة (بمعنى المجيء)، مثل: ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ﴾[1]، ومتعدّية تارة أخرى (بمعنى جاء به)، وقد وردت في هذه الصورة مع حرف الجرّ ومن دونه؛ مثل: ﴿أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ﴾[2]، حيث «آتي» هو اسم فاعل، والضمير (الكاف) هو مفعوله من غير واسطة. إذن فلا يرد الإشكال القائل: بأنّه إذا كانت «أتى» بمعنى الجَلْب فلابدّ أن تكون «اُوتوا» ومن باب الإفعال، وليس «اُتوا» الذي هو ثلاثيّ مجرّد؛ ذلك لأنّه جاء بمعنى الجلب في كلتا صورتَي المجرّد والمزيد.

«به»: ضمير «به» في ﴿اُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ عائد إلى الرزق؛ أي الفاكهة المتشابهة فيما بينها والتي لها مذاقات مختلفة، وهذه الجملة هي عبارة مستقلّة، وليست من متعلّقات الجملة السابقة: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا ...﴾.

«أزواج»: في القرآن الكريم يُطلق على كلٍّ من الزوجين (المرأة والرجل) اسم «الزوج»، واستعمال كلمة «الزوجة» للتعبير عن امرأة الرجل هو غير فصيح. من هنا لم تُستعمل في القرآن ألفاظ من قبيل


[1]. سورة النحل، الآية 1.

[2]. سورة النمل، الآية 39.

تسنيم، جلد 2

565

«الزوجة» أو «الزوجات» وفي الآية مورد البحث ذُكرت «أزواج» ولم تُذكر «زوجات».

يستنبط البعض من الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾[1] أنّ حوّاء قد خُلقت أوّلاً ثمّ خُلق آدم ‘ منها، وهذا الاستنباط غير صحيح؛ لأنّ كلمة «زوج» في اللغة الفصحى تُطلق على كلّ من المرأة والرجل؛ مثل قوله: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾[2]، ﴿يَا آدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾[3].

تنويه: كلّ فرد يليق بالاقتران بما يجانسه فهو زوج له. وأمّا اصطلاح الزوج والفرد في علم الرياضيّات فلا علاقة له بالمعنى اللغويّ والعرفيّ العامّ، ولا ينبغي الخلط بين هذين البحثين.

بعد تبيين الاُصول والمعارف الدينيّة كالتوحيد والنبوّة والمعاد، يذكر القرآن الكريم ثمرة الإيمان بتلك الأصول أو نتيجة الكفر بها. فقد اُشير إلى عقاب المنحرفين في الآية السابقة، وفي هذه الآية الكريمة يأتي القرآن على ذكر جزاء المؤمنين الصالحين فيقول: بشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بما يلي: 1. أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار. 2. هؤلاء كلّما رُزقوا من هذه الجنائن ثمراً قالوا: إنّه عين ما رُزقناه من قبل. 3. إنّهم سيُعطَون في الجنّة فواكه متشابهة ومتجانسة. 4. يتمتّع أهل الجنّة فيها بأزواج مطهّرة. 5. إنّهم خالدون في الجنّة.


[1]. سورة النساء، الآية 1.

[2]. سورة يٰس، الآية 56.

[3]. سورة البقرة، الآية 35.

تسنيم، جلد 2

566

الإنذار والتبشير في القرآن

خطاب الأمر بالتبشير في الآية محطّ البحث، وإن كان موجّهاً للنبيّ الأكرم(ص)، إلاّ أنّه شامل للاُمّة كذلك، فهم بمقدورهم أيضاً ـ بعد تلقّي المعارف الإلهيّة من رسول الله(ص) ـ أن يبشّروا الآخرين بالجنّة. بناءً على ذلك، فإنّ التبشير ـ كالإنذار ـ هو أصلاً من مختصّات النبيّ(ص)، ولكنّه يشمل الأمّة أيضاً بالتبعيّة، ولمّا كان البحث المذكور حائزاً على أهمّية خاصّة فإنّ كلّ مُطّلع واعٍ باستطاعته، بل هو مأمور، أن يعلن عن ذلك بصورة البشرى.

لقد جاء الإنذار والتبشير في القرآن على شاكلتين: فأحياناً يأتيان مع ذكر عظمة مورد الإنذار أو التبشير؛ كما في قوله: ﴿وَٱتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[1]، و﴿جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[2]، وإنّ الآية مورد البحث هي أيضاً من نوع البشارة التي تكون مشفوعة بذكر عظمة مورد البشارة. كما يأتي أحياناً مع التذكير بأنّ مورد الإنذار أو التبشير هو قائم في الوقت الحاضر؛ كما يعبّر ـ من باب الإنذار ـ عن التصرّف في مال اليتيم بأنّه أكل للنار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ‏ ظُلْماً إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾[3]، أو كقوله عزّ وجلّ من قبيل البشارة: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيحَْانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾[4]؛ فكلّ من كان من المقرّبين فهو ذاته روحٌ، وريحانٌ، وجنّة نعيم.


[1]. سورة آل عمران، الآية 131.

[2]. سورة آل عمران، الآية 133.

[3]. سورة النساء، الآية 10.

[4]. سورة الواقعة، الآيتان 88 و89 .

تسنيم، جلد 2

567

الحُسن الفعليّ والحُسن الفاعليّ

في القرآن الكريم عادةً يذكر الإيمان والعمل الصالح سويّة، وعندما يُذكر أحدهما منفرداً فلابدّ أن يكون مقيّداً. بالطبع قد يذكر الإيمان أوّلاً تارة، كما في الآية مورد البحث، وقد يأتي ـ لفظاً ـ بعد العمل الصالح تارة أخرى، إلاّ أنّ تقدّمه عليه أو تزامنه معه يكون ملحوظاً؛ كقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ اُنْثَىٰ‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[1]، حيث إنّ العمل الصالح هنا مطروح في حال إيمان الشخص العامل. وبحسب الثقافة القرآنيّة فإنّ العمل الصالح هو ذلك العمل الذي يكون مطابقاً لأحد منابع الدين.

فعبارة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تحكي الحسن الفاعليّ، و﴿عَمِلُوا الصّالِحَات﴾ ناظرة إلى الحسن الفعليّ؛ أي، إنّ البشارة بالجنّة تخصّ أولئك الذين يمتازون بالعمل الصالح، مضافاً إلى اعتقادهم بالمبدأ، والمعاد، وسائر أصول الدين.

وبناءً على ما مرّ، فإنّ من يمتلك الحسن الفاعليّ فقط وليس له أيّ حسن فعليّ فإنّه لا يكون مشمولاً بالبشارة بالجنّة؛ كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ يَأتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾[2]. إنّ جملة ﴿كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ معطوفة على ﴿آمَنَت﴾ وتعني: إذا كان للشخص إيمان (حسن فاعليّ) لكنّه لم يمارس أيّ عمل خير (حسن فعليّ)


[1]. سورة النحل، الآية 97.

[2]. سورة الأنعام، الآية 158.

تسنيم، جلد 2

568

فلن ينفعه الإيمان في مضمار النجاة من أصل العذاب، وهو يشبه الذي لم يؤمن، إلاّ في الخلود فهما مختلفان؛ وذلك لأنّ العمل الصالح هو بمثابة الغصن لشجرة الإيمان التي هي شجرة طوبى، وأنّ الاعتقاد هو بمنزلة جذرها، وما من شجرة تثمر من دون أغصان، حتّى وإن كانت جذورها حيّة.

كذلك فإنّ الذي يعمل عملاً صالحاً (الحسن الفعليّ) لكنّه يفتقر إلى الحسن الفاعليّ (الإيمان والنيّة الخالصة)، فهو لن يدخل الجنّة؛ كما لو مارس عمل الخير بدافع حبّ النوع، لا على خلفيّة الاعتقاد بالله ويوم الحساب. هذا على الرغم من تمتّع الشخص، في هذه الحالة، بالبركات الدنيويّة لهذا العمل، وإنّ مثل هذا العمل المفيد قد يكون مدعاة للتخفيف من عذابه في الآخرة.

أمّا السرّ في عدم كفاية الحسن الفعليّ بلا حسن فاعليّ لدخول الجنّة فهو أنّ الميزان والمعيار في تأثير العمل هو إرادة الإنسان ونيّته من وراء هذا العمل، فالشخص الذي يعتقد بأنّ حياة الإنسان إنّما تبدأ بالولادة وتُختم بالموت، وأنّه ما من شيء سيحدث بعد الموت: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾[1] فلن تكون نيّته وإرادته لما بعد الموت؛ إذن فإنّ عمله سيبقى في مستوى الدنيا، ولن يصل إلى العالم الآخر، وبعد نشأة الدنيا سيرى نفسه وحيداً؛ كما يقول القرآن الكريم في حقّ الكافرين: إنّ أعمال هؤلاء أشبه بسراب في صحراء حيث يحسبه الظمآن ماء: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ


[1]. سورة «المؤمنون»، الآية 37.

تسنيم، جلد 2

569

أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾[1]. فعندما تكون الأعمال العباديّة للكفّار، الذين كانوا يتخضّعون للأوثان، سراباً فإنّ نشاطاتهم الاجتماعيّة ستكون سراباً حتماً، وإن احتفظت بآثارها المادّية في الدنيا.

تنويه: 1. أحياناً، وبدلاً من قيدَي الإيمان والعمل الصالح، يذكر القرآن التقوى التي تجمع القيدَين؛ كما في الآية: ﴿لِلَّذِينَ ٱتَّقَواْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[2]؛ وذلك لأنّ غير المؤمن ليس بمتّقٍ، كما أنّ المؤمن غير العادل غير متّقٍ أيضاً. 2. لمّا كان محور الإيمان ومدار العمل الصالح معروفاً وقد بُيّن بشكل كامل في آيات أخرى سبقت في نزولها الآية محلّ البحث، فإنّه لم يُتطرَّق إلى شرح متعلَّق الإيمان والعمل الصالح في الآية مورد التفسير.

الصالحون ومالكيّة الجنّة

إنّ تعيين كمّية وكيفيّة الجنّة الخاصّة بكلّ فرد في عالم الآخرة هو أمر منوط بمستوى إيمانه ومقدار عمله الصالح. فيكون لبعضهم جنّة واحدة، ولبعضهم الآخر جنّتان: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾[3]، بل إنّ للبعض عدّة جنّات: ﴿لَهُم جَنّاتٌ﴾.


[1]. سورة النور، الآية 39.

[2]. سورة آل عمران، الآية 15.

[3]. سورة الرحمٰن، الآية 46.

تسنيم، جلد 2

570

إنّ أحد معاني اللام في ﴿لَهُم جَنّات﴾ هي المالكيّة، وبالإمكان تبرير كون الجنّة مملوكة من طريقين:

1. لقد رسم كلّ من القرآن والروايات الخطوط العامّة للعلاقة بين صاحب الجنّة وجنّته. وبملاحظة تلك الخطوط العامّة يتبيّن أنّ إرادة ساكن الجنّة حاكمة على الجنّة، وكلّ ما يشاء ساكن الجنّة فإنّه يوجَد بإرادته؛ مثلما أنّه بإرادة صاحب الجنّة تفجَّر عيون فيها: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾[1]. كلّ هذه النصوص تشير إلى أنّ الجنّة تكويناً محكومة من قبل صاحب الجنّة ومملوكة له. يقول أمير المؤمنين(ص) في هذا الصدد: «فاعل الخير خيرٌ منه، وفاعل الشرّ شرٌّ منه»[2]؛ لأنّ كلّ علّة هي أقوى من معلولها.

2. إنّ الإنسان المؤمن هو علّة ما يفعله من عمل الخير وهو مالكه التكوينيّ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾[3] وبما أنّ الجنّة هي عبارة عن ظهور العمل الصالح وتُعدّ تجلّياً له، فإنّ المؤمن هو علّة الجنّة ومالكها. بالطبع هناك اختلاف فيما يخصّ جهنّم؛ وهو أنّه، وإنْ كانت جهنّم هي حصيلة أعمال أصحاب النار ومعلولة لهم، إلاّ أنّ هؤلاء قد أوقعوا أنفسهم في أسر جهنّم وحصارها بسوء أعمالهم. وبناءً عليه، يكون هؤلاء محكومين لجهنّم: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[4]، ﴿وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ﴾[5]،


[1]. سورة الإنسان، الآية 6.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 32.

[3]. سورة البقرة، الآية 286.

[4]. سورة التوبة، الآية 49.

[5]. سورة البقرة، الآية 286.

تسنيم، جلد 2

571

﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾[1]؛ بالضبط كالذي خرّب بيته فوق رأسه وبقي تحت أنقاضه، فهو مقهور ومحكوم من قبل عمله، وليس حاكماً عليه.

تنويه: 1. كلّ ما يُطرح من أنماط الملكيّة في القيامة فهو من سنخ التكوين وليس من سنخ الاعتبار؛ لأنّ منطقة الاعتبار هي الدنيا فقط. 2. إنّ العلّة الحقيقيّة والمالك التكوينيّ الأصيل في الوجود بأسره، سواء في الدنيا أو في القيامة، هو الله سبحانه وتعالى، وإنّ العلّية الطوليّة للإنسان، ومالكيّته الرتبيّة فهي لا تتنافى معها.

تجسّد أعمال الصالحين في الجنّة

كلّما رُزق المؤمنون المتنعّمون في الجنّة من ثمارها فإنّهم يقولون: إنّ هذا هو عين ما رُزقنا به من قبل: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزقاً قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقنَا مِن قَبلُ﴾ وهذا غير الكلام الذي جاء في جملة: ﴿واُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً﴾؛ لأنّ مفاد الجملة الأولى هو أنّ أصحاب الجنّة يقولون: إنّ «هذا» هو ما رزقناه من قبل، لكنّ مفاد الجملة التالية لها هو أنّ أصحاب الجنّة يُعطَون ثماراً ونعماً «متشابهة»، وبالنظر إلى أنّه لا يمارَس في الجنّة أيّ عمل عبثيّ، ولا يُتكلَّم فيها بأيّ لغو، ولا يُقترف فيها أيّ إثم؛ إذ ﴿لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأثِيمٌ﴾[2]، لأنّه لا مجال أساساً للكذب ونسج الخيال في نشأة ظهور الحقائق، كما أنّه بالالتفات إلى كون الإنسان ما لم يطهُر من اللغو


[1]. سورة الإسراء، الآية 8 .

[2]. سورة الطور، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

572

والمعاصي، فهو لن يدخل الجنّة: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾[1]، بناءً على ذلك، لابدّ من تبيين المقصود من كلام أصحاب الجنّة هذا[2].

والكلام هنا أنّه في الجنّة، وهي الخالدة والغير المحدودة: ﴿لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ﴾[3]، لماذا كلّما اُعطي أصحابها فاكهة كرّروا هذا القول: ﴿هٰذا الَّذِي رُزِقنَا مِن قَبلُ﴾؟ علاوة على أنّ النعم المعطاة لهم ليست هي «عين» النعم السابقة؛ لأنّ عينها قد استُهلكت، وما من شيء له تعدّد في عين الوحدة إطلاقاً، بل هي «مثلها».

عدّ بعض المفسّرين هذه الجملة والجملة التالية: ﴿واُتوا به متشابهاً﴾ أنّهما بمعنى واحد، وقالوا: إنّ أهل الجنّة يخالون أنّ الفاكهة التي يُرزقونها في الجنّة هي نفس ما كان لديهم في الدنيا[4]. لكنّ هذا القول ليس صائباً؛ وذلك لأنّه لا مجال لنسج الخيال والقول الباطل في الجنّة التي هي نشأة ظهور الحقائق. وبناءً على ذلك، فإنّ كلام أهل الجنّة حقّ، والقرآن الكريم قد أيّد ذلك أيضاً. إذن فإنّ الجملة التالية هي بشارة منفصلة.

هناك ثلاثة آراء حول عبارة ﴿مِن قَبْل﴾ في كلام أصحاب الجنّة:

1. إنّ المراد منها هو الجنّة؛ بمعنى أنّه كلّما اُسبغ على أهل الجنّة بنعمة، يقولون: لقد اُنعم علينا سابقاً في الجنّة بهذه النعمة. وفي ردّ الذين


[1]. سورة الأعراف، الآية 43.

[2]. يُفهم ممّا جاء في آخر الآية من البشارة بالخلود أنّ الحديث هو حول جنّة القيامة، لا جنّة البرزخ؛ لأنّ البرزخ هو بين الدنيا والقيامة الكبرى وليس هو مكاناً للخلود: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، (سورة «المؤمنون»، الآية 100).

[3]. سورة الواقعة، الآية 33.

[4]. راجع التفسير الكبير، مج1، ج2، ص142.

تسنيم، جلد 2

573

يُشكلون: بأنّ النعم التالية ليست هي عين النعم السابقة، فهم يقولون: إنّ كلمة «هذا» تفيد الوحدة النوعيّة؛ أي إنّ هذه الثمار هي غالباً من ذلك النوع الذي اُعطينا إيّاه في الجنّة[1].

هذا الرأي يخالف ظاهر الآية؛ لأنّ الظاهر أنّ «هذا» تدلّ على الوحدة الشخصيّة. كما أنّه ليس هناك من قرينة أو شاهد على الدلالة على الوحدة النوعيّة. أضف إلى ذلك أنّ أهل الجنّة قد قالوا نفس هذا القول عند تلقّيهم لأوّل نعمة في الجنّة؛ إذ أنّ «كلّما» ناظرة إلى حال البقاء وحال الحدوث معاً. إذن ممّا يلزم من صدق القضيّة الموجبة الكلّية هو أن نستثني المرّة الأولى، والحال أنّه لا دليل على الاستثناء.

2. من المحتمل أن يكون المراد من «من قبل» هو البرزخ[2]. وهذا الاحتمال هو أيضاً عار عن الصحّة؛ لأنّه:

أ: لقد عُرّف البرزخ في العديد من الآيات القرآنيّة على أنّه الدهليز المؤدّي إلى الآخرة وأنّه جزء منها، وإنّ العالم يقسم إلى قسمين اثنين هما الدنيا والآخرة. إذن فالبرزخ هو جزء من الآخرة وهو في مقابل الدنيا، لا أنّه في مقابل الدنيا والآخرة، وبناءً عليه فجنّة البرزخ حكمها حكم جنّة القيامة الكبرى.

ب: من غير المعلوم أنّ جميع الثمار التي يُرزق أصحاب الجنّة منها في الجنّة الكبرى يرزقون منها في البرزخ أيضاً، والحال أنّ الآية محلّ البحث تقول بصيغة القضيّة الموجبة الكلّية: إنّه كلّما اُعطيت الفاكهة في الجنّة لأصحابها فإنّهم يقولون: لقد رُزقنا هذا من قبل، والبرزخ أساساً،


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص141.

[2]. الفرقان، ج1، ص247.

تسنيم، جلد 2

574

كما أنّه نموذج من العذاب لأصحاب النار، وليس «أشدّ العذاب» لهم، فإنّه لأصحاب الجنّة كذلك فهو يعدّ نموذجاً من نعم الجنّة والتنعّم بها، وليس التنعّم الكامل والنهائيّ.

ج: أصحاب الجنّة يلتذّون بقول هذا الكلام، ولا يمكن تصوير هذه اللذّة إلاّ إذا كانوا يتحدّثون عن الدنيا، لا عن البرزخ؛ إذ لا لذّة في قولهم: لقد رُزقنا هذه الثمار في البرزخ أيضاً، لكنّه عندما يرِد المؤمن الجنّة ويشاهد أعماله على هيئة فاكهة ويقول: لقد كان لنا هذا الرزق في الدنيا، فإنّ كلاماً كهذا سيبعث اللذّة في نفسه.

3. المراد من قوله: ﴿من قبل﴾ هو الدنيا[1]. وهذا الاحتمال ينسجم مع ظاهر الآية؛ لأنّ عمل الإنسان، حسب الرؤية القرآنيّة، هو حيّ، وهو يحضر عنده في الآخرة: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾[2].

فالقرآن الكريم يقول من باب الحصر: ما جزاء الإنسان إلاّ عمله: ﴿وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[3]. كما يقول أيضاً في مواضع أخرى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّىٰ‏ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾[4]، ﴿مَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾[5]، ﴿إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾[6].


[1]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص229.

[2]. سورة آل عمران، الآية 30.

[3]. سورة يٰس، الآية 54.

[4]. سورة البقرة، الآية 281.

[5]. سورة البقرة، الآية 174.

[6]. سورة النساء، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

575

إذن فعمل الإنسان خالد مثله، ولمّا كانت ثمار الجنّة هي تجلّيات لنفس هذه الأعمال، فإنّه كلّما نال أصحاب الجنّة فيها ثمراً اكتشفوا أنّ هذه الثمار هي عين تلك العقيدة، والأخلاق، والعمل الصالح التي رزقهم الله إيّاها في الدنيا، والآن هم يشاهدونها على هيئة تلك الثمار. بناءً على ما مرّ، فإنّ الآية هي في صدد بيان تجسّم الأعمال. بالطبع، إنّه بالإضافة إلى ظهور أعمال ابن آدم في الجنّة على شاكلة فاكهة فردوسيّة، فإنّ الفيض والفضل الإلهيّين أيضاً سيشملان المؤمنين: ﴿لَهُم مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾[1].

بالنظر إلى أنّ المراد من ﴿من قبل﴾ هو الدنيا، وأنّ المقصود من الثمار هو العقيدة الحقّة، والأخلاق الحسنة، والعمل الصالح التي جُعلت من نصيب أهل الإيمان في الدنيا، فإنّه ستتّضح الإجابة على السؤال القائل: كيف لساكن الجنّة أن يقول مقابل النعم التي لم يُسبق بها في الدنيا: هذا ما رُزقنا به في الماضي، أو حتّى لو كانت النعم متوفّرة في الدنيا، لكنّه كيف يتسنّى لصاحب الجنّة، وهو الذي كان محروماً من تلك النعم في الدنيا، أن يقول عندما يُرزق بها: هذه هي ذات النعمة التي حبانا الله بها في الدنيا. والجواب هو: إنّ نعم الجنّة هي ظهور وتجسّم تلك العقائد، والأخلاق، والأعمال الصالحة التي كانت لأهل الجنّة في الدنيا؛ مثلما تتجسّد عقائد أهل النار، وأخلاقهم، وأعمالهم بصورة عذاب أليم لهم: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[2]، ﴿وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا


[1]. سورة ق، الآية 35.

[2]. سورة التحريم، الآية 7.

تسنيم، جلد 2

576

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[1]؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في الآية الأخيرة: «ذوقوا عملكم أنتم»، ولم يقل: «بما كنتم تعملون».

إنّ الوجه الذي ذُكر هو أكثر الوجوه مناسبة في تبيين المراد من: ﴿هذا الذي رُزِقنا مِن قَبلُ﴾، أمّا احتمال كون المقصود منه هو أنّ رزق العشيّ مشابه لرزق الغداة[2]، فهو غير صحيح؛ لأنّه وإن كان للغداة والعشيّ تمثّل في الجنّة البرزخيّة، إلاّ أنّه لا حديث عن تمثّل هذين الوقتين المختلفين في جنّة القيامة الكبرى؛ كما أنّ تفسيرها بنموّ الفاكهة المماثلة محلّ الفاكهة المقطوفة[3]، طبقاً لحديث مرويّ عن رسول الله(ص) في هذا الصدد، فهو غير تامّ؛ لأنّه، حسب التحليل السابق، فإنّ العبارة المذكورة أعلاه تصدُق أيضاً حتّى على الدفعة الأولى من الثمر، في حين أنّها لا تكون مسبوقة بفاكهة مماثلة.

إنّ قول أصحاب الجنّة إزاء كلّ نعمة يُرزقونها: هذا ما رُزقناه من قبْل في الدنيا، ما هو إلاّ ثناءً على الله؛ فهم يشكرون الله عزّ وجلّ حيث وفى بوعده معهم: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾[4]، كما أنّ استخدام أهل الجنّة لعبارة ﴿رُزِقْنا﴾ في هذه الجملة هو من باب التأدّب؛ فهم يقولون: إنّ هذا الثمر هو ذلك العمل الصالح الذي وفّقنا «الله» لأدائه في الدنيا، ولا يقولون: إنّ هذا هو ثمرة ونتاج ما قمنا «نحن» به من عمل.

أمّا السرّ وراء التكرار المستمرّ لهذه الجملة من قبل أهل الجنّة فهو


[1]. سورة العنكبوت، الآية 55.

[2]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص115.

[3]. راجع الكشّاف، ج1، ص109.

[4]. سورة الزمر، الآية 74.

تسنيم، جلد 2

577

أنّ اقتضاء فاكهة الجنّة دائميّ: ﴿اُكُلُهَا دَائِمٌ﴾[1]، وليس لها نهاية ولا منع من الخارج: ﴿لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ﴾[2]. بناءً على ذلك، ففي كلّ مرّة ينال أصحاب الجنّة فيها هذه النعمة تراهم يثنون على الله ويشكرونه.

وبالالتفات إلى ما اُورد في توضيح هذا القسم من الآية الكريمة فإنّه تتوضّح أيضاً كيفيّة كون هذا الأمر بشارة بالنسبة لأهل الإيمان؛ فالله ـ في الحقيقة ـ يبشّر المؤمنين بأنّهم سيَحُلّون، إلى الأبد، ضيوفاً على مائدة عقيدتهم الصحيحة، وأخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وسيقطفون على الدوام ثمراً لذيذاً يانعاً من شجر صلاحهم.

الأزواج المطهّرة

إنّ لمؤمني الجنّة فيها أزواجاً طاهرات، وطهارة أزواج الجنّة تكمن في أنّهن مطهّرات من كلّ نقص، بما في ذلك العادة الشهريّة التي تُبتلى بها نساء الدنيا. وأساساً فإنّ الجنّة هي مكان للطهارة، فكما أنّ نساء الجنّة هنّ أزواج مطهّرات، فلابدّ لرجال الجنّة أن يكونوا مطهّرين أيضاً: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾[3]، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾[4]. إذن إذا كان في قلب المؤمن غلّ وغشّ فلابدّ من تطهيره في البرزخ، كي يشقّ طريقه، بعد سلامة القلب الكاملة، إلى الجنّة التي هي دار السلام: ﴿وَاللهُ


[1]. سورة الرعد، الآية 35.

[2]. سورة الواقعة، الآية 33.

[3]. سورة النور، الآية 26.

[4]. سورة الحجر، الآية 47.

تسنيم، جلد 2

578

يَدْعُواْ إِلَىٰ‏ دَارِ السَّلاَمِ﴾[1]. فالقلب الذي يكون مليئاً بالحقد على مؤمن، أو مأوى للحسد، أو الكبر، أو ما شابه ذلك فهو ليس بقلب سليم ولن يرد إلى دار السلام.

الخلود في الجنّة والنار

إنّ إثبات الخلود لأهل الجنّة ليس بالأمر العسير؛ كما أنّ إثباته بالنسبة لأصحاب النار ليس بالأمر اليسير. من هنا فقد اختلف العلماء حول خلود أهل النار في جهنّم؛ فالبعض، من أمثال المعتزلة الذين عدّوا الخلود بمعنى «الأبديّة»، فإنّهم يستدلّون بما يلي: إنّ الله عزّ وجلّ يقول لنبيّه الأكرم(ص): ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾[2]؛ أي «إنّنا لم نمنح الخلود في عالم الطبيعة لأيّ أحد من قبلك». فلو كان المراد من الخلود هو «المكث الطويل» و«العمر المديد» لانتقض ادّعاء هؤلاء بالنسبة لأصحاب الأعمار الطويلة كنبيّ الله نوح(ص) حيث أنّ فترة نبوّته فقط قد استغرقت 950 سنة: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾[3]. إذن فالمراد من الخلود هو الأبديّة.

أمّا دليل المعتزلة الآخر فهو: إذا لم يكن هناك خلود في الجنّة وإنّ صاحب الجنّة سوف يُخرج منها بعد مدّة من السكنى فيها، فسيكون دائماً أسير الغمّ وجليس الحزن، وكلّما زِيد في نعمه في الجنّة زاد حزنه


[1]. سورة يونس، الآية 25.

[2]. سورة الأنبياء، الآية 34.

[3]. سورة العنكبوت، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

579

وغمّه؛ بسبب ما يساوره من خوف الفراق؛ والحال أنّ الجنّة ليست مكاناً للحزن. فالمؤمن في الجنّة لا يذكر حتّى أرحامه من المجرمين المعذَّبين في جهنّم إذ أنّ ذكراهم هي من موجبات حزنه وغمّه.

في مقابل المعتزلة، يعتبر الأشاعرة أنّ الخلود هو «المكث الطويل» مستدلّين بأنّه: لو كان الخلود بمعنى «الأبديّة» لحُذفت كلمة «أبداً» من آيات من قبيل: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾[1]، لأنّ ذكرها سوف يكون لغواً.

إنّ دليل الأشاعرة ـ على فرض تماميّته ـ يستلزم عدم إمكان إثبات الخلود من خلال الآيات التي تخلو من القيد «أبداً»، أمّا في الآيات الأخرى التي تشتمل على هذا القيد فإنّه يمكن إثبات الخلود بها، وفي الحقيقة فإنّ طريق الاستدلال هو الذي يتغيّر، وليس أصله. أضف إلى ذلك أنّ الجنّة قائمة على اللطف، وليس هناك من إشكال إذا جازى الله عزّ وجلّ الإنسانَ جزاءً غير محدود على طاعته له لمدّة قصيرة ومحدودة.

إنّ الجانب المهمّ من الإشكال هو حول الخلود في جهنّم، والإشكال هنا هو: لماذا يبقى الإنسان محترقاً في جهنّم إلى الأبد مقابل عصيانه الله لمدّة قصيرة في الدنيا؟ وكيف لهذا الأمر أن ينسجم مع العدل الإلهيّ؟

والجواب هو: صحيح أنّ أهل النار، بسبب محدوديّة أعمارهم، لم يعصوا الله إلاّ فترة قصيرة ولهذا فإنّ ذنوبهم محدودة هي الأخرى، لكنّهم كانوا يبيّتون النيّة في أن لا يقلعوا عن ارتكاب المعاصي ما داموا موجودين في الدنيا.


[1]. سورة النساء، الآية 57.

تسنيم، جلد 2

580

وليس المراد من النيّة في مبحث الخلود هو القصد والإرادة كي يُشكَل بأنّ الله لا يعذّب أحداً بمجرّد نيّة المعصية، بل المراد من النيّة هنا هو الاعتقاد والشاكلة التي يعمل الإنسان على أساسهما: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ‏ شَاكِلَتِهِ﴾[1]. إذن فمحور العقاب والثواب الأبديّ هو عقيدة الإنسان ورؤيته الكونيّة، وليس عمل أعضائه وجوارحه، ولمّا كانت العقيدة الراسخة موجوداً مجرّداً وثابتاً، فإنّ ثمرتها أيضاً تكون دائميّة.

تأسيساً على ذلك، بالنسبة إلى الكافر فإنّ المعصية ـ جرّاء كفره الذي هو من أعظم كبائر الذنوب ـ تُسجّل له بشكل متواصل، وإنّ الذنب العمليّ للكافر يضاف إلى ذنوبه العقائديّة. وفي المقابل، فبالنسبة للمؤمن فإنّ الثواب ـ جرّاء عقيدته التوحيديّة ـ يُكتب له بصورة دائميّة وإنّ أعماله الصالحة تُضاف إلى أنواع ثوابه، وإلاّ فهو يعاقَب على معاصيه العمليّة ومن ثمّ يدخل الجنّة.

فالشخص الذي يخاطب نبيّ الله بدافع رؤيته المنحرفة قائلاً: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾[2]، فإنّه لو بقي في الدنيا إلى الأبد فسوف يعيش بهذه العقيدة وهذه الرؤية الكونيّة الشنيعة؛ حتّى أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في هؤلاء: لقد ترسّخ الكفر في قلوبهم بحيث لو أنّهم شاهدوا بأمّ أعينهم أخطاراً من قبيل الموت، وضغطة القبر، والبرزخ، والسقوط في نار جهنّم، فإنّهم سيعودون إلى ارتكاب المعاصي إذا رجعوا إلى الدنيا: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ النَّارِ فَقَالُواْ يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ


[1]. سورة الإسراء، الآية 84 .

[2]. سورة الشعراء، الآية 136.

تسنيم، جلد 2

581

نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَا كَانُواْ يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾[1].

وكما سبقت الإشارة إليه، فإنّ أرواح الكفّار مجرّدة وغير قابلة للزوال، وإنّ الكفر أيضاً هو وصف قلبيّ وغير قابل للزوال، ولهذا السبب فهم يحترقون في جهنّم إلى أبد الآبدين؛ حيث تحترق قلوبهم: ﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَىٰ الأَفْئِدَةِ﴾[2] وأبدانهم: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾[3] على حدّ سواء. والحاصل انّ الخلود ثابت لذلك الأمر الخالد، وليس للعمل المحدود للجوارح. من هذا المنطلق، يمكننا أيضاً إثبات خلود أصحاب الجنّة من خلال هذا الدليل نفسه.

لطائف وإشارات

[1] اتّحاد الإنسان مع العقيدة، والخُلق، والعمل

كما يقول القرآن الكريم في أصحاب النار: ﴿وَقُودُها النَّاسُ﴾ فإنّه يقول أيضاً في أصحاب الجنّة: إنّ صاحب الجنّة هو روح الجنّة وريحانها: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾[4]، وليس هناك من حاجة إلى التقدير والمجاز في الكلمة، وبالطبع إنّ هذا المعنى مؤيَّد


[1]. سورة الأنعام، الآيتان 27 و28.

[2]. سورة الهُمزة، الآيتان 6 و7.

[3]. سورة النساء، الآية 56.

[4]. سورة الواقعة، الآيتان 88 و89 .

تسنيم، جلد 2

582

بالبرهان العقليّ؛ لأنّ الجنّة هي لصاحب الجنّة، والمقام هو لصاحب المقام. فصيرورة المرء روحاً وريحاناً هو وصف وهو تحت تصرّف صاحبه. وكما أنّ العقيدة هي تحت تصرّف صاحب العقيدة، فإنّ العمل والخُلق هما تحت تصرّف صاحبهما أيضاً، وفي هذا المضمار فإنّ حديث: «أنا مدينة الحكمة وهي الجنّة وأنت يا عليّ بابها»[1] هو ممّا يسترعي الاهتمام.

بناءً على ذلك، كما أنّ الإنسان متّحد مع العقيدة، فهو أيضاً متّحد مع الخُلق والعمل؛ إذ أنّ الموضوع والمحمول متّحدان مع بعضهما في محور المحمول، وليس فقط في مقام ذات الموضوع؛ مثلاً، عندما يُقال: «زيد مؤمن»، «زيد عادل»، «زيد مُصلّ» فإنّ كلاًّ من المحمولات الثلاثة متّحدة مصداقاً مع زيد الذي هو الموضوع؛ وإن كان الأوّل متّحداً معه في مرحلة العقيدة، والثاني في مرحلة الخُلق، والثالث في مرحلة العمل، وهناك رابطة حقيقيّة في جميعها، وهذا الإسناد والربط هما على خلاف الروابط الاعتباريّة، وإنّ تعيين مدار الاتّحاد ـ كما تمّت الإشارة إليه ـ يقع على عاتق المحمول، وليس الموضوع ليكون هناك ارتباط بين الموضوع والمحمول بالاعتبار.

بطبيعة الحال إذا لم يكن المرء محجوباً أو مشغولاً، فإنّه سيدرك لذّة أو ألم كلّ ما هو معتقد ومتخلّق وعامل به في الدنيا. لقد كان التذاذ الأئمّة(ع) والخواصّ من تلامذتهم بعبادتهم من الشدّة بحيث أنّهم ما كانوا يرغبون في انتهائها فكانوا يقولون: «لو لم يكن عمر الدنيا سوى


[1]. الأمالي للصدوق، ص317؛ وبحار الأنوار، ج40، ص201.

تسنيم، جلد 2

583

ليلة واحدة لقضيناها كلّها في السجود أو الركوع»[1]. هذا النمط من رفع الحجاب ليس ميسّراً للكافرين في الدنيا، إلاّ أثناء قبض الروح، أمّا بالنسبة للمؤمنين فإنّ رفع الحجاب ممكن لهم في الدنيا، وإذا لم يدرك البعض لذّة العقائد الصحيحة، أو الأخلاق الحسنة، أو الأعمال الصالحة فهو جرّاء اشتغالهم المتواصل بالأمور الدنيويّة. يقول الإمام السجّاد(ص): «وأنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك‏»[2].

[2] اُصول الدين والإنذار والتبشير في الآيات 21 ـ 25

تُعرّف أصول الدين بأنّها التوحيد، والنبوّة، والمعاد، والعناصر المحوريّة المرتبطة بهذه الأركان. في الآيات المذكورة تطرّق القرآن الكريم أوّلاً لذكر التوحيد، ومن ثمّ النبوّة، وبعد ذلك المعاد؛ وإن كان المعاد هو ذات الرجوع إلى المبدأ وهو ـ من وجه ـ مقدَّم على النبوّة، إلاّ أنّه في مقام الظهور الفعليّ في الخارج فإنّه سيظهر بعد النبوّة؛ كما أنّ التعرّف على الكثير من مسائله مرهون بوحي النبوّة؛ لأنّ العقل وإن كان يدرك خطوط المعاد العامّة، بيد أنّ التعرّف على معظم أحداث جهنّم الأليمة، وأمور الجنّة العذبة هو رهن بإخبار الوحي. من هذا المنطلق، فبعد إثبات إعجاز القرآن من جهة، وإثبات رسالة النبيّ الأعظم(ص) من جهة اُخرى، يعرّج الباري عزّ وجلّ على المعاد، ولامتزاج لطف الله وعنفه، وكذلك


[1]. راجع كتاب «شرح حالات اُويس قرني»، (وهو بالفارسيّة).

[2]. مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، ص525؛ ومفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثماليّ.

تسنيم، جلد 2

584

قهر الحقّ وعطفه، فإنّه يُطرح التبشير والإنذار، ويقدّم الوعد والوعيد متقارنين من خلال إظهار المعاناة في النار والالتذاذ في الجنّة. ومن هنا، فإنّه بعد الإنذار بالنار، التي وقودها الناس والحجارة، يأتي الدور إلى البشرى بالجنّة.

[3] أسمى بشارات الجنّة

على الرغم من أنّ الرسالة الجامعة للتبشير في جميع موارده هي إيجاد السرور والنشاط، إلاّ أنّ الاختلاف في الانبساط والمسرّة هو رهن باختلاف عناصره المحوريّة؛ لأنّ التبشير يحوز على الاهتمام تارة بسبب أهمّية موضوعه، واُخرى بلحاظ الزمان أو المكان أو سائر أعراضه الجانبيّة، وتارة يمتاز بخصوصيّة معيّنة بلحاظ مبدئه الفاعليّ، أي الشخص المبشِّر. فالبشارة بالجنّة تأتي حيناً على لسان عالِم الدين، ومربّي النفوس، ومعلّم الأخلاق، وحيناً آخر على لسان الإمام المعصوم(ص)، وحيناً ثالثاً على لسان الرسول الأكرم(ص)، وأخيراً قد تصدر من الذات الإلهيّة المقدّسة. وفي هذه الحالة لا يرقى أيّ تبشير بلحاظ مبدئه الفاعليّ إلى أهمّية هذا الإخبار المفيد النافع.

البشارات التي يعرض لها القرآن الكريم لا يشبه بعضها البعض الآخر؛ والسبب في ذلك هو أنّ المبشِّرين غير متساوين، وإنّ ما يُستشفّ من هذه الآيات: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾[1]،


[1]. سورة آل عمران، الآية 45.

تسنيم، جلد 2

585

و﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ‏ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً﴾[1]، و﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾[2] ونظائرها لا يُستفاد أبداً من آيات التبشير الأخرى نظير الآية محطّ البحث؛ ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات هو ذاته المطروح كمبشِّر، بينما في الآية محلّ البحث فإنّ الله عزّ وجلّ يأمر الرسول الأعظم(ص) أو إنساناً واعياً آخر بالتبشير. بالطبع إنّ التبشير الصادر من عباد الله هو تبشير إلهيّ بالواسطة، إلاّ أنّ طريقة التعبير مهمّة؛ كما يُستظهر من التعبير القرآنيّ شمول جماعة معيّنة بلطف إلهيّ خاصّ وهو كونهم عباداً لله؛ نظير الآية: ﴿وَأَنَابُواْ إِلَىٰ اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ‏ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[3].

[4] الأنماط المختلفة في تبيين المعاد

المعاد يشبه التوحيد من بعض الجهات؛ أي إنّ الفطرة الإنسانيّة لا تفتي إطلاقاً بزوال الإنسان وفنائه، ولا تحكم أبداً بعبثيّة النظام الكونيّ، أو ببطلان اتّساع الخلقة، ولا تُدلي برأيها بتاتاً لصالح المساواة بين الموحّد والملحد، أو التماثل بين العادل والظالم، وأمثال ذلك. إنّ محكمة العدل وطاولة قضاء الحقّ منصوبتان قهراً وسيُنظر بالقضايا، ولمّا لم تكن مثل هذه المحاكمة العادلة ميسورة في الدنيا، فستحصل في الحياة ما بعد الموت. هذا المعنى


[1]. سورة آل عمران، الآية 39.

[2]. سورة التوبة، الآية 21.

[3]. سورة الزمر، الآيتان 17 و18.

تسنيم، جلد 2

586

موجود إجمالاً في سويداء قلب كلّ صاحب قلب. على هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم يعبّر عن المعاد ـ كما يعبّر عن المبدأ ـ بأنحاء مختلفة. فأحياناً يذكره من دون ذكر الدليل؛ كما في الآية محلّ البحث، وأحياناً أخرى مع القَسَم؛ مثل: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنْ لَنْ يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ‏ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾[1]، وتارة من خلال إقامة البرهان. القسم الأخير ينقسم بسبب تنوّع البراهين إلى أقسام متعدّدة بحسب تعدّد الحدود الوسط، وسيُصار إلى بيان كلّ قسم في محلّه المناسب.

[5] كون الجنّة والنار مخلوقين

لقد بُيّنت حقيقة كون جهنّم مخلوقة من خلال جملة ﴿اُعدّت للكافرين﴾ وأمثالها، وناهيك عن جملة ﴿اُعدّت للمتّقين﴾ المبيَّنة سلفاً، فإنّ كون الجنّة مخلوقة يُستظهَر من جملة ﴿أنّ لهم جنّات﴾ أيضاً؛ لأنّ الخطاب الذي توجّهه الجملة الأخيرة يفيد بأنّ الجنّة هي الآن تحت تصرّف المؤمنين الصالحين، لا أنّها معدومة في الوقت الحاضر وستُمَلَّك للمؤمن الصالح بعد خلقها. إذ أنّ ظاهر الجملة المذكورة هو الملكيّة بالفعل وأنّ مالكها هو موجود بالفعل أيضاً، لذا لابدّ أن يكون المملوك موجوداً بالفعل كذلك.

تنويه: أ: إنّ توقّف بعض آثار الجنّة على أعمال المؤمنين الصالحة في الدنيا لا يتنافى مع أصل وجود بلاد الجنّة وعناصرها الأساسيّة، وإنّ ما تمّت مشاهدته أثناء المعراج يؤيّد هذا المدّعَى.


[1]. سورة التغابن، الآية 7.

تسنيم، جلد 2

587

ب: يُطرح الاحتمال التالي أحياناً في تفسير عبارة ﴿اُعدّت للكافرين﴾: وهو أنّ ضمير التأنيث يعود إلى «الحجارة»، لا إلى «النار»[1]. بناءً على ذلك لا يمكن الاستدلال من خلال عنوان الإعداد على وجود النار الفعليّ؛ ذلك أنّه على هذا الفرض، فإنّ «الحجارة» هي المُعدّة، وليست «النار»؛ بيد أنّ هذا الاحتمال، وإن أيّده القرب اللفظيّ لمرجع الضمير، فهو يُضعّف بلحاظ البعد المعنويّ له؛ لأنّ المحور الأساسيّ للبحث هو «النار»، لا «الحجارة»، وإنّ كلّ ما طُرح من خصوصيّات فهو بحقّ النار، لا بحقّ حجارة جهنّم. من ناحية أخرى فإنّ الآية: ﴿وَٱتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[2] تعتبِر بصراحة أنّ مرجع الضمير هو «النار»، وليس شيئاً آخر؛ لأنّه لا وجود لشيء آخر غير النار في الآية كي يتمتّع بصلاحيّة إرجاع ضمير التأنيث له.

[6] سرّ استخدام التعبير الخاصّ لأنهار الجنّة

إنّ الظاهر من الجملة ﴿أنّ لَهُم جَنَّات﴾ هو أنّ حديقة الجنّة هي ملك لساكن الجنّة، ولمّا كان المِلك تحت تصرّف المالك، فإنّ ما يوجد في الجنّة من أشجار وأنهار ستكون تحت تصرّف ساكن الجنّة من باب الملكيّة. ولعلّ هذا الأمر هو الذي دفع إلى التعبير عن جريان أنهار الجنّة بأنّها «تحت» الجنّات تارة: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾[3]، وبأنّها تحت


[1]. رحمة من الرحمن، ج1، ص80 (الهامش).

[2]. سورة آل عمران، الآية 131.

[3]. سورة التوبة، الآية 100.

تسنيم، جلد 2

588

أصحاب الجنّة تارةً أخرى: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾[1]. بالطبع كما يحتمل بإنّ المراد من كون الأنهار تحت أصحاب الجنّة هو أنّها تحت تصرّفهم النابع من مالكيّتهم لها، فإنّه من المحتمل أيضاً أنّ المراد منه هو جريانها تحت قصورهم وغرفهم المبنيّة؛ مثلما أنّ ذات هذين الاحتمالين مطروحان بخصوص جريان الأنهار تحت المتكاثرين من الطغاة الذين يكنزون الذهب: ﴿وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾[2]، ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾[3]. وبالإمكان الاستظهار من التعابير المختلفة أنّ جريان النهر من تحت أشجار الجنّة يكون وفقاً لإرادة صاحب الجنّة؛ كما أنّ سكونها، في حال اللزوم، يكون بإرادته أيضاً: ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا﴾[4].

[7] العامِلان المسؤولان عن خضرة الجنّة

بما أنّ خضرة الجنّة وأيّ بستان آخر تتوقّف على وجود الماء المناسب من ناحية، وجريان الماء بين طبقاتها من ناحية أخرى، فنحن نرى في العديد من آي القرآن الكريم التي تتحدّث عن مزايا الجنّة أنّه يتمّ طرح هاتين الخصيصتين بحيث إنّ إحداهما تمتّعها بالماء المناسب، والاُخرى جريانه تحت بساتينها. بطبيعة الحال إنّ بعض الآيات تكتفي بذكر أصل


[1]. سورة الأعراف، الآية 43؛ وسورة يونس، الآية 9؛ وسورة الكهف، الآية 31.

[2]. سورة الأنعام، الآية 6.

[3]. سورة الزخرف، الآية 51.

[4]. سورة هود، الآية 41.

تسنيم، جلد 2

589

الجنّة، ولا تتطرّق إلى النهر؛ بيد أنّ نفس هذا المضمون يأتي في الآيات الاُخرى مصحوباً بجريان النهر.

[8] خفاء الجنّة واحتجابها

إنّ مفردة الجنّة تحكي الاختفاء والاستتار. فاستتار الجنّة يكون حيناً بلحاظ أشجارها الكثيفة المكتظّة وأغصانها المتشابكة الملتفّة على بعضها، وحيناً آخر فإنّها ـ بلحاظ منزلتها ومقامها المكنونَين ـ لا تكون معروفة لدى عقل صاحب الرأي أو مشهودة لقلب صاحب البصيرة: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1]. والغرض، هو أنّ بعض مراحل الجنّة العالية تكون مستورة عن عقل الحكيم أو قلب العارف، فما بالك بالآخرين، وإنّ بعض مراحلها الأخرى، وإن كانت معلومة نظريّاً للحكيم أو بصريّاً للعارف، إلاّ أنّ معظم مزاياها متوارية خلف حجاب الاستتار، وتظلّ مستورة وغير مشهودة حتّى ما قبل الشهود العينيّ، وبعد الورود فيها، وبالرغم من خروجها من الكنان بالنسبة لنفس صاحب الجنّة، إلاّ أنّها تظلّ مستترة ومحتجبة وراء حجاب نوريّ بالنسبة لغيره ممّن يكون في درجة وجوديّة أدنى من تلك التي له.

تنويه: إنّ أهمّ النعم الحسّية هي المسكن والمطعم والمنكح، وقد اُشير إلى هذه النعم الأصيلة الثلاث من خلال إثبات أصل الجنّة وطعامها والأزواج التي فيها.


[1]. سورة السجدة، الآية 17.

تسنيم، جلد 2

590

[9] المراتب الوجوديّة للنعم

افتى بعض الأقدمين ـ جرّاء الغفلة عن حقيقة التشكيك ـ بالاشتراك اللفظيّ بين أسماء النعم الخاصّة بالجنّة وتلك التي للدنيا، وقد قالوا، طبقاً لنقل الطبريّ والزمخشريّ والآخرين: لا يشبه شي‏ء ممّا في الجنّة ما في الدنيا إلاّ «الأسماء»؛ أي إنّها تتشابه في اللفظ والاسم فحسب، لا في المعنى والمحتوى؛ وذلك لأنّ ذواتها متباينة[1]. في حين أنّه يمكن أن يكون للشيء الواحد درجات وجوديّة مختلفة، وأن تتحقّق له وجودات متعدّدة في مراتب الطبيعة، والمثال، والعقل، و... الخ؛ سواء كان المنتزَع من تلك الوجودات الطوليّة هو الماهيّة أو المفهوم. بالطبع فإنّه بلحاظ المبدأ القابليّ هناك اختلاف كبير بين نعمة الجنّة، كالثمر، وبين تلك التي للدنيا؛ ذلك لأنّ ثمار الجنّة هي حصيلة شجرة الصلاة والصوم وباقي الأعمال الصالحة الأخرى أمّا ثمار الدنيا فهي من محصول الشجر القائم على الماء، والتربة، والسماد، والهواء، والنور الفيزيائيّ؛ إلاّ أنّ أصل الوجود ـ الذي له درجات طبيعيّة، ومثاليّة، وعقليّة، وإلهيّة ـ فهو عندما يكون بحاجة إلى علّة، فإنّه يكون متقوّماً بالمبدأ الفاعليّ، وإنّ التقوّم بالمبدأ القابليّ ليس له دخل في حقيقة أيّ موجود من جهة أصل وجوده، بل إنّه يرجع إلى خصوصيّة المورد.

[10] الطائفون في حريم أهل الجنّة

جاء في الآية مورد البحث فعلان مبنيّان للمجهول فاعل أحدهما معلوم


[1]. جامع البيان، ج1، ص228؛ والكشّاف، ج1، ص109.

تسنيم، جلد 2

591

وفاعل الآخر هو محلّ بحث؛ فالفعل المبنيّ للمجهول الذي فاعله معلوم هو ﴿رُزِقُوا﴾ حيث إنّ فاعله (أي الرازق) معلوم وهو الله سبحانه وتعالى، أمّا الفعل الآخر المبنيّ للمجهول الذي لا يُعلم فاعله فهو ﴿اُتُوا﴾ حيث إنّ فاعله وهو «آتى»، بمعنى الجالب، غير معلوم. وما يُستفاد من مجموع آيات سورة الطور والواقعة والإنسان هو أنّ شُبّان الجنّة المطهّرين يطوفون في حرم أهل الجنّة وحريمهم: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأسٍ مِنْ مَعِينٍ * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾[1]، وبناءً على ذلك فإنّه من المحتمل أنّ نفس مُضيِّفي الجنّة هؤلاء يقدّمون الفاكهة وكلّ ما يصدق عليه أنّه ثمر.

[11] المراتب المختلفة لجزاء المؤمنين

ما ذُكر في الآية محطّ البحث على أنّه جزاء الإيمان والعمل الصالح ليس هو كلّ جزاء الباري عزّ وجلّ وكمال عطائه بل إنّه بعضٌ منه ولا يتنافى مع ما جاء في الآيات الأخرى؛ فمثلاً، في الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏﴾[2]، فإنّه، علاوة على «جنّات عدن» التي هي خير من بعض الجنان الاُخرى، فقد اُضيفت عناوين اُخرى هي «خير البريّة»، و«رضوان من الله عليهم»، و«رضاهم عن قضاء الله عزّ وجلّ وقدره وأمره وحكمه


[1]. سورة الواقعة، الآيات 17 ـ 20.

[2]. سورة البيّنة، الآيتان 7 و8 .

تسنيم، جلد 2

592

ومشيئته» ممّا لم يُذكر في الآية محلّ البحث، وإنّ السرّ في عدم التنافي بينهما هو أنّ الآية محلّ البحث لا تفيد حصر الجزاء. من هنا فإنّه لا تنافي بعد إثبات الدرجة الاُخرى؛ لأنّه من الممكن أن تكون الأدلّة الإثباتيّة منسجمة؛ ذلك أنّه لا يشتمل أيّ منها على لغة الحصر ونفي الغير، ومن ناحية اُخرى فإنّ جميع المؤمنين ممّن لهم أعمال صالحة ليسوا متساوين؛ إذ أنّ بعضهم قد وصل إلى المقام المنيع لخشية الله الذي هو أسمى من مقام الخوف؛ إذ أنّ الخوف من النار أدنى من الخشية من المقام المنيع للباري جلّ شأنه؛ لأنّ الخوف العقليّ أعلى من الهلع النفسيّ؛ بمعنى، أنّ الخشية من الله ـ التي جاءت في قوله: ﴿خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾[1] ـ هي أسمى وأفضل من الخوف من جهنّم.

[12] أبعاد طهارة أزواج الجنّة

إنّ طهارة أزواج الجنّة هي من جهة الخَلْق والخُلُق معاً، وكذلك هي من الناحية الفرديّة والجماعيّة على حدّ سواء؛ أي إنّ أزواج الجنّة علاوة على طهارتهنّ من الأرجاس البدنيّة، الأمر الذي يشترك فيه الرجل والمرأة، فإنّ نساءهم مطهّرات من القذارات الخاصّة بالنساء أيضاً. وفضلاً عن الطهارة، فهنّ يتمتّعن بالعفّة، بل وبكلّ أنواع النزاهات الأخلاقيّة، فرديّها أو جماعيّها، فكلّ واحدة منهنّ ـ من جهة ـ تعيش في جوّ من الرفاه الخلقيّ على الصعيد الشخصيّ، ومن جهة حياتها مع الزوج فهي منسجمة بالكامل معه، وإنّ عنوان «المطهَّرة» (وهو اسم مفعول من باب التفعيل) هو أسمى


[1]. سورة النازعات، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

593

من عنوان «الطاهرة» أو «المتطهّرة»، وإنّ المطهِّر لها هي الإرادة الغيبيّة لله جلّت آلاؤه؛ كما أنّ المرحلة الأسمى لهذا التطهير تُستفاد من آية تطهير أهل البيت(ع)، وآية تطهير مريم ÷.

إنّ السرّ في طهارة أزواج الجنّة من لوازم التوليد حيث إنّ الإنسان في الجنّة إنّما هو قائم على الشخص وهو أبديّ، على خلاف الإنسان في الدنيا فهو قائم على النوع، وهو عرضة للزوال الفرديّ والنوعيّ.

تنويه: مع أنّ أزواج الجنّة يتمتّعن بأوصاف كماليّة جمّة إلاّ أنّ أسمى الأوصاف في نظام الزوجيّة هي الطهارة التي هي بمثابة العنصر المحوريّ في مسألة الزواج.

[13] سرّ التصريح بخلود أصحاب الجنّة وأصحاب النار

لمّا كان زمان الوصال مشوباً بخشية الفراق، وأمل الوصال يراود المرء في فترة الهجران، فإنّ نشاط فترة الوصال يكون مشوباً بالحزن الناشئ من خوف الفراق؛ كما أنّ آلام أيّام الهجران تكون مصحوبة بالحيويّة النابعة من أمل الوصال. تأسيساً على ذلك، فمن أجل أن يكون وصال أهل الجنّة حاصلاً بشكل مطلق، وليس مشوباً، جاء التصريح بالخلود والأبديّة، يقابله في ذلك حال أهل النار؛ فمن أجل أن يكون هجرانهم خالصاً ولا يكون مصحوباً بشائبة أمل الوصال، ورد التصريح بخلودهم في جهنّم. بالطبع هذا مع بقاء المجال مفتوحاً للنقد وطرح الآراء بخصوص خلود أصحاب النار فيها.

ما يُنقل عن أهل الجنّة في قوله عزّ من قائل: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ

تسنيم، جلد 2

594

عَنَّا الْحَزَنَ﴾[1] حيث إنّ ظاهر الآية هو زوال الحزن على نحو مطلق ودائميّ، فهو ناظر إلى المبحث المبيّن آنفاً؛ كما أنّ ما يُنقل عن حال أهل النار في قوله عزّ وجلّ: ﴿كُلَّمَا أَرَادُواْ أَنْ يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾[2] فهو ناظر إلى دوام الحزن وعدم زوال الغمّ، وهو في مقابل ما نزل في أصحاب الجنّة من قوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾[3].

[14] كلام ابن عربيّ بخصوص الجنّة ونعيمها

يقول ابن عربيّ:

الجنّة ثمان جنّات: هي جنّة عدْن، وجنّة الفردوس، وجنّة النعيم، وجنّة المأوى، وجنّة الخُلد، وجنّة السلام، وجنّة المُقامة، وجنّة الوسيلة، وهي [الأخيرة] أعلى جنّة في الجنّات، فإنّها في كلّ جنّة من جنّة عدن الى آخر جنّة، فلها في كلّ جنّة صورة و هي مخصوصة برسول الله(ص) وحده‏... وجعل [الله] في كلّ جنّة مائة درجة بعدد الأسماء الحسنى، والاسم الأعظم‏... ومنازل الجنّة على عدد آي القرآن ما بلغ إلينا منه نِلنا تلك المنزلة بالقراءة، وما لم يبلغ إلينا نلنا بالاختصاص في جنّات الإختصاص، كما نلنا بالميراث جنّات أهل النّار الّذين هم أهلها. وأبواب الجنّة ثمانية على عدد أعضاء التكليف‏ فلكلّ عضو باب، والأعضاء ثمانية:


[1]. سورة فاطر، الآية 34.

[2]. سورة الحجّ، الآية 22.

[3]. سورة الحجر، الآية 48.

تسنيم، جلد 2

595

العين، والأذن، واللسان، واليد، والبطن، والفرج، والرجْل، والقلب‏... وهؤلاء النّواب [الملائكة] الإثنا عشر هم الّذين تولّوا بناء الجنّات كلّها إلاّ جنّة عدن، فإنّ الله خلقها بيده ‏وجعل بأيديهم غراس الجنّات إلاّ شجرة طوبى، فإنّ الحقّ تعالى غرسها بيده في جنّة عدن‏[1].

على الرغم من أنّ ابن عربيّ قد أسند في آخر كلامه بعضاً ممّا قاله إلى الحديث الشريف، إلاّ أنّه من غير الميسور إثبات تفاصيل الجنّة من دون رواية معتبرة أو كشف مطابق لكشف المعصوم. وإنّ صاحب هذا المقال يعرض في كتاب آخر لمبحث لطيف تتّضح أمارة الصدق وترتسم علامة الحقّ من وجهه العرفانيّ وهو:

1. مثلما أنّ الصلوات في الدنيا متشابهة إلاّ أنّ للمصليّ في كلّ صلاة حالةً خاصّة، وكذا الأعمال الصالحة في الدنيا فهي في الظاهر شبيهة ببعضها إلاّ أنّ العامل له حالات خاصّة في كلّ منها، فإنّ ثمارها في القيامة متشابهة أيضاً إلاّ أنّ لكلّ واحدة منها مذاقها الخاصّ بها ممّا لا يوجد في غيرها.

2. السرّ في أنّ الله جلّ وعلا وصف حور الجنّة، اللواتي أطلق عليهنّ في الآية عبارة ﴿أزواج﴾ ، بقوله: ﴿مطهّرة﴾ ولم يقل: «مطهّرات»، هو أنّ الزواج بأيّ واحدة منهنّ له مذاقه الخاصّ ممّا لا يوجد في غيره؛ بل إنّ النكاح الثاني هو تذوّق جديد لعسيل النكاح وعسيلته ممّا لم يكن معهوداً في النكاح الأوّل؛ ذلك أنّه لا مجال للتكرار في الجنّة أو في


[1]. رحمة من الرحمن، ج1، ص81 ـ 82 .

تسنيم، جلد 2

596

الزواج أو في أيّ موطن آخر من مواطن التجلّي؛ بل إنّ النعيم الإلهيّ متجدّد بتجدّد الأنفاس[1].

مع أنّ الكلام السابق لصاحب هذا المقال جاء ممتزجاً بمباحث متنوّعة بعضها غير صائب، إلاّ أنّ كلامه الحاليّ، الذي ذكره في كتاب آخر، يحكي عن كشوفات صادقة، واستنتاجات خاصّة به شخصيّاً ممّا لم يظفر به باقي المفسّرين.

البحث الروائيّ

[1] المصداق الناصع للمبشَّرين

ـ عن الباقر(ص) في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...﴾، قال: «فالذين آمنوا وعملوا الصالحات عليّ بن أبي طالب‏(ص)، والأوصياء من بعده، وشيعتهم‏»[2].

ـ عن أبي جعفر(ص) في قوله ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾: «نزلت في حمزة، وعليّ، وعُبيدة»[3].

إشارة: إنّ الروايات المذكورة وأمثالها، وبغضّ النظر عن كونها من قبيل الجري والتطبيق المصداقيّ (وليس التفسير المفهوميّ)، فهي تنطوي على إمكانيّة تحقّق الأوامر المُشار إليها من ناحية، وفعليّة الأوصاف


[1]. راجع رحمة من الرحمن، ج1، ص82 .

[2]. تفسير فرات الكوفيّ، ص54؛ وبحار الأنوار، ج36، ص129.

[3]. مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب، ج3، ص134؛ وبحار الأنوار، ج41، ص79.

تسنيم، جلد 2

597

المذكورة من ناحية أخرى، وتقديم الاُسوة المناسبة لتأسّي السالكين لسبيل الصلاح من ناحية ثالثة، وأخيراً ترغيب الناس بتولّي أهل البيت(ع) والتبرّي من أعدائهم من ناحية رابعة.

[2] أوصاف الجنّة

ـ سُئل رسول الله(ص) عن الجنّة كيف هي؟ قال: «من يدخل الجنّة يحيا لا يموت، وينعم لا يبأس. لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» قيل: يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: «لبنة من ذهب، ولبنة من فضّة. ملاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران‏»[1].

ـ عن النبيّ(ص): «إنّ الله أحاط حائط الجنّة لِبنة من ذهب ولبنة من فضّة، ثمّ شقّق فيها الأنهار، وغرس فيها الأشجار، فلمّا نظرت الملائكة إلى حسنها وزهرتها قالت: طوباكِ منازل الملوك‏»[2].

ـ عن النبيّ(ص) قال: «لَشِبر في الجنّة خير من الدنيا وما فيها»[3].

إشارة: لا يختصّ دوام الحياة بمؤمني الجنّة؛ لأنّ كفّار النار كذلك لن يموتوا وإن كانت تلك أمانيّهم. ما يختصّ بأصحاب الجنّة هو الحياة الطيّبة، والعيش الرغيد المنزّه من آلام الحزن، والمبرّأ من أذى الخوف. وما ذُكر في هذه النصوص لا يتنافى مع ما جاء في بعض الأحاديث الاُخرى من أنّ أذكار المؤمن وأعماله الصالحة هي بمثابة مواد بناء


[1]. الدرّ المنثور، ج1، ص92.

[2]. الدرّ المنثور، ج1، ص92 ـ 93.

[3]. الدرّ المنثور، ج1، ص93.

تسنيم، جلد 2

598

الجنّة؛ إذ أنّ المصوِّر الحقيقيّ هو الله جلّ شأنه؛ يعني، إنّ ذلك المبدأ الفاعليّ الذي يجلّي التسبيح بهيئة لِبنة ذهب هو الله تعالى. أمّا السرّ في كون شبر من الجنّة خيراً من الدنيا كلّها فهو أنّ هذا المقدار القليل المفترَض مشحون بنعمة السلامة وأنّ الدنيا بسعتها المفترَضة محفوفة بالبلاء والنقمة.

[3] درجات الجنّة

ـ عن أنَس قال: اُصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمّه فقالت: يا رسول الله! قد علمت منزلة حارثة منّي فإن يكن في الجنّة صبرت، وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع. فقال: «إنّها ليست بجنّة واحدة، إنّها جنان كثيرة، وإنّه في الفردوس الأعلى‏»[1].

ـ عن أمير المؤمنين(ص) [في صفة الجنّة]: «درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات، لا ينقطع نعيمها، ولا يظعَن مقيمها، ولا يهرَم خالدها، ولا يبأس [ييأس] ساكنها»[2].

إشارة: بما أنّ الجنّة هي جزاء المؤمنين الصالحين، وبما أنّ المؤمنين، علاوة على تمتّعهم بالدرجات[3]، فهم أنفسهم صُلب تلك الدرجات المتنوّعة[4]، لذا فإنّ لجزاءهم مراتب أيضاً. يتطرّق القرآن الكريم أحياناً


[1]. الدرّ المنثور، ج1، ص94.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 85 .

[3]. ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ سورة الأنفال، الآية 4.

[4]. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾؛ سورة آل عمران، الآية 163.

تسنيم، جلد 2

599

إلى كون الجزاء متنوّعاً، وأحياناً أخرى يزيح الستار عن تعدّد الجنّة وأنحائها كجنّة عدن، والفردوس، وجنّة النعيم، والجنّة العالية.

[4] تجسّم الأعمال في الآخرة

ـ عن الصادق(ص): «قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصدّيقين تنعّموا بعبادتي في الدنيا فإنّكم تتنعّمون بها في الآخرة»[1].

ـ عن رسول الله(ص): «وعظني جبرئيل(ص) فقال: يا محمّد! أحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه»[2].

ـ وعنه(ص): «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورة حسنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إنّي لأراك امرأ الصدق. فيقول له: أنا عملك. فيكون له نوراً أو قائداً إلى الجنّة. وإنّ الكافر إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورة سيّئة وبشارة سيّئة فيقول: من أنت؟ فوالله إنّي لأراك امرأ السوء. فيقول: أنا عملك. فينطلق به حتّى يدخل النار»[3].

إشارة: لقد طُرحت مسألة تجسّم الأعمال وتمثّل الأوصاف في آيات عديدة واُشير إليها في موارد جمّة، والسرّ المهمّ فيها هو أنّ العقيدة والأخلاق والعمل تجد سبيلها إلى روح الإنسان، وعلى ضوء التحوّل الجوهريّ من الحال إلى المَلَكة ومنه إلى الصورة النوعيّة والفصل المقوِّم، ثمّ تحصل على سهم تقويميّ في صلب هويّته ومن هذا الطريق


[1]. الكافي، ج2، ص83 ؛ وبحار الأنوار، ج8 ، ص155.

[2]. الأمالي للطوسي، ص590؛ وبحار الأنوار، ج68، ص188.

[3]. كنز العمّال، ج14، ص366 ـ 367.

تسنيم، جلد 2

600

تنال شيئاً من الدوام، فتتجلّى في نشأة المعاد بواسطة التصوير الإلهيّ بصور متناسبة مع الوضع الجديد.

[5] رزق الجنّة المتشابه

ـ عن العسكريّ(ص): «﴿قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ‏﴾ في الدنيا فأسماؤه كأسماء ما في الدنيا من تفاح، وسفرجل، ورمان و... ﴿مُتَشابِهاً﴾ يشبه بعضه بعضاً بأنّها كلّها خيار لا رذل فيها... ومتشابهاً أيضاً، متّفقات الألوان، مختلفات الطعوم‏»[1].

ـ في تفسير عليّ بن إبراهيم: قوله ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً ...﴾ قال: يؤتون من فاكهة واحدة على ألوان متشابهة[2].

ـ عن ابن مسعود في قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً﴾ قال: اُتوا بالثمرة في الجنّة فينظروا إليها ﻓ ﴿قالُوا هٰذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً﴾ اللون والمرأى وليس يشبه الطعم[3]‏.

إشارة: ليس المراد من اتّحاد الأسماء هنا هو اشتراكها اللفظيّ، بل هو ناظر إلى اشتراكها المعنويّ. إنّ نتيجة التحليل القرآنيّ والروائيّ الشامل، والاستمداد من التأييد العقليّ هو ذات ما ذُكر في البحث التفسيريّ. وإنّ إثبات أيّ مبحث جديد سيحتاج إلى دلالة متقنة من حديث صحيح من جهة، وعدم تعارضه مع رسالة القرآن الصريحة أو ظاهره المعتبر من جهة أخرى.


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص166؛ وبحار الأنوار، ج8 ، ص140.

[2]. تفسير القمّي، ج1، ص47؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص44.

[3]. الدرّ المنثور، ج1، ص96.

تسنيم، جلد 2

601

[6] أزواج الجنّة المطهّرة

ـ سُئل الصادق(ص) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قال: «الأزواج المطهّرة اللائي لم يحضن ولا يحدثن»[1].‏

ـ عن النبيّ(ص) في قوله ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قال: «من الحيض والغائط والنخامة والبزاق‏»[2].

ـ عن ابن عبّاس في قوله ﴿أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ يقول: مطهّرة من القذر والأذى[3]‏.

ـ عن أبي عبد الله(ص) في قول الله: ﴿فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قال: «لا يحضن ولا يحدثن»[4].

ـ عن النبيّ(ص): «أوّل زمرة تلج الجنّة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر... ولكلّ واحد منهم زوجتان يُرى مخّ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبّحون الله بكرة وعشيّاً»[5].

ـ عن العسكريّ(ص): «﴿أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من أنواع الأقذار والمكاره مطهّرات من الحيض والنفاس، لا ولاّجات، ولا خرّاجات، ولا دخّالات، ولا ختّالات، ولا متغايرات، ولا لأزواجهنّ فركات، ولا صخّابات، ولا عيّابات، ولا فحّاشات، ومن كلّ العيوب والمكاره بريّات‏»[6].


[1]. من لا يحضره الفقيه، ج1، ص89 ؛ والبرهان، ج1، ص70.

[2]. الدرّ المنثور، ج1، ص97.

[3]. جامع البيان، ج1، ص230.

[4]. تفسير العيّاشي، ج1، ص164 ـ 165؛ وبحار الأنوار، ج8 ، ص139.

[5]. الدرّ المنثور، ج1، ص98.

[6]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص166؛ وبحار الأنوار، ج8 ، ص140.

تسنيم، جلد 2

602

إشارة: أزواج الجنّة علاوة على طهارتهنّ من الأرجاس الدنيويّة، فهنّ طاهرات أيضاً من كلّ نقص وعيب باطنيّ. وقد تمّ التطرّق إلى تفصيل ذلك في مبحث اللطائف والإشارات وكذلك ـ إلى حدّ ما ـ في البحث التفسيريّ.

[7] سرّ الخلود

ـ عن الصادق(ص): «إنّما خُلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خُلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خُلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالى ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ‏ شَاكِلَتِهِ﴾ قال: «على نيّته‏»[1].

إشارة: سوف يُصار إلى ترسيم سبب الخلود، الذي هو بمعنى الدوام وعدم الانقطاع، في غضون تفسير الآيات المناسبة. وما طُرح في طليعة البحث التفسيريّ على نحو مجمل هو:

أ. إنّ الوصف النفسانيّ تارة يكون حالاً، وتارة أخرى مَلَكة، وتارة ثالثة صورة نوعيّة وفصلاً مقوّماً، حيث تحصل هذه التحوّلات على محور الحركة الجوهريّة.

ب. إنّ مجرّد نيّة ارتكاب الإثم قد لا تكون منشأ للأثر في حقل الفقه، إلاّ أنّها ليست معدومة الأثر من الناحية الكلاميّة. من هنا فإنّ هذه النيّة تكون كاشفة عن سوء السريرة وقبح السيرة، وإنّ الله عزّ وجلّ


[1]. الكافي، ج2، ص85 ؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص44.

تسنيم، جلد 2

603

يُخضِع للمحاسبة جيمع الأوصاف والآثار الوجوديّة للإنسان، مستورها ومشهورها، سرّها وعلنها: ﴿وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾[1]، ﴿وَٱعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ﴾[2].

ج. إذا كان منشأ اتّخاذ القرار في ارتكاب الذنب هو «الحال» فإنّه يزول بسرعة، وإذا كانت «المَلَكة» فهي قابلة للزوال وإن بقيت لبعض الوقت. وفي هاتين الصورتين لا وجه للخلود الذي يكون بمعنى دوام العذاب. ومن هذا المنطلق فإنّ المسلِم الفاسق ليس مخلّداً. أمّا إذا أصبح الذنب يشكّل الصورة النوعيّة والفصل المقوّم، فلأنّه غير قابل للزوال، فمن المعقول في هذا المورد تصوير دوام العذاب، وإنّ ظاهر القرآن الكريم يصوّر دوام العذاب لهذه الجماعة فقط في قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[3]، وقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[4]؛ فالكفّار والمكذّبون هم على جانب من العناد والإصرار بحيث أنّهم حتّى لو ذاقوا عذاب جهنّم المهلك واُخرجوا من النار واُعيدوا إلى الدنيا فإنّهم سيرتكبون الموبقات والكفر مجدّداً.

د. المهمّ هنا هو أنّ ما ينشأ من الصورة النوعيّة والفصل المقوّم لكلّ موجود إنّما يتلاءم مع ذاته ولا ينافيها. وبناءً عليه، لابدّ من إثبات التألّم عن طريق خاصّ، وسيُبيَّن ذلك في محلّه المناسب بعناية الله تعالى.

تنويه: ما ذُكر عن ترسيم دوام الثواب عن طريق تجرّد الروح وثبات


[1]. سورة البقرة، الآية 284.

[2]. سورة البقرة، الآية 235.

[3]. سورة البقرة، الآية 6.

[4]. سورة الأنعام، الآية 28.

تسنيم، جلد 2

604

ودوام الموجود المجرّد وما إلى ذلك، هي مبادئ البرهان العقليّ على دوام الثواب ممّا يؤيّده الدليل النقليّ. من هنا يُعلم أنّ ما قاله الشيخ الطوسيّ & في التبيان من أنّه: «لا يدلّ العقل على دوام الثواب وإنّما علم ذلك بالسمع والإجماع»[1] هو غير تامّ.

ﻫ .‏ أحياناً يقرَّر الدليل العقليّ للخلود بصورة القياس الاستثنائيّ المؤلَّف من المضمون المطابقيّ والالتزاميّ للآيات القرآنيّة بهذه الكيفيّة: إذا لم تكن الجنّة أبديّة، جاز زوالها. لكنّ التالي باطل. إذن فالمقدَّم باطل أيضاً. والسرّ في بطلان التالي هو أنّه إذا كان زوال الجنّة جائزاً لنغّص خوف انقطاع النعمة حياة ساكن الجنّة، والحال أنّه لا تأثُّر ولا ألم فيها. والبرهان المذكور قابل للتقرير أيضاً بتقريبات أخرى[2].


[1]. التبيان، ج1، ص110.

[2]. راجع التفسير الكبير، مج1، ج1، ص131.

تسنيم، جلد 2

605

إِنَّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

خلاصة التفسير

يقول الله عزّ وجلّ في ردّه على اعتراض المخالفين على الأمثال القرآنيّة: إنّ الله لا يستحيي من التمثيل باُمور كالبعوضة، وإنّ الناس في مقابل مثل هذه الأمثال ينقسمون إلى مجموعتين هما: المؤمنون الذين يعتبرون أنّ هذه الأمثال حقّ وأنّها من عند الله، والكافرون الذين يوجّهون نقداً في غير محلّه. وإنّ الله يهدي بهذه الأمثال جماعة من الناس ويضلّ بها

تسنيم، جلد 2

606

الكثير منهم؛ إلاّ أنّ الإضلال الجزائيّ لله لا يحيق إلاّ بالفاسقين الذين حادوا عن طاعة الحقّ وعن صراطه المستقيم.

إنّ القرآن كتاب عالميّ ولابدّ له من تبيين معارفه بصورة بحيث تكون مفهومة لجميع البشر، وأفضل لغة لإيصال المعارف العالية لأذهان العامّة من الناس هي لغة التمثيل. إنّ أمثال القرآن الكريم بعضها تتعلّق بأشياء كبيرة وبعضها بأمور صغيرة؛ وإن كان كِبَر وصِغَر الأشياء هو في القياس مع بعضها وإنّ خلقها جميعاً بالنسبة لله بشكل واحد.

لقد أثنى الله في هذه الآية على المؤمنين بعلمهم ووبّخ الكافرين بجهلهم الضمنيّ، وفي نهاية الآية جاء الحديث عن الهداية والإضلال الإلهيّين؛ فهداية الله على نوعين: ابتدائيّة وجزائيّة، لكنّ الإضلال الإلهيّ هو جزائيّ وحسب، وإنّ الله لا يضلّ أحداً إضلالاً ابتدائيّاً إطلاقاً.

التفسير

«لا يستحيي»: الحياء في مقابل «الوقاحة». الحياء والاستحياء مأخوذ من الحياة؛ بمعنى أنّه بسبب الحياء والانفعال والشعور بالقبح فإنّه من الممكن أن يحصل تغيير في الحياة وأن ينقص شيء منها؛ كما يُقال: فلان مات أو هلك من الحياء، أو إنّه ذاب من الحياء، أو إنّه جمد من شدّة الخجل، وما إلى ذلك. أمّا منشأ الحياء فهو إدراك أمر يكون صدوره قبيحاً ممّا يَبِين أثره في الوجه ابتداءً.

على أيّ تقدير، لمّا كانت هذه الأوصاف منتزعة من مقام فعل الله عزّ

تسنيم، جلد 2

607

وجلّ، فهي ليست ناظرة إلى الذات الإلهيّة، وما من محذور في إثبات هذا الوصف أو سلبه؛ بمعنى، إذا قيل إنّ الله لا يستحيي من ضرب المثل، أو إنّه يستحيي من ردّ دعوة المؤمن، فإنّ كلّ هذه الأوصاف منتزعة من مقام فعل الله سبحانه وتعالى.

الحياء، بمعنى الانفعال الطبيعيّ، لا يُعدّ ذاتاً من الفضائل الأخلاقيّة؛ لأنّ الحياء من ارتكاب القبيح هو فضيلة، لكنّ الحياء من تعلّم أحكام الدين رذيلة، لذا فإنّ الحياء يتّصف بالحسن أو القبح على محور المتعلَّق. وإنّ كلام أمير المؤمنين(ص): «ولا إيمان كالحياء والصبر»[1]، «قُرِنَت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان»[2]، لناظر إلى المعنيَين.

«مثلاً»: «مَثَل» صفة مشبّهة؛ مِثل حَسَن، وهي بمعنى أنّ الشيء يتّصف ﺑ «المثليّة» وأنّ التماثل ثابت فيه.

يكون المَثَل كلاميّاً حيناً وهو ما يُستخدم لتفهيم مبحث عميق، وقد سبق توضيحه، ويُراد منه الاُسوة والقدوة حيناً آخر وهو ما يُستعمل بخصوص الاُسوة العمليّة؛ كما في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ﴾[3]، و﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾[4]، و﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِِيلَ﴾[5]، ومن ناحية أخرى فإنّ حيوانات ضعيفة من أمثال البعوضة والنملة قد جُعلت قدوة


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 113.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 21.

[3]. سورة الزخرف، الآية 56.

[4]. سورة الزخرف، الآية 57.

[5]. سورة الزخرف، الآية 59.

تسنيم، جلد 2

608

لأصحاب الهمّة في الأعمال الشاقّة ومن الممكن ذكرهما بعنوان الأمثال والاُسوات. إلاّ أنّ سياق الآيات مورد البحث هو المثل الكلاميّ، وليس المثل بمعنى الاُسوة كي يكون المراد هو أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل الرسول الأكرم(ص) مثلاً واُسوة للآخرين، وأنّ جماعة من الكفّار والمنافقين يوجّهون نقداً ليس في محلّه.

«بعوضة»: البعوض والبعوضة، مِثل التمر والتمرة، وقد ورد ذكرها مرّة واحدة في القرآن الكريم، كما هو الحال بالنسبة للفيل والنحل اللذين ذُكرا مرّة واحدة أيضاً، على خلاف العنكبوت الذي ذكر مرّتين، و... الخ.

«فما فوقها»: لمّا كان الكلام يتمحور حول حقارة البعوضة، وإنّ ما هو فوق وأعلى في الحقارة يعطي معنى الأحقر، وإنّ الترقّي في السير النزوليّ هو في الوصول إلى الأدنى، إذن فالمراد من قوله «فما فوقها» في الآية محطّ البحث هو أنّه: لو أراد الله أن يذكر مثلاً من أجل تبيين مبحث ما، لأمكنه ضرب المثل بما هو دون البعوضة أيضاً؛ لأنّ المقصود هو اتّضاح المبحث في ظلّ التمثيل.

«الحقّ»: الحقّ هو بمعنى الثابت، والثوب المحقّق هو الذي اُحكم نسجه. والحقّ قسمان:

1. الحقّ الذاتيّ الذي يُطلق على الربّ الأزليّ الغير المحدود، وهو عين الذات الإلهيّة، وما من شيء سوى الله سبحانه وتعالى هو حقّ بهذا المعنى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾[1]. في


[1]. سورة لقمان، الآية 30.

تسنيم، جلد 2

609

هذه الآية الكريمة يدلّ الضمير المنفصل «هو» مع كون الخبر مُعرّفاً على الحصر؛ أي: إنّ الحقّ الثابت هو الله فقط.

2. الحقّ الفعليّ؛ يعني، الحقّ المحدود الذي لا يعتمد على نفسه ولا على غير الله. هذا الحقّ ليس هو إلاّ فعل الله وفيضه: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾[1]. فإنّه، وإن كان في نظام العالم حقّ وثابت، إلاّ أنّه من الله وهو من فعله. ففعل الله «حقّ»، وليس «مطابقاً للحقّ»، في حين أنّ فعل الآخرين هو مطابق للحقّ، وحتّى فعل المعصوم فهو مطابق للحقّ: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيث ما دار»[2]. بالطبع لهذا الحديث معنى أدقّ يُطرح في محلّه.

«الفاسقين»: الفسق هو بمعنى «الخروج»؛ فالخارج عن طاعة الحقّ وعن الصراط المستقيم يصبح فاسقاً؛ وعلى الرغم من أنّ لفظة «فاسق» هي على وزن اسم الفاعل، بيد أنّها جاءت في الآية مورد البحث بمعنى الصفة المشبّهة؛ لأنّ الآية اللاحقة تسرد أوصاف الفاسقين بهيئة الفعل المضارع ممّا يدلّ على الاستمرار والمَلَكة: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[3].

اُسلوب التمثيل في القرآن

القرآن الكريم، من جهة كونه وحياً إلهيّاً وأنّه مصون من النقص من جميع الجوانب، فإنّه يدعم محتواه تارة، ويدافع عن اُسلوب تعبيره


[1]. سورة البقرة، الآية 147.

[2]. بحار الأنوار، ج28، ص368.

[3]. سورة البقرة، الآية 27.

تسنيم، جلد 2

610

وبيانه تارة أخرى؛ كما أنّ مخالفيه كانوا يوجّهون اعتراضهم إلى محتواه حيناً، وإلى طريقة تعبيره حيناً آخر. تقول الآية محطّ البحث في ردّها على اعتراض المخالفين على اُسلوب بيان القرآن: المؤمنون يؤمنون ﺑ «المَثَل» ويؤكّدون أنّه «حقّ» وأنّه من عند الله، أمّا الكفّار فليس لهم تجاه المَثَل إلاّ توجيه النقد الذي ليس في محلّه. ثمّ تقول: إنّ الله يهدي بهذه الأمثال جماعة، ويضلّ أخرى، وإنّ هذا الإضلال الجزائيّ لا يشمل إلاّ الفاسقين. والفاسقون الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم لهم خطايا جاء ذكرها في الآية التالية.

كان المخالفون يقولون: ليس من المناسب للباري تعالى أن يضرب مثلاً من الأمور الضئيلة العديمة القيمة كالعنكبوت والذبابة، وإنّ على الله أن يستحيي من ضرب هذه الأمثال.

يقول الله جلّت آلاؤه في الردّ عليهم: إنّ التمثيل من أجل تفهيم المبحث المخالف لا يستدعي الحياء؛ لأنّه إذا كانت رسالة القرآن هي بيان الحقيقة، وهو يريد إبلاغها، فإنّه يتحتّم عليه بيان هذا الموضوع بأيّ وسيلة متاحة وإيصالها إلى أذهان الآخرين؛ فهو يبيّن مباحثه تارة عن طريق البرهان، واُخرى بواسطة الجدال بالتي هي أحسن، وثالثة بالموعظة، ورابعة من خلال التمثيل. أضف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم لم ينزل على جماعة خاصّة، بل هو كتاب عالميّ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾[1]. تأسيساً على ذلك يتعيّن على القرآن أن يبيّن مُراده بالشكل الذي يدركه الناس أجمعون إلى يوم القيامة، وإنّ أفضل لسان يتمكّن


[1]. سورة الفرقان، الآية 1.

تسنيم، جلد 2

611

بواسطته إيصال معارفه العقليّة لعامّة الناس هو لسان التمثيل. وفي مقام التمثيل يستخدم الله سبحانه وتعالى أحياناً المشكاة، والزيت، والنور من أجل تبيين المعارف الراقية، ويضرب أحياناً أخرى ـ جرّاء حقارة مبحث الآخرين وضعفه ـ مثلاً من الذبابة أو بيت العنكبوت.

المحور الأساسيّ للمثل هو التناسب مع الممثَّل كي يسَهّل إدراكَه. أمّا النقاش فلا يُقبل في الأمثال إلاّ أن يكون مفتقراً للبلاغة بلحاظ الرسالة التي يحملها. إنّ ضرب النور والظلمة كمثل للحقّ والباطل، وكذلك التمثيل بالحيوانات والطيور والنباتات، ليس رائجاً في ثقافة المحاورة للأقوام والملل الغير العربيّة فحسب، بل إنّه رائج في حوارات العرب من الحضر والبدو أيضاً؛ إذ أنّ له تاريخاً في الكتب السماويّة السالفة أيضاً كالتوراة والإنجيل. وبناءً عليه، فلا المشركون المقيمون في الحجاز ولا اليهود والنصارى المهاجرون كان لهم حقّ النقد[1].

يقول القرآن الكريم على نحو الأصل العامّ والشامل: لقد ذكرنا أمثالاً على كافّة الصعد: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾[2]، فأهل البرهان يفهمون مبحثهم المعقول من خلال المثل بشكل أفضل، ومن لم يكن من أهل البرهان يدرك أصل المبحث بواسطة المثل، حتّى لا يبقى عذر لأيّ أحد كان في ساحة الوحي الإلهيّ: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ


[1]. أتى الزمخشريّ والفخر الرازيّ على ذكر نماذج من أمثال العرب الدارجة التي تستُخدم فيها عناوين كالبهائم، والطيور، والحشرات. راجع الكشّاف، ج1، ص111 ـ 112؛ التفسير الكبير، مج1، ج2، ص145 ـ 146.

[2]. سورة الروم، الآية 58.

تسنيم، جلد 2

612

عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾[1]، وإنّ قول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ﴾[2] هو بسبب وجود هذا الأصل الكلّي والعامّ.

كما قد طرح الله عزّ وجلّ في القرآن أمثلة كثيرة بحقّ المؤمنين الصالحين، فقد ذكر مثلهم في التوراة والإنجيل أيضاً: ﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ﴾[3]، كما أنّ كلام الفصحاء مشحون بالتمثيل؛ فالأدباء العرب قد أفادوا أيضاً من الأمثال في المعلّقات السبع وغيرها. بناءً على ذلك، فلا إشكال من هذه الناحية من بيان القرآن الكريم، أي الأصل القائل بالتمثيل، وإذا أشكل أحد بأنّ التمثيل بالأشياء الحقيرة لا يتناسب وشأن الباري جلّ وعلا فالجواب هو التالي:

1. إنّ من اُسلوب القرآن الكريم هو تعريف المبحث المهمّ والعظيم من خلال مثال عظيم ومهمّ أيضا؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْءَانَ عَلَىٰ‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾[4]، لكنّه فيما يتعلّق بالمباحث الحقيرة والوضيعة فإنّه يضرب مثلاً من الأمور الحقيرة والضعيفة؛ كما يقول بخصوص المتمسّكين بغير الله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾[5]؛ فالربوبيّة المطلقة والغير المحدودة لله عزّ وجلّ لا تفسح مجالاً للأغيار، وليس لغير الله أيّ اعتبار مستقلّ لكي يرتكز عليه. من هذا


[1]. سورة الأنفال، الآية 42.

[2]. سورة القمر، الآية 17.

[3]. سورة الفتح، الآية 29.

[4]. سورة الحشر، الآية 21.

[5]. سورة العنكبوت، الآية 41.

تسنيم، جلد 2

613

المنطلق فإنّ أعمال الكافرين شُبّهت بالسراب الذي يلهث خلفه الظمآن: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً﴾[1]؛ كما يقول في مقام توصيف ضعف أوثان المشركين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[2].

2. إنّ الكِبَر والصِغَر أمران نسبيّان ولا يُطرحان إلاّ في المقارنة بين شيئين، أمّا بالنسبة لله سبحانه وتعالى فكلّ الأشياء عنده سواسية؛ ذلك أنّه في مقابل قدرته المطلقة لا يبقى معنى للكبير والصغير والعسير واليسير. على هذا الأساس فإنّ الله عزّ وجلّ يستخدم تعبير «اليسير» بخصوص «قبض الظلّ» عندما يقول: ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾[3]. فعندما تشرق الشمس من إحدى الجهات (بصورة اُفقيّة) على الشاخص، فإنّها تلقي في الجانب الآخر من الشاخص ظلاًّ على الأرض، لكن عندما تكون الشمس فوق الشاخص (بصورة عموديّة) فإنّ الظلّ يتضاءل أو يختفي تماماً. هنا ينسب الباري تعالى قبض الظلّ إلى نفسه؛ والحال أنّه ليس هناك ما هو أخفّ من الظلّ، بل إنّ الظلّ في الحقيقة ليس شيئاً أصلاً. هذا من جانب. ومن جانب آخر فإنّ الله عزّ وجلّ يستعمل تعبير «اليسير» كذلك فيما يتعلّق بالحشر الأكبر وإزالة نظام


[1]. سورة النور، الآية 39.

[2]. سورة الحجّ، الآية 73.

[3]. سورة الفرقان، الآية 46.

تسنيم، جلد 2

614

السماوات والأرضين، ممّا لا يمكن افتراض عمل أهمّ وأعظم منه، فيقول: ﴿ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾[1]. فكلّ الأشياء في علم الله معلومة بنفس المستوى، وفي مرحلة العمل فإنّ كلّ الأعمال، في مقابل قدرته، سهلة ويسيرة عليه؛ وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى هو فاعلٌ لا يفعل من خلال الحركات، بل إنّ فعله هو بمحض الإرادة: «فاعل لا بمعنى الحركات‏»[2]، وإنّه بفعله توجَد الحركة في الكون.

تأسيساً على ذلك، فإنّ آيات من قبيل: ﴿ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾[3]، والتي تتحدّث عن المقارنة بين الأشياء العظيمة والحقيرة، فهي تطرح ذلك نسبة إلى البشر، وإلاّ فالله عزّ وجلّ يقول بالنسبة إلى نفسه: ﴿لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[4]، ﴿كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾[5]. فكلّ الوجود خاضع بين يدي الله.

3. إنّ جسم أيّ موجود ليس معياراً لعظمته أو حقارته؛ لأنّه بحسب تعبير الإمام الصادق(ص) فإنّ حشرة ضئيلة كالبعوضة لها جميع المزايا التي للفيل مضافاً إليها اللوامس: «... لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين‏»[6].


[1]. سورة ق، الآية 44.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 1.

[3]. سورة النازعات، الآية 27.

[4]. سورة آل عمران، الآية 83 .

[5]. سورة النمل، الآية 87 .

[6]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص165؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص45.

تسنيم، جلد 2

615

المؤمنون والكافرون في مقابل أمثال القرآن

بعد التمثيل بالعنكبوت يقول القرآن الكريم: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾[1]؛ أي نحن نضرب الأمثال لعامّة الناس، لكنّه لا ينتفع من هذه الأمثال، من بين هؤلاء، إلاّ العالمون الذي بلغوا مرحلة العقل من خلال الانتفاع من علمهم؛ إذن فالذي لا يكون من أهل العلم والتفكّر لا يصيب إلاّ منفعة ضئيلة من هذه الأمثال ولا يحصل منها إلاّ على العلم والاطّلاع. في حين أنّه لو كان من أهل العلم فإنّه سيرتقي سلّم العلم ليصل إلى مقام العقل، وإنّ ما يمتاز بالقيمة والعزّة لدى الباري تعالى هو العقل، الذي هو حصيلة امتزاج العلم والعمل.

في جملة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ‏ ...﴾ يمتدح الله المؤمنين بعلمهم فيقول: العلم هو ما اختلط بالإيمان، وعَرَف الوحي؛ مثلما يقول جلّ اسمه في موضع آخر: إنّ العلماء يعلمون أنّ ما أتيتَ به هو الحقّ: ﴿وَيَرَىٰ الَّذِينَ اُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾[2]؛ يعني: أنّ العلم هو ما يَعرِف الوحي. إذن فليس مقصود الآية هو مجرّد العلوم الاكتسابيّة المدرسيّة؛ لأنّه من الممكن أن لا يكون المرء من أهل القراءة والكتابة ولكن تكون له روح واعية ومؤمنة، وعلى العكس، فقد يكون الشخص من أهل الدرس والتعلّم، إلاّ أنّه غافل وجاهل. ومن هذا المنطلق يقول عليّ(ص): ما أكثر العلماء الذين


[1]. سورة العنكبوت، الآية 43.

[2]. سورة سبأ، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

616

أمسوا قتلى جهلهم ولم ينفعهم علمهم: «رُبّ عالِم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه‏»[1].

إنّ العلوم المدرسيّة هي نوع من الحرفة والصنعة ممّا قد يُنسى بعضها في سنيّ الشيخوخة: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾[2]. على الرغم من أنّ هذا الأمر لا يمتاز بالعموميّة وأنّ بعض أساطين العلم يستمرّون على وعيهم وعقلهم حتّى في فترة الشيخوخة، وهؤلاء هم الذين تكون قلوبهم وعاءً للقرآن. العلوم المدرسيّة حتّى وإن أصبحت ملَكة فإنّها تُنسى في الفترة ما بين الموت والقيامة لعدم الممارسة؛ أمّا العلوم المرتبطة بمعرفة الله، وأسمائه الحسنى، والملائكة، والنبوّة، والرسالة، والولاية، والتي تنوّر وجود الإنسان، فليس أنّها تبقى بعد الموت فحسب، بل إنّها تزدهر وتتفتّح أكثر؛ لأنّ نشأة الآخرة هي موطن ظهور وبروز مثل هذه العلوم الإلهيّة.

الله سبحانه وتعالى هو المبدأ الفاعليّ لكلّ الفيوضات، وإنّه تعالى ـ استناداً إلى هذه النقطة بالذات ـ يقول: المؤمنون يعلمون أنّ هذا المثل هو حقّ؛ لأنّهم هم أنفسهم على حقّ، ويعرفون منشأ الحقّ؛ أمّا الكفّار الذين لا يعرفون الحقّ، فإنّهم يقولون على نحو الاستفهام الاستنكاريّ: ما هو مراد الله من هذا المثل؟!

القرآن الكريم يثني على المؤمن لعلمه، ويوبّخ الكافر على جهله. وهو، وإن لم يصرّح بجهل الكافر، إلاّ أنّ التقابل المذكور يُظهر أنّ


[1]. نهج البلاغة، الحكمة 107.

[2]. سورة النحل، الآية 70.

تسنيم، جلد 2

617

العلم مختلط بالإيمان وأنّ المؤمن عالم، وأنّ الكفر مقترن بالجهالة وأنّ الكافر جاهل.

تنويه: 1. جملة ﴿فَيَعلَمُون ...﴾ الواردة في وصف المؤمنين تستبطن الأمر والإرشاد أيضاً؛ بمعنى: المؤمنون يعلمون، وعليهم أن يعلموا ويتعلّموا.

إنّ جملة ﴿فَيَقُولُون﴾ هي ذكر للاّزم بعد حذف الملزوم وهي بمعنى: «فأمّا الذين كفروا فهم جهّال» ولكونهم جهّالاً فهم يقولون: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَٰذَا مَثَلاً﴾. من هذا المنطلق يقول عزّ من قائل بخصوص المعصية: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾[1]؛ أي: إنّ المجرمين يرتكبون المعاصي جرّاء الجهالة (جهل العقل العمليّ)، لا على خلفيّة الجهل بالموضوع أو الحكم (جهل العقل النظريّ)؛ لأنّ ارتكابهم للخطيئة إذا كان بسبب الجهل القصوريّ فإنّه لا يُعدّ معصية في الكثير من الموارد.

2. جملة ﴿فَيَقُولُون ...﴾ التي جاءت في وصف الكفّار هي كذلك تنطوي على لونٍ من الأمر والنهي عن المنكر؛ أي: يتحتّم على الكفّار أن يجتنبوا الكفر ولوازمه، وينخرطوا في سلك المؤمنين والعلماء.

الهداية والإضلال الإلهيّان

كلتا الجملتين ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهدِي بِهِ كَثِيراً ...﴾ هما من كلام الله عزّ وجلّ[2]. إنّ الله تعالى ينسب الإضلال والهداية هنا إلى نفسه. والكثرة في


[1]. سورة النساء، الآية 17.

[2]. تخيّل البعض أن الجملتين هما من كلام الكفّار، واعتقد البعض ذلك في الجملة الأولى فقط (تفسير البحر المحيط، ج1، ص270).

تسنيم، جلد 2

618

هذه الجملة هي كثرة نفسيّة وليست نسبيّة. وتوضيح ذلك: إنّ القرآن يقول من جهة: المؤمنون قلّة: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[1]، ويقول من جهة اُخرى: إنّ الله يهدي الكثيرين: ﴿وَيَهدِي بهِ كَثِيراً﴾. يُستفاد من هذين التعبيرين أنّ المؤمنين ليسوا قلّة بحدّ ذاتهم، لكنّهم عندما يقارنون بالكفّار فإنّ عددهم بالنسبة إلى الكفّار قليل. بناءً على هذا، فالكفّار كثيرون نفسيّاً، وكثيرون نسبيّاً في آن معاً، أمّا المؤمنون فهم كثيرون نفسيّاً فقط.

يمكن تبرير كثرة المؤمنين أيضاً بطريقة أخرى من خلال البيان التالي: أ: الإيمان هو حكمة؛ فالله عزّ وجلّ بعدما يذكر بعض معارف الحكمة النظريّة وقسماً من أحكام الحكمة العمليّة يقول: ﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾[2]؛ بمعنى أنّ الآثار النظريّة والعمليّة للإسلام هي الحكمة الإلهيّة. ب. الحكمة هي من سنخ الكوثر، ولقد أتى القرآن الكريم على ذكرها بعنوان أنّها «الخير الكثير»: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾[3]. ج. جرّاء الانتفاع من الإيمان والعمل الصالح فإنّ المؤمنين حائزون على الحكمة، وإنّ الحكماء هم أهل الكوثر، وكيفما كان الكوثر فهو كثير. من هذه الناحية فإنّ المؤمنين، بقطع النظر عن كثرتهم الكمّية وبلحاظ داخل إطار فئتهم، وبصرف النظر عن قياسهم بالآخرين، فهم يتمتّعون بكثرة كيفيّة ومعنويّة


[1]. سورة سبأ، الآية 13.

[2]. سورة الإسراء، الآية 39.

[3]. سورة البقرة، الآية 269.

تسنيم، جلد 2

619

خاصّة، بحيث أنّ الكافرين والمنافقين المتكاثرين محرومون من هذه الكثرة الكوثريّة. لقد أشار الزمخشريّ إلى جانب من هذا المبحث الشامخ مستشهداً ببيت الشعر هذا:

إنّ الكِرامَ كثيرٌ في البلاد وإنْ قلُّوا، كما غيرهم قُلٌّ وإن كَثُروا[1]

الإضلال والهداية بالنسبة لله تعالى هما على قسمين: أوّلهما ابتدائيّ، وثانيهما جزائيّ. والهداية الابتدائيّة هي من الأوصاف الكماليّة للحقّ والتي عبّر عنها بتعابير من قبيل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾[2]، و﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[3]، و﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾[4]، وهي على نوعين: الأوّل تشريعيّ؛ بمعنى «إراءة الطريق» وهو من نصيب جميع البشر، والآخر تكوينيّ؛ وهو ما يشمل كافّة الموجودات أعمّ من الإنسان وغير الإنسان؛ لأنّ الله قد هدى الجميع إلى ما يناسبهم من الكمالات عن طريق الفطرة أو الغريزة أو الميل: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ‏ كُلَّ شَي‏ْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾[5].

ما خلا الهداية العموميّة الابتدائيّة فإنّ لله سبحانه هداية خاصّة للمكلّفين تُدعى الهداية الجزائيّة وهي بمعنى «الإيصال إلى المطلوب» والتسديد والتأييد، وهي من نصيب أولئك الذين قبلوا الحقّ بحسن اختيارهم وعملوا به جرّاء الهداية الابتدائيّة لله عزّ وجلّ لهم؛ فالذي آمن بالمعارف الإلهيّة طبقاً للهداية التشريعيّة وعمل بالأحكام فإنّ الله جلّ شأنه


[1]. الكشّاف، ج1، ص118.

[2]. سورة الإنسان، الآية 3.

[3]. سورة البلد، الآية 10.

[4]. سورة البقرة، الآية 185.

[5]. سورة طٰه، الآية 50.

تسنيم، جلد 2

620

سيحبوه بتوفيق يعينه على طيّ ما تبقّى من الطريق بيسر وسهولة وهذا التوفيق هو نتاج لعمله هو. من هذا المنطلق فإنّ الله يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ‏ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾[1]؛ فمن كان من أهل العطاء والتقوى والتصديق، فسنيسّر له سبيل العبادة والبرّ، كي يكون بمقدوره طيّ سبُل التكامل بسهولة، وهذه هي عين الهداية الجزائيّة.

والآيات من قبيل: ﴿وَالَّذِينَ ٱهْتَدَواْ زَادَهُمْ هُدًى‏﴾[2]، و﴿مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[3]، و﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[4]، و﴿إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾[5] هي ناظرة إلى هذه الهداية، وإنّ الآية الشريفة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[6] فهي كذلك تشير إلى نفس هذه الهداية وهي تعني: إلهي! لقد أوضحت لنا طريق التقرّب إليك، ولقد عرفناه، ونحن الآن نسير نحوك؛ فالآن تلطّف علينا بنورانيّة حتّى نلتذّ بها بطاعتك، وننفر بها من معصيتك. فالله قد وعد أنّه سيشمل من يسير في طريق الحقّ بلطفه الخاصّ؛ كما يقول جلّ وعلا بخصوص أصحاب الكهف: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى‏﴾[7].

أمّا الإضلال الابتدائيّ فهو من أوصاف النقص بالنسبة لله عزّ وجلّ ومن الصفات السلبيّة له، ويمكن افتراضه في صورتين:


[1]. سورة الليل، الآيات 5 ـ 7.

[2]. سورة محمّد(، الآية 17.

[3]. سورة التغابن، الآية 11.

[4]. سورة الشورى، الآية 13.

[5]. سورة النور، الآية 54.

[6]. سورة الفاتحة، الآية 6.

[7]. سورة الكهف، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

621

1. تشريعيّ: أي وضع القانون السيّئ والباطل، والنطق بالباطل، أو الإحجام عن بيان الحقيقة. وهذا النوع من الإضلال الابتدائيّ غير قابل للإسناد إلى الله تعالى؛ إذ لا يصدر الفعل الخطأ والباطل من الله وهو الحقّ المحض.

2. تكوينيّ: أي عدم منح التوفيق وترك الإنسان وشأنه، أو عدم توفير وسائل الخير له. مثل هذا الإضلال كذلك هو غير مستند ابتداءً إلى الله سبحانه؛ لأنّه ـ من جهة ـ يتنافى مع الهداية العموميّة التكوينيّة له تعالى والمطروحة في الآية الشريفة: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ‏ كُلَّ شَي‏ْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾، ومن جهة أخرى فهو لا ينسجم مع الهداية التشريعيّة له عزّ اسمه؛ إذ أنّ سَنّ قانون من أجل هداية البشريّة لا يتلاءم مع الإضلال الابتدائيّ التكوينيّ للبشر.

أمّا الإضلال التكوينيّ الذي هو بعنوان جزاء للمنحرفين والمجرمين فهو قابل للإسناد إلى الله تعالى؛ إذ عندما يزيغ الإنسان مع ما لديه من حجّة العقل والنقل والكتاب والسنّة، ويصرّ على العصيان والطغيان على الرغم من كون باب التوبة والإنابة مفتوحاً أمامه، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيذره وشأنه ويحرمه من جانبه من أيّ فيض: ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾[1].

على الرغم من قابليّة إسناد الإضلال الجزائيّ إلى الله سبحانه لكنّه ينطوي على معنى سلبيّ، وليس إيجابيّاً، بالنسبة له عزّ وجلّ. إضلال الله هو منع الفيض من جانبه وقطع رحمته الخاصّة؛ لأنّ الضلالة هي عدم ملَكة الهداية، وهي أمر عدميّ وغير قابل للخلق والإيجاد، وفيما يتعلّق


[1]. سورة الصفّ، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

622

بأصل هذا المعنى يقول عزّ من قائل: ﴿مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[1]؛ فكلّ باب يفتحه الله عزّ وجلّ انطلاقاً من رحمته الخاصّة فليس بمستطاع أحد إغلاقه، وأيّ شيء يمسكه الله بدافع رحمته الخاصّة فليس بمقدور أحد إعطاؤه، وهذه القاعدة العامّة هي قاعدة قرآنيّة، وعلى أساس ذلك يقول الرسول الأعظم(ص) لربّه: «إلهي... لا تَكِلني إلى نفسي طرفة عين أبداً»[2]. كما ويقول الإمام السجّاد(ص): «مِن أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك، ومن أين لي النجاة ولا تُستطاع إلاّ بك‏»[3].

والقرآن الكريم تارة ينسب الإضلال الابتدائيّ ـ الذي هو بمعنى الوسوسة، والإغواء، والدعوة إلى الخطيئة ـ إلى الشيطان؛ كما في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ﴾[4]، وتارة أخرى ينسبه إلى المنحرفين من الناس من أمثال فرعون: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ﴾[5]، والسامريّ: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾[6]. ففرعون والسامريّ كانا شيطانين إنسيّين قد وصلا إلى مرحلة الشيطنة نتيجة التدبير القبيح للشيطان الخارجيّ.

في القرآن الكريم هناك طائفتان من الآيات التي تتحدّث عن


[1]. سورة فاطر، الآية 2.

[2]. الكافي، ج7، ص2.

[3]. مصباح المتهجّد، ص524؛ ومفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثماليّ.

[4]. سورة يٰس، الآية 62.

[5]. سورة طٰه، الآية 79.

[6]. سورة طٰه، الآية 85 .

تسنيم، جلد 2

623

الأشخاص المشمولين بالهداية والإضلال الجزائيّين: فطائفة مطلقة؛ مثل: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[1]، حيث لا يُعلم أيّ الأشخاص يهديهم هداية جزائيّة وأيّهم يضلّهم كعقاب لهم؛ كما يقول سبحانه في الهداية التشريعيّة: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ‏ لِلْعَالَمِينَ﴾[2]، أو﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾[3]، أمّا الطائفة الأخرى فمقيِّدة لهذا الإطلاق؛ مثلما يقول في مجال تقييد إطلاق الإضلال الجزائيّ: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ‏ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾[4]؛ فالذي يختار سبيل الإنحراف بعد مجيء الهداية الابتدائيّة، ولم يكن حظّه من الإمهال الإلهيّ غير الإهمال، فإنّه سيُوكَل إلى نفسه وهذا الشخص هو الذي يتّبع هوى نفسه عن علم منه، وإنّ الله عزّ اسمه يذر هؤلاء وشأنهم عن علم منهم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ‏ عِلْمٍ﴾[5]. فالإنسان الشاكّ، أو من كان في صدد البحث، أو الذي لا تطال يده الأحكام الإلهيّة، لا يكون عرضة للإضلال الجزائيّ؛ لأنّه لم يعرف طريق الحقّ بعدُ كي يكون الانحراف متصوَّراً في شأنه. كما ويقول عزّ من قائل في تقييده لإطلاق الهداية الجزائيّة: ﴿يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾[6]؛ فمن ولَّى وجهه صوب الحقّ، وانقطع عن الأغيار جعل الله عزّ وجلّ الهداية الجزائيّة من نصيبه.


[1]. سورة فاطر، الآية 8 .

[2]. سورة الأنعام، الآية 90.

[3]. سورة الفرقان، الآية 1.

[4]. سورة التوبة، الآية 115.

[5]. سورة الجاثية، الآية 23.

[6]. سورة الرعد، الآية 27.

تسنيم، جلد 2

624

الإضلال الجزائيّ للفاسقين

إنّ الضلالة التي تحيق بابن آدم نتيجة أعماله هي بسبب إضلال الله الجزائيّ له. إذن فهذا الإضلال متأخّر عن عمله السيّئ (الفسق) وليس متقدّماً عليه. فالله سبحانه وتعالى يكِل الفاسق إلى نفسه كإضلال جزائيّ له؛ بمعنى أنّ الذي يكون في عمله وعقيدته من أهل الإسراف والإتراف والارتياب بسوء اختيار منه فسوف يُبتلى بالإضلال الجزائيّ: ﴿كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾[1].

إنّ تعليق الحكم (الإضلال الجزائيّ) على الوصف (الفسق) في الآية محطّ البحث هو تبيان للعلّة، وهو بمعنى: أنّ الإضلال الجزائيّ من قِبل الله هو جرّاء فسق الفاسقين.

أمّا جملة ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِين﴾ فهي مقيِّدة لإطلاق صدر الآية، أي لجملة ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾. إذن فالكثرة الواقعة تحت الإضلال الجزائيّ تمثّل الفاسقين وهذا التقييد مصحوب بالحصر؛ على خلاف تقييد الهداية الجزائيّة حيث لا حصر فيها؛ فالله عزّ وجلّ ـ على سبيل المثال ـ لم يقل في أيّ مورد: «وما يهدي إليه إلاّ من ينيب». من هنا فقد يكون الفاسق محطّ رحمة الله وهدايته على أثر دعاء والديه أو دعاء الآخرين فلا يُبتلى بعقوبة الإضلال، بل قد يُشمل بالرحمة الخاصّة، ويدرك حسن العاقبة والعافية الإلهيّة أيضاً.


[1]. سورة غافر، الآية 34.

تسنيم، جلد 2

625

لطائف وإشارات

[1] الحياء من الصفات الكماليّة

إنّ الله جلّ وعلا يتمتّع بجميع صفات الكمال. إلاّ أنّ بعض صفات الكمال محدود؛ أي الصفات التي تقابلها صفة كماليّة اُخرى ويكون الله عزّ وجلّ متّصفاً بكلتا الصفتين الكماليّتين المتقابلتين. مثل هذه الصفات إنّما تُنتزع من مقام فعل الله تعالى ولا علاقة لها بمقام ذاته ويُقال لها «صفات الفعل»؛ كالإحياء والإماتة، فكما أنّ الله هو «المحيي» فهو «المميت» أيضاً، أو القبض والبسط، فكما أنّ الله هو «القابض» فهو «الباسط» كذلك، وإنّ كلاًّ منها هي صفة كمال لله بحدّ ذاتها. كذلك فإنّ بعض الصفات الكماليّة غير محدود ولا يقابلها إلاّ العدم، فالله جلّ شأنه يتّصف بهذه الصفة الكماليّة فحسب لا بمقابلها. وهذا النوع من الكمالات الغير المحدودة هي صفات الذات الإلهيّة وهي عين ذاته؛ كالعلم والقدرة والحياة؛ إذ أنّ ما يقابل العلم هو الجهل ولا يتّصف الله بالجهل إطلاقاً، والقدرة هي في مقابل العجز، وليس الله بعاجز أبداً.

والله سبحانه وتعالى هو حَيِيّ في مقام الفعل وهو يستحيي من القيام بما ينافي كماله؛ مثل ما لو ردّ يد المؤمن المحتاج خالية بعد أن مدّها إليه بالسؤال. بيد أنّ ضرب المثل بالأشياء الحقيرة في سبيل تبيين مبحث راقٍ ليس من مجالات الحياء؛ لأنّ ذلك لا ينافي أيّ وصف كماليّ لله كي يستحيي منه.

تنويه: قد يكون نفي الاستحياء في مقابل إثبات استحياء الكفّار؛ فهم

تسنيم، جلد 2

626

يقولون: ألا يستحي الله من ضرب هذه الأمثال؟! فيقول الله: إنّ الله ـ تحقيقاً ـ لا يستحيي من ذلك.

[2] المراد من عدم استحياء الله

اختلف المفسّرون في تفسير الاستحياء المنفيّ عن الله؛ فطائفة فسّرته بالترك فقالوا: عدم الاستحياء هو بمعنى عدم الترك، واُخرى اعتبرته بمعنى الخشية والخوف فقالوا: عدم الاستحياء يعني عدم الخوف، وطائفة ثالثة ـ وهي الأخيرة ـ عدّته بمعنى الامتناع ففسّروا عدم الاستحياء بعدم الامتناع. بالطبع هذه المعاني قريبة من بعضها. من منطلق البحث القرآنيّ فإنّ منشأ هذه التأويلات هو اعتقاد البعض بأنّه لا ينبغي أن يتّصف الله بالمعاني اللغويّة للألفاظ، كما أنّ البعض الآخر يذهب إلى التصوّر القائل: بأنّنا نؤمن بما اُنزل ولكنّنا نوكل علمه إلى الله؛ إذ ليس بمقدور المخلوق الاطّلاع على حقيقة أوصاف الخالق، وأخيراً فقول الجماعة الثالثة، وهو الذي عليه رأي أكثر أهل العلم، هو: إنّ الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز، فما صحّ وفقاً للعقل نسبناه إليه سبحانه، وما استحال طبقاً للعقل أوّلناه بما يليق به تعالى[1].

تنويه: 1. يشكّل الغور في مجال الصرف والنحو ـ من ناحية ـ المحور الأساسيّ لتفسير البعض من الباحثين في المجال القرآنيّ، ومن ناحية أخرى فإنّ ما توصّلوا إليه في مجال العقل فهو يعاني إمّا من


[1]. راجع تفسير البحر المحيط، ج1، ص265.

تسنيم، جلد 2

627

تفريط الأشاعرة وإمّا من إفراط المعتزلة، في حين ما زالت معارف الوحي الإلهيّ مهجورة ومستورة.

2. الحياء والخجل يكون أحياناً على أساس التقاليد، والعادات، والآداب القوميّة، والعرقيّة، واللغويّة، وأمثال ذلك ممّا يفتقر إلى خلفيّة من الحقيقة، وهو قابل للتحوّل بمجرّد اعتبار المعتبرين في كلّ عصر ومصر وجيل، وفي أحيان اُخرى يرتكز على حقائق التكوين بحيث يُعدّ علامة على ثبوت كمال وجوديّ أو سقوطه. فالشيء المستقرّ في فهرست الاعتبار، والخارج عن قائمة التكوين، والذي لا يشكّل علّةً لأمر وجوديّ أو أمارةً على كمال وجوديّ فإنّه، وإنْ تمتّع بأهميّة خاصّة لدى قوم أو اُمّة، لكنّه ليس ذا أثر لدى الله سبحانه وتعالى. من هذا المنطلق فإنّ القرآن الكريم يعرض لأصلٍ جامع وشامل ليُعلَم حول أيّ محور تدور أفعال الله، وأنّ زمام هذا المحور إنّما هو بيد الحكمة الإلهيّة الغير المتناهيّة: ﴿... إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ...﴾[1].

بعد استعراض الآداب الاجتماعيّة الخاصّة بالحضور في مجلس الرسول الأكرم(ص) فقد علّل النهي عن الأحاديث التي يأنس بها الناس العاديّون والمملّة للنبيّ(ص)، بأنّ تلك الأحاديث التي تجلب لكم الاُنس هي مدعاة لأذى الرسول الأعظم(ص) وهو يستحي من نهيكم لكنّ الله لا يستحي من ذلك؛ لأنّ فعلكم هو منكر، والنهي عن فعلكم هو حقّ، والله لا يستحيي من الحقّ. إذن فالله ينهاكم عن الأحاديث التي تسبّب الأذى للنبيّ الكريم(ص)، ورسوله الأمين بدوره يبلّغكم هذا النهي.


[1]. سورة الأحزاب، الآية 53.

تسنيم، جلد 2

628

الغرض هو أنّ المدار في حياء الله وعدمه هو كون الشيء حقّاً أو باطلاً، وليس الجعل الاعتباريّ، والمقصود بالحقّ أو الباطل هو توفّر الكمال الوجوديّ أو نقصه، وهو أمر تكوينيّ، وليس قضيّة اعتباريّة. فمسألة ضرب المثل بالجماد والنبات والحيوان من أجل تبيين المعارف هو أمر حقّ، والله لا يستحيي من أيّ حقّ. ومن هذا المنطلق فهو تعالى يضرب الأمثال بقضايا ذات علاقة بالبعوضة والذبابة وأمثالها. من هنا فإنّ المؤمنين الحقيقيّين العالِمين بالعلوم الإلهيّة يدركون أحقيّة ذلك: ﴿وَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ﴾؛ بمعنى، أنّ هذا التمثيل هو حقّ، وقد اُوضح سابقاً أنّ الله لا يستحيي من الحقّ؛ إذن فالله لا يستحيي من هذا التمثيل.

[3] التعريف بالمَثَل

إنّ تعريف أيّ شيء يتمّ إمّا بالحدّ، أو بالرسم، أو بالمَثَل. لكنّ فهم الحدّ التامّ، والرسم التامّ للأشياء يشقّ على الكثير من الناس؛ إذ أنّ إدراك الذاتيّات ولوازم ذوات الأشياء ليس بالأمر الميسور للجميع؛ أمّا المَثَل فهو لا يبيّن الذاتيّات ولوازم الذات، بل إنّه يتّخذ من الشيء القابل للفهم لدى المخاطب وسيلة للتعريف به. فالمَثَل يهبط بالمعارف من جهة، ويرفع مستوى تفكير المخاطَب من جهة أخرى، وإذا صار مبحث معيّن في مستوى تفكير المخاطب، فقد أصبح قابلاً للإدراك من قِبله؛ كما هو الحال عندما يُراد التعريف بنسبة الروح إلى البدن فإنّه يُضرب المثل القائل: «الروح في البدن كالسلطان في المدينة وكالربّان في السفينة». فتعريف كهذا لا هو من قبيل التعريف الحدّي ولا الرسميّ.

تسنيم، جلد 2

629

فبالرغم من احتواء القرآن على مسائل عميقة إلاّ أنّه يصبّها في قالب الأمثال كي يتيسّر فهْم تلك المعارف العميقة للجميع. وكما قد اُشير إليه في مقدّمة التفسير فإنّ سيّد الشهداء وأبا عبد الله الصادق ‘ يقولان: إنّ لمعارف القرآن أربع درجات وإنّ نصيب الناس من القرآن متفاوت: «كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء؛ على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوامّ، والإشارة للخواصّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء(ع)‏»[1]، إلاّ أنّ جميع مخاطَبي القرآن يشتركون في أمر واحد وهو أنّهم يفهمون المباحث السماويّة؛ وإن كانت درجة الفهم مثل درجة المفهوم غير متساوية لكنّهم يدركون ـ في نهاية المطاف ـ بماذا يجب عليهم أن يعتقدوا، وماذا يتحتّم عليهم أن يفعلوا، وإلى أين يجب أن يذهبوا أو لا يذهبوا.

تنويه: يعتبر الفخر الرازيّ في أثناء تحسينه للمثل أنّه شائع الاستعمال في كلتا اللغتين العربيّة والفارسيّة، وبعد استعراضه لشواهد من أمثال العرب يقول: «وأمّا العجم فيدلّ عليه كتاب كليلة ودمنة وأمثاله» أي إنّه نموذج لضرب الأمثال بين الأعاجم. ثمّ ينقل قسماً من أمثال هذا الكتاب[2].

[4] تقسيم الأمثال إلى فريضة ونافلة

للمثل بالنسبة لبعض الأشخاص فائدة تأسيسيّة وبالنسبة للبعض الآخر ثمرة تأييديّة؛ وذلك لأنّ الضعاف أو المتوسّطين من المخاطَبين،


[1]. أعلام الدين، ص303؛ وبحار الأنوار، ج75، ص278.

[2]. التفسير الكبير، مج1، ج1، ص146.

تسنيم، جلد 2

630

القاصرين عن إداراك المباحث العميقة، يستوعبون أصل المبحث في حيّز الخيال وعالَم المثال، وإنْ حُرموا من كُنهه العقليّ، ولا يُتوقّع من الكائن المتوسّط أكثر من الخيال وعالَم المثال. أمّا الراقون المتميّزون من المخاطَبين الذين سموا عن عالم الحسّ، وارتقوا عن عالَم الخيال والمثال، فإذا كانوا من أولئك الذين ربّوا جميع مجاريهم الإدراكيّة والتحريكيّة على طاعة العقل تحت إمامته، فمهما فَهِم العقل في أوج معرفته التجرّديّة أطاعت القوى التي دونه في محاكاة صادقة له، وليس أنّها لا تخالف تفكير العقل فحسب، بل إنّها دوماً تنظّم صورها المثاليّة بقيادة العقل وتدوّنها في سياق محاكاة المعقول، وإذا فشل مثل هذا الإنسان في بلوغ المقام المنيع للتسلّط على جميع شؤون النفس، ولم يقدر عقله المتوقّد الفكر إلاّ على التحليق لوحده، ولم يتمكّن من إمامة وقيادة وضبط وتعديل جميع ما دونه من القوى أو السيطرة عليها، ففي مثل هذا الفرض فإنّ العقل، وإن كان بمقدوره إدراك المعارف المجرّدة والمعقولة، إلاّ أنّ الخيال سيزاحمه بشكل مستمرّ، وسيُظهر التواني والتهاون، وأحياناً الاختلاف، وتارةً المخالفة في تنظيم الصورة المثاليّة وحكاية المعنى المعقول، وفي مثل هذا الجدال والجهاد، سوف يشعر العقل بالإرهاق والفتور. من هذه الجهة فإنّه من الممكن عدّ التمثيل من الفرائض بالنسبة لتفهيم البعض، ومن النوافل بالنسبة للبعض الآخر.

[5] الاختلاف الجوهريّ بين التمثيل والتشبيه

على الرغم من أنّ لكلٍّ من التمثيل والتشبيه السهم الأوفر في تسهيل

تسنيم، جلد 2

631

المبحث العميق، إلاّ أنّهما يختلفان اختلافاً جوهريّاً؛ فالتمثيل المصطلح هو بيان للمثال الذي يتّحد مع الممثَّل في أصل الحقيقة، لكنّهما ينفصلان عن بعضهما في الدرجة الوجوديّة بحيث يكون أحدهما محسوساً والآخر متخيّلاً أو معقولاً؛ نظير شخص الإنسان الخارجيّ حيث يكون المثال لمعناه المعقول والكلي. أمّا التشبيه المعهود فهو تنظير شيء بشيء آخر يختلف معه بالماهيّة، لكنّه يناظره في بعض الأوصاف؛ كما في تشبيه تولّي الصنم والوثن بالاعتماد على بيت العنكبوت، أو تشبيه المكلّف الغير الملتزم بالحمار البليد الذي لا يفهم شيئاً ممّا يحمله من الكتب، أو تشبيه الشخص الغير المقيّد ـ بالاُسس الحقوقيّة والمعايير الأخلاقيّة ـ بالكلب اللاهث، والمهاجم الغير المنضبط الذي يشنّ هجومه في غير الموضع المناسب.

تنويه: 1. إنّ ضرورة التمثيل في العلوم الرياضيّة جليّة تماماً؛ كما أنّه لا شكّ في وضوح لزوم التشبيه في العلوم الأدبيّة. في علم الرياضيّات، وبُغية انسجام الخيال والعقل أوّلاً، وتوجيه الحسّ والخيال في اتّجاه واحد ثانياً، يُطرح نوعان من التمثيل: الأوّل: تصوير المبحث الرياضيّ المعقول والعميق في صورة خياليّة، كي يتنزّل في كلام معلّم الرياضيّات وكتابته تنزّلاً خياليّاً من المعقول إلى المتخيَّل، والثاني: تنزُّل المبحث المتخيَّل تنزّلاً حسّياً من خلال رسم الشكل الهندسيّ سواءٌ كان مسطّحاً أو مجسّماً ومحجّماً.

2. من الممكن أحياناً أن يكون الشيء تشبيهاً في الظاهر إلاّ أنّه تمثيل في الباطن، وفي القيامة، حيث تُبلى السرائر وتُكشف البواطن، سوف يتّضح أنّ ما كان يبيّن في الدنيا كان من سنخ التمثيل لا من صنف التشبيه. من هذا المنطلق فإنّه من الممكن أن يكون ما ذُكر بخصوص

تسنيم، جلد 2

632

الكلب في الآية 176 من سورة الأعراف، وما قيل في الحمار في الآية 5 من سورة الجمعة هو من نوع التمثيل في مقابل التشبيه، لا من سنخ التمثيل الذي يُعدّ أحياناً معادلاً للتشبيه، وليس مقابلاً له.

3. إنّ قوّة وضعف التمثيل هو في الرسالة التي يوجّهها. إذن فأقوى وأفضل الأمثال بالنسبة لعبادة الأوثان هو بيت العنكبوت؛ لأنّ بيت العنكبوت، كما هو حال عبادة الأصنام، ضعيف للغاية؛ بناءً عليه فإنّه لا ينبغي الخلط بين قدرة التمثيل والقوّة الوجوديّة للمثال. فالذي يقول: ﴿مَاذا أرادَ اللهُ بِهٰذا مثلاً﴾ إنّما يغالط ويخلط بين رسالة التمثيل ومعيار قوّته وضعفه، وبين قوّة وضعف المثال.

[6] التناسب مع آيات التحدّي ونفي الريب

من الممكن أن يكون التناسب بين نزول الآية محلّ البحث ونزول آية التحدّي ونفي الريب هو إعلام الباري تعالى بانتفاء أيّ شائبة لكون القرآن بشريّاً. فالذين لم يؤمنوا، وإنّ الريب والشكّ في أحقّية القرآن الكريم كان ولا زال موجوداً في قلوبهم المريضة، كانوا يتّخذون من التمثيل بالمحقّرات ذريعة للقول بأنّه مدعاة للارتياب، وكانوا يعدّون وجود الأمثال الحقيرة سبباً للريب، ويذكرونها بتحقير وإهانة: ﴿ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً﴾. فكلمة ﴿هذا﴾ هنا تُستخدم للتحقير؛ مثل: ﴿أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً﴾[1]، و﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾[2]، حيث إنّها


[1]. سورة الفرقان، الآية 41.

[2]. سورة الإسراء، الآية 62.

تسنيم، جلد 2

633

قد جاءت في هاتين الآيتن للتحقير والتوهين أيضاً. عندئذٍ عمد الله عزّ وجلّ، من أجل رفع الريب، إلى إزاحة الستار عن حقّانيّة مثل هذه الأمثال، فاضحاً بذلك حجّة مرضى القلوب، ومعتبراً أنّ رائحة القرآن الكريم الزاكية أمارة وعلامة على كونها من الوحي:

ومن قال للمسكِ: أين الشذا؟ يكذّبـــهُ ريــحـــهُ الطيـّــبُ

[7] سكوت المؤمنين عن تواضع وتأدّب

تستدعي بلاغة القرآن الكريم أن يكون الكلام بمقتضى الحال؛ فأحياناً تقتضي حالة التأدّب والتخضّع والتخشّع السكوت عن خضوعٍ وتواضعٍ فتكتفي بالإيمان الباطنيّ بالحقّ. من هذا المنطلق لم يُنقل عن المؤمنين أيّ مقال في الآية مورد البحث، واكتُفي بمجرّد علمهم بأحقّية المثل، مع أنّ ظاهر التقابل هو أن يُقال: «فأمّا الذين آمنوا فيقولون إنّه الحقّ»، بيد أنّه لم يُنقل في الآية أيّ كلام عن المؤمنين واكتُفي بمجرّد احتفاظهم بالسرّ، وصمتهم المشوب بالتأدّب؛ أمّا الكفّار فهم يعتبرون في بواطنهم أنّ الوحي الإلهيّ ما هو إلاّ أساطير، ليس هذا فحسب، بل إنّهم يتفوّهون بذلك بلا تأدّب، ويصرّحون به علناً بعبارات ملؤها التحقير. من هنا، ففيما يخصّ الكافرين، فإنّ القرآن لم يَكتفِ بمجرّد إنكارهم الباطنيّ.

[8] بطلان استنتاج الجَبْر من الآية

على الرغم من أنّه قد مرّت لحدّ الآن آيات من سورتي الحمد والبقرة تَعدّ الله سبحانه وتعالى أنّه المالك المطلق، والنافذ المحض في كلّ الأمور،

تسنيم، جلد 2

634

وأنّ نفوذه المطلق غير محدود بتفويض العباد، وغير مسدود بسلبهم الاختيار، وغير ممنوع باستقلالهم؛ كما أنّه لحدّ هذه اللحظة قد بُيّنت آيات تَعتبر أنّ الإنسان حرّ وغير مُجبَر، وأنّ نفوذه الحرّ غير محدود بجبر الله تعالى، وغير مسدود بسلبه الإرادة، وغير ممنوع بتدخّله المباشر. إلاّ أنّ ظهور الآية محلّ البحث في إسناد الإضلال والهداية إلى الله يفوق الآيات السالفة، ولمّا لم تُسبق هذه الآية بمثيل لها، وإن كانت ملحوقة بما يماثلها، فهي تَظهر وكأنّها مصوغة بصيغة جبر الإنسان، ومصبوغة بصبغة سلب الاختيار منه. من هنا فإنّ جمعاً كبيراً من المفسّرين الأشعريّي المذهب، وعلى رأسهم الإمام الرازيّ، قد تمسّكوا بذيل الآية، وإنّ البعض من المفسّرين المعتزليّي المرام قد عمدوا إلى الردّ على ذلك أو دفع الدخل المقدّر في هذا المجال، وفي مقدّمتهم الزمخشريّ.

يقول الإمام الرازيّ في ذيل الآية محلّ البحث:

ونريد أن نتكلّم هٰهنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يُرجع إليه في كلّ ما يجيء في هذا المعنى من الآيات[1].

ثمّ عمد بعد ذلك ـ بزعمه ـ إلى تبيين المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة لبحث الجبر بشكل مفصّل، واعتبر أنّ بعض الأصول الكلاميّة هي من دواعي التشويش على جميع أدلّة المعتزلة واضطرابها، وفي أثناء البحث حَكَم عليهم بالجبر، قائلاً: «وهذا عين الجبر الذي تفرّون منه وإنّه ملاقيكم»[2]، ثمّ يقول في آخر البحث:


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص137.

[2]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص158.

تسنيم، جلد 2

635

قالت الجبريّة: إنّا قد دللنا بالدلائل العقليّة، التي لا تقبل الاحتمال والتأويل، على أنّ خالق هذه الأفعال [أفعال الإنسان] هو الله تعالى، إمّا بواسطة أو بغير واسطة، والوجوه التي تمسّكتم بها [أيّها المعتزلة] وجوه نقليّة قابلة للاحتمال، والقاطع لا يعارضة المُحتمَل. فوجب المصير إلى ما قلناه [أي الجبر][1].

تنويه: وهنا نورد بحثاً إجماليّاً عن الجبر والتفويض في عشر نقاط[2]:

الأولى: ضرورة الفصل بين الجبر العِلّيّ والجبر في مقابل التفويض والاختيار؛ لأنّ الجبر العِلّي هو ما نطقت به القاعدة البرهانيّة القائلة: «الشيء ما لم يجب لم يُوجد»، وفي مقابله يكون القول بالأولويّة، المبتلى به نفر من المتكلّمين. والمراد من الجبر العِلّي هو أنّه ما لم تصل علّة الشيء التامّة إلى نصاب الكمال والتمام فلن يوجد ذلك الشيء إطلاقاً. فالذي قبل بأصل العلّية على أنّها في مقابل الصدفة والاتفاق، فليس أمامه من بُدّ سوى القبول بالجبر العِلّي، وإنّ محور الجبر العلّي خارج تماماً عن مدار الجبر والتفويض في فعل الإنسان.

الثانية: لزوم الاعتراف باستناد كافّة الموجودات الإمكانيّة ـ سواء ما طُرح بعنوان كونه فعل الإنسان، أو باعتباره موجوداً ممكناً آخر ـ إلى الواجب تعالى؛ بحيث أنّه ما من موجود يُوجد من دون سبب، وما من موجود ينتهي لغير الواجب، بل إنّ جيمع الموجودات


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص161.

[2]. أخذت كتب الحكمة والكلام على عاتقها التعمّق في مبحث الجبر والتفويض، فراجع «رحيق مختوم» (القسم الرابع من المجلّد الثاني للأسفار، مبحث أحكام العلّة الفاعليّة)، و«عليّ بن موسى الرضا والفلسفة الإلهيّة»، ص68 ـ 94.

تسنيم، جلد 2

636

الإمكانيّة تستند إلى الواجب، إمّا من دون واسطة، أو بالواسطة؛ كما أشار الفخر الرازيّ إليه.

الثالثة: ضرورة تحليل كيفيّة استناد كلّ ممكن خاصّ إلى الواجب؛ فهل هذا الاستناد بواسطة أو من غير واسطة، وهل هذه الواسطة هي اختيار وانتخاب وإرادة الفاعل الداني والمبدأ القريب، أم لا؟

الرابعة: ضرورة الحفاظ على خصوصيّة كلّ موجود في أيّ مرتبة؛ كي يصبح من الواضح أنّ انتهاء كلّ موجود إمكانيّ إلى الواجب لا يتنافى مع استناد خصوصيّة كلّ فعل إلى مبدئه القريب.

الخامسة: لزوم مناقشة فاعليّة الإنسان الذي هو مصدر الفعل، وليس مورده؛ بحيث أنّه لو كان الإنسان أداة الفعل، وأنّ الفعل الصادر منه هو كالفعل الصادر من أداة يد شخص آخر، فسوف يكون الإنسان ـ في هذه الحالة ـ «مورد الفعل»، وليس «مصدره» وسيخرج ـ نتيجة لذلك ـ عن أقسام الفاعل.

السادسة: لزوم التفريق بين الإرادة والرضا؛ كي يتّضح أنّه إذا قام شخص بعمل ما بتهديد من العدوّ، وتحديد للحدود، فإنّ الفعل الإراديّ والاختياريّ يكون قد صدر منه على نحو تامّ، وإن لم يتوفّر فيه طيب النفس ورضا الباطن عن أصل العمل المنجَز من دون مقارنة، ولكنّه من خلال التقييم المقارَن فقد اختار القيام بهذا العمل تحت وطأة الخطر المهدِّد، والحدّ المحدَّد كي ينجو بنفسه من الخطر المتوقَّع. بالطبع لا ينبغي الخلط بين الآثار الحقوقيّة والفقهيّة الخاصّة المترتّبة في مثل هذه المسائل، وبين الآثار الكلاميّة والفلسفيّة.

تسنيم، جلد 2

637

السابعة: ضرورة تعريف التفويض بشكل دقيق؛ كي يُعلم أنّ خطر التفويض إذا لم يكن أشدّ من الآثار المشؤومة للجبر، فإنّه ـ يقيناً ـ لن يكون أقلّ منها؛ إذ أنّ المحذور المهمّ للجبر هو نفي الحكمة والعدل عن الله تعالى، في حين أنّ المحظور المهمّ للتفويض هو تعدّد الأرباب، ونفي التوحيد الربوبيّ.

الثامنة: لزوم معرفة التقابل بين الجبر والتفويض؛ كي يكون معلوماً أنّ المطاردة بينهما تنحصر بالاجتماع، وليس في الارتفاع؛ وذلك لأنّ هذين الاثنين ليسا نقيضي بعضهما كي يمتنع ارتفاعهما معاً مثلما يمتنع اجتماعهما. من هذا المنطلق فإنّه من الممكن أن لا يكون فعل الإنسان على محور الجبر، ولا يكون أيضاً في مدار التفويض.

التاسعة: ضرورة دراسة وتحليل الصراط المستقيم بين الجبر والتفويض؛ إذ أنّ ارتفاع الجبر والتفويض أمر ممكن، والفاصلة بين هذين الاثنين هي الحقّ، ولابدّ ـ من أجل تشخيص هذا الحدّ الفاصل ـ من التعرّف على نواته المركزيّة التي لا تقترب من أيّ من الطرفين الباطلين؛ لأنّ الانفصال الزائد عن أحد هذين الحدّين المذكورين يوجب الاتّصال بالحدّ الآخر أو الاقتراب منه، وهذا الاقتراب الفائق عن الحدّ هو بحدّ ذاته لا يخلو من محذور.

العاشرة: ضرورة معرفة فصل الخطاب الذي هو التوحيد الأفعاليّ بعينه؛ لأنّه وإن كان الجبريّ يقول للمفوّض: «إنّ الجبر الذي تفرّ منه فإنّه ملاقيك»، كما صرّح بذلك الإمام الرازيّ، لكنّه يمكن للمفوِّض أن يوجّه إلى الجبريّ نفس هذا الطعن التفسيريّ والكلاميّ، الذي تُشمّ منه الرائحة

تسنيم، جلد 2

638

الكريهة للتنابز بالألقاب؛ كما أنّه من المحتمل أن يقول الحكيم الإلهيّ لكلّ من الأشعريّ الجبريّ، والمعتزليّ التفويضيّ: «إنّ الاختيار والأمر بين الأمرين الذي تفرّان منه فإنّه ملاقيكما»؛ مثلما أنّه من الممكن أن يقول العارف الشاهد لكلّ من الفئات الثلاث: «إنّ التوحيد الأفعاليّ الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم»؛ ذلك أنّ العارف لا يرى أنّ المنزل الواقع بين الجبر والتفويض هو «اختيار» الحكيم، بل يعتبر أنّه هو التوحيد الأفعاليّ الذي يفصله عن كلّ من المذاهب الثلاثة المعهودة بون شاسع؛ وذلك لأنّ له مبادئه التصوّريّة والتصديقيّة الخاصّة به، والتي لا تنسجم مع أيّ من المبادئ الأشعريّة، والاعتزاليّة، والفلسفيّة؛ وإن كانت مبادئ الحكمة المتعالية تمثّل الجسر المناسب لبلوغ ذلك المقام المنيع السنيع الرفيع. بالطبع من الممكن أن يكون كلّ واحد من مبنى الحكمة ومشرب العرفان صحيحاً، وفي طول بعضهما، بحيث يكون أحدهما دقيقاً والآخر أدقّ؛ وخلاصة الأمر فإنّه ليس بالمستطاع الحكم على أيّ واحد منهما بالبطلان.

[9] الإضلال الجزائيّ علامة على الاختيار

يُظهر الإضلال الجزائيّ المُستفاد من الآية محلّ البحث أنّ الإنسان مُختار في أفعاله؛ وإنْ كان الزمام النهائيّ للفعل هو بيد الله؛ أي إنّ المالكيّة التكوينيّة لله بالنسبة للأفعال محفوظة من جهة، وإنّه تعالى لم يفوِّض أمر الفعل للإنسان كي يسلب منه اختياره، ومن جهة أخرى فإنّه لم يُلحق الأذى باختيار الإنسان وإنّ الجبر باطل: «لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين‏»[1].


[1]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص114؛ وبحار الأنوار، ج4، ص197.

تسنيم، جلد 2

639

فالتفويض هو بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ثمّ أسلمه إلى نفسه على نحو لا يكون الإنسان في مرحلة أفعاله مرتبطاً مع ربّه عزّ وجلّ؛ أي، على الرغم من أنّ الإنسان ممكن الوجود حدوثاً، إلاّ أنّه مستقلّ بقاءً.

إنّ هذه الرؤية لا هي تتمتّع بفرض صحيح، ولا هي منسجمة مع التكليف؛ إذ أنّى للكائن ـ الذي وجوده هو عين الفقر والحاجة ـ أن يبقى مستقلاًّ في مرحلة بقائه؟! وأنّى للربّ ـ الذي لا تحدّ ربوبيّته ومديريّته حدود ـ أن يترك الإنسان وشأنه في مرحلة البقاء بحيث لا يكون مالكاً لأموره وشؤونه؟! إذن فالتفويض محال من حيث المبدأ الفاعليّ ومن حيث المبدأ القابليّ أيضاً، فلا الفقير يمكن فرضه مستقلاًّ، ولا الغنيّ المطلق يمكن تصوّره بشكلٍ محدود.

إنّ الفقر بالنسبة للإنسان لا يشبه الزوجيّة بالنسبة للعدد أربعة كي يكون «لازماً» لذاته، بل هو بمثابة الحيوانيّة والناطقيّة بالنسبة للإنسان؛ حيث تكون مقوّمة لذاته. كلّ ما في الأمر هو أنّ الحيوانيّة والناطقيّة كلّ واحد منهما ذاتيّ ﻟ «الماهيّة» والفقر ذاتيّ ﻟ «الهويّة». إنّ بطلان كون الفقر لازماً للذات هو من جهة أنّ اللازم لا يكون في مرحلة الملزوم، إذن في مقام ذات (الملزوم) لا يوجد فقرٌ أصلاً، بل يكون في رتبة متأخّرة عن الذات، وإذا لم يكن الفقر في مقام ذات الممكن لَزِم ـ قهراً ـ أن يكون الغنى في مقام ذات الممكن، وأن لا يكون الإنسان في مقام الذات فقيراً إلى الله، ومثل هذا الفرض محال.

علاوة على ذلك، فلو كان التفويض صحيحاً لكان التكليف لغواً؛ إذ

تسنيم، جلد 2

640

لو كان الله جلّ وعلا قد فوّض أمر الإنسان إليه لما كان يصحّ لله سبحانه أن يتدخّل في أمر الإنسان وأن يأمره وينهاه؛ والحال أنّ الله يأمر الإنسان وينهاه. إذن فالتفويض لا يتماشى مع التكليف أيضاً. إنّ تنظير التفويض بالقضيّة العرفيّة للعبد والمولى، بأن يُوكل المولى شؤون العبد إليه، ثمّ يعمد ـ في الوقت ذاته ـ إلى تكليفه بأمور، ويحدّد زماناً لمحاسبته، هي دليل على الغفلة عن معنى الربوبيّة والعبوديّة من جهة، والغفلة عن الإمكان الفقريّ للممكن بالنسبة إلى الواجب من جهة أخرى.

كما أنّ المراد من الجبر هو أن يكون الإنسان أداة الفعل وأنّ الفاعل الحقيقيّ للفعل، ومن دون واسطة، هو الله، ولا يكون إسناد الفعل إلى الإنسان إلاّ مجازاً؛ أي إنّ الإنسان هو «مورد» الفعل، وليس «مصدره». وهذا المعنى أيضاً لا ينسجم مع التكليف؛ فالله العادل قد جعل الإنسان مكلّفاً، وبادر إلى تشويقه وتبشيره وإنذاره قبل امتثاله، وجعل له الثواب والعقاب بعد امتثاله، وكلّ ذلك إشعار بكون الإنسان مختاراً؛ والحال أنّه لو كان الإنسان مورد الفعل لم يصحّ التكليف وسائر توابعه بالنسبة له.

ومن قول الباري عزّ وجلّ: إنّنا أرسلنا الرسل كي لا يحتجّ الإنسان علينا يوم القيامة: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[1]، يُعلَم أنّه إذا لم تتوفّر للمرء كلّ شرائط التكليف؛ كأن لا يكون له اطّلاع على الشريعة، أو أن يكون مجبَراً في أفعاله، لكان من حقّه الاحتجاج على الله تعالى. كذلك عندما يقول الله سبحانه: نحن قد بيّنا أحكام وحِكَم الشريعة كي تتحقّق حياة الأحرار، وهلاك


[1]. سورة النساء، الآية 165.

تسنيم، جلد 2

641

المجرمين بعد إتمام الحجّة: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾[1]، يصبح بيّناً أنّ الإنسان مختار في أفعاله؛ لأنّه لو كان مُجبراً فإنّه لا يَلزَم حينئذ أن يكون هلاك الهالكين عن بيّنة، ولا أن تكون سلامة السالمين كذلك؛ لأنّ الغير ـ في صورة الجبر ـ هو الذي يقوم بالفعل، وليس الإنسان، وإذا ما هلك امرؤ في النهاية، فسيكون مُجبراً في هلاكه؛ كما أنّه إذا آلت به أموره إلى السلامة فسيكون مُجبراً في سلامته أيضاً؛ فلا حياته وسلامته ستكونان جرّاء لياقته لذلك، ولا هلاكه سيكون لعدم لياقته لذلك.

[10] سرّ التقديم اللفظيّ للإضلال على الهداية

إنّ سَبق رحمة الباري تعالى على غضبه يقتضي تقدّم الهداية (في اللفظ) على الضلالة أو الإضلال؛ نظير: ﴿فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ‏ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾[2]، ﴿فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ‏ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾[3]، ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[4]، ﴿فَرِيقاً هَدَىٰ‏ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾[5]، لكنّ الضلالة أو الإضلال يُقدّم أحياناً على الهداية تناسباً مع محور البحث، كما في الآية مورد التفسير؛ وذلك لأنّ نقد الضالّين كان جسوراً، وإنّ فسقهم كان


[1]. سورة الأنفال، الآية 42.

[2]. سورة يونس، الآية 108.

[3]. سورة الزمر، الآية 41.

[4]. سورة الأعراف، الآية 178.

[5]. سورة الأعراف، الآية 30.

تسنيم، جلد 2

642

هو السبب في إضلال الله الجزائيّ لهم. ولهذا، فمن جانبٍ، جاء ذكر عنوان الإضلال قبل الهداية، ومن جانب آخر ورد الحديث عن إضلال الفاسقين في آخر الآية كذلك؛ نظير: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾[1]، ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾[2]، ﴿فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[3]، ﴿كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[4]، حيث ذُكرت الضلالة أو الإضلال في هذه الآيات قبل الهداية تناسباً مع مدار البحث، مع أنّه لم يرد في نهاية الآيات المذكورة الكلام مجدّداً عن ضلالة الفاسقين.

تنويه: لا تختصّ الضلالة والهداية بالمَثَل، بل هي جارية في «جميع» آيات القرآن وأحكامه؛ كما أنّ لها جرياناً في «مجموع» القرآن أيضاً.

[11] الفسق الاعتقاديّ والعمليّ في القرآن

الفسق اصطلاحاً هو الخروج عن الشريعة؛ وهذا الخروج يحصل أحياناً على نحو كلّي؛ كالخروج عن العقيدة والعمل، وأحياناً بشكل جزئيّ لا كلّي؛ كالخروج عن العمل مع الاحتفاظ بالعقيدة، ولمّا كانت العقيدة هي أساس الدين، فإنّ الخروح عنها سوف يستلزم حتماً الخروج الكلّي، وإن حصل الاستمرار على العمل بالأحكام نفاقاً. في حالة الخروج الكلّي


[1]. سورة الأعراف، الآية 155.

[2]. سورة الرعد، الآية 27.

[3]. سورة فاطر، الآية 8 .

[4]. سورة المدثّر، الآية 31.

تسنيم، جلد 2

643

يصبح هذا الفاسق كافراً، وفي صورة الخروج الجزئيّ (العمليّ) فإنّه يكون مؤمناً وليس كافراً.

ذهب البعض مذهباً غير صائب في القول بالمنزلة بين المنزلتين، فقالوا إنّ الفاسق نازل بين منزلين. يقول الزمخشريّ:

إنّ أوّل من حدّ له هذا الحدّ أبو حذيفة واصل بن عطاء... . وكونه بين بين [بين الكفر والإيمان] أنّ حكمه حكم المؤمن في أنّه يناكح، ويوارث، ويُغَسّل، ويُصلّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذمّ، واللعن، والبراءة منه، واعتقاد عداوته، وأن لا تُقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيديّة: أنّ الصلاة لا تُجزئ خلفه. ويُقال للخلفاء المَرَدة من الكفّار: الفَسَقة. وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله؛ [فتارةً بصورة الفسق الجزئيّ والعمليّ؛ مثل:] ﴿بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾[1]؛ يريد [الذنب العمليّ من] اللمز والتنابُز، [واُخرى بصورة الفسق الكلّي؛ مثل:] ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[2] [والمراد به هو المعصية الاعتقاديّة والخروج عن الدين][3].

وقد عدّ أبو حيّان الأندلسيّ ـ في نقده لكلام الزمخشريّ ـ هذا القول مساوياً لمذهب الاعتزال، وطرح رأي السلف من مفسّري الأمّة بهذه الصورة:

إنّ مَن كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر، فإنّه فاسق


[1]. سورة الحجرات، الآية 11.

[2]. سورة التوبة، الآية 67.

[3]. الكشّاف، ج1، ص119.

تسنيم، جلد 2

644

بفسقه [العمليّ]، مؤمن بإيمانه [القلبيّ]، وإنّه لم يخرج بفسقه عن الإيمان، و لا بلغ حدّ الكفر. وذهبت الخوارج إلى أنّ من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه. ومنهم من قال: من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك. ومنهم من قال: كلّ معصية نفاق، وإنْ حكم القاضي بعد التصديق أنّه منافق. وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشريّ، وذكر أنّ لأصل هذه المسألة سُمّوا معتزلة، فإنّهم اعتزلوا قول الأمّة فيها، فإنّ الأمّة كانوا على قولين، فأحدثوا قولاً ثالثاً فسُمّوا معتزلة لذلك‏[1].

تنويه: 1. مثلما أنّ للإيمان الصادق درجات أفضلها درجة «الصِدّيق»، فإنّ للعقيدة الباطلة أيضاً دركات أسوأها وأدناها هي دركة «الفِسّيق». يعتقد البعض أنّ استخدام مصطلح «الفاسق» للإنسان لم يكن معهوداً قبل الإسلام، حيث لم يُعهد في الجاهليّة إطلاق عنوان «الفسق الاعتقاديّ» على الخروج عن العقيدة القلبيّة، ولا إطلاق عنوان «الفسق العمليّ» على الخروج عن التكليف العمليّ، وإذا قال ابن الأعرابيّ إنّه: «لم يُسمع الفسق وصفاً للإنسان في كلام العرب» فالمراد منه هو عرب الجاهليّة، وليس العرب المتديّنين المتحضّرين بعد الإسلام؛ كما أشار إليه ابن الأنباريّ[2].

2. على الرغم من أنّ الفسق قد استُعمل في القرآن الكريم تارةً بمعنى الانحراف في العقيدة؛ أي الكفر والنفاق، واُخرى بمعنى الانحراف العمليّ مع حفظ الإيمان، وقد اُوكل تعيين المصداق الخاصّ إلى القرينة، إلاّ أنّه بخصوص المقام فالقرينة المعيِّنة تدلّ على أنّ المراد هو الفسق


[1]. البحر المحيط، ج1، ص271.

[2]. روح المعاني، ج1، ص335.

تسنيم، جلد 2

645

الكلّي والاعتقاديّ، وليس الفسق الجزئيّ والعمليّ؛ لأنّ الفسق في الآية محلّ البحث جاء في مقابل الإيمان، وليس متفرّعاً عنه، هذا أوّلاً، وثانياً: إنّه ورد في مجال الطعن في القرآن والوحي الإلهيّ، وهو ما يكون مصحوباً بالفسق الاعتقاديّ لا محالة.

البحث الروائيّ

[1] سرّ التمثيل بالبعوضة

ـ عن الصادق(ص): «إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه، وعجيب صنعه‏»[1].

ـ عن الباقر(ص): «فلمّا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ...﴾ وذكر الذباب في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً﴾[2] الآية، ولمّا قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[3]، وضرب المثل في هذه السورة بالذي استوقد ناراً، وبالصيّب من السماء[4]. قالت الكفّار والنواصب: وما هذا من الأمثال فيضرب! يريدون به الطعن


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص165؛ وتفسير الصافي، ج1، ص90.

[2]. سورة الحجّ، الآية 73.

[3]. سورة العنكبوت، الآية 41.

[4]. راجع سورة البقرة، الآيات 17 ـ 20.

تسنيم، جلد 2

646

على رسول الله(ص). فقال الله: «يا محمّد! ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي﴾ لا يترك حياءً ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ للحقّ ويوضّحه به عند عباده المؤمنين ﴿مَا بَعُوضَةً﴾ أي‏ ما هو بعوضة المثل ﴿فَمَا فَوْقَها﴾ فوق البعوضة وهو الذباب، يضرب به المثل إذا علم أنّ فيه صلاح عباده ونفعهم»[1].

ـ عن ابن مسعود: لمّا ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي ٱسْتَوْقَدَ ناراً﴾، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ...﴾ إلى قوله: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏﴾[2].

إشارة: أ: شأن النزول المذكور يتوقّف على كون الأمثلة المُشار إليها قد نزلت مسبقاً. بالطبع إنّ أمثال الآيات السابقة في هذه السورة قد نزلت قبل ذلك، لكن لابدّ من إحراز سبق الأمثال الواردة في آيات سورة الحجّ على الآية محلّ البحث في النزول، وإنْ كان باقي آيات سورة الحجّ قد نزل بعد ذلك.

ب: من الممكن أن تكون عبارة ﴿مَا فَوقَها﴾ قد استُعملت بمعناها الجامع حيث تشمل «فوق»، بلحاظ الكبر، مثل الذبابة التي هي أكبر من البعوضة، وبلحاظ الصغر، مثل المكروبات الحيّة التي هي أصغر من البعوضة، وكذلك أبعاض البعوضة وأجزائها؛ نظير جناح البعوضة، حيث ورد في بعض النصوص ما يلي: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله مثقال


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص167 ـ 168؛ وبحار الأنوار، ج24، ص388؛ والبرهان، ج1، ص158.

[2]. الدرّ المنثور، ج1، ص103.

تسنيم، جلد 2

647

جناح بعوضة ما أعطى كافراً ولا منافقاً منها شيئاً»[1]، فلا محذور من استعمال لفظ «ما فوق» في الجامع؛ كما أنّ استعماله في أكثر من معنى لا إشكال فيه.

ج: بعد تفسير أبي جعفر الطبريّ ﻟ ﴿مَا فَوقَها﴾ بالأعظم قال:

وقيل في تأويل قوله: ﴿فَما فَوْقَها﴾ في الصغر والقلّة... وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويل القرآن[2].

وهذا الكلام غير صائب؛ لأنّ الشاهد الباطنيّ والسياق الداخليّ هو أفضل شاهد على لطافة هذا المعنى. وقد ذكر هذا الاحتمال أيضاً كلّ من الزمخشريّ والشيخ الطوسيّ([3].

د: الاحتمال القائل: بأنّ الآية نزلت من دون شأن نزول ليس بالاحتمال القويّ؛ إذ أنّ محتوى الآية ليس من المسائل البرهانيّة أو المواعظ الأخلاقيّة الابتدائيّة، إلاّ إذا كان بلحاظ دفع الدخل المقدّر؛ لأنّه سبق أن اُورد مَثَلان في السورة نفسها، ولكي لا يطعن أحد في التمثيل الإلهيّ قُدّم هذا الحُكم الجامع بخصوص ضرب الأمثال في القرآن.

[2] إضلال الله إضلالٌ جزائيّ، لا ابتدائيّ

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «وأمّا المتشابه من القرآن فهو الذي انحرف منه متّفِق اللفظ مختلف المعنى مثل قوله عزّ وجلّ: ﴿يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ


[1]. التمحيص، ص48؛ وبحار الأنوار، ج16، ص284.

[2]. جامع البيان، ج1، ص236.

[3]. التبيان، ج1، ص113؛ والكشّاف، ج1، ص115 ـ 116.

تسنيم، جلد 2

648

وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[1] فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع وهذا ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم‏... فمعنى الضلالة على وجوه؛ فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم، ومنه ضلال النسيان. فالضلال المحمود هو المنسوب إلى الله تعالى‏... فهذا معنى الضلال المنسوب إليه تعالى لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لمّا جاء به المنذر فخالفوه وصرفوا عنه بعد أن أقرّوا بفرض طاعته، ولمّا بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون فخالفوه ضلّوا»[2].

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدىً، أو نقصان من عمىً... فإنّ فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر، والنفاق، والغيّ، والضلال‏»[3].

ـ «ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفَأ مصابيحه... ومنهاجاً لا يُضِلّ نهجُه‏... ومنازل لا يَضِلّ نهجَها المسافرون‏»[4].

ـ عن الصادق(ص) [في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ... يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾]: «إنّ هذا القول من الله عزّ وجلّ ردّ على من زعم أنّ الله تبارك وتعالى يضلّ العباد ثمّ يعذّبهم على ضلالتهم‏»[5].


[1]. سورة المدثّر، الآية 31.

[2]. بحار الأنوار، ج90، ص12 ـ 14.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 176.

[4]. نهج البلاغة، الخطبة 198، المقطع 25.

[5]. تفسير القمّي، ج1، ص48؛ وبحار الأنوار، ج5، ص7.

تسنيم، جلد 2

649

إشارة: ما يبدو من ظاهر الآية أنّ جملة: ﴿يُضِلّ بهِ كَثيراً ...﴾ هي كلام الله عزّ وجلّ، كما أنّ ظهور الآية ﴿... وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَٰذَا مَثَلاً كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ‏ لِلْبَشَرِ﴾[1] هو في هذا المعنى أيضاً، وهناك آيات اُخرى تَعدّ الهداية والإضلال الإلهيّين كنتيجة لمشيئته عزّ وجلّ، وتسند الاثنين إلى الله؛ كما في الآيات 155 من سورة الأعراف، و4 من سورة إبراهيم، و93 من سورة النحل، و8 من سورة فاطر.

[3] قائل ﴿يُضلّ بهِ ...﴾

ـ عن العسكريّ(ص): «﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ يقول الذين كفروا: إنّ الله يضلّ بهذا المثل كثيراً ويهدي به كثيراً، أي فلا معنى للمثل، لأنّه وإن نفع به من يهديه فهو يضرّ به من يضلّه به. فردّ الله تعالى عليهم قيلهم، فقال: ﴿وَما يُضِلُّ بِهِ﴾ يعني ما يضلّ الله بالمثل ﴿إِلاَّ الْفاسِقِين‏﴾»[2].

ـ عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ يعني المنافقين ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ يعني المؤمنين ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ﴾ قال: هم المنافقون. وفي قوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾[3] فأقرّوا به ثمّ كفروا فنقضوه‏[4].


[1]. سورة المدّثر، الآية 31.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص168؛ وبحار الأنوار، ج24، ص389.

[3]. سورة البقرة، الآية 27.

[4]. الدرّ المنثور، ج1، ص104.

تسنيم، جلد 2

650

إشارة: يُستشفّ من الحديث الأوّل أنّ جملة ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ...﴾ هي من كلام الكفّار، لكنّ مفاد الرواية الثانية المرويّة عن مصادر أهل السنّة هو أنّ الجملة المذكورة هي كلام الله سبحانه وتعالى، لا كلام الفاسقين.

نقل الشيخان الطوسيّ والطبرسيّ (رحمهما الله) عن الفراء إسناد الجملة المذكورة إلى قائلي: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَٰذا مَثَلاً﴾ ونعتا كلامه بالمَلاحة، خاتمَين الكلام بالقول: وهذا وجه حسن تزول معه شبهة الإضلال[1]. لكن، كما تمّ بيانه سلفاً، ففي العديد من الآيات القرآنيّة ينسب الله جلّ شأنه الإضلال إلى نفسه، وهو ما يُفسَّر بذلك الإضلال الجزائيّ، لا الابتدائي، ممّا لا يستلزم محذور الجبر.


[1]. راجع تفسير التبيان، ج1، ص118؛ ومجمع البيان، ج1 ـ 2، ص166.

تسنيم، جلد 2

651

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

خلاصة التفسير

جرى الحديث في الآية السابقة عن الإضلال الجزائيّ للفاسقين، ويجري في الآية الكريمة الحاليّة عن بعض صفات الفُسّاق، من قبيل «نقض العهد الإلهيّ» الذي يجمع صفاتهم الرذيلة كلّها. إنّ بين الله سبحانه وتعالى والناس ميثاقاً يفي به البعض، وينقضه البعض الآخر. والمراد من العهد الإلهيّ هو هذا الدين، وقد أخذ الله هذا الميثاق من خلال العقل والوحي، وإنّ الأحكام التشريعيّة للعقل والوحي هي ترجمان له.

وللعهد مكانة خاصّة، وقد عُدّ الوفاء بالعهد بأنّه من صفات الله وسيرة اُولي الألباب، أمّا نقضه فهو من موجبات الفسق، ومن دواعي الإضلال الجزائيّ واللعن الإلهيّ، ومن أسباب الفُرقة بين الناس.

تسنيم، جلد 2

652

ولنقض العهد مصاديق شتّى، ومن مصاديقه المذمومة: قطع الأواصر مع أفراد الاُسرة، والأرحام، والاُخوة في الدين، والجيران، والاُمّة الإسلاميّة، وإمام المسلمين.

ومن صفات الفاسقين الاُخرى هي الإفساد في الأرض التي لها هي الاُخرى مصاديق من أسوئها ترويج الكفر وسائر الانحرافات العقائديّة.

وفي ختام الآية يتمّ الإعلان عن أنّ الفاسقين هم الخاسرون؛ فالذي يفرّط برأسماله في الهداية الفطريّة سوف يُحرَم من الهداية، ويُبتلى بالضلالة الجزائيّة الإلهيّة.

التفسير

«ينقضون»: النقض هو قطع الشيء، وفصله، ونكثه، وفسخه بعد إحكامه، وهو في مقابل الإبرام (إحكام الشيء).

«عهد»: يُقال للالتزام الخاصّ بأمر معيّن تجاه الله أو شخصٍ ما إنّه «عهد».

«ميثاقه»: تستبطن مفردة الميثاق مفهوم القوّة، والشدّة، والإحكام. إذن فالميثاق هو العهد المحكم الموجِب للاطمئنان، وفي الآية مورد البحث، حيث اُضيفت كلمة ميثاق إلى ضمير راجع إلى العهد، فإنّه يُراد منها إتقان هذا العهد وإحكامه؛ أي إنّ العهد ـ الذي يلزم الوفاء به أصلاً ـ إذا اُوثِق واُكِّد أصبح الوفاء به إلزاميّاً لا محالة، وإنّ نقض مثل هذا العهد ناشئ من الفسق القطعيّ.

وقد وردت عبارة ﴿مِن بَعدِ مِيثَاقِه﴾ في أغلب الآيات المتعلّقة بنقض العهد؛ مثل: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا

تسنيم، جلد 2

653

أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[1]، ومجيء هذه الجملة هو لبيان المعنى التالي: وهو أنّ الآثار الإيجابيّة والسلبيّة للوفاء بالعهد أو لنقضه، لا تترتّب إلاّ بعد الالتفات إليه، وإتمام الحجّة.

«الخاسرون»: الخسران والخسارة هما في مقابل «الربح»، والمراد منهما زوال بعض رأس المال أو كلّه في الأمور المادّية أو المعنويّة، وهناك اختلاف بين هذا المعنى ومفهوم «الضرر» الذي هو في مقابل «النفع». يرى القرآن الكريم أنّ رأسمال الإنسان المعنويّ، الذي يستثمره لكسب سعادة الدنيا والآخرة، هو الإيمان بالله وآياته: ﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[2]. إذن فالكفّار والمكذّبون بالله وآياته هم الخاسرون لرؤوس أموالهم في سوق التجارة المعنويّة[3].

بعد أن قال الله عزّ وجلّ: إنّ الله لا يُضلّ إلاّ الفاسقين، يأتي في هذه الآية الكريمة ليعرّف الفاسقين، ويعتبر أنّ «نقض العهد» هو الصفة الجامعة لكلّ صفاتهم الرذيلة؛ وذلك لأنّ من ينقض عهد الله بأيّ نسبة كانت، فسوف ينحرف ـ بنفس هذه النسبة ـ عن جادّة الحقّ والصراط المستقيم.

وكما أنّ للإيمان درجات، فإنّ للفسق دركات، وإنّ الذي ينقض جميع


[1]. سورة الرعد، الآية 25.

[2]. سورة يونس، الآيات 94 ـ 96.

[3]. الميزان، ج10، ص118 ـ 119.

تسنيم، جلد 2

654

عهود الله سبحانه يكون أفسق الفسّاق، وهو من يُصطلح عليه ﺑ «الفِسّيق»، وهو الذي يُعذَّب في أسفل درك من الجحيم. من أجل هذا يقول الله تعالى في حقّ المنافقين الناقضين لجميع العهود الإلهيّة: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[1]. ثمّ يعرّج على تبيين بعض أوصاف الفسّاق المذمومة والمعروفة من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ، ومن باب التمثيل والإتيان بالنموذج، وبصورة التفصيل بعد الإجمال، وفي نهاية المطاف يَعدّ أصحاب هذه الأوصاف بأنّهم الخاسرون لرؤوس أموالهم.

تطرح الآية السابقة مع الآية الحاليّة معاً مُدّعىً مشفوعاً بسببين طوليّين. فالمدّعى هو: أنّ الله سبحانه وتعالى لا يضلّ إلاّ الفاسقين، والسبب الأوّل لذلك ـ وهو من باب تعليق الحكم على الوصف ـ هو: «لأنّ هؤلاء فسقة وخارجون عن الصراط المستقيم». أمّا السبب الثاني فمفاده: «إنّ الفاسقين قد خسروا رؤوس أموالهم، والذي يخسر رأسماله ليس له نصيب من الهداية الإلهيّة».

العهود التي بين الله والإنسان

يُستفاد من جملة ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهدَ اللهِ﴾ أنّ هناك ميثاقاً قد اُبرم بين العبد (أي الإنسان) ومولاه (أي الله عزّ وجلّ) وأنّ عدم مراعاة هذا الميثاق هو بمثابة نقضٍ للعهد.

الميثاق ـ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ـ هو مثل الحبل. ومن هنا تُنسب للميثاق آثار الحبل؛ فكما أنّ الحبل ـ مثلاً ـ يربط بين شيئين،


[1]. سورة النساء، الآية 145.

تسنيم، جلد 2

655

فإنّ التعهّد والميثاق يحقّق الارتباط والوصل بين جماعتين أو فردين، وكما أنّ الحبل قابل للنقض والقطع، فإنّ العهد أيضاً قابل للنقض، وإنّه يُقال لمن لا يراعي حقّ الوصل والارتباط ناقض للعهد ناكث له.

لقد ذكر القرآن الكريم أنواعاً كثيرة من العهود ممّا يتحتّم على الإنسان الالتزام به؛ مثل: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾[1]، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾[2]، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللهَ عَلَيْهِ﴾[3]. ويُستشفّ من هذه الآيات أنّ بعض العهود الإلهيّة قد اُخذت من أنبياء الله؛ كما تدلّ عليه الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾[4]، في حين يختصّ البعض الآخر من العهود بالتعهّدات المتعلّقة بجماعات اُخرى معيّنة؛ كالعهد الذي أخذه الله من علماء أهل الكتاب كي يبيّنوا مضامينه للناس بدقّة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾[5]، كما أنّ قسماً آخر يتضمّن عهوداً عامّة تشمل جميع البشر؛ مثل: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾[6].

وقد جاء التأكيد في بعض الآيات أيضاً على حفظ الميثاق والوفاء بالعهود؛ من قبيل: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ﴾[7]، ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾[8]،


[1]. سورة البقرة، الآية 125.

[2]. سورة يٰس، الآية 60.

[3]. سورة الأحزاب، الآية 23.

[4]. سورة الأحزاب، الآية 7.

[5]. سورة آل عمران، الآية 187.

[6]. سورة يٰس، الآية 60.

[7]. سورة الأنعام، الآية 152.

[8]. سورة النحل، الآية 91.

تسنيم، جلد 2

656

﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي﴾[1]، ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾[2]، ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾[3]. والآن لابدّ من التمحيص والمناقشة في ما هو المراد من هذا العهد؟ وما هو الموضع الذي يتحتّم على الإنسان أن يتعهّد لله فيه؟ وكيف يكون الإنسان متعهّداً؟ حيث تُطرح في هذا المورد أربعة وجوه[4] :

1. المراد من العهد هو ذلك الميثاق الذي اُخذ على الناس في «عالم الذرّ». يقول أصحاب هذا القول، استناداً إلى الآية 172 من سورة الأعراف، وبعض الأحاديث[5]: لقد أخرج الله سبحانه وتعالى من صُلب آدم(ص) ذرّات صغيرة ثمّ أخذ العهد على الأرواح المتعلّقة بتلك الذرّات. هذا الوجه لا ينسجم مع ظاهر الآية من سورة الأعراف من جهة؛ إذ يقول الباري تعالى فيها: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[6]؛ أي حينما استخرج ربّك من ظهور جميع «بني آدم» ذرّيتهم وأخذ عليهم تعهّداً؛ والحال أنّ الكلام في هذا الوجه يدور حول «عالم الذرّ» وخصوص «آدم»(ص).

ومن جهة اُخرى، فإنّ تعلّق الأرواح بالذرّات الصغيرة في موطن، ثمّ قطع علاقة الأرواح مع تلك الذرّات، ثمّ تعلّق الأرواح بها من جديد في


[1]. سورة البقرة، الآية 40.

[2]. سورة النحل، الآية 95.

[3]. سورة الإسراء، الآية 34.

[4]. سوف يأتي تفصيل هذا البحث في سورة الأعراف المباركة.

[5]. راجع تفسير العيّاشيّ، ج2، ص40.

[6]. سورة الأعراف، الآية 172.

تسنيم، جلد 2

657

موطن آخر، هو ضرب من القول بالتناسخ. على هذا الأساس، فالمحقّقون من مفسّري الإماميّة[1] رفضوا فكرة أخْذ الله للعهد من الأرواح المتعلّقة بالذرّات بالمعنى المشار إليه، ولا يمكن الاستناد إلى مبحث هو بحدّ ذاته محلّ بحث ومناقشة، ومورد نقد وتحقيق.

2. المراد من العهد هو الميثاق الذي أخذه الله عزّ وجلّ على الإنسان بوساطة العقل والفطرة اللّذين يشكّلان الحجّة الباطنيّة بين الله والعبد. هذا الوجه صحيح وقابل للتطبيق مع الآية أيضاً، لكنّه ليس بصورة الحصر ليقتصر المراد من العهد في الآية على الأحكام العقليّة في حقل العقيدة، والأخلاق، والأعمال. وتوضيح ذلك: إنّ كلّ من لم يبادر إلى دفن فطرته فإنّه واعٍ لفجوره وتقواه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[2]، ويقول جلّ وعلا في سورة الروم أيضاً: إنّ الدين هو ما فُطر الناس عليه، وفطرة الإنسان لا تقبل التغيير: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾[3]. لذا، فلقد أخذ الله التعهّد الفطريّ من كلّ واحد من البشر.

والعقل هو حجّة إلهيّة يمكن للإنسان ـ من ناحية ـ أن يحتجّ به على الله في مقام الفعل، ويمكن لله ـ من ناحية أخرى ـ أن يحتجّ به على الإنسان كذلك؛ فبمقدور الإنسان أن يقول بحكم العقل: لماذا لم


[1]. التبيان، ج1، ص120.

[2]. سورة الشمس، الآيتان 7 و8 .

[3]. سورة الروم، الآية 30.

تسنيم، جلد 2

658

يرسل الله الأنبياء لهدايتي، كما أنّ الله أيضاً يقول: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[1].

في مقام العمل، وبعد إحراز الحسن والقبح، لا يبقى العقل ساكتاً عديم الرأي حول أيّ أمر كان. فهو يقول للإنسان: قم بما تراه ـ تكويناً، ونتيجة للإلهام الإلهيّ ـ حسـناً، وتجنّب ما تـراه ـ استناداً إلى الإلهام الإلهيّ ـ سيّئاً، وإن لم تعلم حُكم أمرٍ ما فاستعن بالوحي. العقل يشعّ بالنور على الدوام إلاّ أن يحجُب إشعاعَ نوره الخيالُ والوهمُ في الحقل النظريّ من جهة، أو الشهوةُ والغضبُ في الميدان العمليّ من جهة أخرى. بناءً على ذلك فالذي يتصرّف خلافاً لحكم العقل والفطرة يكون قد نقض عهد الله فيحتجّ الله عليه بهذا العقل نفسه. إنّ ما ورد عن «العقل» في الجوامع الروائيّة من أنّ: «العقل... ما عُبد به الرحمن، واكتُسب به الجنان‏»[2] هو ما يدعى بالعقل العمليّ؛ لأنّ العقل النظريّ لا يُصدر الأوامر العمليّة، بل يأخذ على عاتقه طراز التفكير ونمطه، سواء ما يتعلّق بما هو «كائن وغير كائن» (أي الحكمة النظريّة والرؤية الكونيّة)، أو ما يرتبط ﺑ «ما يجب وما لا ينبغي» (أي الحكمة العمليّة)[3].


[1]. سورة النساء، الآية 165.

[2]. الكافي، ج1، ص11.

[3]. استُخدم مصطلح «العقل» في معظم النصوص الدينيّة للدلالة على العقل العمليّ. والعقل النظريّ هو القوّة المفكّرة التي تهيّئ الأرضيّة لتفتّح العقل العمليّ وازدهاره؛ فغاية العلم هي اكتساب الإنسان القدرة على التنفيذ، والنزول إلى ميدان العمل؛ لأنّ العالِم من غير عمل هو جاهل. يقول أمير المؤمنين(ص): «رُبّ عالِم قد قتله جهله»، (نهج البلاغة، الحكمة 107)، و«لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكّاً. إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقّنتم فأَقدِموا»، (نهج البلاغة، الحكمة 274). العقل العمليّ والنظريّ هما بمنزلة جناحين للإنسان، فكلّما ضعف المرء ازدادت الشقّة بين هذين الجناحين، حتّى لَيصل الأمر إلى فقدان أحدهما؛ كما أنّه كلّما قوي المرء قلّت الفاصلة بين الجناحين حتّى ليصبح أحدهما عين الآخر، وهذا الفرض يتحقّق في الإنسان الكامل. بعض الناس محروم من كلا الجناحين؛ كالإنسان الجاهل الفاسق، والبعض الآخر يفتقر إلى العقل العمليّ؛ كالعالم الفاسق، في حين أنّ البعض الثالث محروم من العقل النظريّ؛ كالإنسان الزاهد الذي لا يعلم ما هو تكليفه. إنّ العقل العمليّ والنظريّ هما من قوى روح ابن آدم، وإنّ كلاًّ منهما يمثّل صفحة من صفحات الميثاق والعهد المبرم بين العبد والمولى. هناك مصطلح آخر للعقلين النظريّ والعمليّ لكنّه غير مطروح في الوقت الحاضر.

تسنيم، جلد 2

659

3. المراد من العهد هو ما يُصطلح عليه في علم أصول الفقه بالحجّة؛ أي الوحي، والكتاب السماويّ، والعقل، وإنّ القبول بنبوّة أحد الأنبياء هو بمثابة التعهّد للوحي وإبرام الميثاق مع الله، ومن يخالف أوامر الوحي بعد هذا التعهّد يكون قد نقض العهد، سواء كانت هذه المخالفة ضمن نطاق فهم العقل ومن المستقلاّت العقليّة، حيث يصاحب الميثاقُ العقليّ العهدَ النقليّ أيضاً؛ كما في حسن العدل وقبح الظلم، أو كانت من الأمور الواقعة خارج شعاع إدراك العقل؛ كالعديد من الفروع الجزئيّة التي لا يتسنّى للعقل إدراكها.

4. المراد من العهد هو الوحي الخاصّ. فالله جلّ وعلا قد أخذ العهد على الأمم السالفة، من خلال الأنبياء السابقين، بأن يؤمنوا بنبوّة الرسول الخاتم(ص). وعلى أساس ذلك فإنّ الفاسقين هم أولئك النفر من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بخاتم الرسل(ص).

هذا الوجه ليس هو في عرض الوجوه السابقة بل هو ـ في الواقع ـ

تسنيم، جلد 2

660

مصداق من مصاديق الوجه الثالث، وفي طوله. وبالالتفات لما تمّ تبيينه فإنّ الوجه الثالث، الذي يضمّ بين طيّاته الوجه الثاني أيضاً، هو صحيح؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يعبّر عن دينه، الذي يثبت من خلال العقل، والفطرة، والكتاب، والسنّة، بتعابير العهد والميثاق وكذلك بعناوين من قبيل «الحبل»، و«الإصْر»؛ كما في قوله: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾[1]، ﴿وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[2]، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ‏ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا﴾[3]. هذه التعابير المختلفة تبيّن حقيقة أنّ هناك بين العبد والمولى عهداً متيناً وميثاقاً محكماً وما الوحي التشريعيّ إلاّ ترجمان لهما، وبحسب الظاهر فإنّ الآية محلّ البحث ناظرة إلى العهد المطلق والعامّ الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على جيمع البشر عن طريق العقل، والفطرة، والوحي، والكتاب، وسنّة المعصومين(ع).

عظمة العهد الإلهيّ

يُولي القرآن الكريم أهمّية فائقة، ويمنح منزلة خاصّة لمطلق العهد، ويَعدّ الإنسانَ مسؤولاً تجاهه: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾[4]. فالإنسان


[1]. سورة المائدة، الآية 7.

[2]. سورة آل عمران، الآية 103.

[3]. سورة آل عمران، الآية 81 .

[4]. سورة الإسراء، الآية 34.

تسنيم، جلد 2

661

«مسؤول» والعهد «مسؤول عنه». فالإنسان المتعهّد يُسأل: كيف حفظت عهدك؟ أو: لماذا نقضته؟ أو إنّهم يسألون العهد من باب المبالغة: لماذا نُقِضت؛ كما في قوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾[1].

إنّ من أبرز الصفات الخُلقيّة الفعليّة لله عزّ وجلّ هي الوفاء بالعهد، وما من أحد سواه أكثر وفاءً بالعهد منه: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾[2]. من هذا المنطلق فهو جلّ شأنه يأمر الناس بأن يفوا بعهودهم اُسوة به تعالى، كي يفي هو عزّ وجلّ بعهده معهم: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[3].

وبخصوص عظمة العهد الإلهيّ يقول الباري جلّ وعلا لنبيّه الكريم(ص): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ‏ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ‏ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾[4].

ويقول في سورة الرعد: إنّ الذين يوفون بعهدهم هم أهل لبّ وعقل، أمّا الذين لا يوفون بالعهد فهم ذو عقول خاوية وألباب فارغة: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾[5]. يقول القرآن الكريم: إنّكم حتّى وإن أبرمتم عهداً مع غير المسلمين، فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا أنتم عليه أيضاً ولا تنقضوه، فذلك من


[1]. سورة التكوير، الآيتان 8 و9.

[2]. سورة التوبة، الآية 111.

[3]. سورة البقرة، الآية 40.

[4]. سورة الفتح، الآية 10. البيعة هنا من البيع، وتعني: بيع النفس والروح لله تعالى.

[5]. سورة الرعد، الآيتان 19 و20.

تسنيم، جلد 2

662

التقوى السياسيّة: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[1]، ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ‏ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[2].

نمطان من نقض العهد

هناك نمطان من نقض العهد؛ فتارة يفصم المرء العهدَ ذاته، وتارة يقطع ما بينه وبين العهد من آصرة؛ أي، لا يعود له التزام بالعهد؛ كما لو تمسّك الإنسان بحبل مستحكم ليحفظه من السقوط، فإنّ قطْع الارتباط يكون أحياناً بتمزّق وشائج الحبل نفسه وانحلالها، وأحياناً أخرى بفكّ قبضة يده عن الحبل وتركه، وكلتا الحالتين تؤدّي بالإنسان إلى السقوط بانفصاله عن الحبل.

الكتب الإلهيّة التي نزلت على الأمم والمجتمعات البشريّة المختلفة بوسيلة الأنبياء(ع) هي «عهد الله»، و«حبل الله»، والذي يريد نقض ذلك العهد الإلهيّ فهو إمّا أن يعمد إلى تحريف الكتاب الإلهيّ، أو يبادر إلى قطع صلته معه عوضاً عن تحريفه.

إنّ كتب الأنبياء السالفين كانت قابلة للنقض بكلا النمطين؛ أي إنّه كان من الممكن ـ من ناحية ـ أن يقطع اليهود والنصارى صلتهم بالتوراة والإنجيل؛ كما نسي أتباع التوراة، جرّاء ما اجترحوه من المعاصي، التذكّر والالتزام بكتابهم؛ ﴿وَنَسُواْ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾[3]، مثلما كان بإمكانهم ـ


[1]. سورة التوبة، الآية 7.

[2]. سورة التوبة، الآية 4.

[3]. سورة المائدة، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

663

من ناحية أخرى ـ أن يبادروا بأنفسهم إلى تمزيق هذا الحبل وتحريف التوراة والإنجيل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾[1].

يكمن الاختلاف بين نمطي النقض هذين في أنّه في الصورة الاُولى لا يسقط إلاّ ذات الشخص المنقطع، ويبقى أصل الحبل سالماً ومحفوظاً بحيث يتيح للآخرين التمسّك به والنجاة من السقوط، لكنّه في الصورة الثانية، حيث حُلّت وتقطّعت وشائج الحبل نفسه، فبالإضافة إلى سقوط ناكث العهد بنفسه، فهو يكون مدعاة لسقوط الآخرين كذلك؛ إذ عندما لا يكون أصل الحبل متوفّراً فإنّه ـ من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ لا تعود للغير القدرة على التمسّك به أساساً.

آثار نقض العهد الإلهيّ

إنّ نقض العهد بنمطَيه المذكورين هو مدعاة لفسق الناقض وضلالته، ومجلبة لإضلال الله الجزائيّ له. بيد أنّه حينما يظهر نقض العهد بهيئة انحلال وشائج نفس الحبل فإنّه يكون أسوأ من الحالة الاُخرى، وسيتعرّض مثل هذا الناقض للعهد إلى لعن الله جلّ جلاله. من هنا يقول الله سبحانه في حقّ المحرّفين من أهل الكتاب الذين كانوا يرتكبون كلّ يوم جريمة جديدة بنقضهم للميثاق الإلهيّ: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ... وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ‏ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ﴾[2]. ويقول


[1]. سورة النساء، الآية 46.

[2]. سورة المائدة، الآية 13.

تسنيم، جلد 2

664

القرآن الكريم في عقاب ناكثي العهد من اليهود: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[1]؛ أي إنّنا ألقينا العداوة والبغضاء فيما بينهم، وإنّهم لن يذوقوا طعم الاتّحاد والمودّة حتّى يوم القيامة بما دأبوا عليه من نقضهم المتكرّر لتعهّداتهم.

وبخصوص عقاب النصارى يقول أيضاً: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[2]؛ فالنصارى أيضاً نسوا مقداراً من الميثاق الذي أبرمناه معهم من باب التذكير، ونقضوا تعهّدهم به.

تكمن الخطورة في نقض العهد في أنّ الناس ـ بسبب نقضهم للعهد ـ يُبتلون بنشوب الخلافات الداخليّة فيما بينهم؛ إذ أنّ ما يُسهم في اتّحادهم هو التمسّك بالحبل الإلهيّ الواحد. فحبل الله يجمع الشتات، وإذا نُقض العهد أو فُسخ التعهّد به لا يعود هناك مجال لاتّحاد المتعاهدين. وإنّه من هذا المنطلق يقول القرآن الكريم: ﴿وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[3]. كما ويقول أيضاً: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾[4]؛ فمَثَل ناقضي عهد الله كمَثَل المرأة التي عمدت ـ بعد تحمّلها لمشاقّ الغزل المضنية ـ إلى فكّ خيوط نسيجها، وإضاعة الجهود التي بذلتها هباءً منثوراً.


[1]. سورة المائدة، الآية 64.

[2]. سورة المائدة، الآية 14.

[3]. سورة آل عمران، الآية 103.

[4]. سورة النحل، الآية 92.

تسنيم، جلد 2

665

القرآن الكريم ونقضه

إنّ الالتزام بالقرآن قابل للنقض؛ بمعنى أنّه من الممكن أن يؤمن المرء بالقرآن ثمّ يُبتلى بالارتداد فيما بعد فينزع هذه العروة الإلهيّة عن عنقه، إلاّ أنّ القرآن الكريم نفسه غير قابل للنقض وليس بمستطاع أحد التصرّف في القرآن بشبهاته العلميّة، أو شهواته العمليّة؛ لأنّه:

1. هذا الكتاب الإلهيّ يرى نفسه مصوناً من خطر النقض والتحريف: ﴿لاَ يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[1]. فالكتاب الذي لا سبيل للباطل إلى حريمه، لن يكون قابلاً للنقض أيضاً. القرآن حبل الله وآياته هي وشائج وخيوط هذا الحبل المبرمة مع بعضها والتي لا يستطيع أحد نقضها أو حلّها، ولو كان أعداء الإسلام قادرين على فعل ذلك لما كانوا قد توانوا أو غفلوا عن الإقدام على ذلك طيلة الأعوام المتمادية المنصرمة.

2. المجتمعات البشريّة بحاجة إلى الدين، وإنّ الدين الإسلاميّ الذي تجلّى في القرآن الكريم وسنّة أهل البيت(ع) ليس قابلاً للنقض أو التحريف؛ وذلك لأنّه ليس بعد القرآن الكريم كتاب سماويّ آخر، ولن يصل أحد بعد خاتم الأنبياء محمّد(ص) إلى مقام النبوّة. إذن فلابدّ للكتاب والدين الخاتمين أن يُحفظا إلى الأبد.

والقرآن الكريم يتطرّق أحياناً إلى الخصوصيّات الإيجابيّة للحبل الإلهيّ، ويذكر أحياناً أخرى السمات السلبيّة له؛ فهو يقول تارة: هذا الحبل ممتنع عن الانقطاع، وما دمت متمسّكاً به فأنت على الصراط


[1]. سورة فصّلت، الآية 42.

تسنيم، جلد 2

666

المستقيم: ﴿فَٱسْتَمْسِكْ بِالَّذِي اُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[1]. كما أنّه يقول تارة اُخرى فيما يتعلّق بآثاره السلبيّة: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكاَنٍ سَحِيقٍ﴾[2]؛ أي أولئك الذين يتركون حبل توحيد الله يتورّطون بالسقوط في هاوية الهلاك. وبناءً عليه، فإنّ ثبوت المجتمع الإنسانيّ وسقوطه هو في تعهّده بالقرآن ونقض تعهّده به، وإن كان القرآن نفسه ـ الذي هو عهد الله ـ محفوظاً في الحالتين.

انفصام الروابط الإلهيّة

ذكر صفة ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَل﴾ هو من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ، والتفصيل بعد الإجمال؛ لأنّه عندما قال: «إنّ الفاسقين ينقضون عهد الله» فإنّ هذا القول يشتمل أيضاً على صفاتهم الأخرى التي تنضوي تحت العنوان العامّ لنقض العهد. إنّ قطع ما أمر الله عزّ وجلّ به أن يوصل هو ـ في الحقيقة ـ مصداق من مصاديق نقض العهد؛ لأنّ عهد الله هو أن يكون الإنسان ملتزماً بالعقيدة والخُلق والأحكام الدينيّة وأن يكون على ارتباط بها.

و «للقطع» مفهوم جامع تختلف مصاديقه باختلاف الموارد؛ فأحياناً يأتي القطع بمعنى «الطيّ» الذي يؤدّي إلى الوصل، ومثل هذا القطع ممدوح، وقد نسبه القرآن الكريم إلى المجاهدين في قوله: ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ


[1]. سورة الزخرف، الآية 43.

[2]. سورة الحجّ، الآية 31.

تسنيم، جلد 2

667

وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1]؛ أي إنّ المجاهدين لا يقطعون أيّ واد إلاّ كُتب لهم بذلك عمل صالح. وأحياناً اُخرى يأتي القطع بمعنى بتر وفصل شيءٍ أمَر الله به أن يوصل، وهذا القطع مذموم.

فالله يعتبر العبد مرتبطاً بمولاه وإذا قطع العبد آصرة العبوديّة هذه فذلك من جملة قطْع ﴿مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَل﴾، كما أنّه مصداق كامل لنقض العهد الإلهيّ.

وكذلك، فمن جهة أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ككائن اجتماعيّ، فقد ربطه بعلاقات وأواصر مع أعضاء الاُسرة، والأرحام، والاُخوة في الدين، والجيران، والأمّة الإسلاميّة، وإمام المسليمن، كما وأقام له علاقات إنسانيّة مع المجتمعات الغير الإسلاميّة في ظلّ الأمر الإسلاميّ بخصوص العلاقات الدوليّة، وقد بُيّنت جميع هذه الأمور بصورة الإجمال والتفصيل في القرآن الكريم أو في سنّة المعصومين(ع)، وإنّ الذي يقطع هذه الأواصر يكون قد نقض العهد الإلهيّ، وقطع الارتباط الذي أمر الله به أن يُوصل. ونقدّم هنا شرحاً لما ذكرناه من هذه الموارد:

[1] قطع العلاقة مع الأرحام

إنّ قطع الإنسان لعلاقته بأبويه وأولاده يُعدّ من المصاديق الجليّة لقطع ﴿ما أمَرَ اللهُ بهِ أنْ يُوصَل﴾.

يقول القرآن الكريم بخصوص الأبوين: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ


[1]. سورة التوبة، الآية 121.

تسنيم، جلد 2

668

حُسْناً﴾[1]؛ أي أوصيناه أن يراعي حرمتهما، ويؤكّد بشدّة أكبر على مسألة احترام الأمّ: ﴿حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ‏ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾[2]. وبغية إظهار أهمّية حرمة الأب والأمّ، يأتي على ذكر اسم الله المبارك أوّلاً ثمّ يتبعه بلفظة الوالدين كي توحي وحدة السياق بأهمّية الموضوع؛ لأنّ الوالدين هما مجرى فيض الخالق وإنّ عقوقهما هو من المصاديق البارزة للقطع وهو من كبائر الذنوب.

إنّ قطع الأواصر مع الأرحام والأقرباء يُعدّ أيضاً مصداقاً لقطع ﴿ما أمرَ اللهُ بهِ أن يوصَل﴾ حيث يقول القرآن الكريم في ذلك: ﴿وَٱتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾[3]، ويُراد من الأرحام هنا ما هو أعمّ من الأقارب النسبيّين والسببيّين؛ ففي بعض النصوص وخطب عقد النكاح ورد ذِكر الأقارب السببيّين في حكم الأرحام النسبيّين. فعلى سبيل المثال يُستفاد من العبارات التي ذكرها رسول الله(ص) في مراسم عقد نكاح فاطمة الزهراء وعليّ بن أبي طالب ‘، أو البيان الذي جاء في الخطبة الواردة في عقد نكاح الإمام الجواد(ص) أنّ الله يعتبر المصاهرة نسباً لاحقاً: «جعل المصاهرة نسباً لاحقاً»[4]. إذن فالإنسان مكلّف أيضاً أن لا يقطع علاقته حتّى مع الأرحام السببيّين.

إنّ بعض الأحكام المُشرّعة في الشريعة الإسلاميّة تكون صحّتها مشروطة بالإسلام؛ كالصلاة والصوم. أي إنّ صلاة غير المسلم غير


[1]. سورة العنكبوت، الآية 8 .

[2]. سورة لقمان، الآية 14.

[3]. سورة النساء، الآية 1.

[4]. كشف الغمّة، ج1، ص348؛ وبحار الأنوار، ج43، ص119.

تسنيم، جلد 2

669

صحيحة وإن كانت واجبة عليه. كما أنّ البعض الآخر من الأحكام لا يكون الإسلام شرطاً في صحّته ويصنّف ضمن القوانين الدوليّة للإسلام، وإنّ رعاية حقوق الوالدين تندرج في هذا الباب. إذن حتّى لو كان الأبوان ملحدَين أو كانا من أهل الكتاب، فإنّه يجب على الولد احترامهما وتلبية متطلّباتهما: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾[1].

إنّ صلة الرحم لا تقتصر على ذهاب المرء إلى بيوت أرحامه وذكرهم، بل إنّ مصداقها الكامل هو في تلبية متطلّباتهم وإدخال السرور إلى قلوبهم قبل الآخرين.

لقد أمر القرآن الكريم بالوصل حتّى بين الزوج وزوجه اللّذين يشكّلان محور الاُسرة: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[2]. إذن فالذي لا يتصرّف مع زوجه في البيت بما هو متعارف فقد قطع ﴿ما أمرَ الله بهِ أن يوصَل﴾. كما وقد عيّن للطرفين حقوقاً مشتركة في قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[3]، فعدم رعاية أيّ منهما لذلك هو من موجبات قطع ﴿ ما أمرَ اللهُ به أن يوصَل﴾؛ وذلك لأنّ أساس تشكيل الاُسرة وتحكيمها هو بأمر الله سبحانه.

إنّ العلاقة التي أمر الله تعالى بحفظها مع الأشخاص في إطار الاُسرة، حتّى وإن كانوا غير متديّنين، يجب أن لا تتعدّى الحدّ الذي يُلحق الضرر بسائر أحكام الدين, أمّا إذا أصبحت سائر أحكام الدين عرضة للخطر


[1]. سورة لقمان، الآية 15.

[2]. سورة النساء، الآية 19.

[3]. سورة البقرة، الآية 228.

تسنيم، جلد 2

670

جرّاء هذه العلاقة، فإنّ تكوين العلاقات مع الغير المتديّنين لا تصبح غير ضروريّة فحسب، بل هي غير جائزة أيضاً؛ كما لو أراد الوالدان الكافران أن يدنّسا ولدهما بالشرك: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾[1]. فهنا لا مجال لصلة الرحم. فمن جملة كلمات رسول الله(ص) التي هي من جوامع الكلم، ومن الأصول الحاكمة على كلّ الأحكام الشرعيّة قوله(ص): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[2]؛ أي ليس لأحد أن يتصوّر نفسه معذوراً في طاعة مخلوق، ضمن حيّز الخلاف الشرعيّ، حتّى وإن كان هذا المخلوق أعلى منه مرتبة. وإنّ الجملة المعروفة «المأمور معذور» لابدّ أن تكون محكومة بالأصل النبويّ العامّ والجامع.

[2] قطع الأواصر مع الإخوة في الدين

المؤمنون إخوة فيما بينهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[3]، والذي لا يقيم حرمة لأخيه المسلم، يصنَّف عمله هذا على أنّه قطع ﻟ ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾.

يقول الإمام الصادق(ص): من صاحب شخصاً عشرين سنة فإنّ حرمة هذه الصحبة والصداقة تصل إلى حدّ القرابة والرحامة: «صحبة عشرين سنةً قرابة»[4]، وبناءً عليه، فإنّ آثار الرحامة والقرابة تترتّب على مثل هذه


[1]. سورة لقمان، الآية 15.

[2]. نهج البلاغة، الحكمة 165.

[3]. سورة الحجرات، الآية 10.

[4]. قرب الإسناد، ص24؛ وبحار الأنوار، ج71، ص157.

تسنيم، جلد 2

671

الصحبة، فلا يحقّ لأحد أن يؤذي مَن صاحَبه لعشرين سنة أو يقطع علاقته معه.

كما أنّ الارتباط بالجيران حتّى شعاع أربعين بيتاً يوجب حقّ الجِوار، وقد أوجب الباري جلّ وعلا حقوق الجيران، والذي لا يراعي هذه الحقوق يكون مشمولاً في حدوده ﺑوصف ﴿ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾. بالطبع فإنّ شعاع الأربعين بيتاً لا تنحصر بالمجاورة الأفقيّة والحدود الأربعة، بل تتعدّاها إلى المجاورة العموديّة لساكني الأبراج السكنيّة أيضاً؛ بمعنى أنّ الاتّجاهين العلويّ والسفليّ يضافان إلى الإتجاهات الأربعة المعروفة.

[3] قطع الروابط مع الاُمّة الإسلاميّة

إنّ الذي ينأى بنفسه عن صفوف المسلمين يُعدّ ممّن يقطع ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾. فالله عزّ وجلّ يقول في مسألة ارتباط الاُمّة الإسلاميّة: ﴿وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[1]. من هنا فإنّ الذي يتمسّك بحبل الله وحسب، ولكنّه يعزل نفسه عن الأمّة الإسلاميّة، وينتهج منهج الاستبداد والاستعلاء بالرأي، يكون مشمولاً بالقطع المُشار إليه؛ لأنّ الله قد دعانا إلى التوحّد مع الأمّة الإسلاميّة، وأمرنا جميعاً بالاعتصام معاً بحبل الله. من هذا المنطلق لا يحقّ لأحد أن ينفرد في التفكير بمعزل عن جماعة المسلمين؛ لأنّ رسالة الآية المذكورة تنطوي على أمرين: الأوّل: هو أصل الاعتصام والتمسّك بحبل الله المتين، والثاني: هو «الاجتماع في


[1]. سورة آل عمران، الآية 103.

تسنيم، جلد 2

672

الاعتصام» و«المعيّة في التمسّك»؛ نظير صلاة الجماعة التي تتضمّن ـ مضافاً إلى أصل الصلاة ـ الاجتماع والمعيّة في إقامتها.

يقول أمير المؤمنين(ص): «فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»[1]؛ فكما أنّ الشاة المتخلّفة عن القطيع تُحرم من حماية الراعي وتصبح لقمة سائغة للذئب، فإنّ الشخص المتخلّف والخارج عن ركب الاُمّة الإسلاميّة والمتفرّد والمستبدّ في الرأي والتفكير يكون طُعمةً للشيطان أيضاً. من هذا المنطلق يقول الله سبحانه وتعالى: اعتصموا جميعكم بحبل الله واحذروا الفرقة. وهو عزّ وجلّ يذكر الذين يسهمون في زرع الفرقة بين المسلمين بلهجة الذمّ والتقريع قائلاً: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[2]، كما يَعدّ جلّ شأنه الاختلاف من غير طائل علامة على الجهل وعدم التعقّل، وينعت المختلفين والمخالفين من دون سبب وجيه بانعدام العقل: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ‏ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[3].

[4] قطع الصلة مع إمام المسلمين

إنّ أهمّ مصداق لقطع ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾ هو قطع الصلة بإمام المسلمين. يقول القرآن الكريم في هذا الشأن: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 127.

[2]. سورة «المؤمنون»، الآيتان 52 و53.

[3]. سورة الحشر، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

673

ءَامَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ‏ يَسْتأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتأذِنُونَكَ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأنِهِمْ فَأذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1]؛ فالمؤمنون الحقيقيّون، علاوة على إيمانهم بالله والرسول، فهم لا يتخلّون عن القائد ولا يذرونه وحده في القضايا الاجتماعيّة والشؤون التي تستوجب حضور الجميع، كالحرب والقتال. فالذين لا يشاركون على الإطلاق هم مُدانون منذ اللحظة الاُولى، أمّا اُولئك الذين حضروا ثمّ أرادوا فيما بعد ترك الساحة ،فيتحتّم عليهم الاستئذان من وليّ المسلمين، وفي مواطن الاستئذان لابدّ أن يكونوا ـ واقعاً ـ أصحاب عذر؛ ذلك أنّ من يترك الميدان من دون إذن فقد قطع ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾.

وفي الآية الآنفة الذكر يأمر الله عزّ وجلّ رسوله أن يجبر محروميّة الشخص المأذون له في ترك الساحة بالاستغفار؛ ذلك أنّه حُرم من فيض الحضور إلى جانب الإمام، كما أنّه ليس لزاماً على القائد أن يأذن لكلّ من طلب الإذن، بل إنّ زمام الأمور بيده، وله أن يأذن لمن يجد في الإذن له صلاحاً.

يقول القرآن الكريم بحقّ أولئك الذين كانوا ـ إذا دعاهم النبيّ(ص) إلى المشاركة في الأمور الاجتماعيّة المهمّة كالقتال ـ يتحيّنون ـ بالتربّص والارتياب ـ فرصة إشاحة النبيّ(ص) بوجهه إلى جهة معيّنة، كي يتسلّلوا هم من الجهة الأخرى لائذين بالفرار، يقول: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ


[1]. سورة النور، الآية 62.

تسنيم، جلد 2

674

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1]؛ فهؤلاء إن لم يكفّوا عن المخالفة فإنّ واحداً من خطرين سوف يكون لهم بالمرصاد؛ فإمّا أن تصيبهم فتنة، وإمّا أن يصيبهم عذاب إلهيّ أليم. كما ويقول الباري جلّت آلاؤه للأشخاص الذين رافقوا النبيّ(ص) في جميع المراحل: «حذار من ترك الخطّ الأماميّ في الحرب، فيلحق القائد أذىً ما: ﴿مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُواْ عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾[2]. الغرض من ذلك: إنّ مضمون الآية هو التحذير من «الاستئثار» والترغيب ﺑ «إيثار» الرسول الأعظم(ص) على النفس.

محصّلة ما ذُكر هو، أنّ قطع الصلة بما أمر الله سبحانه وتعالى بالارتباط به سيصنّف في خانة ﴿ويقطعونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أن يُوصَل﴾. إلاّ أنّ بعض مصاديق القطع تكون بارزة ومشخّصة ومحطّ اهتمام أكبر؛ كترك صلة الرحم وعقوق الوالدين، لكنّ بعضها الآخر لا يخطر في الذهن إلاّ متأخّراً بسبب أنّه ليس من المصاديق البارزة.

تنويه: 1. يرى بعض المفسّرين أنّ الآية مورد البحث ناظرة إلى قطع الرحم وليس عموم الارتباطات. يقول هؤلاء: على الرغم من أنّ الجملة ﴿أمر الله به أن يوصل﴾ وكذلك الآيات من قبيل: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَٰئكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[3] هي مطلقة، إلاّ أنّ بعض الآيات


[1]. سورة النور، الآية 63.

[2]. سورة التوبة، الآية 120.

[3]. سورة الرعد، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

675

الاُخرى المتضمّنة لقيد ﴿أرحامكم﴾ جاءت مخصّصة للآيات المطلقة؛ مثل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ﴾[1]. لكن لمّا كان لجميع تلك الآيات لسانٌ إثباتيٌّ، فهي لا تتعارض مع بعضها كي يكون المقام مقام تخصيص وتقييد.

بناءً على ما مرّ، تبقى الآيات المطلقة على إطلاقها فتكون شاملة لكافّة الارتباطات وكلّ ما أمر الله عزّ وجلّ بوصله إذا قُطع من قبل امرئ فسيكون مشمولاً للعامّ المذكور، أي قطع ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾.

2. ذكر بعض المفسّرين آراءً تسعة في تفسير «العهد»، وتصوّروا أنّ منشأ هذه الأقوال، والاختلاف في تعيين أيّ منها يعود إلى الاختلاف في سبب النزول. لكنّهم رأوا في نهاية المطاف أنّ ظاهر الآية يُحمل على العموم الشامل، وقالوا: «فكلّ من نقض عهد الله من مسلم، وكافر، ومنافق، أو مشرك، أو كتابيّ تناوَله هذا الذمّ‏»[2]؛ مثلما أنّ ظاهر ﴿ما أمر الله به أن يوصل﴾ قد حُمل على العموم أيضاً[3].

إفساد الفاسقين في الأرض

الصفة الثالثة للفاسقين هي الإفساد في الأرض. فالله عزّ وجلّ يرى أنّ العقيدة، والخُلق، والعمل الصالح، وباختصار نقول: إنّ «الدين»، هو الموجب لصلاح الأرض، وأنّ الأشخاص الذين يقفون في مقابل العقيدة


[1]. سورة محمّد(، الآية 22.

[2]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص272.

[3]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص273.

تسنيم، جلد 2

676

الحقّة، والخُلق الصحيح، والعمل الصالح، هم مفسدون في الأرض، ويقول للناس: لقد أصلحنا الأرض من خلال الدين؛ فلا تفسدوها بعد إصلاحها: ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾[1].

يبيّن القرآن الكريم في آيات متعدّدة مصاديق كثيرة للفساد حيث تتبنّى كلّ آية تبيين بعض من موارده، وليس أيّ منها في صدد حصر معنى الفساد. وبناءً على ذلك، لا وجود للتعارض فيما بينها على الإطلاق، فإذا قال عزّ من قائل في موطن من المواطن: إنّ الكفر فساد كبير: ﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾[2]، أو إنّ التطفيف في الميزان من بواعث الفساد: ﴿وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَواْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[3]، أو إنّ النشاط والعمل ضدّ النظام الإسلاميّ هو من الفساد في الأرض: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾[4]، فلا تعارُض فيما بينها؛ كما أنّه من جانب الإثبات أيضاً فهو جلّ وعلا يعتبر العقيدة الحقّة تارة، أو العمل الصالح تارة أخرى، أو صفة الخُلق الحسن تارة ثالثة من بواعث الإصلاح في الأرض. لذا فإنّ جميع هذه الآيات هي في مقام بيان مصداق الفساد، وليس تفسير مفهومه.

يعتبر القرآن الكريم أنّ الاعتقاد الباطل هو أشدّ أنواع الفساد وكلّما


[1]. سورة الأعراف، الآية 56.

[2]. سورة الأنفال، الآية 73.

[3]. سورة الشعراء، الآيتان 182 و183.

[4]. سورة النمل، الآيتان 48 و49.

تسنيم، جلد 2

677

سِيق البحث عن الكفر والانحراف العقائديّ اشتدّ تعبير القرآن بخصوصه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾[1]. إنّ شدّة تعامل القرآن مع فساد العقيدة يأتي من منطلق أنّ العقيدة الباطلة هي أرضيّة للخُلق السيّئ، وهو بدوره يمهّد البيئة للعمل الطالح. إذن فإنّ الأساس في الأمر هو العقيدة ذاتها؛ لأنّ كافّة الذنوب تنبع من الكفر؛ كما أنّ جميع الخيرات تنشأ من الإيمان.

الخاسرون لرؤوس أموالهم

إنّ جملة ﴿اُولَٰئِكَ هُمُ الخَاسِرُون﴾ لدليل آخر على ابتلاء الكفّار بالإضلال الجزائيّ. الله عزّ وجلّ يرى أنّ الأمر سيّان اُنذر الكافرون أو لم يُنذَروا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[2]، كما أنّ الكفّار أنفسهم يقرّون بعدم جدوى الموعظة إطلاقاً بالنسبة إليهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾[3]. فإذا ضيّع الإنسان رأسمال الهداية الفطريّة من يده فلن يكون له سبيل إلى الإفادة من الأرزاق الإلهيّة كالهداية التشريعيّة، وكما قد بُيّن في الآيات الأخرى فإنّ الأشخاص الذين يختارون الفسق طريقاً لهم يتورّطون هم مع أهليهم في الخسران إلى يوم القيامة: ﴿خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾[4]؛ إذ أنّ ربّ الاُسرة إذا ضلّ، فقد أباد اُسرته أيضاً.


[1]. سورة الأنفال، الآية 73.

[2]. سورة يٰس، الآية 10.

[3]. سورة الشعراء، الآية 136.

[4]. سورة الزمر، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

678

تنويه: إنّ أصل الفطرة الإلهيّة لا يفنى، إلاّ أنّ الفطرة تضعف، وتُنسى، وتصبح مدسوسة في الأغراض والغرائز: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[1].

لطائف وإشارات

[1] النِعم الإلهيّة هي عهد الله

لقد عُدّت النِعم الإلهيّة في القرآن الكريم عهداً أيضاً. فأعظم النعم في عالم الوجود هي نعمة الولاية وقد عبّر عنها الله سبحانه وتعالى بالعهد، وقال: ليس لأيّ أحد نيل هذا العهد: ﴿وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[2]. إذ ليست الولاية نظير النعم الظاهريّة الاُخرى كي يكون بمستطاع أيٍّ كان نيلها بالجدّ والاجتهاد.

حينما منح الباري عزّ وجلّ إبراهيم(ص) منصب الإمامة قال(ص): إلهي! أطلب منك أن تمنح هذا المنصب أيضاً لنفر من ذرّيتي. لكنّ الله تعالى لم يُجب على طلبه بالإثبات المطلق ولا بالنفي المطلق بل قال: إنّ ذرّيتك صنفان: فبعضهم ظالم ولا يُنال عهدي من قبل الظالمين، وبعضهم غير ظالم وهم مشمولون بعهدي. وتأسيساً على هذا فإنّ ذرّية إبراهيم(ص) من غير الظلمة ـ طبقاً للآية الكريمة ـ يتمتّعون بهذا العهد الإلهيّ؛ وإنّه على الرغم من أنّ الكثير من الأنبياء الإبراهيميّين، من أمثال


[1]. سورة الشمس، الآية 10.

[2]. سورة البقرة، الآية 124.

تسنيم، جلد 2

679

يوسف، وسليمان، وداود، وحتّى موسى(ع)، لم يُطلق عليهم ظاهراً لقب الإمام، لكنّهم جميعاً أئمّة؛ لأنّهم من ذرّية إبراهيم الخليل(ص) الصالحين وإنّ الوعد الإلهيّ لا يَتخلّف.

الإمامة تُعطى ولا يتسنّى للإنسان نيل هذا المقام بالجدّ والمثابرة؛ وذلك لأنّ كلمة «عهد» في الآية الآنفة الذكر جاءت فاعلاً و«الظالمين» مفعولاً به. فالآية لا تقول: لا ينال «الظالمون» عهدي، ليكون مفهومها أنّ الناس العدول ينالون عهد الله؛ بل حتّى يد العادل فإنّها لن تطال هذا العهد من دون الإعطاء الإلهيّ؛ لأنّ الكثير من الناس هم علماء وعدول، لكنّهم ليسوا أئمّة. فعهد الله هو الذي يجب أن يصل إلى يد العالم العادل في حال رؤية الله في ذلك صلاحاً، لا أنّ يد الإنسان هي التي تطال ذلك العهد. وبعبارة اُخرى، إنّ مانعيّة الظلم من نيل العهد لا تعني بالضرورة أنّ العدالة هي العلّة التامّة لنيل الولاية. فعهد الله هو هبة إلهيّة، وكما يقول الباري في شـأن النبوّة: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[1] فالأمر بالنسبة للولاية والإمامة هو أيضاً كذلك: «الله أعلم حيث يجعل عهد إمامته».

ليس المراد من الإمامة والولاية هنا هو الحكومة الظاهريّة فحسب، بل يتعدّاها إلى إمامة الإنسان وقيادته التكوينيّتين أيضاً؛ أي حينما تصعد أعمال المرء وأخلاقه وعقائده وتعرج إلى السماء فلابدّ من وجود عمل، وخُلق، وعقيدة تقوم مقام القائد للقافلة؛ كما أنّ أعمال الخير للأمة الإسلامية في الوقت الحاضر تصعد في إثر عمل صاحب العصر (عج) وهذا هو معنى قولنا إنّه إذا صلّى المرء في أوّل وقت الصلاة فقد اقتدى


[1]. سورة الأنعام، الآية 124.

تسنيم، جلد 2

680

بإمام زمانه؛ أي إنّ صلاة المرء في أوّل الوقت هي اقتداء بإمامه. وإلاّ فقد يكون وليّ العصر (عج) في اُفق كمكّة الذي يكون متأخّراً بكثير عن الآفاق التي إلى الشرق منه. إذن فالاقتداء بالإمام لا يعني التزامن في الصلاة، بل المراد هو أنّ عمل الإمام هو إمام الأعمال الخيّرة للاُمّة؛ كما أنّ عقيدة الإمام هي إمام العقائد، وأنّ أخلاق الإمام هي إمام الأخلاق.

[2] التحليل التفسيريّ لنقض العهد

إنّ ترك الالتزام بالعهد الإلهيّ، الذي اُبلغ بلسان الوحي، هو ـ من أوجه عدّة ـ مصداق لنقض العهد؛ لأنّه نقض لعهد الله من ناحية، وهو نقض لعهد رسوله من ناحية أخرى؛ إذ أنّه كما تمّ التعهّد بربوبيّة الله جلّ شأنه، فقد تُعُهّد بنبوّة الرسول الأعظم(ص) أيضاً، وإنّ ترك العمل بما جاء عن طريق الوحي، ناهيك عن كونه نقضاً للميثاق العبوديّ والربوبيّ، فإنّه نبذ للتعهّد النبوّي والرساليّ أيضاً.

تتمتّع بعض الأحكام بحِكَم خاصّة الأمر الذي يجعل من تركها مصداقاً للنقض من بضعة أوجه؛ فمثلاً، إذا قطع الشخص علاقته الولائيّة باُسرة العصمة وآل طٰه فإنّ نبذاً ونكثاً كهذا يكون مصداقاً لنقض عهد الله، وعهد رسوله، وعهد وليّه؛ ذلك لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿... قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾[1]. بناءً عليه فهناك ثلاثة أمور طُرحت في هذه الآية: أ: الأمر من الله بضرورة مودّة ومحبّة آل الوحي والنبوّة. ب: مودّة سلالة الوحي هي أجر رسالة الرسول الأكرم(ص)؛ أي


[1]. سورة الشورى، الآية 23.

تسنيم، جلد 2

681

إنّ الأمّة الإسلاميّة مكلّفة ومتعهّدة بأداء هذا الأجر. ج: متعلَّق المودّة والمحبّة هم أولياء النبوّة والولاية؛ بمعنى أنّ الأمّة الإسلاميّة متعهّدة بتحصيل وداد سلالة الرسالة ومحبّتهم. إذن لو لم تحصل هذه المودّة أو طرأ النكث بعد حصولها فإنّه يحصل نقض العهد من ثلاثة وجوه. وبالرغم من أنّ تحليل بعض أنواع النقض الاُخرى يستلزم تعدّد نبذ العهد وتكثّر نقضه أيضاً، بيد أنّ كثرة النقض في بعض أنماط العهود، كعهد الولاية، مشهود بالكامل.

تنويه: إنّ التحليل التفسيريّ هو غير التكثير الفقهيّ. لذا فإنّ النقض المذكور للعهد ينطوي على معصية واحدة وليس على ثلاث معاصٍ، وإنّه يعاقَب عليه مرّة واحدة لا ثلاث مرّات؛ وإن كان عقابه شديداً.

[3] الصور المختلفة لحفظ العهد ونقضه

إنّ حفظ العهد، ظاهراً وباطناً، هو نقيض نقض العهد، وإنّ الجمع بينهما ممتنع عقليّاً. أمّا الجمع بين حفظ العهد في الظاهر ونقضه في الباطن فمن باب أنّهما ليسا نقيضي بعضهما فإنّ فيه منعاً شرعيّاً لكنّه ليس ممتنعاً عقليّاً. من هنا فمع أنّ النفاق ممنوع إلاّ أنّه ممكن. كما أنّ حفظ العهد في الباطن ونقضه في الظاهر في حالة التقيّة، فعلاوة على عدم امتناعه عقلاً، فإنّه غير ممنوع نقلاً أيضاً؛ لأنّه محطّ ترخيص الشارع، بل إنّه ـ في الحقيقة ـ ليس من سنخ نقض العهد ظاهريّاً؛ لأنّ التكليف الظاهريّ (العهد الظاهريّ) يُرفع في حال التقيّة، ويُجعل محلّه تكليف آخر قد يكون تركه مصداقاً لنقض عهد الله.

تسنيم، جلد 2

682

[4] أهميّة حفظ العهد الإلهيّ

تبلغ مصلحة بعض الأمور حدّاً يجعل من تركها أمراً غير سائغ بأيّ حال من الأحوال، وتتطلّب سعياً حثيثاً من أجل تحصيلها في مرحلة الحدوث، وحراستها في طور البقاء، وتستوجب جهداً جهيداً في رفع المزاحمات أو دفعها بُغية حمايتها. وهذا في مقابل بعض الأمور الاُخرى التي لا يكون صدورها ضروريّاً إلاّ في ظروف خاصّة وليس مطلقاً، وهي لا تُطلب إلاّ من أشخاص بعينهم وليس من جميع الناس, ولا تكون فيها المصلحة إلاّ في أوضاع معيّنة وليس في جميع الأوضاع. إنّ عبارة ﴿مَا أَمَرَ اللهُ بهِ أن يُوصَل﴾، التي جاءت مرّة واحدة في سورة «البقرة» ومرّتين في سورة «الرعد»، تدلّ على أهمّية الشيء الذي اُمر بوصله؛ إذ لم يؤمر بالوصل شخص بعينه. فمن جهة أنّ «المأمور به» هو الذي قد ذُكر وليس المأمور، ومن جهة أنّ محور الخطاب هو ما صُرّح به وليس المخاطَب، ومن جهة أنّ ذكره قد أتى بعد ذكر نقض العهد مع أنّ قطع مثل هذا الشيء هو من مصاديق نقض العهد الإلهيّ، فإنّ اهتمام الباري عزّ وجلّ به يُستنبط من ذلك كلّه بصورة واضحة.

[5] الآثار المشؤومة لمَلَكة الفسق النفسانيّة

إنّ مبدأ الفعل الإراديّ في الإنسان هو الإخبار العلميّ والميل العمليّ لديه، وإنّ أفعاله الاختياريّة كلّها مسبوقة بملكاته النفسانيّة، الأمر الذي يجعلها مصطبغة بصبغتها الشنيعة أو متلبّسة بحلّتها السنيعة، وإذا ما عُبّئت ملَكة الفضيلة العلميّة والعمليّة في روح الإنسان الواعي، فسيكون

تسنيم، جلد 2

683

باستمرار منشأ لفعل الخير، الواجب منه والمستحبّ، على مختلف الصُعُد؛ كما أنّه إذا أصبحت التقوى ملَكة في قلب امرئٍ لظهر من مثل هذا الإنسان المتّقي، وبشكل متواصل، الإيمان بالغيب (بكلّ مصاديق الغيب الدينيّ)، وإقامة الصلاة، والإنفاق ممّا رزق الله، والإيمان بكلّ ما نزل من عند الله (سواء ما نزل من قرآن على خاتم الأنبياء(ص) أو ما نزل من كتب سماويّة اُخرى على ما سبقه من الرسل) والإيمان بالقيامة، وإنّ الآيات من الثانية إلى الرابعة من سورة البقرة لشاهد صادق على ذلك؛ ذلك لأنّه اُتِي فيها على ذكر تقوى المتّقين بصورة الوصف (الصفة المشبّهة) وليس بصورة الفعل. ثمّ عُدّت حينذاك الأفعال الخمسة المُشار إليها، والتي جاءت بصيغة الفعل المضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار، حصيلة ذلك الوصف النفسانيّ؛ بمعنى أنّ كافّة أفعال الخير التدريجيّة هي وليدة الملَكة الراسخة والنفسانيّة للتقوى.

ويقابل ذلك الإتيان بملَكة الفسق النفسانيّة أوّلاً بصورة الصفة المشبّهة، لا بصيغة اسم الفاعل؛ ثمّ يأتي ذكر آثارها المشؤومة التدريجيّة في الآية محلّ البحث بصورة ثلاثة أفعال بصيغة الفعل المضارع لتتمّ الدلالة على أنّ سرّ التدرّج والاستمرار في نقض العهد الإلهيّ، ولغز القطع التدريجيّ والمستمرّ لما اُمر به أن يوصل، ورمز الإفساد التدريجيّ الموسّع والمتنامي في أطراف الأرض هو رسوخ الملَكة النفسانيّة للفسق. وبقياس مختصر للمدح والقدح، وتقييم بسيط للكمال والوبال سيصبح معلوماً أنّ كلّ ما جاء في الآيات من الثانية إلى الرابعة من سورة البقرة كمحور لِما ظفر به المتّقون من ثمار، هو مدعاة لحرمان الفاسقين في

تسنيم، جلد 2

684

الآيتين 26 و27 من السورة ذاتها؛ أي إنّ ما يغزله صاحب ملكة التقوى، يأتي المبتلى بالفسق الباطنيّ لينقضه ويفكّ خيوط غزله. فالمتّقون ـ قهراً ـ يُحشرون في المعاد بثياب التقوى المنسوجة من الحرير، أمّا الفاسقون والمجرمون فسيحشرون يوم القيامة عُري الأبدان:

من يزرع الشوك يجني نفس ما زرعا وصـانع الخيـر يلقـا عـين مـا صنعـا[1]

[6] أثر ترسّب الفسق والعصيان في الروح

إنّ رسوخ الفسق في روح الإنسان، وترسّب العصيان فيها، وتشرّبها بحبّ الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة، يؤدّي إلى عدم حصول التعهّد القلبيّ تجاه أيّ عهد، وإذا ما عُقد ميثاق في الظاهر فإنّه يُبادَر إلى نقضه ونكثه في أقرب فرصة. ما يُستفاد من الآية محلّ البحث هو أنّ عمليّة نقض العهد تحصل بعد إبرام الميثاق مباشرة؛ لأنّ تعبير ﴿مِن بَعدِ مِيثاقِهِ﴾ يدلّ على وقوع النقض بعد العهد من دون فصل ومثل هذا النكث السريع والنقض الفوريّ هو إشعار بعدم الالتزام بأصل العهد.

والذي يناسب مثل هذا الفريق وهذا التفسير هو ما ذكر في الآية ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[2]؛ ذلك لأنّ مضمون الآية الآنفة الذكر يشير إلى أنّ الوفاء بالعهد والعمل بالميثاق لا يحظى بأيّ مكانة مقبولة لدى جماعة من الإسرائيليّين. ومن الممكن


[1]. في إشارة إلى بيت من الشعر الفارسيّ للشاعر الإيرانيّ فردوسيّ من ديوانه «شاهنامه»: اگر بار خار است خود کشتهای وگر پرنيان است خود رشتهای

[2]. سورة البقرة، الآية 100.

تسنيم، جلد 2

685

استنباط أساس البحث من الآية: ﴿وَإِنْ نَكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾[1]؛ إذ أنّ المحور الأساسيّ لمقارعة قادة الكفر ورؤوس الشرك هو أنّهم لا يعترفون رسميّاً بعهد أو ميثاق وهم دائمو النقض للعهود؛ أي إنّ العلّة في محاربة المعاندين والعاصين من الحكّام والملوك هي ما يتميّزون به من شيمة الاستكبار والطغوى، وليس الكفر فحسب؛ فإنّه بالإمكان معايشة الكافر، لكنّ إمكانية العيش مع المستكبر مسلوبة، والظاهر أنّه من هذا المنطلق قيل: ﴿يُفسِدُونَ فِي الأرضِ﴾؛ لأنّه، ناهيك عن الفساد الشخصيّ، فإنّ نقض العهد يقود إلى الإفساد الاجتماعيّ أيضاً.

[7] دركات الإفساد في الأرض

مثلما أنّ درجات الإصلاح في الأرض هي في طول بعضها، فإنّ دركات الإفساد فيها هي في طول بعضها أيضاً. ومن هنا فأوّل ما أتى الكلام عنه في الآية محلّ البحث هو نقض العهد، ثمّ تبعه الحديث عن قطع ما لزم وصله، ومن ثمّ ورد الكلام عن الإفساد في الأرض؛ ذلك أنّ نقض العهد هو بمثابة زرع الفرقة في المجتمع. إنّ سدى ولُحمة الحبل، المنسوجة مع بعضها، تشكّل الشيء الواحد للمجتمع، وإنّ نكثها بعد الغزل، ونقضها بعد النسج يمثّل تفريق أجزاء ذلك الشيء الواحد للمجتمع. أمّا القطع الذي هو أسوأ من النقض فهو بمثابة تمزيق الشيء الواحد المتّصل، وليس تفريق المجتمع فحسب.


[1]. سورة التوبة، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

686

فحينما ينقطع وينفصل الشيء المأمور بوصله فلن يصدر أيّ فعل منه، فتظهر ـ لذلك ـ أرضيّة الإفساد في الأرض.

ولمّا كان للعهد الإلهيّ ارتباط وثيق بروح الإنسان وشؤونها العلميّة والعمليّة عن طريق العقل والفطرة من جهة، والنقل والرواية من جهة اُخرى، فلن يكون لتفريق هذا العهد أوّلاً، وتقطيعه ثانياً، وتفشّي الآثار المشؤومة لذلك في المجتمع البشريّ ثالثاً، من نتيجة سوى بعثرة سدى ولُحمة البضاعة المعنويّة، ورأس المال الروحيّ، وهذا هو عين الخسارة التي لا تعوّض والتي يشير إليها الباري عزّ وجلّ بصيغة الاسم لا الفعل، وبصورة الحصر، في قوله: ﴿أولٰئِكَ همُ الخاسرونَ﴾ وقد بُيّن مثل هذا الخسران المعنويّ بصورة: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾[1].

[8] استبداد صناديد الشرك الجاهليّين

إنّ الرغبة في الآثار الإيجابيّة لشيء مّا والرهبة من لوازمه السلبيّة هما من دواعي ترقّب هذا الأمر، والحرص على تحقّقه، والتنافس على عدم تركه، وأمّا عدم النزوع إلى هذا الشيء فمن باب أنّه من بواعث سلب كافّة الأحكام والتبعات المارّة الذكر، وهو لن يؤدّي أبداً إلى خلق أيّ نوع من الترقّب والمراقبة لوجوده أو عدم وجوده. إنّ خصلة الاستكبار لا تعرف نظاماً سوى التسلّط على الآخرين، وهي تستمدّ الحياة من مبدأ:


[1]. سورة الزمر، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

687

﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ﴾[1]. إنّ أشخاصاً أو جماعات أو تيّارات فكريّة كهؤلاء لا يكونون أبداً منافسين في تعهّد ولا حريصين على ميثاق؛ وذلك لأنّه لا رغبة لديهم في ذلك على الإطلاق. إنّ صناديد الشرك الجاهليّين وأذنابهم ومن يدور في فلكهم كانوا ولا زالوا مبتلين بمثل هذا الاستبداد. فهؤلاء ليسوا مبتلين بنقص الشرط ونقض العهد فحسب، بل إنّهم محرومون من أدنى ميل للوفاء بأصل العهد أو رغبة فيه، وإنّهم إذا كانوا أحياناً لا يعمدون إلى نقص ولا يقومون بنقض فهو من باب الخشية من غلبة المنافس، وإلاّ فإنّهم يبادرون ظافرين إلى نكث العهد ونقض الميثاق، بأقلّ نسبة من الغلبة على الخصم.

يقول عزّ من قائل في هذا الصدد: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأبَىٰ‏ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾[2]، ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾[3]؛ أي، إنّ المشركين الفاسقين ليسوا فقط غير ملتزمين بالاُصول الإلهيّة والأحكام السماويّة، بل إنّهم لا يراعون حتّى الأصول الإنسانيّة والأحكام الشعبيّة والاجتماعيّة. من هذا المنطلق، فإنّهم يتركون اﻟ «إلّ» أي القرابة والرحم والميثاق الرسميّ من دون مراقبة ويذرونها راغبين عنها؛ لأنّه ليس للاعتداء والطغيان إلاّ تلك الثمار.

يذمّ الإمام أمير المؤمنين(ص) بعضاً من زعماء الاستكبار الأمويّين


[1]. سورة طٰه، الآية 64.

[2]. سورة التوبة، الآية 8 .

[3]. سورة التوبة، الآية 10.

تسنيم، جلد 2

688

برذائلهم الأخلاقيّة التي من أبرزها خيانة العهد وقطع القرابة «الإلّ»؛ فيقول في عمرو بن العاص: «ويخون العهد ويقطع الإلّ»[1]، في حين أنّه(ص) يرى الوفاء بالعهد والميثاق توأماً للصدق ويقول في وصفه: «إنّ الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جُنّة أَوقى منه‏»[2]؛ أي إنّني لا أعلم درعاً أكثر وقاية من الوفاء ولا يكون العالِم بالمعاد من أهل الغدر وخيانة العهد: «... وما يغدر مَنْ عَلِم كيف المَرجِع‏»[3].

البحث الروائيّ

[1] أهميّة العهد

ـ عن أنس قال: خطبنا رسول الله(ص) فقال: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له‏»[4].

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «وإنْ عقدْتَ بينك وبين عدوّك عُقْدة، أو ألبسته منك ذمّة، فحُطْ عهدك بالوفاء، وارعَ ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّة دون ما أعطيتَ، فإنّه ليس من فرائض الله شي‏ء الناس أشدُّ عليه اجتماعاً، مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود... ولا تخيسَنّ بعهدك... وقد جعل الله عهده وذمّته أمْناً أفضاه بين العباد برحمته،


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 84 .

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 41.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 41.

[4]. الدرّ المنثور، ج1، ص104.

تسنيم، جلد 2

689

وحريماً يسكنون إلى منَعَته، ويستفيضون إلى جواره... ولا يدعوَنّك ضيقُ أمر لزِمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، وفضلَ عاقبته خير من غدر تخاف تبعته‏»[1].

ـ دخل عمرو بن عبيد على الصادق(ص) وقرأ: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾[2] وقال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله. فقال: «نعم يا عمرو» ثمّ فصّله بأنّ «الكبائر الشرك بالله... ونقض العهد وقطيعة الرحم: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله﴾»[3].

إشارة: إنّ لزوم الوفاء بالعهد هو من أحكام الإسلام الدوليّة وهو يقع في حيّز الشموليّة العالميّة للدين ولا يقتصر على منطقة النفوذ الإسلاميّ. في بعض الأحيان، وجرّاء عدم التزام الطرف الآخر للمعاهدة بتعهّده مع الدولة الإسلاميّة، يضطرّ النظام الإسلاميّ إلى التهرّب من العهد المُبرم، وبما أنّ مثل هذا النكث بالعهد لا يليق بالحكومة الإسلاميّة فقد أمر الله رسوله الكريم(ص) في مثل هذه الظروف بفسخ المعاهدة من الأساس حتّى يتبدّد الخوف من نقض العدوّ للعهد من جانب، ولا تحصل الخشية بعدها من الابتلاء بنكث العهد من قِبَلكم من جانب آخر: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ‏ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[4].

إذا كان المراد من الأمانة والعهد في الحديث الأوّل هو الأصول


[1]. نهج البلاغة، الرسالة 53، المقطع 133.

[2]. سورة النساء، الآية 31.

[3]. مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب، ج4، ص272 ـ 273؛ وبحار الأنوار، ج47، ص216.

[4]. سورة الأنفال، الآية 58.

تسنيم، جلد 2

690

العامّة للدين، فإنّ الحديث المذكور يُحمَل على نفي الحقيقة، ولو كان القصد من ذلك هو خصوص الأمانات الجزئيّة والعهود الآنيّة، فإنّ الحديث المذكور يُحمَل على نفي الكمال.

[2] مصاديق عهد الله وصلة الرحم

ـ عن العسكريّ(ص): «ثمّ وصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين الله وطاعته منهم، فقال عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ المأخوذ عليهم لله بالربوبيّة، ولمحمّد(ص) بالنبوّة، و لعليّ بالإمامة، ولشيعتهما بالمحبّة والكرامة ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ إحكامه وتغليظه ﴿وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم، ويقضوا حقوقهم. وأفضل رحم وأوجبه حقّاً رحم محمّد(ص) فإنّ حقّهم بمحمّد(ص) كما أنّ حقّ قرابات الإنسان بأبيه وأمّه، ومحمّد(ص) أعظم حقّاً من أبويه، وكذلك حقّ رحمه أعظم، وقطيعته أقطع‏ وأفظع وأفضح. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ بالبراءة ممّن فرض الله إمامته، واعتقاد إمامة من قد فرض الله مخالفته ﴿أُولئِكَ﴾ أهل هذه الصفة ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ خسروا أنفسهم لمّا صاروا إلى النيران، وحُرموا الجنان، فيالَها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد، وحرمتهم نعيم الأبد»[1].

إشارة: لكلّ من العهود الاعتقاديّة والأخلاقيّة والعمليّة دليل خاصّ على لزوم الوفاء به وحرمة نقضه، وفي الآية محطّ البحث إرشاد إلى هذا الحكم السابق والأساسيّ، وهي لا تفيد حكماً فقهيّاً منفصلاً وإلاّ لَلزم


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص169؛ وبحار الأنوار، ج24، ص389.

تسنيم، جلد 2

691

محذور تعدّد العقاب. أمّا العهود الشائعة االتي تُبرم بين الأشخاص العاديّين أو بين العبد وربّه على هيئة النذر أو القسم أو العهد أو ... الخ فمن الممكن استظهار حكمها من الآية مورد البحث بقليل من العناية حيث إنّ هذه الآية نفسها تُعدّ من أدلّة حرمة نقض العهد فلا يلزم محذور تعدّد الحرام وبالتالي تعدّد العقاب.

[3] عقاب قاطع الرحم

ـ عن الباقر(ص): «ويُقال للموفي بعهوده في الدنيا في نذوره وأيمانه ومواعيده: يا أيّتها الملائكة! وفَى هذا العبد في الدنيا بعهوده، فأوفوا له هاهنا بما وعدناه، وسامحوه، ولا تناقشوه. فحينئذ تصيّره الملائكة إلى الجنان. وأمّا من قطع رحمه، فإنْ كان وصَلَ رحم محمّد(ص) وقد قطع رحم نفسه، شفع أرحام محمّد(ص) له إلى رحمه، وقالوا: لك من حسناتنا وطاعاتنا ما شئت، فاعف عنه. فيعطونه منها ما يشاء، فيعفو عنه، و يعطي الله المعطين ما ينفعهم ولا ينقصهم. وإن كان وصَلَ أرحام نفسه، وقطَع أرحام محمّد(ص) بأن جحد حقوقهم ودفعهم عن واجبهم، وسمّى غيرهم بأسمائهم، ولقّب غيرهم بألقابهم... قيل له: يا عبد الله! اكتسبت عداوة آل محمّد الطهر أئمّتك لصداقة هؤلاء فاستعن بهم الآن ليعينوك. فلا يجد معيناً، ولا مغيثاً ويصير إلى العذاب الأليم المهين‏»[1].

ـ عن الصادق عن أبيه‘ قال: «قال أبي عليّ بن الحسين ‘: يا بنيّ!


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص170؛ والبرهان، ج1، ص159 ـ 160.

تسنيم، جلد 2

692

انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق. فقال: يا أبه من هم؟ عرّفنيهم. قال: ... وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاثة مواضع: قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ...﴾[1] إلى آخر الآية. وقال عزّ وجلّ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ... أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[2]. وقال في البقرة: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ... ﴾‏»[3].

إشارة: أ: إنّ قبح نقض أيّ عهد، كما وإنّ شناعة قطع أيّ شيء قد اُمر بوصله هما بمقدار أهميّة هذا العهد المنقوض أو ذلك الشيء المقطوع، ولمّا كانت ولاية العترة الطاهرين(ع) تتمتّع بأهميّة خاصّة، فإنّ لنقضها ولقطع الصلة مع آل طه ـ التي أوصى الله عزّ وجلّ بها في القرآن الكريم ـ قياساً بنقض العهد العاديّ أو قطع الرحم الشخصيّ، أثر سوء عميق يشقّ جبرانه إلى أقصى حدّ.

ب: بما أنّ اللعن الإلهيّ هو عين الطرد من رحمته جلّ شأنه، فإنّ الملعون من قِبل الله هو محروم من رحمته. من هنا فإنّ مصاحبة ومحادثة ومرافقة مثل هذا الإنسان البعيد عن رحمة الله قد تكون من موجبات البعد عن الرحمة الإلهيّة. لذا فإنّ التحفّظ منه نافع ومفيد أيضاً.


[1]. سورة محمّد(، الآيتان 22 و23.

[2]. سورة الرعد، الآية 25.

[3]. الاختصاص، ص239؛ وبحار الأنوار، ج71، ص196.

تسنيم، جلد 2

693

[4] الحفاظ على العهد الإلهيّ

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنَفون!‏»[1].

إشارة: إنّ رواسب الثقافة الجاهليّة المنحرفة كانت سبباً في تقديم العار على النار. من هذا المنطلق فقد كان نقض عهود العشيرة ونكث مواثيق الآباء، بالحقّ أو بالباطل، عند أهل الجاهليّة شنيعاً فكانوا يجتنبونه، بيد أنّ نقض العهد الإلهيّ لم يكن أمراً ذا أهميّة بالنسبة لهم.


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 106.

تسنيم، جلد 2

694

تسنيم، جلد 2

695

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

خلاصة التفسير

الكافرون وإن قبلوا بأصل حياة ابن آدم وموته، إلاّ أنّهم يسندون الحياة والموت لغير الله من ناحية، ويجعلونهما منحصرَين في الدنيا من ناحية أخرى فينكرون لذلك حياة الإنسان البرزخيّة وحياته في القيامة. من أجل ذلك يتساءل الباري سبحانه وتعالى متعجّباً أو موبّخاً: كيف تكفرون بالله الذي أحياكم بعد أن كنتم أمواتاً (الولادة الدنيويّة)، ثمّ يميتكم مرّة أخرى، ثمّ يحييكم من بعد ذلك أيضاً (الولادة البرزخيّة)، ومن ثمّ أنتم إليه راجعون (الولادة عند القيامة).

فالإنسان في بدايته ليس إلاّ تراباً أو نطفة ميتة والله هو الذي يبعث الحياة فيه. ومن بعد أن يطوي الحياة الدنيا ينقله، بواسطة الموت، إلى عالم البرزخ. وبعد قضاء الحياة البرزخيّة ينقله بموت آخر إلى القيامة.

تسنيم، جلد 2

696

إذن فالإنسان مرتبط ـ من جهة ـ بالمبدأ الأزليّ، ومن جهة أخرى بالمرجِع الأبديّ. إنّ التأمّل في المراحل المذكورة هي من آيات الأنفس وهي من أفضل طرق معرفة الله عزّ وجلّ. فالموجود الفقير لا هو مخلوق من دون مبدأ فاعليّ، ولا هو خالق لنفسه، ولا أنّ الآخرين، الذين يعانون مثله من الفقر، قادرون على خلقه. فانتقال الإنسان من نشأة إلى نشأة اُخرى هو على هذا النحو أيضاً.

فالإنسان إنّما هو مسافر يصل، بعد قطع مراحل السفر، إلى لقاء جمال الله ورأفته، أو إلى لقاء جلاله وقهره، وإنّ للقاء الله درجات؛ فأصحاب النفس المطمئنّة مدعوّون ـ بعد رضاهم بقضاء الله وصيرورتهم مرضيّين عند الحقّ تعالى ـ إلى طيّ مراحل هي أسمى وأعلى من ذلك.

التفسير

«كيف»: من الممكن أن تأتي «كيف» في مقام التوبيخ؛ كقوله سبحانه في الآية الكريمة: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ‏ عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾[1] حيث يتساءل تعالى بصورة الاستفهام التوبيخيّ: كيف تكفرون وآيات الله وبراهينه تُتلى عليكم ويوجد بين ظهرانيكم معلّم ومفسّر كُفؤ كالنبيّ(ص). ويقول في موطن آخر: ﴿أَوَلَمْ يَرَواْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَىٰ اللهِ يَسِيرٌ﴾[2]. فتعبير ﴿أَوَلَم يَرَوا﴾ هو بمثابة تشويق


[1]. سورة آل عمران، الآية 101.

[2]. سورة العنكبوت، الآية 19.

تسنيم، جلد 2

697

وتشجيع بالنسبة لسالكي طريق معرفة الله، وهو بمنزلة توبيخ وتقريع للمتوقّفين على قارعة الطريق.

والاحتمال الآخر في المراد من «كيف» هو إفادة التعجّب، والتعجّب هو من صفات فعل الله تعالى، وليس من صفات ذاته سبحانه؛ كما يقول عزّ من قائل في الآية متعجّباً: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[1]؟! على أيّ تقدير فإنّ الله سبحانه وتعالى يرى أنّ التوحيد الخالقيّ والربوبيّ هما على جانب من البداهة والوضوح بحيث أنّ إنكارهما هو مدعاة للتعجّب والتوبيخ؛ لأنّه إذا كان الكون بأسره هو آياته جلّ وعلا: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[2]، فلن يبقى هناك مجال لإنكار أصل المبدأ أو وحدته.

المخاطَبون بهذه الآية

الذين يوجّه الله سبحانه وتعالى خطابه إليهم في هذه الآية هم الكفّار. لكن الكفر المعنيّ هنا له معنى جامع بحيث يشمل الكفر بالخالقيّة والربوبيّة وكذلك الكفر العمليّ، وإنّ جميع البشر مخاطَبون ـ بشكل أو بآخر ـ بهذه الآية. وبعبارة أدقّ: هذه الآية تُعدّ، بالنسبة لمن لا يعترف بأنّ الله خالق، برهاناً وحكمة، أمّا بالنسبة لمن قَبِل بأصل خالقيّة الله، كوثنيِّي الحجاز: ﴿وَلَئِنِ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾[3]، لكنّه أشرك في


[1]. سورة إبراهيم، الآية 10.

[2]. سورة البقرة، الآية 115.

[3]. سورة لقمان، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

698

ربوبيّته، فإنّها تُعدّ بمثابة الجدال بالتي هي أحسن، وبالنسبة لمن قبل بكلٍّ من خالقيّة الله وربوبيّته لكنّه وقع أسير المعصية والطغيان، أي الكفر العمليّ، فإنّها بالنسبة إليه تُعتبَر موعظة حسنة.

فالقرآن الكريم يقول للكافر: إنّ خالق الإنسان وكلّ الوجود الإمكانيّ هو الله. كما ويقول للوثنيين: إنّ الذي منح أصل الحياة، هو الذي يتولّى الإماتة والإحياء في المراحل الأخرى وإنّ هذا المبدأ ذاته هو المدبّر لشؤون العالم، ولا ربّ غيره، وأنتم مسؤولون تجاهه. كما وإنّه يعِظ المبتلى بالكفر العمليّ (المعصية) قائلاً: إنّ الحياة والإماتة والإحياء كلّها بيد الله وإنّك عائد إليه لا محالة، إذن فلماذا تختار سبيل الضلالة وتصمّ آذانك عن كلام الله؟

لقد ورد مضمون جملة ﴿كَيفَ تَكفُرُون﴾ في القرآن الكريم بعبارات شتّى. إذ يقول تعالى في سورة فصّلت: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[1]؛ فلسان ﴿ءَإِنَّكُم﴾ هو لسان توبيخ؛ بالضبط كما يقول في سورة التكوير: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾[2]؛ أي، إنّ الطريق المستقيم هو من الوضوح بمكان بحيث أنّ الضالّ عنه يثير التعجّب أو يستحقّ التوبيخ.

ظاهرة الحياة وإثبات المبدأ

من الممكن أن يكون المراد من «أموات» في جملة ﴿وَكُنتُم أموَاتاً﴾ هو


[1]. سورة فصّلت، الآية 9.

[2]. سورة التكوير، الآية 26.

تسنيم، جلد 2

699

النطفة التي هي في الأصلاب والأرحام، كما وقد يُراد منها التراب الذي يمثّل مرحلة ما قبل النطفة. وعلى الرغم من وجود حياة ضعيفة في النطفة والتراب إلاّ أنّهما خاليان من الحياة الإنسانيّة، وبهذا الاعتبار يصدق تعبير «الأموات» على هذه المواد الأوّليّة.

في بعض الأحيان يقول الله عزّ وجلّ تعبيراً عن الماضي السحيق للإنسان: إنّك لم تكن شيئاً: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾[1]، كما ويقول حيناً آخر: إنّك كنت شيئاً لكنّ هذا الشيء لم يكن يستحقّ الذكر: ﴿هَلْ أَتَىٰ‏ عَلَىٰ الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾[2]، حيث ـ الظاهر ـ أنّ النفي في الآية يتعلّق بالقيد والمقيَّد معاً؛ بمعنى: أنّك لم تكن شيئاً يستحقّ الذكر، وليس المراد: أنّك لم تكن شيئاً أساساً؛ لأنّ الإنسان في الماضي كان إمّا تراباً أو نطفة، وفي الآية محطّ البحث يقول: كنتم أمواتاً وقد وهبكم الله الحياة.

ومن أجل تثبيت التوحيد الربوبيّ والعباديّ نرى أنّ القرآن الكريم يستند تارةً إلى «آيات الأنفس»؛ حيث إنّ جملة ﴿وكنتم أمواتاً﴾ في الآية محلّ البحث، ناظرة إلى آيات الأنفس؛ وهي بمعنى، لو أنّكم تأمّلتم مليّاً في أنفسكم لتولّد عندكم اليقين بوحدة الله سبحانه وتعالى. وتارةً اُخرى يستند إلى «آيات الآفاق»؛ كما في قوله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾[3]، الذي هو ناظر إلى آيات الآفاق. كما وإنّه يجمع ـ


[1]. سورة مريم، الآية 9.

[2]. سورة الإنسان، الآية 1.

[3]. سورة فصّلت، الآية 9.

تسنيم، جلد 2

700

تارة ثالثة ـ بين آيات الآفاق والأنفس؛ مثل: ﴿وَفِي الأَرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾[1].

تبيّن الآية مورد البحث مراحل للإنسان بعضها هو محطّ قبول الكفّار أمّا البعض الآخر فينكرونه؛ فالآية الشريفة تثبت الأمور التالية للإنسان: 1ـ سبق الموت. 2ـ إحياء الإنسان بيد الله. 3ـ إماتته بيد الله. 4ـ إحياؤه ثانية بيد الله. 5ـ الرجوع النهائيّ للإنسان نحو الله. المرحلة الأولى من هذه المراحل يقرّ بها الجميع، أمّا المرحلة الثانية؛ ألا وهي الإحياء الإلهيّ، فعلى الرغم من قبول الجميع (وهم المؤمنون والكافرون) بأصل حياة الإنسان، بيد أنّ المؤمن يسندها إلى الله عزّ وجلّ أمّا الكافر فينسبها إلى تطوّرات المادّة وتعاقب الزمان. وهكذا هو الحال مع المرحلة الثالثة؛ فأصل موت الإنسان بعد الحياة هو محطّ قبول الكلّ، إلاّ أنّ المؤمن يعتبر أنّ المُميت هو الله في حين يسند الكافر الإماتة إلى الدهر. أمّا المرحلتان الرابعة والخامسة فلا يعتقد بها إلاّ المؤمن ويقف منها الكافر موقف المنكِر المحض وهما الحياة البرزخيّة والحياة في القيامة، وبما أنّ الكافر ينكر ظاهرة الحياة البرزخيّة والمعاد من الأساس، فلا يصل الدور عنده إلى المبدأ الفاعليّ لهما.

إنّ جملة ﴿فَأحيَاكُم﴾، التي تشير إلى الإحياء الإلهيّ بعد موت الإنسان، هي أوّل قسم ينكره الكفّار؛ وذلك لأنّهم يقرّون بالموت السابق لهذه المرحلة والمتمثّل بالكون في أصلاب الآباء وأرحام الاُمّهات أو على هيئة تراب. وعلى هذا، فإنّ محور النزاع بين الموحّد والملحد في


[1]. سورة الذاريات، الآيتان 20 و21.

تسنيم، جلد 2

701

هذا القسم من الآية هو في تعيُّن المبدأ الفاعليّ؛ وبعبارة اُخرى، فالموحّد يقول: إنّ الله هو الذي أحيانا بعد أن كنّا أمواتاً، أمّا الملحد فيقول: إنّ حياتنا معلولة لتطوّرات المادّة، لا أنّ الله هو الذي أحيانا. إذن فمحور النزاع بين الموحّد والملحد ـ في الحقيقة ـ أمران: الأوّل هو التوحيد، والثاني هو المعاد.

يقول الله عزّ وجلّ في مقام إثبات مبدئيّته وتوحيده: كيف تجيزون لأنفسكم الكفر والحال أنّكم كنتم أمواتاً وأنّ الله هو الذي منحكم الحياة؟! فهو يذكر هذا المعنى بتعجّب أو مع التوبيخ بقوله: هل من الممكن يا ترى للميت ـ من جهة كونه ميتاً ـ أن يحيا من دون مبدأ فاعليّ! إنّ بمقدور منكري المبدأ الإجابة على هذا السؤال من خلال واحد من بضعة طرق كلّها باطلة:

الطريق الأوّل هو القول بالحظّ والصدفة بأن يقولوا: إنّ الكائن الحيّ يُبعث للحياة من باب الصدفة. ومثل هذا الشخص ـ قهراً ـ لا يمكنه التفكير والاستدلال بشكل منطقيّ؛ ذلك لأنّه على أساس الحظّ والصدفة لا يمكن القول بأيّ علاقة بين الظواهر المختلفة، وفي هذه الحالة فإنّه ينقطع الارتباط بين المقدّمة والنتيجة حتّى في كلامهم واستدلالاتهم هم أنفسهم. فالتفكير النظريّ هو أن نكتشف النتيجة من خلال المقدّمات. فإذا تمّ إنكار العلاقة الضروريّة بين الأشياء، التي من جملتها العلاقة بين المقدّمات ونتائجها، فإنّه يمكن الوصول إلى أيّ نتيجة عبر أيّ مقدّمة كانت، ولصار ميسوراً أن يستنتج شخص نتيجة من خلال مقدّمات خاصّة، ويصل آخر إلى نتيجة مناقضة لها اعتماداً على ذات تلك المقدّمات. فبقبول الحظّ

تسنيم، جلد 2

702

والصدفة لن يستقرّ أيّ ربط منطقيّ بين الدعوى والدليل أو بين المقدّمات والنتيجة. فالبحث والتفكّر والاستدلال يأتي بعد القبول بنظام العليّة والأحكام العامّة للعليّة. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ نظريّة الصدفة مردودة.

الطريق الثاني هو قولهم: إنّ الموجود الماديّ هو ميت، وهو في الوقت الذي يفتقد فيه الحياة يكون هو ذاته العاملَ المسبّب لحياته؛ أي في ذات الوقت الذي يكون مفتقراً فيه لشيء فإنّه يكون مالكاً له، فهو يعطي لنفسه ما هو فاقده، وهذا جمع بين النقيضين وهو محال. فالحياة أمر وجوديّ، وهذا الأمر الوجوديّ، الذي سبقه العدم ومن ثمّ اُوجد، يحتاج إلى سبب وعامل، ولابدّ أن يكون هذا السبب والعامل مالكاً لهذا الأمر الوجوديّ والكمال، والحال أنّه قد افتُرض فقدانه له.

الطريق الثالث هو قولهم: هذا الموجود الماديّ الفاقد للحياة يستمدّ حياته من موجود آخر. وفي هذه الحالة ينتقل السؤال إلى الموجود السابق بأنّه: كيف حصل على هذه الحياة؟ والقرآن الكريم لا يؤكّد على الأشخاص؛ فمثلاً: هو لا يقول: كان الولد موجوداً ميتاً ثمّ اُحيي، كي يُقال: الأب هو العامل لحياته. بل هو يتساءل: أصل الحياة التي لم تكن ثمّ اُحدثت، من أين جاءت؟

يقول القرآن الكريم: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيرِْ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[1]. هذا البيان هو أكثر فنّيةً وأقرب إلى مباحث الدَور والتسلسل. والمراد من قوله: ﴿مِن غَيرِ شَيءٍ﴾ هو كون الفعل من غير فاعل؛ لأنّ ﴿مِن غَيرِ شَيءٍ﴾ في هذه الآية تعني فقدان العلّة الفاعليّة؛ وذلك لأنّ الملحدين


[1]. سورة الطور، الآية 35.

تسنيم، جلد 2

703

كانوا يقبلون بالعلّة الماديّة، إلاّ أنّ القبول بالأخيرة لا يحلّ مشكلة نظام العلّة والمعلول. كلمة ﴿مِن﴾ في هذه الآية هي «مِن» النشويّة؛ والمراد: من أين صَدَر هذا الموجود الحيّ؟ يقول الموحّد: إنّ الإنسان «خُلِق من شيء»؛ أي إنّ الإنسان خُلق من مصدر، بينما يقول الملحد: إنّ الإنسان «خُلق من غير شيء»؛ أي، إنّه لم ينشأ إلاّ من مبدأ المادّة. فالملحد يقرّ بالمبدأ القابليّ إلاّ أنّه ينكر المبدأ الفاعليّ.

وانطلاقاً من حقيقة أنّ الإنسان محتاج لمصدر ومنشأ فاعليّ نرى أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿أَم هُمُ الخَالِقُونَ﴾. فإن كان المصدر والمنشأ هو الشخص ذاته لَلزم الدَور، وإذا كان المصدر موجوداً آخر مثله لَحدث التسلسل؛ وذلك لأنّ الشيء الذي لا يكون وجوده عين ذاته، يكون محتاجاً لمانح الوجود وواجب الوجود، ومن هذا المنطلق، وبُغية نفي الخالقيّة عن الآخرين، يقول متابعاً: ﴿أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ﴾[1]؛ فإنّ خلقة الكون بأجمعه تحتاج إلى مانح للوجود؛ وذلك لأنّ وجود السماوات والأرض ليس هو عين ذاتها، فهي ـ إذن ـ بحاجة إلى مبدأ.

بعد مناقشة كلّ هذه المقاطع يَخلُص القرآن الكريم في سورة الجاثية إلى نتيجة مفادها أنّ كلام الكفّار غير مبرهَن، بل إنّه نابع من الهوى. فهؤلاء يقولون: نحن نموت ونحيا بأنفسنا ولا يميتنا إلاّ الدهر: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾[2].


[1]. سورة الطور، الآية 36. في الموارد التي لا تكون فيها «السماوات والأرض» مصحوبة بعبارة «ما فيهنّ»، أو «ما بينهنّ» يكون المراد منها هو مجموع نظام الخلقة.

[2]. سورة الجاثية، الآية 24.

تسنيم، جلد 2

704

فإن كان المراد من الدهر هو مرور الزمان وتعاقب الأيّام فلابدّ من القول: إنّ الدهر نفسه هو مخلوق؛ إذ أنّ الزمان الذي يتولّد من حركة جُرم حول جُرم آخر، أو من حركة الشيء في باطنه، يحتاج إلى خالق. لذا فإنّه لا مفرّ أمام الملحدين من القبول بأصل المبدأ الفاعليّ وتوحيده.

إثبات المبدأ عن طريق ظاهرة الموت

المسألة الثانية التي هي محطّ إنكار الملحدين هي الإماتة بعد الإحياء المسبوق بالموت. توضيح ذلك: إنّ الموحّد يقول: الله هو الذي يميتنا، بينما يقول الملحد: نحن الذين نموت: ﴿نموتُ ونحيا﴾. إذن فادّعاء الملحدين هو الموت والحياة، وادّعاء الموحّدين هو الإماتة والإحياء. فالكفّار يتصوّرون أنّ الموت هو زوال وفناء، وأنّ الإنسان أشبه ما يكون بالشجرة التي تبقى يانعة مخضرّة لمدّة من الزمن ثمّ تذبل وتبلى وتتحوّل إلى رميم وتراب، وأنّه ليس له بعد الموت من ثواب وما عليه من عقاب. فكما أنّه لا تُثاب الشجرة المثمرة بعد الذبول والبلى، ولا تُعاقب نبتة الشوك العديمة الثمر بعد موتها، فالإنسان كذلك أيضاً لأنّه ليس له بعد الموت من ثواب أو عقاب. وعليه فإنّ المجرم والعادل بعد الموت سواسية.

يقول الله عزّ وجلّ في ردّه على تصوّر الكفّار: إنّ كلامهم هذا لا ينمّ عن علم وهؤلاء ليس لهم سوى «الظنّ والخيال»: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾[1]؛ كما أنّه يقول في الآية مورد البحث: ﴿كَيفَ


[1]. سورة الجاثية، الآية 24.

تسنيم، جلد 2

705

تَكفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُم أَموَاتاً فَأَحيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُم﴾؛ فممّا يثير التعجّب والاستغراب هو قولكم: إنّنا نحيا ونموت؛ فلتعلموا أنّ الله هو الذي أحياكم ومن ثمّ يميتكم؛ لأنّ الموت، من ناحية كونه انتقالاً من نشأة إلى نشأة أخرى، هو أمر وجوديّ، وهو يتطلّب عاملاً. فالإنسان عندما يشدّ رحاله مغادراً نشأة الدنيا ومسافراً إلى العالم الآخر، فلكونه لا يعود موجوداً في الدنيا، فإنّ الآخرين لا يرونه، ولهذا يخالون موته زوالاً؛ والحال أنّ الوجه الآخر للموت هو الميلاد؛ وهذا يشبه تماماً اُفول الشمس في النصف الشرقيّ من الكرة الأرضيّة حيث يصاحبه طلوعها في النصف الغربيّ منها. فالإنسان بولوجه نشأة البرزخ ينال حياة جديدة وهذه الحياة الجديدة تحتاج إلى سبب. مع فارق واحد وهو أنّ الوجه الدنيويّ لهذا الانتقال يُدعى موتاً أمّا الوجه البرزخيّ له فيسمّى حياةً. وبناءً عليه، فإنّ الموت ـ في الحقيقة ـ هو حياة، وليس بزوال. من خلال هذا البيان، يتّضح معنى الآية ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾[1]؛ فالموت ليس عدماً حتّى لا يكون مخلوقاً ومجعولاً ولا يكون محتاجاً لخالق وجاعل، بل إنّ حقيقة الموت هي الانتقال، والانتقال والتحوّل هو أمر وجوديّ، وهو محتاج لخالق.

حياة الإنسان البرزخيّة وحياته في القيامة

بعد قيام القرآن الكريم ـ من خلال بيان أصل الإحياء والإماتة الإلهيّتين ـ بإثبات مبدئيّة الله الفاعليّة وتوحيده، فهو يعرّج على إثبات المعاد وحياة


[1]. سورة الملك، الآية 2.

تسنيم، جلد 2

706

الإنسان في القيامة الكبرى؛ ذلك لأنّ الله الحكيم لا يفعل ما هو عبث ولابدّ لإماتته من هدف، وإنّ المقصود من الإماتة هو الإحياء من جديد، ومن هذا المنطلق فإنّ المعاد والمسائل المتعلّقة به يأتي ذكرها بعد طرح قضيّة الإماتة الإلهيّة.

هناك ثلاثة احتمالات مطروحة في توضيح عبارة ﴿ثُمّ يُحيِيكُم﴾:

1. الآية تُخبر عن الحياة بعد الموت، ومن ناحية أنّه ليس لإخبار الكافر، الغير المعتقد بأصل الوحي، أثر يُذكر فالظاهر أنّ الآية الكريمة ليست في مقام الإخبار المحض.

2. الآية هي في مقام الاحتجاج، وقد بُيّن هذا الاحتجاج في كلام المفسّرين على نحوين:

أ: إنّ الله يميتكم ثمّ يحيي أفراداً من جنسكم، وإنّ جملة ﴿ثمّ يُحييكُم﴾ هي ناظرة إلى بقاء النوع الإنسانيّ في الدنيا. على هذا الأساس، فإنّ الإحياء الأوّل يرجع إلى شخص الإنسان؛ أي أنّ كلّ فرد منكم كان ميتاً ثمّ أحياه الله تعالى، والإحياء الثاني يرجع إلى نوع الإنسان؛ بمعنى أنّ الله يحيي من بعدكم آخرين ويحلّهم محلّكم في نشأة الدنيا كي يبقى النوع الإنسانيّ محفوظاً، وبما أنّ الإحياء الثاني ناظر إلى نوع الإنسان، فإنّ الوحدة النوعيّة هنا تصحّح صيغة الخطاب.

وعلى الرغم من أنّ قصد المفسّرين من هذا النحو من التفسير هو تقديم احتجاج آخر على وجود المبدأ الفاعليّ، بيد أنّ استدلالهم هذا غير تامّ؛ والسبب هو أنّه من الممكن إقامة حجّة جديدة في كلّ استدلال من خلال طرح حدّ وسط جديد، والتفسير المذكور لم يضع في

تسنيم، جلد 2

707

الحسبان حدّاً وسطاً جديداً؛ ذلك أنّ جميع البشر محكومون بحكم واحد وهو أنّ البشر من الماضين والحاليّين والآتين كلّهم مسبوقون بالموت وقد أحياهم الله سبحانه وتعالى. فليس بالكلام الجديد القول: بأنّ الله بعد إماتة جماعة من الناس يقوم بإحياء جماعة اُخرى؛ لأنّ إحياء الآتين يشبه إحياءنا نحن وإحياء الماضين والأسلاف وهذا لا يعدو كونه تكثيراً في مجال الأمثلة، وليس دليلاً جديداً.

ب: إنّ الآية هي في مقام الاحتجاج على المعاد؛ إذ أنّ الكافرين كانوا يكفرون بالمبدأ والمعاد معاً. فهم لم يكونوا يقبلون بالمبدأ؛ لأنّهم كانوا يقولون: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾[1]، وكانوا ينكرون المعاد بقولهم: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾[2]؛ ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾[3]. فالله عزّ وجلّ يقول لهم في مقام الاحتجاج: إنّ الإحياء هو بيد الله. فلو أنّ الله أحيا تراباً ثمّ بدّله تراباً مرّة اُخرى لينتهي الأمر ولا تحدث بعد الموت حياة، فهذا عمل عبثيّ، والحال أنّ الله الحكيم لا يفعل العبث؛ إذن فالمعاد حقّ.

كما ويقول عزّ من قائل في موضع آخر: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾[4]؛ فالله لا يصدر منه العبث حيث يخلقكم ثمّ يعدمكم. فإن وهبكم الله ـ وهو الذات الجامعة لجميع الكمالات ـ الحياةَ ثمّ نقلكم بعد ذلك إلى عالم آخر فمن المؤكّد أنّ له جلّ وعلا هدفاً من ذلك كلّه. إذن فإنّ إماتتكم متبوعة بإحياءٍ آخر وإلاّ لكان الخلق


[1]. سورة الجاثية، الآية 24.

[2]. سورة الجاثية، الآية 24.

[3]. سورة الأنعام، الآية 29.

[4]. سورة «المؤمنون»، الآية 115.

تسنيم، جلد 2

708

لغواً. ومن الممكن لهذا التفسير أن يشكّل حجّة جديدة ودعوة لقبول المعاد عن طريق الحكمة الإلهيّة.

3. عدّ بعض المفسّرين الكبار أنّ الآية محطّ البحث هي تفسير للآية التي في سورة غافر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَىٰ الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾[1]. فبعد انكشاف الحقائق في القيامة يقول الكفّار: ربّنا لقد أمتّنا مرّتين وأحييتنا مرّتين والآن نحن نعترف بذنوبنا، فاجعل لنا سبيلاً للخروج من القيامة كي نسعى لتحصيل الإيمان بعد ورودنا إلى الدنيا من جديد. والحال أنّ القيامة هي يوم ظهور الحقّ وميدان العلم وليست موضعاً للفعل الاختياريّ من قبيل الإيمان. فالإيمان فعل اختياريّ بحيث تفصل الإرادة بينه وبين نفس الإنسان، وبمقدور المرء أن يؤمن أو لا يؤمن. أمّا العلم فليس هو فعلاً إراديّاً للنفس، وإن كان تحصيل مقدّمات الفهم هي باختيار الإنسان، لكنّه إذا اتّضحت المقدّمات، فلا مفرّ أمام النفس من فهم النتيجة.

لأنّ هناك عمليّتَي إماتة وعمليّتَي إحياء مطروحة في آية سورة غافر لكن من دون توضيح لماهيّة كلّ منها، بينما في الآية مورد البحث بُيّنت جميع المقاطع الأربعة لذلك؛ فهي تقول: إنّ الإنسان، وقبل أن يتمّ إحياؤه حياة دنيويّة، كان ميتاً (نطفة أو تراباً) ثمّ قدم إلى الحياة الدنيا: ﴿كُنتُم أموَاتاً فَأحيَاكُم﴾، ومن ثمّ يخرج الإنسان من الدنيا بالإماتة الإلهيّة:


[1]. سورة غافر، الآيتان 10 و11.

تسنيم، جلد 2

709

﴿ثمّ يُميتُكُم﴾ وأنّ الإحياء الثاني يتعلّق بالقيامة الكبرى: ﴿ثمّ يُحييكُم﴾، إذن فآية سورة غافر تفسَّر بالاستعانة بالآية محطّ البحث.

لكنّ هذا الاحتمال مردود؛ لأنّ الحديث في سورة غافر يدور حول عمليّتَي «إماتة» وعمليّتَي «إحياء»، بينما الكلام في الآية محلّ البحث يجري عن عمليّة «موت» واحدة، و«إماتة» واحدة، وعمليّتَي «إحياء». والفرق بين الموت والإماتة هو أنّ تعبير الموت غير ناظر إلى الارتباط بالفاعل ولا يوحي إلى سبق الحياة عليه، بينما توحي كلمة الإماتة إلى الارتباط بالفاعل من جهة وسبق الحياة عليها من جهة ثانية. إذن فليس بإمكان هذه الآية أن تكون مبيّنة للآية من سورة غافر، بل هي مكمّلة لها، وإنّ مجموع الآيتين مع بعضهما تثبتان وجود عمليّتي إماتة؛ واحدة في الدنيا وواحدة في البرزخ، وثلاث عمليّات إحياء؛ في الدنيا، وفي البرزخ، وفي القيامة الكبرى[1].


[1]. يقول بعض المفسّرين: إنّ آية سورة غافر لا تدلّ على الحياة البرزخيّة للإنسان؛ والحال أنّه يُستفاد هذا المعنى (الحياة البرزخيّة) من كلٍّ من آية سورة غافر والآية مورد البحث؛ لكن بما أنّه في آية سورة غافر قد طُرحت عمليّتا إماتة وعمليّتا إحياء؛ فالإماتة الأولى هي العامل في انتقال الإنسان من عالم الدنيا إلى العالم الآخر، وإنّ الإماتة الثانية غير ممكنة من دون إحياء سابق، إذن فالإماتة الثانية تقتضي أن يكون للإنسان في البرزخ حياة أخرى وحينها ينتقل من الحياة البرزخيّة إلى ساحة القيامة الكبرى، وإنّ أحد وجوه هذا الانتقال الجديد هو الإماتة الثانية. وفي الآية محلّ البحث كذلك، فبما أنّ الله يقول: ﴿ثُمَّ يُحيِيكُم ثُمَّ إِلَيهِ تُرجَعُون﴾ ويذكر ـ علاوة على الإحياء ـ الرجوعَ إلى الله مصحوباً بحرف العطف «ثمّ»، يصبح جليّاً أنّ هناك فارقاً بين الإحياء والرجوع. ولمّا كان «الرجوع» يشير إلى الحياة في القيامة، فإنّ الإحياء ناظر إلى الحياة البرزخيّة، وإنّه في كلّ واحدة من الجملتين هناك إشارة إلى مرحلة خاصّة من مراحل سير الإنسان، وإلاّ لقال: «ثمّ يُحييكم وإليه تُرجعون»، أو لاكتفى بالقول: «ثمّ إليه تُرجعون» .

تسنيم، جلد 2

710

تنويه: 1. يقول البعض في الاستدلال بالآية ﴿رَبّنا أَمَتّنا ...﴾ : إنّ الكفّار في المعاد هم الذين يقولون هذا الكلام؛ أي إنّه ليس بكلام الله. لكنّه، كما اتّضح في أثناء التفسير، فإنّ القيامة هي موطن ظهور الحقّ وليس للكلام الباطل من سبيل إليها، ولو كان مثل هذا الموضوع باطلاً إذن لأبطله الله تعالى ولردّه حتماً.

2. على فرض عدم شمول الآية محلّ البحث للحياة البرزخيّة، فإنّها لا تدلّ إطلاقاً على نفي البرزخ كي تكون منافية لآيات اُخرى من قبيل ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[1]؛ إذ أنّ عدم ذكر البرزخ هو غير الدلالة على عدم وجوده، وهو لا يتعارض أبداً مع دليل وجوده.

رجوع الإنسان إلى الله

عندما يفصّل الله عزّ وجلّ ويشرح شؤون الإنسان المختلفة فهو يبيّن ـ حيناً ـ وبشكل إجماليّ الأصل في كون الإنسان مسافراً، وحيناً آخر يشير إلى منازل سفره أيضاً، كما ويوجّه الخطاب ـ حيناً ثالثاً ـ فيما يتعلّق ببعض مراحل هذا السفر، إلى روح الإنسان، لا إلى مجموع روحه وبدنه. ولتوضيح ذلك، فهو يقول تارة: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾[2]؛ فكلّ الناس (مؤمنهم وكافرهم) مسافرون وسيبلغون لقاء الحقّ، بيد أنّ المؤمن سيصل إلى جمال الله الغفور، الستّار، الرحيم، أمّا الكافر فسيلاقي جلال الله القهّار، المنتقم.


[1]. سورة «المؤمنون»، الآية 100.

[2]. سورة الانشقاق، الآية 6.

تسنيم، جلد 2

711

ثمّ يعمد جلّ شأنه إلى التفصيل في هذا الأصل الجامع في آيات اُخرى قائلاً: ليس الأمر أنّ الإنسان لن يصل إلى لقاء الحقّ، كما وليس الأمر أنّ كلّ الذين يبلغون لقاء الحقّ هم سواسية في لقائهم لأسماء الله الحسنى: ﴿فَأَمَّا مَنْ اُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ اُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً * وَيَصْلَىٰ‏ سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾[1]. فالجميع سوف يحظون بلقاء الله تعالى؛ بما فيهم الأشخاص الذين كانوا في الدنيا أسرى السرور والمرح الذي في غير محلّه، والأشخاص المؤمنون والمهذّبون.

أمّا اللقاء الإلهيّ الخاصّ فهو للممتازين من الناس المؤمنين، حيث إنّه في تلك المرحلة من اللقاء لا يعود هناك كلام عن بدن بن آدم، بل يكون الحديث عن نفسه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ‏ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي﴾[2]. وهذا لا يعني أنّه ليس لمثل هذا الإنسان جسم، بل إنّه لا يبلغ لقاء الحقّ ـ من الإنسان المركّب من جسم وروح، وفي حين التركّب ـ إلاّ روحه، وليس لجسمه من سبيل إلى هذا الحرم الآمن ولا يمكنه الحضور فيه؛ وذلك لأنّ هذه المرتبة منزّهة عن الجسم والجسمانيّة، ولابدّ فيها من توفّر بضعة أوصاف: أوّلها أنّه ينبغي للروح ذاتها أن تصل إلى مقام الاطمئنان، وثانيها أن تمتلك صفتين من الصفات البارزة للإنسان الكامل؛ أي أن تكون راضية بقضاء الله


[1]. سورة الانشقاق، الآيات 7 ـ 13.

[2]. سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30.

تسنيم، جلد 2

712

في جميع شؤونها فتقول: «اللهمّ... ورضاً بقضائك»[1]‏، وأن تكون عقيدتها وخُلْقها وعملها محطّ رضا الله، فإن توفّرت في الإنسان هذه الشروط الثلاثة؛ ﴿... الْمُطْمَئِنَّةُ... رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ فسوف يُؤذن له في طيّ ما تبقى من الطريق ليحظى بلقاء الحقّ تعالى، ويظهر من الأمر بالرجوع: ﴿ٱرجِعِي﴾ أنّ صاحب مقام النفس المطمئنّة، ومقام الرضا والمرضيّ عنه لا يزال في منتصف الطريق؛ ومن هنا فإنّ أهل فنّ الأخلاق يعتبرون مقام التفويض والتسليم أسمى وأعلى من مقام الرضا.

وخلاصة القول، فقد يُقال ـ تارةً ـ بخصوص الإنسان إنّه مسافر من دون إخباره بمراحل السفر ومقاطعه، وتارةً أخرى يعرّف الله سبحانه وتعالى الإنسانَ بمقطعي السفر الابتدائيّ والنهائيّ بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾[2] فالله تعالى هو المُبدئ وهو المعيد؛ وإنّ للإنسان أيضاً بداية ونهاية، لكنّه لا يذكر الوسط، أي البرزخ، وتارةً ثالثة يشير إلى مقطع واحد فقط ثمّ يسترسل في ذكر تفاصيل شؤونه المختلفة؛ مثل: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾[3]، ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[4] فهاتان الآيتان تنطويان على شرح لشؤون حياة الإنسان الدنيويّة ولم تتطرّقا إلى البرزخ وما يتلوه، وتارةً رابعة يأتي على


[1]. تهذيب الأحكام، ج3، ص127.

[2]. سورة البروج، الآية 13.

[3]. سورة «المؤمنون»، الآية 14.

[4]. سورة الروم، الآية 54.

تسنيم، جلد 2

713

ذكر المقاطع الثلاثة؛ كما هو الحال في الآية مورد البحث: ﴿كُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾.

وأحياناً تُضفى على المراحل المذكورة صبغة السفر والارتحال ولا يطرح فيها تعبير الموت إطلاقاً؛ مثل: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾[1]؛ ففي الآية الأخيرة يُساق الكلام عن السير التطوّريّ في الدنيا، والبرزخ، والقيامة بنسق واحد ومن دون التطرّق لاسم الموت الذي تُشمّ منه رائحة العدم.

وعند أخذ الآية ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ‏ رَبِّكَ﴾[2] بنظر الاعتبار يمكننا القول: إنّ جميع مراحل الإنسان هي من سنخ الحياة بعد الحياة (اللُبْس بعد اللُبْس) وإذا طرأ الحديث عن الإماتة أحياناً فهو بلحاظ الغيبة الظاهريّة للمرتحِل عن المنزل السابق.

وفي غضون توضيح سير تحوّل الإنسان يأتي الله سبحانه وتعالى ـ أحياناً ـ على ذكر المبدأين الفاعليّ والقابليّ معاً قائلاً: إنّ الله هو المتكفّل بهذه الأمور، ويكتفي ـ أحياناً أخرى ـ بذكر المبدأ القابليّ وحسب فيقول: لقد طوى الإنسان ويطوي هذه المراحل الواحدة بعد الأخرى. والآية محلّ البحث هي من قبيل القسم الأوّل، أمّا الآية ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾[3] التي لا تتطرّق إلى المبدأ الفاعليّ، فهي من قبيل القسم الثاني. ويحذّر الله جلّ وعلا الناسَ في الآية مدار البحث قائلاً


[1]. سورة طٰه، الآية 55.

[2]. سورة الانشقاق، الآية 6.

[3]. سورة «المؤمنون»، الآية 15.

تسنيم، جلد 2

714

لهم: إنّكم متّصلون ـ من جهة ـ بالمبدأ الأزليّ: ﴿وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ ومرتبطون ـ من جهة أخرى ـ بالمرجع الأبديّ: ﴿ثمّ يُميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه تُرجَعون﴾؛ إذن فكيف تكفرون بالله؟!

لطائف وإشارات

[1] أصول الدين الثلاثة في الآية مورد البحث

تشير الآية محلّ البحث ـ حسب ظاهرها ـ إلى أصلين؛ هما المبدأ: ﴿فأحياكم﴾ والمعاد: ﴿ثمّ إليه تُرجَعون﴾، لكن يتعيّن الالتفات إلى أنّه بإثبات المبدأ والمعاد تثبت النبوّة والرسالة قهراً؛ لأنّه عندما يكون هناك هدف (المعاد) فسوف يكون هناك طريق للوصول إلى هذا الهدف، وهناك دالّ عليه أيضاً. إذن فبإثبات المبدأ والمعاد يثبت الطريق (الصراط المستقيم) والمرشد (النبيّ) كذلك. فالله سبحانه وتعالى، وعن طريق ضرورة المعاد، يعمد أحياناً إلى إثبات الوحي والرسالة بهذه الصورة:

كيف يمكن أن يكون للإنسان مبدأ ومعاد ثمّ لا يكون له صراط ومرشد؟ فإذا كان الإنسان لا يفنى بالموت، بل كان في موته انتقال له من نشأة إلى نشأة أخرى، وإذا كان له هدف يتحرّك صوبه، إذن فلابدّ من وجود سبيل لبلوغ هذا المقصد، وإنْ وُجد السبيل تعيّن وجود المرشد والدالّ أيضاً. بناءً على ذلك، فمن الممكن للآية محطّ البحث، من خلال صدرها وذيلها، أن تشكّل دليلاً على ضرورة الوحي والرسالة أيضاً.

تسنيم، جلد 2

715

[2] عناصر الاحتجاج البيّنة والمبيَّنة في الآية

تنقسم العناصر المحوريّة للاحتجاج في الآية محلّ البحث إلى قسمين: بَيِّنة ومُبيَّنة؛ إذ أنّ الموت السابق، والحياة من بعده، والموت بعد الحياة هي أمور بيّنة وقطعيّة، أمّا الإحياء مرّة أخرى، ومن ثَمّ الرجوع إلى الله تعالى فهما أمران مبيَّنان حيث سيصبحان بمنزلة الأمر البيِّن بعد التدبّر فيهما، أمّا تقريب الاستدلال على ذلك فقد مرّ في غضون البحث التفسيريّ. الاختلاف الآخر بين العناصر المذكورة في الآية هو أنّه لمّا كان ترتيب بعضها من دون فاصل كبير وترتّب البعض الآخر بفاصل لا بأس به، فقد نُظّم سيرها الطوليّ ـ أحياناً ـ من خلال العطف ﺑ «الفاء» وأحياناً أخرى بالعطف ﺑ «ثمّ»؛ لأنّ ترتّب الحياة على النطفة الميتة لا يكون بفاصل كبير، أمّا ترتّب الموت على ظهور أصل الحياة، وكذلك الإحياء بعد الموت البرزخيّ، ثمّ الرجوع إلى الله فإنّ كلاًّ منها يتحقّق بفاصل وجوديّ يُعتدّ به. من هذا المنطلق فقد تمّ تبيين ترتّب الحياة على الموت السابق عليها بصورة «الفاء»، أمّا ترتّب سائر المراحل المذكورة على بعضها فقد بُيّنت بصورة «ثمّ».

تنويه: على الرغم من أنّ تقابل الموت والحياة هو من قبيل تقابل العدم والمَلَكة، فما ليس مؤهّلاً للحياة فإنّه لا يُطلق عليه عنوان «الميت» غالباً، لكنّنا نلاحظ أنّ عنوان الميت قد اُطلق في القرآن الكريم على البلدة والأرض؛ مثل: ﴿بَلْدَةً مَيْتاً﴾[1]، ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾[2].


[1]. سورة الفرقان، الآية 49؛ وسورة الزخرف، الآية 11؛ وسورة ق، الآية 11.

[2]. سورة يٰس، الآية 33.

تسنيم، جلد 2

716

[3] سرّ تغيير العبارة في ﴿إليه تُرجَعُون﴾

إنّه من جهة كون الموت السابق أمراً عدميّاً ولا يحتاج إلى المبدأ الفاعليّ بشكل مباشر، فإنّه لم يُسند إلى الباري تعالى، إلاّ أنّ العناصر المحوريّة الثلاثة التالية له؛ أي: الإحياء الأوّل، والإماتة الثانية، والإحياء الثالث، فقد اُسندت إلى الله سبحانه؛ لأنّها جميعاً أمور وجوديّة وهي بحاجة إلى المبدأ الفاعليّ. لكنّ المهمّ هنا هو أنّ الرجوع ﴿ثمّ إليه تُرجَعون﴾ مع أنّه أمر وجوديّ ومُحتاج إلى المبدأ الفاعليّ إلاّ أنّه لم يُسند إلى الله عزّ وجلّ وإنّ مجرّد كون الله مرجعاً لا يُعدّ كافياً لتأمين المبدأ الفاعليّ؛ إذ من الممكن أن يتعلّق رجوع الراجعين بإرادتهم هُم أو بمبدأ آخر.

قد يُقال أحياناً في تبرير هذا التغيير في العبارة أنّ السرّ فيه هو رعاية فواصل الآيات ومقاطعها التي دُوّنت في الآيات السابقة ـ على الأغلب ـ بصورة الجمع المذكّر السالم. ومن أجل إثبات إسناد رجوع الناس إلى الله من الممكن القول: إذا لم تكن حياة موجودٍ ما ومماته بيده هو، ولا بيد غير الله فإنّ رجوعه إلى الله أيضاً، والذي هو شأن من الشؤون الوجوديّة لهذا الموجود، يكون بإرادة إلهيّة حتماً، كما أنّه يُستنبط من الآيتين ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[1]، و﴿وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾[2] حيث إنّ رجوع الإنسان إلى الله يتمّ بإرادة إلهيّة؛ ذلك لأنّه لمّا كانت أمور الكون أجمع، بالإضافة إلى وجود الإنسان بأسره، هي كلّها في قبضة الله، فلابدّ أنّ رجوع الإنسان إلى الله، الذي هو من أشدّ مراحل


[1]. سورة البقرة، الآية 156.

[2]. سورة هود، الآية 123.

تسنيم، جلد 2

717

هجرته حساسيّة، سوف يُسند إلى الله تعالى. هذا بقطع النظر عن أنّ الفعل المُشار إليه ﴿تُرجَعون﴾ جاء بصورة المبنيّ للمجهول. وبناءً على ما مرّ، فإنّ إسناد «الرجوع» إلى الناس أنفسهم هو غير مطروح من الأساس، وبما أنّ جميع الأشخاص سيُرجَعون إلى الله، فلن يكون أيّ من هؤلاء مُرجِعاً لغيره؛ لأنّه سيُرجَع كما هو حال باقي الأشياء: ﴿إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾، إذن فما من شيء يكون مُرجِعاً لشيء؛ بمعنى، أنّ كافّة الأشخاص والأشياء ستَرجع إليه جلّ شأنه بالإرجاع الإلهيّ.

بالطبع إنّ رجوع الراجعين الذي يتمّ بالإرجاع الإلهيّ يكون تارةً من دون واسطة، وتارةً اُخرى بالواسطة. من هنا، فإذا تمّ قبض أرواح البعض بواسطة مَلَك الموت، فلأنّ مَلَك قبض الأرواح هو منفّذ لأمر الله تعالى، وهو يعمل بإذنه وإرادته، فإنّ إرجاعه يكون تحت تدبير الله عزّ وجلّ وإرجاعه.

تنويه: على الرغم من أنّ عنوان «الإعادة» قد اُسند إلى الله بصراحة، وأنّه من المحتمل أن يكون شاملاً للإرجاع أيضاً، إلاّ أنّ عنوانَي «الإعادة» و«الرجوع» يأتيان ـ أحيانا ًـ معاً جنباً إلى جنب، الأمر الذي يوحي بالتعدّد؛ كما في: ﴿اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[1].

[4] المراد من الرجوع إلى الله

إنّ الذي يخال الموجودات منحصرة في المادّة والماديّ، أو الذي إذا أقرّ بوجود موجود مجرّد في عالم الوجود فإنّه لا يقول بأدنى سهم من


[1]. سورة الروم، الآية 11.

تسنيم، جلد 2

718

التجرّد للإنسان، ويرى أنّ جميع شؤون الإنسان الوجوديّة ماديّة، فإنّه يستنتج من عنوان رجوع الإنسان إلى الله كون الله (معاذ الله) جسماً؛ وذلك لأنّ رجوع الموجود الماديّ إلى شيء سوف لن يكون إلاّ رجوعاً مكانيّاً. عندما يرجع الشيء في مكان معيّن فإنّ مَرجعه سوف يكون موجوداً مكانيّاً أيضاً. إذن فمرجع الإنسان هو الله المتمكّن؛ أي الذي له جسم. وقد ضعّف الفخر الرازيّ هذا الاستدلال الباطل بالكيفيّة التالية:

والمراد أنّهم إلى حُكمه يرجعون؛ لأنّه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر، وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى، وإنّما وُصف بذلك لأنّه رجوع إلى حيث لا يتولّى الحكم غيره[1].

لابدّ من التنبّه هنا إلى أنّه وإن لم يكن الحاكم والأمير يوم القيامة سوى الله، إلاّ أنّ رجوع الإنسان إلى الله ليس رجوعاً لبدنه وحسب، بل إنّ روحه المجرّدة راجعة هي أيضاً، وإنّ رجوع الروح هو رجوع أمر مجرّد، ورجوع الموجود المجرّد سوف يكون على نحو التجرّد، وليس بصورة التجسّم، وقد اُشير إلى أصل هذا المبحث في التوضيح الإجماليّ للآية الأخيرة من سورة الفجر الذي تمّت الإشارة إليه آنفاً.

بالطبع إنّ التجرّد المحض، حتّى من الحدّ والعدّ، مختصّ بالله عزّ وجلّ، وإلاّ فإنّ التجرّد من المادّة مُحرَز بواسطة العقل والنقل. هذا وإنْ كان البعض يفسّق القائلين بتجرّد النفس[2]. إنّ منشأ مثل هذه النسبة الباطلة هو إمّا قصور في تصوّر مبادئ تجرّد الروح، وإمّا ذهول عن


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص166.

[2]. نقلاً عن بيان السعادة في مقامات العبادة، ج1، ص70.

تسنيم، جلد 2

719

لوازم الآيات والروايات المعتبرة التي تستلزم ـ تماماً ـ تجرّد الروح عن المادّة والطبيعة.

البحث الروائيّ

[1] مصاديق الحياة في القرآن

ـ في تفسير عليّ بن ابراهيم: والحياة في كتاب الله على وجوه كثيرة؛ فمن الحياة ابتداء خلق الإنسان في قوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾[1] فهي الروح المخلوق، خلقه الله وأجرى في الإنسان... . والوجه الثاني من الحياة يعني به إنبات الأرض وهو قوله: ﴿يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[2] والأرض الميتة التي لا نبات لها فإحياؤها بنباتها. ووجه آخر من الحياة وهو دخول الجنّة وهو قوله: ﴿اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[3] يعني الخلود في الجنّة والدليل على ذلك قوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ﴾[4]»[5].

إشارة: الحياة هي كمال وجوديّ يكون منشأ للعلم والفعل حيث يكون العلم ذا أثر في هداية الفعل، وحيث يصدر الفعل من العلم، ولمّا كان للعلم درجات، وللأفعال مراتب، فإنّه لكلّ مرتبة من العلم والفعل ـ التي تكون مسبوقة بالعدم ثمّ تظهر ـ تبزغ حياة جديدة. من


[1]. سورة الحجر، الآية 29.

[2]. سورة الروم، الآية 19.

[3]. سورة الأنفال، الآية 24.

[4]. سورة العنكبوت، الآية 64.

[5]. تفسير القميّ، ج1، ص 48 ـ 49.

تسنيم، جلد 2

720

هنا فقد ذكر بعض المنسوبين إلى «علم الحقائق» وجوهاً لتطبيق الآية، لا لتفسيرها المفهوميّ؛ من قبيل الوجوه الآتية: أ: كنتم أمواتاً بالشرك فأحياكم الله تعالى بهدايتكم إلى التوحيد. ب: كنتم أمواتاً بالجهل فأحياكم بالعلم. ج: كنتم أمواتاً بالاختلاف فأحياكم بدعوتكم إلى الائتلاف والاتّحاد. د: كنتم أحياء بحياة نفوسكم فأماتكم وأحياكم بقلوبكم. ﻫ : كنتم أمواتاً عنه (عن الله) فأحياكم به (بالله). و: كنتم أمواتاً بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر. ز: كنتم أمواتاً بشهود أنفسكم فأحياكم بشهود الحقّ، ...[1] .

[2] حياة الإنسان الدنيويّة والبرزخيّة وفي القيامة

ـ عن العسكريّ(ص) في قوله عزّ وجلّ: «﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ... وَكُنْتُمْ أَمْواتاً﴾ في أصلاب آبائكم وأرحام اُمّهاتكم. ﴿فَأَحْياكُمْ﴾ أخرجكم أحياءً ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في هذه الدنيا ويقبركم. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في القبور،... ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد، ثمّ تحيوا للبعث يوم القيامة، ترجعون إلى ما وعدكم‏ ...»[2].

ـ عن النبيّ(ص) مخاطباً كفّار قريش واليهود: «﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ الذي دلّكم على طرق الهدى، وجنّبكم، إن أطعتموه، سُبل الردى. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْواتاً﴾ في أصلاب آبائكم وأرحام أمّهاتكم. ﴿فَأَحْياكُمْ﴾ أخرجكم أحياء ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في هذه الدنيا ويقبركم. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في القبور، وينعّم


[1]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص276 ـ 277.

[2]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص171 ـ 172؛ وبحار الأنوار، ج6، ص236.

تسنيم، جلد 2

721

فيها المؤمنين بنبوّة محمّد(ص) وولاية عليّ(ص)، ويعذّب فيها الكافرين بهما. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد، ثمّ تحيوا للبعث يوم القيامة، ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم فاعليها، ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها ...»[1].

إشارة: ما ذُكر في هذا الحديث من أحداث البرزخ، بعد الإماتة من الدنيا وقبل الرجوع إلى الله في القيامة، تنسجم مع بعض ما سبق من توجيهات، وليس معهات جميعاً، أمّا إضافة الإقبار (الإدخال إلى القبر)، حيث إنّ القبر هو البرزخ ذاته، فمن الممكن أن يكون منسجماً مع الآية: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾[2]؛ وذلك لأنّ الموت هو تلك الهجرة وذاك الرحيل من حيّز خاصّ من الوجود إلى حيّز آخر أسمى وأفضل. من هذا المنطلق فقد اُطلق على الانتقال من البرزخ (الذي هو حيّز متوسّط) إلى القيامة (التي هي حيّز أوسع) أنّه موتٌ وأنّ سبب الانتقال المذكور هو الإماتة.

[3] آيات الله في الأنفس والآفاق

ـ عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا ‘ أنّه دخل عليه رجل فقال له: يا ابن رسول الله! ما الدليل على حدث العالم؟ قال: «أنت لم تكن ثمّ كنت، وقد علمتَ أنّك لم تكوِّن نفسك، ولا كوّنك مَن هو مثلك‏»[3].


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص171 ـ 172؛ وبحار الأنوار، ج6، ص236.

[2]. سورة عبس، الآيتان 21 و22.

[3]. التوحيد، للصدوق، ص293.

تسنيم، جلد 2

722

إشارة: يقول الإمام الرضا(ص) هنا في جوابه على: ما الدليل على حدوث العالم؟: أنت لم تكن ثمّ كنتَ وحدثتَ وأنت تعلم أنّك لم تخلق نفسك، كما أنّه لم يخلقك من هم من أمثالك. إذن فخالقك هو الله. هذا البرهان جارٍ في جميع أجزاء العالم وقد جاء ذكر الإنسان من باب التمثيل، لا من باب التعيين والتحديد. لذا فإنّ ما يصدق في آيات الأنفس يصدق أيضاً في آيات الآفاق.

لقد رُوي نفس هذا البيان بتعابير اُخرى عن الإمام الرضا(ص)؛ فعندما سُئل(ص): ما الدليل عليه؟ قال: «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي فلم يُمَكِّنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض، والطول، ودفع المكاره عنه، وجرّ المنفعة إليه، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به‏».

[عندها] قال الرجل: [إذا كان الله موجوداً وأنّ وجوده قطعيّ، كما قد أقمت البرهان عليه] فلِم احتجب [فلا نراه]؟ فقال أبو الحسن(ص): [ليس الله بمخفيّ أو محجوب بل] «إنّ الاحتجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم، فأمّا هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار». قال: فلِمَ لا تدركه حاسّة البصر [الظاهريّة]؟ قال: «للفرق بينه و بين خلقه»[1]‏؛ فما كان مشهوداً للبصر الماديّ فهو ماديّ أيضاً، لكنّ الله سبحانه وتعالى ليس بمادّة ولا ماديّ. إذن فهو لا يُرى إلاّ بباصرة الروح.

فالله الذي هو نور السماوات والأرض: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[2] لا يمكن أن يكون مخفيّاً، أو مستوراً، أو محجوباً. فهو


[1]. التوحيد، للصدوق، ص251 ـ 252.

[2]. سورة النور، الآية 35.

تسنيم، جلد 2

723

عزّ وجلّ يسطع نوره في ظلمات الليل الداجي كما يشرق في ضوء النهار الوهّاج، بل إنّ ذات النهار والليل هما ـ أساساً ـ من آيات الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾[1].


[1]. سورة الإسراء، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

724

تسنيم، جلد 2

725

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (29)

خلاصة التفسير

إنّ آلاء الله هي الآيات التوحيديّة للحقّ وقد خُلقت لينتفع الناس منها ماديّاً، وليرتقوا بها معنويّاً، وإنّ الغاية من تبيينها في القرآن هي الدعوة إلى التوحيد والتهذيب؛ فالسماوات والأرض قد خُلقت من أجل الإنسان، لكنّ الإنسان لم يُخلق لها. إذن فمن الخسارة للإنسان أن يكون سعيه من أجل الوصول إلى نعم الأرض والسماء.

يتحدّث القرآن الكريم في بعض آياته عن تسخير الأرض والسماوات السبع للإنسان (التسخير العامّ) كما ويُخبر في آيات اُخرى عن تسخير أولياء الله للأرض والسماوات وتصرّفهم

تسنيم، جلد 2

726

المعجِز فيها (التسخير الخاصّ) وليس هذا التسخير بمعنى التفويض المستحيل إطلاقاً.

إنّ عدد السماوات سبع؛ أوّلها هي التي تحتوي على النجوم والكواكب الثابتة والسيّارة، أمّا سائر السماوات فالظاهر أنّها لم تبيَّن في القرآن. ويُستفاد من طائفة من آيات القرآن أنّ الأرضين سبع أيضاً، وقد أتى الإخبار عن خلق الأرض وما فيها قبل الإخبار عن تسوية السماوات السبع. إنّ الله بكلّ شيء عليم.

التفسير

«ثمّ»: الظاهر في العطف ﺑ «ثمّ» هو تأخّر خلق السماوات عن خلق الأرض، لكن في هذه الآية الكريمة جاءت «ثمّ» لتفيد التفاوت في درجة الوجود وكذلك التراخي بحسب مقام البيان والإخبار، لا بحسب الوجود والتحقّق الخارجيّ؛ وبعبارة أخرى، إنّ «ثمّ» هنا تفيد «الترتيب الذكريّ» وليس «الترتيب الواقعيّ»، ويؤيّد ذلك ما جاء في آيات سورة النازعات المباركة من أنّ خلق الأرض متأخّر عن خلق السماوات: ﴿ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا﴾[1].

«استوى»: أصل استوى هو من الجذر «سَوَى» ومعناه المحوريّ هو التوسّط المصحوب بالاعتدال. بناءً على ذلك، فإنّ مفهومَي «التوسّط»


[1]. سورة النازعات، الآيات 27 ـ 30؛ راجع الميزان، ج17، ص365.

تسنيم، جلد 2

727

و«الاعتدال» مأخوذان معاً في معنى المادّة «سوَى»؛ والتوسّط هو الحلول في وسط وصلب شيء أو أمر. إذن فالذي يحلّ في الحاشية فلا توسّط له. واعتدال الشيء هو وقوعه في محلّه ممّا يستلزم زوال أيّ اضطراب وتزلزل والوصول إلى السكينة الكاملة. إذن فالمتمكّن من أمر من دون أن يكون له فيه سكينة أو طمأنينة فهو لا يتمتّع بالاعتدال على الرغم من كونه في صلب ذلك الأمر.

«استوى»، التي هي من باب الافتعال الذي يفيد المطاوعة، هي بمعنى اختيار التوسّط والاعتدال والإفادة من الاستقرار التامّ المطمئنّ في الأمر[1].

استُخدمت كلمة «الاستواء» في موارد شتّى من القرآن الكريم؛ كما في قوله عزّ وجلّ بخصوص رُسوّ سفينة نوح واستقرارها على جبل الجوديّ: ﴿وَٱسْتَوَتْ عَلَىٰ الْجُودِيِّ﴾[2]، أو قوله في ركوب المركب والاستقرار على ظهره: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾[3] الذي هو بمعنى الاستقرار التامّ والكامل مع الطمأنينة والسكينة ومن دون أيّ ضعف، أو تزلزل، أو اضطراب، أو انكسار. كما أنّ تعبير ﴿ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ‏ عَلَىٰ الْعَرْشِ﴾[4]، أو ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَىٰ الْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ﴾[5] هو كناية عن استيلاء الله سبحانه وتعالى على الملك والحكم.


[1]. راجع التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج5، ص339 ـ 341.

[2]. سورة هود، الآية 44.

[3]. سورة الزخرف، الآيتان 12 و13.

[4]. سورة الأعراف، الآية 54.

[5]. سورة طٰه، الآية 5.

تسنيم، جلد 2

728

«إلى»: وفقاً لقول الراغب [الأصفهانيّ]، فكلّما تعدّى «الاستواء» ﺑ «على» كان بمعنى التسلّط والاستيلاء؛ كما قد بُيّن في استواء الله عزّ وجلّ على العرش، وكلّما تعدّى ﺑ «إلى» كان بمعنى بلوغ الشيء والانتهاء إليه أو التوجّه إليه وقصده[1]. إذن فتعبير ﴿ٱستَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ يفيد أنّ الله سبحانه وتعالى عمد إلى خلق السماء وقصد فعل ذلك، وليس المراد من ذلك «القصد المكانيّ» الذي لا يتحقّق إلاّ بانتقال القاصد من مكان إلى آخر أو من جهة إلى أخرى؛ لأنّ الله منزّه عن ذلك كلّه.

تنويه: ذُكرت للاستواء معان متعدّدة يُستعمل بعضها مع حرف الجرّ؛ مثل «استوى على الشيء» و«استوى إلى الشيء». يبيّن أبو حيان سبعة معان للاستواء وهو أساس الأقوال السبعة[2]. واعتبر الطبريّ أنّه يُراد منه العلوّ والارتفاع[3] وعَدّه الفرّاء والزمخشريّ بمعنى الإقبال والقصد[4].

يقول الطبريّ:

والعَجَب ممّن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: ﴿ثُمَّ ٱسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ﴾ الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه ـ بزعمه ـ إذا تأوّله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنّما علا وارتفع بعد أن كان تحتها.

ثمّ يُتابع في نقده لهذا التصوّر قائلاً:

فيُقال له: زعمت أنّ تأويل قوله: ﴿اسْتَوى‏﴾ أقبلَ، أفكان مُدبراً


[1]. راجع المفردات في غريب القرآن، ص439.

[2] . تفسير البحر المحيط، ج1، ص280 ـ 281.

[3]. جامع البيان، ج1، ص252.

[4]. الكشّاف، ج1، ص123.

تسنيم، جلد 2

729

عن السماء فأقبل إليها؟! فإنْ زَعَم أنّ ذلك ليس بإقبال فِعل ولكنّه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ مُلك وسلطان، لا علوّ انتقال وزوال[1].‏

«فسوّاهُنّ»: أصل سوّاهنّ، كما في «استوى»، من الجذر «سَوَى»، وبما أنّ هناك مفهومين مأخوذين في المعنى المحوريّ للمادّة سَوَى وهما التوسّط والاعتدال، فإنّ المراد من التسوية هو إيجاد التوسّط والاعتدال في شيء؛ فمثلاً، تسوية الإنسان هي بمعنى خلقه بوضع كلّ عضو من أعضائه في محلّه الخاصّ به بحيث يليق بتركيبه الداخليّ وهدفه الخارجيّ، وتسوية السماوات هي بمعنى خلق أجزائها المختلفة خلقاً لائقاً ودقيقاً[2].

في غضون الاحتجاج على التوحيد والتذكير بالنعم الإلهيّة في مطلع الآية السابقة أشار القرآن الكريم إلى أفضل تلك النعم، ألا وهي الحياة، ثمّ يأتي ليُذكّر في الآية الحاليّة بالآلاء التي خُلقت في نظام الوجود من أجل الناس كي يدعوا الإنسان إلى التوحيد ويهذّبه في آنٍ واحد.

فالدعوة إلى التوحيد هي من جهة أنّ جميع تلك الأمور هي آيات إلهيّة وما من أحد غير الله هو الخالق والمدبّر لها، وأمّا التهذيب فهو من جهة أنّ نعم الأرض والسماء كافّة لم تُخلق إلاّ للإنسان، في حين لم يُخلق الإنسان لأيّ منها، بل خُلق لعبادة الله ليس غير؛ فمَن تمتّع بمثل هذه الرؤية كانت تجارته رابحة، أمّا إذا انصبّ سعيه على نيل النعم الإلهيّة وحسب، فقد أهدر نفسه، وخسر رأسماله.


[1]. جامع البيان، ج1، ص252.

[2]. الميزان، 12، ص154؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج5، ص341.

تسنيم، جلد 2

730

إنّ الأرض وما عليها وما في باطنها هي آيات للحقّ ويستطيع الناس الانتفاع منها؛ فكما أنّ بمقدورهم جني الربح الماديّ من خلال توفير أسباب الراحة والرفاهية، فإنّ بإمكانهم ـ عبر مشاهدة الآيات الإلهيّة والتمعّن فيها ـ التعرّف على خالقها، أي الله سبحانه وتعالى. إذن فالجملة لا تنظر إلى المنافع الماديّة فحسب، بل إذا تمكّن الإنسان من أن يجني ثماراً توحيديّة من كلّ ما يوجد على سطح الأرض فقد وصل إلى الغاية التي خُلق من أجلها؛ وذلك لأنّ الإنسان والكون ليسا منفصلين عن بعضهما، بل إنّ كليهما يشكّلان مجموعة قد خُلق كلّ جزء منها لغرض وهدف معيّن.

إنّ كمال الأرض والسماء هو في كونهما مجعولين لخدمة الإنسان، وكمال الإنسان هو في عبادة الله عزّ وجلّ، هذا وإنْ كان الله سبحانه وتعالى هو الغنيّ المحض عن كلّ شيء بما في ذلك عبادة البشر له. إذن فالسماوات والأرض هي من أجل الإنسان، والإنسان هو من أجل العبادة، وإنّ العالم بأسره هو ـ قهراً ـ من أجل عبادة الله؛ فلا حاكم في الكون غير الله، وليس فيه من عبادة سوى عبادة الحقّ. من هذا المنطلق ففي ذات الوقت الذي يطرح فيه الله جلّ وعلا خلق السماوات والأرض على أنّه لمنفعة الإنسان، فهو يصرّح بالهدف من وراء ذلك، ألا وهو التوحيد وتهذيب النفس الإنسانيّة: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ‏ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾[1]؛ أي إنّ نظام الإمكان إنّما خُلق لكي تتعرّفوا على الله العليم القدير، وتتوصّلوا إلى الرؤية التوحيديّة؛ كما يقول


[1]. سورة الطلاق، الآية 12.

تسنيم، جلد 2

731

في موضع آخر: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَىٰ‏ رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾[1]، أو يقول: ﴿كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَىٰ‏ مَا هَدَاكُمْ﴾[2].

إذن فالهدف من خلق النظام الكونيّ وتسخيره للإنسان هو التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، وهو الأمر الذي من شأنه أن يهذّب الإنسان. إنّ ذكر خلق الأزواج وإيجاد الفُلك وغيره من المراكب في هذه الآية هو من باب التمثيل، لا التعيين. إذن فكلّ نعمة أنعمها الله على المرء فهي لغرض تساميه معنويّاً، وزرْع عقيدة التوحيد فيه، وتهذيبه، وإنّه يتعيّن على الإنسان أن يجعل من ذلك مقدّمة لذكر الله والقيامة، وعلى الرغم من عدم ورود الحُكم الفقهيّ التعبّديّ في هذا المجال، إلاّ أنّ المناط فيه موجود؛ أي أنّ كون الإنسان في ذكر نعم الحقّ والقيامة هو عامل يساعد على تهذيب النفس.

محصّلة ذلك، إذا قضّى الإنسان عمره في توفير وتهيئة هذه النعم وحسب، فقد خسر؛ فما بالك إذا باع نفسه بأوهام تافهة وجزئيّة، وإنّ السرّ في قول رسول الله(ص): «يا عمّ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتّى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته»[3]، هو أنّه لو اُعطي المرء جميع المجرّات في مقابل ترك عقيدة الحقّ فهو


[1]. سورة الزخرف، الآيات 12 ـ 14.

[2]. سورة الحجّ، الآية 37.

[3]. السيرة النبويّة، لابن هشام، ج1، ص266.

تسنيم، جلد 2

732

خاسر أيضاً؛ لأنّ الإنسان هو موجود أبديّ ولا ينبغي له أن يبيع نفسه بشمس سوف تؤول إلى التكوير والانخماد في المستقبل القريب أو البعيد.

الإنسان وتسخير المخلوقات

تشبه الآية محطّ البحث الكثير من الآيات التي تتعلّق بتسخير المخلوقات للإنسان. الرسالة التي توجّهها هذه الآية والآيتان 21 و22 من السورة نفسها هي أنّ الإنسان أفضل من جميع المخلوقات في النظام الكونيّ؛ وذلك لأنّ جميع المخلوقات قد خُلقت من أجل انتفاع الإنسان مادّياً ومعنويّاً. وهناك طائفتان من آيات التسخير: تدلّ الأولى ـ التي من جملتها الآية مدار البحث ـ على التسخير العامّ، وتشير الثانية إلى التسخير الخاصّ.

يقول القرآن الكريم بخصوص التسخير العامّ: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهََا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾[1]؛ وقد قصد بالرواسي الجبال التي جعلها كالأوتاد للمحافظة على الأرض وأودع في باطنها أقوات العباد منظّماً إيّاها في أربعة فصول. كما ويقول في آية اُخرى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾[2]. هذا في حين أنّ زمام


[1]. سورة فصّلت، الآيتان 9 و10.

[2]. سورة إبراهيم، الآيتان 32 و33.

تسنيم، جلد 2

733

جميع الأمور هو بيد الله؛ كما في قوله جلّ وعلا: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[1].

تنويه: على الرغم من أنّ رسالة الآيات الدالّة على أنّ نظام الكون قد خُلق من أجل الإنسان تختلف عن تلك التي للآيات الدالّة على أنّ نظام العالم مُسخّر لكم، إلاّ أنّ الطائفة الاُولى من الآيات ـ وبعد الالتفات إلى بعض المبادئ المطويّة والمخفيّة ـ تدلّ على التسخير أيضاً؛ وذلك لأنّ معنى خلق تلك الأشياء من أجل الإنسان لا يخرج عن كونها مخلوقة بُغية أن ينتفع الإنسان منها، ولا يتيسّر الانتفاع من النظام الكونيّ ما لم يكن مُسخّراً للبشر. بالطبع إنّ المسخِّر، كما قد مرّ، هو الله عزّ وجلّ، وليس غيره. بعض المفسّرين الكبار، من أمثال أبي جعفر الطبريّ، قد أشربوا التسخير في تفسير الآية قائلين: «فخلق لكم ما في الأرض جميعاً وسخّره لكم‏»[2].

كما ويبيّن القرآن الكريم أحياناً بعض المنافع الجزئيّة لهذه المسخَّرات؛ مثل: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[3]. على أساس هذه الآيات التي تدلّ على التسخير العامّ فإنّ بمقدور الإنسان الإمساك بزمام أمور العالم.


[1]. سورة فصّلت، الآية 11.

[2]. جامع البيان، ج1، ص256.

[3]. سورة النحل، الآيات 5 ـ 7.

تسنيم، جلد 2

734

أمّا التسخير الخاصّ (المعجزة) فإنّ القرآن الكريم يعدّه من مختصّات الأنبياء والأولياء؛ كما هو الحال في قصّة موسى الكليم(ص) وقارون عندما ابتلعت الأرضُ المُسخَّرة قارونَ وداره: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ﴾[1]، وهذا ـ في الحقيقة ـ يشير إلى «شقّ الأرض»، وفي قصّة النبيّ صالح(ص) كذلك فقد أضحى الجبل محطّ تسخير خاصّ، فانشقّ وأخرج صالح(ص) منه ـ بإذن الله ـ الناقة المعروفة، حيث يُعدّ هذا ـ في الحقيقة ـ من قبيل «شقّ الجبل»، وعلى غرار ذلك انفلاق البحر في قصّة موسى(ص) مع فرعون: ﴿أَنِ ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾[2] الذي هو «شقّ البحر»، ويشابهه انفلاق الحجر من أجل حصول الأسباط على الماء، وهو «شقّ الحجر»: ﴿فَقُلْنَا ٱضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾[3]، وانشقاق القمر للنبيّ الأكرم(ص): ﴿وَٱنْشَقَّ الْقَمَرُ﴾[4] وهذا هو «شقّ القمر»، ويماثله تسخير الجبال والطيور للتسبيح مع داود(ص): ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾[5]، وتسخير الريح لسليمان(ص)؛ ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾[6].

كلّ هذه الأمثلة تُظهر موارد التسخير التكوينيّ الخاصّ وهي جزء من نظام خلقة العالم. فمثلما أنّ أصل النبوّة والرسالة جزء من نظام الخلقة وأنّ


[1]. سورة القصص، الآية 81 .

[2]. سورة الشعراء، الآية 63.

[3]. سورة البقرة، الآية 60.

[4]. سورة القمر، الآية 1.

[5]. سورة الأنبياء، الآية 79.

[6]. سورة ص، الآية 36.

تسنيم، جلد 2

735

البشر ليسوا من غير دليل ومرشد، فإنّ الإعجاز، الذي هو من لوازم الوحي والنبوّة، هو أيضاً جزء لا يتجزّأ من نظام الخليقة، وإنّ معنى الإعجاز هو خرق عادة هذا النظام، وليس خرقاً للأمر العقليّ، كقانون العليّة والمعلوليّة.

إنّ تسخير عالم الخليقة للإنسان، سواء بالتسخير المباشر من قِبل الله أو بإعطاء أزمّته بيد الإنسان، يختلف عن التفويض والقسر والقهر. فليس المراد من التسخير أنّ باستطاعة الإنسان التسلّط على نظام الخلقة قهراً وتغيير الأصول المسيطرة عليه، بل المراد منه أنّ بمقدور الإنسان أن يجعل من السماوات والأرض ـ ضمن نطاق النظام الموجود ـ وسيلة للوصول إلى هدفه الصحيح وأن يسخّرها لخدمته. فالنظام الذي يكون الله ناظمه ليس للفوضى سبيل إليه، وقد وُضع هذا النظام، مع المحافظة على هذه الشروط، تحت تصرّف الإنسان في طول الإرادة الإلهيّة، لا في عرض صلاحيّات الله عزّ وجلّ.

التفويض ـ الذي يعني تسليم الله سبحانه وتعالى لمقاليد النظام إلى الإنسان ـ مستحيل من جهتين: من جهة الإنسان كمبدأ قابليّ، ومن جهة الله سبحانه كمبدأ فاعليّ؛ أمّا من جهة المبدأ الفاعليّ فإنّ استحالته هي من باب أنّ ربوبيّة الله جلّت آلاؤه مطلقة، ولا يمكن تحديد ما هو غير محدود. وأمّا من جهة المبدأ القابليّ فمن باب أنّ الإنسان هو فقير ذاتاً، وأنّ ما كان فقيراً بالذات لا يمكن جعله غنيّاً وتسليمه زمام نفسه.

يقول القرآن الكريم في باب نفي التفويض: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾[1]، حيث إنّ «الباء» في قوله: ﴿بأمره﴾ إمّا أن


[1]. سورة إبراهيم، الآية 32.

تسنيم، جلد 2

736

تكون للمصاحبة؛ أي إنّ السفينة تجري في البحر مصحوبة بأمر الله، وإمّا للملابسة؛ أي إنّ جريان السفينة هو في ظلّ أمر الله، لا أنّ أمركم هو الحاكم على أساس التفويض. كما ويقول في موطن آخر: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[1]. إذن فقد تمّ قياس وتقدير نظام الكون بيد الله عزّ وجلّ ولا يمكن للفوضى والخلل أن يقعا في العالم على يد أيٍّ كان: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[2]. والغرض من هذا البيان، هو أنّه لابدّ لعنصرين محوريّين من أن يُحفظا في جميع الأمور: أوّلهما استقرار النظم العِلِّيّ والمعلوليّ، والآخر هو حصر الناظم في الإرادة الإلهيّة.

السماوات السبع والأرضين السبع

لقد خلق الله السماوات السبع مستوية الخلقة من أجل منفعة الإنسان كذلك، وقد بسط هذا النظام بقدرته، وعلمه، وحكمته.

السماوات السبع المذكورة في القرآن هي غير السماوات السبع التي جاءت في علم الهيئة عند القدماء؛ وذلك لأنّ هؤلاء ـ أوّلاً ـ كانوا يقولون بتسعة أفلاك، وثانياً كانوا يعتبرون أنّ الأفلاك السبعة الأولى هي مركز النجوم والكواكب السيّارة؛ كالشمس، والقمر، والزهرة، وعطارد، وأمّا الفَلَك الثامن فهو مركز النجوم الثابتة، والفَلَك التاسع، أي أطلس، هو خُلو من النجوم وهو آخر الأفلاك، وكانوا يطلقون عليه


[1]. سورة يٰس، الآية 38.

[2]. سورة يٰس، الآية 40.

تسنيم، جلد 2

737

اسم «فَلك الأفلاك»، و«معدّل النهار». أمّا ظاهر القرآن فيوحي أنّ جميع النجوم هي في السماء الأولى؛ كما في قوله: إنّا قد جعلنا هذه النجوم والكواكب زينة لأقرب السماوات إليكم: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾[1]. إذن فمن بين السماوات السبع هناك سماء هي الأدنى إلينا من السماوات الأخرى وهي مزيّنة بالكواكب الثابتة والسيّارة. إلاّ أنّ مواقع السماوات الستّ الأخرى وكيفيّتها فلم تبيّن بشكل صريح في القرآن الكريم.

وعلى الرغم من أن القرآن الكريم في الآية موضع البحث عبّر عن السماوات ﺑ «السماوات السبع» وليس له ما يشبه هذا التعبير فيما يتعلّق بالأرض، بيد أنّه يقول في محلّ آخر: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾[2] ولعلّ من الممكن أن يُستنتج من ذلك وجود «أرضين سبع» أيضاً في مقابل «السماوات السبع»، وليس المراد من الأرضين السبع هنا الأقاليم السبعة أو الطبقات السبع للأرض الواحدة، بل جاء في الخبر أنّ الإمام الرضا(ص) قد سُئل عن معنى ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾[3]: «... قلتُ: كيف ذلك جعلني الله فداك؟ فبسط كفّه اليسرى ثمّ‏ وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا والسماء الدنيا عليها فوقها قبّة، [ثمّ وضع يده اليسرى على اليمنى ثانية قائلاً:] والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية


[1]. سورة الصافّات، الآية 6.

[2]. سورة الطلاق، الآية 12.

[3]. سورة الذاريات، الآية 7.

تسنيم، جلد 2

738

فوقها قبّة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبّة ...»[1] واستمرّ على هذا النحو حتّى سبع أرضين وسبع سماوات.

العلم المطلق لله

مع أنّه قد طُرحت القدرة المطلقة لله في الآية العشرين من سورة البقرة، لكنّه لم يتمّ الحديث في هذه السورة إلى الآن عن علم الله المطلق. يعرّف القرآن الكريم الله بأسماء مثل «العالم»، و«العليم»، و«العلاّم». ومع أنّ الأسماء الحسنى الثلاثة المذكورة كلّها تدلّ على ثبوت وصف العلم لله عزّ وجلّ، لا حدوثه، إلاّ أنّ كلمتَي «العليم» و«العلاّم» توحيانِ بخصوصيّة اُخرى تقصُر عنها مفردة «العالم»؛ وهي أنّ مفردة «العليم» وكذا «العلاّم» هما صيغتا مبالغة وتعنيان وفرة علم الله وإحاطته الشاملة والمطلقة بجميع الأشياء والأشخاص والشؤون؛ أي إنّ الباري عزّ وجلّ قد خلق نظام الكون في غاية الإتقان والإحكام بما يتمتّع به من علم كامل، وإنّ له جلّ وعلا علماً كاملاً بجميع ضمائر الأشخاص، وأسرارهم، وسرائرهم، وخلواتهم، وجلواتهم. إنّه ليُستنبط من خلال الجمع بين الآية: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[2] والآية: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾[3] أنّ جميع الأشياء معلومة لله، سواء من دون واسطة أو بواسطة مبادئها الاختياريّة والغير الاختياريّة. وبالجمع بين الآية محطّ البحث والآية 20 من سورة البقرة يحصل العلم بصفتين ذاتيّتين لله تعالى؛ ألا وهما العليم والقدير.


[1]. تفسير القمّي، ج2، ص304؛ وتفسير نور الثقلين، ج5، ص366.

[2]. سورة الرعد، الآية 16.

[3]. سورة الملك، الآية 14.

تسنيم، جلد 2

739

لطائف وإشارات

[1] تناسب الآيات

إنّ ربوبيّة الله مسبوقة بخالقيّته، وأهمّ نعمة بعد خلق الإنسان هي تربيته. إنّ تربية الإنسان، وهي المرتبطة بنظام الكون، تتمّ من خلال تأمين الله لأرزاقه الماديّة والمعنويّة في الأرض والسماء كي تظهر ربوبيّة الله للإنسان. من هذا المنطلق فبعد ذكر الحياة، وهي التي ترتبط بخلق الإنسان (كان التامّة)، يأتي الحديث عن خلق السماء والأرض وهو الأمر المرتبط بتربية الإنسان (كان الناقصة).

تنويه: النضد المشار إليه مشهود بشكل كامل في الآيتين 21 و22 من هذه السورة؛ وذلك لأنّ الحديث في الآية 21 يدور حول خلق الإنسان، بينما يجري الكلام في الآية 22 عن تربية الإنسان من خلال خلق الأرض والسماء. وعلى الرغم من أنّ ظاهر الآية يوحي أنّ خلق ما في الأرض قد ذُكر لتأمين مصالح الإنسان الماديّة والمعنويّة، ولا يُشهد مثل هذا المعنى بالنسبة لخلق السماوات في الآية محلّ البحث، إلاّ أنّ الرسالة الأساسيّة للآية المُشار إليها هي أنّ الغرض من تسوية السماوات السبع كان أيضاً من أجل تأمين مصالح الإنسان؛ وذلك لأنّه يُستنتج من آيات تسخير العالم أنّ ما في السماء ـ كما هو الحال مع ما في الأرض ـ مسخَّر للإنسان، بعناية من الله. فما جاء في الآية مدار البحث هو بمثابة النصّ، أمّا ما جاء في آيات اُخرى نظير: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً﴾[1]، و﴿إِنَّ


[1]. سورة عبس، الآية 25.

تسنيم، جلد 2

740

اللهَ فَالِقُ الْحَبِِّ وَالنَّوَىٰ﴾[1]، و﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ‏ بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[2] فهو بمثابة الشرح لهذا النصّ.

[2] تقسيم أسماء الله

إنّ لبعض المنسوبين إلى علم الحقائق كلاماً فيما يتعلّق بالأسماء الإلهيّة، لاسيّما لفظ «هو»، وإنّ ضمان صدق كلامهم وكونه حقّاً في ذمّة قائله. لقد قال هؤلاء:

أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام: مُظهَرات، ومُضمَرات، ومُستَتِرات؛ فالمظهرات: أسماء ذات، و... وهي كثيرة... . وأمّا المضمرات فأربعة: «أنا»، في مثل: ﴿لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنَا﴾[3]، و«أنت»، في مثل: ﴿لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ﴾[4]، و«هو»، في مثل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾[5]، و«نحن»، في مثل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾[6]. قالوا: فإذا تقرّر هذا ﻓ «الله» أعظمُ‏ أسمائه المظهرات... ، و«هو» [من بين المظهرات والمضمرات] اسم [أعظم] من أسماء الله تعالى يُنبى‏ء


[1]. سورة الأنعام، الآية 95.

[2]. سورة الرعد، الآية 4.

[3]. سورة طٰه، الآية 14.

[4]. سورة الأنبياء، الآية 87 .

[5]. سورة البقرة، الآية 29.

[6]. سورة يوسف، الآية 3.

تسنيم، جلد 2

741

عن كنه حقيقته المخصوصة المبرّأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو. فلفظة «هو» توصلك إلى الحقّ وتقطعك عمّا سواه، فإنّك لابدّ أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدلّ عليه الاسم المشتقّ النظر في معرفة المعنى الذي يُشتقّ منه، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه، اختاره الجلّة من المقرّبين مداراً لذكرهم ومناراً لكلّ أمرهم فقالوا: «يا هو» [أي أنهم اعتبروا «هو» منادىً]، ... و«هو» اسم مركّب من حرفين وهما: «الهاء» و«الواو»، و«الهاء» أصل و«الواو» زائدة بدليل سقوطها في التثنية، والجمع في «هما» و«هم»، والأصل [في «هو»] حرف واحد يدلّ على الواحد الفرد.

يقول أبو حيّان الأندلسيّ بعد نقل هذا المبحث:

... وهو كلام غريب جدّاً بعيد عمّا تكلّم عليها به أهل اللغة والعربيّة، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة، ولا ألممت فيه ـ إلى الآن ـ بغادية ولا طارقة[1].

تنويه: إذا كان الاختلاف ضمن نطاق الاصطلاح فهو قابل للحلّ، وإذا كان هناك مبحث مباين للعقل، فهو مردود، وإذا اختلف معه، ولم يخالفه أو يباينه، فإنّه ـ وإن احتاج القبول به إلى شهود ـ إلاّ أنّ العلم به موكول إلى أهله، وليس المبحث نفسه.

[3] الانتفاع من النعم هو هدف فعل الله

إنّ العلّة الغائيّة من وراء خلق الأرض والسماوات هي انتفاع الإنسان منها


[1]. تفسير البحر المحيط، ج1، ص279.

تسنيم، جلد 2

742

انتفاعاً علميّاً وعمليّاً وهذه العلّة الغائيّة هي هدف الفعل، وليست هدف الفاعل. فالله سبحانه وتعالى، من جهة كونه غنيّاً محضاً، لا يفعل شيئاً ليبلغ به هدفاً خاصّاً؛ لأنّ ذلك يستلزم النقص في ذاته؛ لكنّه من جهة كونه حكيماً فإنّ أفعاله تكون مقرونة بالمصلحة والمنفعة. بناءً على ذلك، فإنّ للفعل الإلهيّ هدفاً وإذا لم يُفد الإنسان من الأرض والسماوات بشكل صحيح، فلا يعني ذلك أنّ الله لم يصل إلى غايته، وإنّما الإنسان هو الذي لم يجنِ الفائدة الصحيحة.

[4] استنتاج حُكم فقهيّ من الآية

يشير الفخر الرازيّ إلى احتجاج الداعين إلى الإباحيّة من الملحدين واستدلال جماعة من فقهاء الإسلام بالآية موضع البحث كما يلي:

احتجّ أهل الإباحة بقوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأرضِ جَمِيعاً﴾ على أنّه تعالى خلق الكلّ للكلّ فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً... والفقهاء رحمهم الله استدلّوا به على أنّ الأصل في المنافع الإباحة[1] [إلاّ أن يُقام الدليل على منعه].

يروي القرطبيّ عن ابن العربيّ قوله:

وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظراً، ولا إباحةً، ولا وقفاً، وإنّما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليُستدلّ بها على وحدانيّته[2].‏


[1]. التفسير الكبير، مج1، ج2، ص154.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، ص240.

تسنيم، جلد 2

743

أي إنّها ناظرة إلى مسألة كلاميّة ولا تنظر ـ أساساً ـ إلى بحث فقهيّ أو إلى أصول الفقه. ولم يتعرّض مفسّروا الإماميّة الأقدمون من أمثال الشيخ الطوسيّ( في تفسيرهم للآية محلّ البحث إلى ما يرتبط بالمسائل الفقهيّة، لكنّ فقهيّتها طُرحت بعدهم بشكل كامل. من هنا فقد جعل الطبرسيّ( ـ من خلال إشارته إلى أصل المسألة ـ الآيةَ دليلاً على أصالة الإباحة[1]؛ كما أشار صدر المتألّهين إلى ذلك أيضاً[2].

ومع أنّ البحث التفصيليّ خارج عن إطار بحثنا الحاليّ، لكن لابدّ من الالتفات إلى ما يلي:

أ: من الصعب إحراز أنّ الآية مدار البحث هي في صدد بيان الحكم الفقهيّ والحقوقيّ (يجب ولا ينبغي)؛ لأنّ المحور الأساسيّ للآية يدور حول «الوجود والعدم» النظريّين والكلاميّين، وهما يرجعان إلى نظام التكوين الإلهيّ، وليس «يجب ولا ينبغي» ممّا يتعلّق بالتشريع. لذا، فعلى الرغم من أنّ الرأي الصحيح في مورد الإباحة، والحظر، والتوقّف هو أصالة الإباحة، لكنّ هناك دليلاً أصوليّاً وفقهيّاً خاصّاً على ذلك ممّا قد تمّ بيانه في موطنه الخاصّ وليس من السهل التمسّك بالآية مورد البحث لإثباته؛ وإن لم يكن مستبعداً أيضاً.

ب: كما قد مرّ، فإنّ الآية إمّا أن لا تكون ـ أساساً ـ في صدد بيان الحكم الفقهيّ والحقوقيّ (يجب ولا ينبغي)؛ ممّا لا يتيح أيّ مجال لتذرّع الإباحيّين وتشدّقهم، أو إنّها إذا دلّت على أنّ كلّ شيء مباح لكلّ أحد، فإنّ دلالتها هي


[1]. مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص141.

[2]. تفسير القرآن الكريم، لصدر المتألّهين، ج2، ص277.

تسنيم، جلد 2

744

في مدار إطلاقها. وهناك آيات قرآنيّة اُخرى كثيرة قد حدّدت الأحكام الفقهيّة والحقوقيّة للأشياء، والأموال، وحقوق الأشخاص، وقد وضعت الحدود ومنعت من التعرّض لها أو تهديدها، وقد جعلت العقوبات القضائيّة، ونار القيامة لمن يتجاوزها من المتعدّين؛ كما في آيات تحريم الربا، وتحريم السرقة، وتحريم التبديل والتغيير في الوصيّة، وتحريم التصرّف بأموال اليتامى، وما إلى ذلك. بناءً على ذلك، فليس كلّ شيء مباحاً لكلّ أحد، بل قد تمّ فصل الأشياء المباحة عن المحرّمة أوّلاً، وقد جُعلت ـ بُغية الحصول على الأشياء المباحة ـ شروط خاصّة لابدّ من توفّرها للحيازة، والتجارة، والرضى وما شابهها ثانياً. والغرض من ذلك، هو أنّه على فرض دلالة الآية على الحكم الفقهيّ، فإنّ مفادها هو إباحة «مجموع» الأشياء ﻟ «مجموع» الأشخاص، وليس إباحة «جميع» الأشياء ﻟ «جميع» الأشخاص.

[5] التسخير المتبادل للناس

تسخير سائر الموجودات بواسطة الإنسان يتمّ من جانب واحد، أمّا بالنسبة إلى الناس فهو تسخير متبادَل، بمعنى أنّ بعضهم يسخّر البعض الآخر؛ أي ليس من حقّ الإنسان أن يسخّر غيره من الناس من طرف واحد. يقول الباري عزّ وجلّ في التسخير المتبادل للإنسان: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[1]؛ أي إنّنا لم نخلق الناس سواسية


[1]. سورة الزخرف، الآية 32.

تسنيم، جلد 2

745

من حيث القابليّات والرغبات، وإلاّ لشُلّت شؤون الحياة ولم تتمتّع الحياة البشريّة بصفة النظام الأحسن. تأسيساً على ذلك، فنحن خلقنا أشخاصاً مختلفين وذوي قابليّات وإمكانات وميول متنوّعة، كي يتحقّق النظام الأمثل والأحسن من خلال تسخيرهم المتبادل لبعضهم البعض. إنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع هو جزء من كلّ ولا أفضليّة أو سموّ لأيّ إنسان على غيره إلاّ بالتقوى، والتقوى لا تجيز التسخير من جانب واحد، وهو «الاستعمار المذموم».

فالتسخير من جانب واحد هو محطّ ذمّ؛ كما يقول الرسول الأكرم(ص): ملعون من الله من يلقي بمشقّته على الآخرين ويكون عبئاً على المجتمع: «ملعون من ألقى كَلَّه على الناس‏»[1].

[6] مقارنة الإنسان بالسماء والأرض

يقول الله سبحانه وتعالى في تعامله مع الشخص الماديّ في التفكير: إنّ الجبال والأرض والسماء أعظم منك: ﴿ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾[2]، ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِْبَالَ طُولاً﴾[3]، لكنّه يقول لمن له بُعد إلهيّ في التفكير: إنّك أعظم من السماوات والأرض والجبال؛ وذلك لأنّك حملت ثقل الأمانة على كاهل المعرفة والمحبّة ممّا لم يستطع أيّ من هؤلاء أن يحملها: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَىٰ


[1]. تحف العقول، ص37؛ وبحار الأنوار، ج74، ص142.

[2]. سورة النازعات، الآية 27.

[3]. سورة الإسراء، الآية 37.

تسنيم، جلد 2

746

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[1].

البحث الروائيّ

[1] المراد من تقدّم خلق الأرض

ـ عن الباقر(ص): «إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشرّ، وخلق الأرض قبل السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة»[2].

إشارة: من الممكن أن يكون معنى تقدّم خلق معظم الأمور المذكورة في الحديث أعلاه هو من سنخ تقدّم الرحمة على الغضب التي هي بحدّ ذاتها من جملة الموارد المذكورة، لكنّ تقدّم خلق الأرض على السماء ليس هو من هذا القبيل، بل هو ناظر إلى التطوّر الماديّ لهذين الجزءين من أجزاء النظام الكونيّ حيث قد تمّ التطرُّق، في ثنايا البحث التفسيريّ، إلى كيفيّة تقدّم وتأخّر هذين الجزءين بالنسبة لبعضهما بلحاظ أصل خلق الأرض من ناحية، ودحوها وبسطها وتوسيعها من ناحية أخرى.


[1]. سورة الأحزاب، الآية 72. البحث المبسوط بخصوص معنى الأمانة، وكيفيّة العرض، والإباء الإشفاقيّ في مقابل الإباء الاستكباريّ للشيطان، والمراد من الظلوم الجهول، وتناسب ذلك مع حمل الأمانة والمعارف العميقة الاُخرى ممّا قد خُزِّن في الآية المذكورة فإنّه يُحال إلى موطنه الخاصّ.

[2]. الكافي، ج8 ، ص145؛ والبرهان، ج1، ص162.

تسنيم، جلد 2

747

[2] الهدف من التسخير

ـ عن أمير المؤمنين(ص) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾، «خلق لكم ما في الأرض جميعاً لتعتبروا به وتتوصّلوا به إلى رضوانه، وتتوقّوا به من عذاب نيرانه. ﴿ثُمَّ ٱسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ﴾ ... ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ﴾ ولعلمه بكلّ شي‏ء علم المصالح فخلق لكم كلّ ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم‏»[1].

ـ «واعملوا للجنّة عملها فإنّ الدنيا لم تُخلق لكم دارَ مُقام، بل خُلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار، فكونوا منها على أوفاز، وقرِّبوا الظهور للزيال [للزوال]»[2].

ـ «ألا وإنّ الأرض التي تقلّكم والسماء التي تظلّكم مطيعتان لربّكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجُّعاً لكم، ولا زُلفةً إليكم، ولا لخير ترجُوانه منكم، ولكن اُمِرَتا بمنافعكم فأطاعتا، واُقيمَتا على حدود مصالحكم فقامتا، إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و...»[3].

إشارة: يقتصر حظّ الإنسان من المواهب الطبيعيّة على الفائدة النباتيّة حيناً، وعلى الاستفادة الحيوانيّة حيناً آخر، أو يصل إلى ذروة الانتفاع الإنسانيّ حيناً ثالثاً، والقسم الأخير هو أهمّ مراحل الانتفاع من المواهب الإلهيّة. كما أنّ الانتفاع الإنسانيّ يكون تارة بلحاظ العلم، واُخرى بلحاظ العمل. وإنّ الانتفاع


[1]. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ، ص176؛ وبحار الأنوار، ج3، ص40.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 132.

[3]. نهج البلاغة، الخطبة 143.

تسنيم، جلد 2

748

العلميّ يكون أحياناً في سبيل الثمرات العمليّة والرفاهيّة، وأحياناً اُخرى من أجل معرفة الله وأسمائه الحسنى من خلال الشواهد التجريبيّة، والرياضيّة، والعقليّة، وأخيراً بفضل الشهود القلبيّ الذي يوصل إلى المعرفة الأسمى، وإنّ الإفادة العمليّة تتمثّل في التضحية، والإيثار، والقيام، والإقدام، والجهاد، والاجتهادات المناسبة في المراحل المختلفة على الصعيد الفرديّ والاجتماعيّ، ممّا يُعدّ من أبرز مصاديق الحسنات الدنيويّة.

تنويه: تقديم كلمة ﴿لكم﴾ على المفعول به ﴿الأرض﴾ أو ﴿ما في الأرض﴾ في الآية مورد البحث ـ كما في الآية 22 من السورة ذاتها ـ هو من أجل تبشير الناس من جهة، وإلفات الأنظار إلى خطورة مقام الإنسانيّة الرفيع من جهة اُخرى.

[3] ابتداء الخلقة والمادّة الأوليّة للأرض والسماء

ـ عن عليّ(ص) عندما سأله رجل من أهل الشام: «أخبرني عن أوّل ما خلق الله تعالى. فقال(ص): خلق النور. قال: فممّ خُلقت السماوات؟ قال(ص): من بخار الماء. قال: فممّ خُلقت الأرض؟ قال(ص): من زَبَد الماء ...»[1].

ـ عن أمير المؤمنين(ص): «... ثمّ أنشأ سبحانه ريحاً اعْتَقَمَ مَهَبّها، وأدام مُرَبَّها، وأعصَفَ مجراها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزَخّار، وإثارة موج البحار، فمَخَضَتْه مخْض‏ السِّقاء، وعصَفت به عصْفها بالفضاء، ترُدّ أوَّله إلى آخره، وساجِيَه [ساكنه] إلى مائِرِه، حتّى عبَّ عُبابُه، ورمى بالزبد رُكامُه، فرفعه في هواء مُنفَتِق، وجوّ منفَهِق، فسوّى منه سبع سماوات، جعل سُفلاهنّ


[1]. عيون أخبار الرضا، ج1، ص218؛ وتفسير نور الثقلين، ج1، ص47.

تسنيم، جلد 2

749

موجاً مكفوفاً، وعُلياهنّ سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً، بغير عَمَد يدعمها، ولا دِسار يَنظِمها، ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرَى فيها سراجاً مستطيراً، وقمراً منيراً، في فَلَك دائر، وسقف سائر، ورَقيم مائر»[1].

ـ «وكان من اقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحرِ [اليمّ] الزاخر المتراكم المتقاصف يَبَساً جامداً، ثمّ فَطَر منه أطباقاً ففتقها سبع سماواتٍ بعد ارْتِتاقها، فاستمسكتْ بأمره، وقامت على حَدّه، وأرسى أرضاً يحملها الأخضر المُثْعَنجِر، والقَمْقام المُسَخَّر [المسجّر]، قد ذلّ لأمره، وأذعن لهيبته‏»[2].

إشارة: 1. إنّ موارد استعمال «السماء» في القرآن والروايات متعدّدة؛ كما أنّ المقاطع والتطوّرات الوجوديّة لها متنوّعة أيضاً، ولابدّ من التطرّق إلى المصاديق المتعدّدة والمقاطع المتنوّعة لخلق السماء وتنشئتها ضمن ما يناسبها من البحوث التفسيريّة والروائيّة.

2. إنّ الدليل المنقول الغير القطعيّ يحمل أيّ رسالة سوى الاحتمال. من هنا لا يمكن تلقّيه على أنّه فتوى قطعيّة للدين.

3. إنّ الفرضيّات الغير اليقينيّة للعلم التجريبيّ هي الاُخرى لا تنطوي على رسالة سوى الاحتمال؛ أي لا يمكن ـ من ناحية ـ فرض مضمون الدليل المنقول الغير اليقينيّ على النتائج المسَلّمة للعلم التجريبيّ، ولا يمكن ـ من ناحية اُخرى ـ أن نأخذ فرضيّة العلم التجريبيّ الغير اليقينيّة ونفرضها على ظاهر القرآن والروايات.


[1]. نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 13.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 211.

تسنيم، جلد 2

750

4. ما يُستشَفّ من كلام أمير المؤمنين(ص) هو أنّ خلق السماوات كان بعد خلق الأرض. لكنّ صدر المتألّهين(ره) يعدّ ذلك مخالفاً للدليلين العقليّ والنقليّ اللذين يفيدان تقدّم خلقة السماوات على الأرض. ثمّ يعتبر تبريره سبيلاً لحلّ هذه المخالفة؛ وهو أنّ العلّة الغائيّة هي مقدَّمة من وجه، ومؤخَّرة من وجه آخر. والسماوات أيضاً هي مقدَّمة على الأرض من وجه، ومؤخَّرة عنها من وجه آخر، وقد حمَل الروايات والآيات المتضاربة على هاتين الجهتين[1].

لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّه لا سبيل للبرهان العقليّ فيما يتعلّق بتقدّم وتأخّر الأجرام الماديّة، وليس لغير الدليل النقليّ القطعيّ، والدليل التجريبيّ الطبيعيّ والرياضيّ القطعيّ أن يُصدر حكماً في هذه القضيّة؛ كما أنّ كبرى المبحث، وإن كانت تامّة، لأنّ العلّة الغائيّة هي مقدّمة من جهة، ومؤخّرة من جهة أخرى، لكنّ صغرى المبحث، أي أنّ السماوات هي العلل الغائيّة للأرض، هي بحاجة إلى دليل.

5. إنّ صعوبة البحث في خلق السماء، وخلق الأرض، وتأخّرها، وتقدّمها بالنسبة لبعضها كانت مثاراً للجدل منذ عهد الصحابة وهي لا تزال مستمرّة إلى الآن[2].

﴿وآخرُ دَعوَانَا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ﴾


[1]. تفسير القرآن الكريم، لصدر المتألّهين، ج2، ص283.

[2]. روح المعاني، ج1، ص344 ـ 345.

 

 

 

I

هدایت به بالای صفحه